واحد شاي ... أ. فخر الدين عبدالقادر بابكر
5 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
واحد شاي ... أ. فخر الدين عبدالقادر بابكر
مهداه لكم من الأستاذ / فخر الدين
واحد شاي
بدايات الأعوام الدراسية في خور طقت كانت دوماً حُبلى بالتشويق وبكل جديد ومثير .. بطُلاب جُدد .. كانوا كلُّهم بالضرورة نجباء ومتميِّزين، وإلا لَـمَـا كان الواحد منهم لَيحلم بالظفر بـمقعد في قاعات الدراسة فيها أو بسرير في إحدى داخليّاتها .. وكانوا تجسيداً حياً لإمكانية تجانُس أبناء أصقاع الـمليون ميل مربَّع التي تتناوب أيدي بنيها الآن ختلاً شحذ الـمُدى لبتر شطرٍ منها غالٍ وعزيز .. وكانت كذلك حُبلى بأساتذة جُدد وأفذاذ ... يرفدون تجاربها التربوية والتعليمية الثَّرة والـمتوارثة عبر الأجيال بـمزيد من الرؤى الحصيفة والـمستنيرة وبفيض من الخبرات والإبداعات ..
لكن بداية العام الدراسي 1972/1973م جاءتني بزميل من طراز فريد ومتفرِّد .. كان اسمه فرانسيس هالام (Francis Hallam).. وكان شاباً بريطانياً جاء إلى السودان وفي مخيِّلته الأوروبية صورة مشوَّشة للسودان سُرعان ما بددها وهج شمس الحقيقة .. حين دلف إلى مكتب شعبة اللغة الإنجليزية للـمرّة الأولى في معيَّة وكيل الـمدرسة ... وكان ذلك قبل بداية الدراسة بحوالي أسبوع .. شاء قدره أن يجدني لحظتها وحيداً ... فقد كنت مناوباً.. تبادلنا عبارات مقتضبة عن حالة الطقس جرياً على عادة الإنجليز .. وعن رحلته بالقطار من الخرطوم إلى الأبيض وانطباعاته الأولى عن السودان وعن خورطقت .. وعن "الكتّاحة" .. ثم سألني عـمّا إذا كانت توجد (كافتيريا) بالـمدرسة .. وطلب منِّي أن أُلقِّنه بضع كلمات وعبارات عربية ليستخدمها في طلب الـمشروبات منها.. قلت له ما عليك إلا أن تنادي الفرّاش (آدم) .. وإن كنتَ ترغب في احتساء كوب شاي مثلاً .. فما عليك إلا أن تقول لآدم (جيب اتنين شاي) .. وإذا شعرتَ بأن الـمروحة تحتاج لـمؤازرة من قارورة بيبسي كولا فقُل له (جيب إتنين بيبسي كولا) .. (إتنين قهوة) .. (إتنين ليمون) ... وهكذا شربت في اليوم الأول كوب شاي وكوب قهوة وزجاجة بيبسي كولا على حساب ذلك القادم لتوِّه من ديار آل سكسون .. وأعدتُ الكَرّة في اليومين الثاني والثالث (أجغم) هنيئاً مريئاً .. والأهنأ والأمرأ من ذلك "مجاناً".
ارتسمت على وجهه رُبع ابتسامة حين حيّاني صبيحة اليوم الرابع وقرأت في ربع ابتسامته تلك أن وراء الأكمة ما وراءها .. رمقني بعينين زرقاوين .. وأدركت حينها أن الشرر يمكن أن يكون أزرقاً .. وأن العين الزرقاء يمكن أن تكون صنواً للعين الحمراء .. وأنه أحرّى بـمغنِّياتنا أن يصدحن على إيقاع الدلاليك :
"عينك زرقا وشراره"
وقبل أن يستوي على كرسيِّه، صاح:
(آآآآآدم)
وحين جاء (آدم)، مارس الصياح مجدداً وقد تصاعدت وتيرة تطايُر الشرر الأزرق من عينيه :
(واااااااااهييييييد شاي)
وتلك تعني (واحد شاي) .. وذلك يعني أن شخصاً، لا بورك فيه، علّمه الفرق بين معني (واحد) و(اتنين) وحرّمني متعة احتساء الـمشروبات على حساب ذلك القادم لتوِّه من دار آل سكسون.
في أواخر ثمانينيات القرن الـماضي أدمنتُ الاستماع للبرامج الإنجليزية لهيئة الإذاعة البريطانية .. وذات أُمسية أحسست بأن صوت الـمذيع مألوف لأُذني .. تابعت حديثه بشغف وترسّخت قناعتي بأن لنبرات ذاك الصوت في ذاكرتي صدى .. وفي الأمسية التالية سمعت ذات الـمذيع يقول وبذات النبرة الـمألوفة ما معناه : "لغة الدبلوماسية والعلاقات الدولية ... إعداد وتقديم فرانسيس هالام" ... سمعت ضحكتي ... وسمعت نفسي تقول لنفسي وبصوت مسموع:
(وااااااااااااااهيد شاي) ..
خُيِّل لي لحظتها أن ذلك الذي كان في ذاك الزمن الجميل قادماً لتوِّه من دار آل سكسون قد سمعني تماماً مثلما سمعته عبر الأثير .. وبعين ذاكرتي رأيت الشرر الأزرق من عينيه يتطاير .. ورأيت طيف (آدم) .. وإلى ذهني تداعت ذكريات تلك الأيام الأنيقة ....
واحد شاي
بدايات الأعوام الدراسية في خور طقت كانت دوماً حُبلى بالتشويق وبكل جديد ومثير .. بطُلاب جُدد .. كانوا كلُّهم بالضرورة نجباء ومتميِّزين، وإلا لَـمَـا كان الواحد منهم لَيحلم بالظفر بـمقعد في قاعات الدراسة فيها أو بسرير في إحدى داخليّاتها .. وكانوا تجسيداً حياً لإمكانية تجانُس أبناء أصقاع الـمليون ميل مربَّع التي تتناوب أيدي بنيها الآن ختلاً شحذ الـمُدى لبتر شطرٍ منها غالٍ وعزيز .. وكانت كذلك حُبلى بأساتذة جُدد وأفذاذ ... يرفدون تجاربها التربوية والتعليمية الثَّرة والـمتوارثة عبر الأجيال بـمزيد من الرؤى الحصيفة والـمستنيرة وبفيض من الخبرات والإبداعات ..
لكن بداية العام الدراسي 1972/1973م جاءتني بزميل من طراز فريد ومتفرِّد .. كان اسمه فرانسيس هالام (Francis Hallam).. وكان شاباً بريطانياً جاء إلى السودان وفي مخيِّلته الأوروبية صورة مشوَّشة للسودان سُرعان ما بددها وهج شمس الحقيقة .. حين دلف إلى مكتب شعبة اللغة الإنجليزية للـمرّة الأولى في معيَّة وكيل الـمدرسة ... وكان ذلك قبل بداية الدراسة بحوالي أسبوع .. شاء قدره أن يجدني لحظتها وحيداً ... فقد كنت مناوباً.. تبادلنا عبارات مقتضبة عن حالة الطقس جرياً على عادة الإنجليز .. وعن رحلته بالقطار من الخرطوم إلى الأبيض وانطباعاته الأولى عن السودان وعن خورطقت .. وعن "الكتّاحة" .. ثم سألني عـمّا إذا كانت توجد (كافتيريا) بالـمدرسة .. وطلب منِّي أن أُلقِّنه بضع كلمات وعبارات عربية ليستخدمها في طلب الـمشروبات منها.. قلت له ما عليك إلا أن تنادي الفرّاش (آدم) .. وإن كنتَ ترغب في احتساء كوب شاي مثلاً .. فما عليك إلا أن تقول لآدم (جيب اتنين شاي) .. وإذا شعرتَ بأن الـمروحة تحتاج لـمؤازرة من قارورة بيبسي كولا فقُل له (جيب إتنين بيبسي كولا) .. (إتنين قهوة) .. (إتنين ليمون) ... وهكذا شربت في اليوم الأول كوب شاي وكوب قهوة وزجاجة بيبسي كولا على حساب ذلك القادم لتوِّه من ديار آل سكسون .. وأعدتُ الكَرّة في اليومين الثاني والثالث (أجغم) هنيئاً مريئاً .. والأهنأ والأمرأ من ذلك "مجاناً".
ارتسمت على وجهه رُبع ابتسامة حين حيّاني صبيحة اليوم الرابع وقرأت في ربع ابتسامته تلك أن وراء الأكمة ما وراءها .. رمقني بعينين زرقاوين .. وأدركت حينها أن الشرر يمكن أن يكون أزرقاً .. وأن العين الزرقاء يمكن أن تكون صنواً للعين الحمراء .. وأنه أحرّى بـمغنِّياتنا أن يصدحن على إيقاع الدلاليك :
"عينك زرقا وشراره"
وقبل أن يستوي على كرسيِّه، صاح:
(آآآآآدم)
وحين جاء (آدم)، مارس الصياح مجدداً وقد تصاعدت وتيرة تطايُر الشرر الأزرق من عينيه :
(واااااااااهييييييد شاي)
وتلك تعني (واحد شاي) .. وذلك يعني أن شخصاً، لا بورك فيه، علّمه الفرق بين معني (واحد) و(اتنين) وحرّمني متعة احتساء الـمشروبات على حساب ذلك القادم لتوِّه من دار آل سكسون.
في أواخر ثمانينيات القرن الـماضي أدمنتُ الاستماع للبرامج الإنجليزية لهيئة الإذاعة البريطانية .. وذات أُمسية أحسست بأن صوت الـمذيع مألوف لأُذني .. تابعت حديثه بشغف وترسّخت قناعتي بأن لنبرات ذاك الصوت في ذاكرتي صدى .. وفي الأمسية التالية سمعت ذات الـمذيع يقول وبذات النبرة الـمألوفة ما معناه : "لغة الدبلوماسية والعلاقات الدولية ... إعداد وتقديم فرانسيس هالام" ... سمعت ضحكتي ... وسمعت نفسي تقول لنفسي وبصوت مسموع:
(وااااااااااااااهيد شاي) ..
خُيِّل لي لحظتها أن ذلك الذي كان في ذاك الزمن الجميل قادماً لتوِّه من دار آل سكسون قد سمعني تماماً مثلما سمعته عبر الأثير .. وبعين ذاكرتي رأيت الشرر الأزرق من عينيه يتطاير .. ورأيت طيف (آدم) .. وإلى ذهني تداعت ذكريات تلك الأيام الأنيقة ....
أزهرى الحاج البشير- مشرف عام
رد: واحد شاي ... أ. فخر الدين عبدالقادر بابكر
نعم ياشيخنا ......... سودنة بالكامل ... فرانسيس هالام مثالاً .... ابوجبيهه الثانوية كان بها ريتشارد وباتريك ... حباكيين درجة اولى ......... كثيرون من رواد المنتــدى عاصروا تلك الفترة حيث كان احدهم يجلس ويرقب غروب الشمس من زاوية بالقرب من منزل عمنا علي ضيف الله "رحمه الله بالجنة" .
بالطبع الان حيكون اكبر روائي او مؤلف .....
أكيد أخي وصديقي مولانا القاضي / ضيف الله علي لم ينس تلك اللحظات ....
الشكر لك استاذ فخرالدين فأنت قامة كأقرانك نفحة من الزمن الجميل , استاذ البلاع واستاذ سعيدفي الثانويات وسليمان مطر دلبون واستاذ سيد ادم نور الدين في المتوسطة
بالطبع الان حيكون اكبر روائي او مؤلف .....
أكيد أخي وصديقي مولانا القاضي / ضيف الله علي لم ينس تلك اللحظات ....
الشكر لك استاذ فخرالدين فأنت قامة كأقرانك نفحة من الزمن الجميل , استاذ البلاع واستاذ سعيدفي الثانويات وسليمان مطر دلبون واستاذ سيد ادم نور الدين في المتوسطة
الفاتح محمد التوم- مشرف المنتدى السياسى
رد: واحد شاي ... أ. فخر الدين عبدالقادر بابكر
هههههههههههههههههههههههه قصة رائعة .. . بس غير الخط . عشان الناس تتوصل لسردك الجميل . . . وتعرف العيون وحل الواجباااات بالنهاااار ..... معزتي ،،،
عثمان محمد يعقوب شاويش- مشرف منتدى شخصيات من ابى جبيهه
رد: واحد شاي ... أ. فخر الدين عبدالقادر بابكر
هاهاهاهاهاها
فعلا قصة رائعة وعندما قلنا ان الاستاذ اضافة حقيقية للمنتدى كانت توقعاتنا صائبة
شكرا استاذ فخرالدين وشكرا دكتور ازهري
فعلا قصة رائعة وعندما قلنا ان الاستاذ اضافة حقيقية للمنتدى كانت توقعاتنا صائبة
شكرا استاذ فخرالدين وشكرا دكتور ازهري
محمود منصور محمد علي- مشرف المنتدى العام و مصحح لغوي
رد: واحد شاي ... أ. فخر الدين عبدالقادر بابكر
قصة واقعية و قادتنى الى سؤال
خور طقت من مناره للعلم الى معسكر للدفاع الشعبى ثم تتحول بقدرة الانقاذ الى جامعة كردفان
هل كسبنا جامعة كردفان ام خسرنا خورطقت؟
لك التحية استاذنا فخرالدين
فيصل خليل حتيلة- مشرف إجتماعيات أبوجبيهة
رد: واحد شاي ... أ. فخر الدين عبدالقادر بابكر
يبدو لي أنا الخط واضح جدا أسود بونط عريض .. أرجوا الإفادة إن كانت هناك مشكلة ؟؟
أزهرى الحاج البشير- مشرف عام
رد: واحد شاي ... أ. فخر الدين عبدالقادر بابكر
الخط واضح وكبير... والمشكلة في كمبيوتر شاويش ومن خلال الرموز المخفية او الظاهرة على سطح المكتب يمكن ان يكبر الخط للمستوى الذي يراه مناسبا
تحياتي
تحياتي
محمود منصور محمد علي- مشرف المنتدى العام و مصحح لغوي
مواضيع مماثلة
» الأستاذ فخر الدين عبدالقادر بابكر
» الهندي عز الدين و ضياء الدين بلال - الإتجاه المعاكس؟
» بدرالدين النور
» عبدالقادر الكتيابى
» روعة الشعر السوداني
» الهندي عز الدين و ضياء الدين بلال - الإتجاه المعاكس؟
» بدرالدين النور
» عبدالقادر الكتيابى
» روعة الشعر السوداني
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى