عَوْلَمَةُ الشَّعْرِ الهِنْدِي!
صفحة 1 من اصل 1
عَوْلَمَةُ الشَّعْرِ الهِنْدِي!
عَوْلَمَةُ الشَّعْرِ الهِنْدِي!
كمال الجزولي
kamalgizouli@hotmail.com
الاثنين
أسفت كثيراً كون ظروفي لم تتح لي أن ألبِّي، في ذلك النهار من مارس الماضي، دعوة صديقي ياسر عرمان لحضور اللقاء الذي حرص على تنظيمه، بقرية البجراويَّة، لجمهرة من المبدعين، على أيَّام حملته الانتخابيَّة كمرشَّح لرئاسة الجُّمهوريَّة، ليس فقط بغرض توجيه خطاب مخصوص إلى هذه الشَّريحة، وإنما، أيضاً، للاستماع لآرائها، والتعرُّف، وثيقاً، على شواغلها، وإدارة مفاكرة نوعيَّة معها حول قضايا الثقافة والإبداع؛ وخيراً فعل، ما في ذلك شك.
تقبَّل ياسر عذري، وبعث إليَّ بنسخة إليكترونيَّة من رسالته المعنونة (رَّقم/8 ـ نحو مصالحة مع الذات ومع تنوُّع الثقافة والتاريخ ـ في إطار مشروع وطني جديد). إطلعت عليها، فسعدت برؤية وجوه عزيزة، بين سطورها، لرجال ونساء كثر، وطيوف تواريخ غاية في النبل، وحلم وسيم قديم ما ينفكُّ يغوص ويطفو، تحت الكلمات وفوقها، مع "تهارقا، وأبادامك، والكنداكة، ومهيرة، والسلطان تاج الدين، وعلى دينار فى برنجيَّة؛ مع كون أنوك، مع السلطان قودوى، مع البداويت والسيوف المشرئبَّة، مع عمارة دنقس، وعبد اللة جمَّاع، وود ضيف الله؛ مع خليل فرح، مع خوجلى عثمان، مع الجنوب والشمال، مع الغرب والوسط والشرق، مع ديانات السَّماء والأرض، ومع النيل".
باختيار ذلك المكان العبقري، شديد الرمزيَّة الآثاريَّة/التاريخيَّة؛ وبمثل هذا اللمس اللطيف الحاني على واقع التنوُّع السوداني، قبيل أشهر معدودات من الحدث الأخطر في تاريخنا الوطني: (الاستفتاء) الذي قد يفصل جنوبنا عن شمالنا؛ أحسن ياسر مداخله نحو قضيَّة (الثقافة) التي "لا يمكن بناء مشروع وطني رصين دون الوقوف عندها"، والتي "غالباً ما يتم التغافل عنها، في البرامج والحملات الإنتخابيَّة، عمداً أو سهواً".
غير أن أكثر ما جذب انتباهي، في الرِّسالة، أمران: أوَّلهما أنها ركزت، بالأخصِّ، على (عدالة التنوُّع) التي ستبقى في الأرض بعد أن يذهب (زبد الاستعلاء) جفاءً! وثانيهما أنها أهدت ذلك اللقاء الثقافي/السِّياسي غير المسبوق إلى كوكبة من أناس بديعين. ففي إيماءة احتفاء موفقة بـ (الحزام السوداني)، أهدى ياسر اللقاء إلى الشيخ أنتا ديوب الذي أرَّقته أسئلة الحضارة الإنسانيَّة، وإسهام الأفارقة في تطويرها بأكثر مِمَّا هو معترَف به؛ فرفض التورُّط في (المركزويَّة الأوربيَّة)، وتعلق، عقلاً وروحاً، بأصول ثقافة قومه في مصر القديمة، ووادي النيل، وضمناً البجراويَّة؛ واستطاع أن يثبت أن ازدهار الثقافة والعلوم في العالم المعاصر يدين لحضارة الإنسان الأسود على النيل، داعياً للاعتراف بذلك، كمقدِّمة لازمة لتصالح كلِّ الأجناس، وبناء مستقبل متوازن على الأرض، والابتعاد عن إرث ثقافة السَّادة والعبيد. وخلص الإهداء إلى أن العودة ضروريَّة إلى كامل تاريخ السودان، كمكوِّن رئيس للرَّوابط المشتركة بين السودانيين وبين جوارهم، وأن أيَّ انتقاص من هذا التاريخ الكامل للسودان سيؤدى، في نهاية المطاف، للانتقاص من جغرافيَّته، فالجغرافيا الفاعلة لا توجد إلا بوجود التاريخ الكامل، ولا بُدَّ، كي تتصالح الشخصيَّة السودانيَّة مع التاريخ، أن تتصالح، أوَّلاً، مع الجغرافيا، لخلق روابط مشتركة، تتغذى على التفاعل مع القضايا المعاصرة، على قاعدة الاعتراف بالتنوع التاريخي والمعاصر.
وأهدى ياسر اللقاء، إهداءً ثانياً، إلى جون قرنق، كمثقف ومفكر تتلمذ على الشيخ أنتا ديوب، جاعلاً من التاريخ عنصراً رئيساً في رؤية (السودان الجديد) باتجاه إعادة صياغة وحدته على أسس مغايرة. فهو، بالحق، رائد التأهيل النظري والعملي على صعيد التنوُّع التاريخي والمعاصر، كأطروحة ثقافيَّة فرضت نفسها، بقوَّة، على الأجندات السِّياسيَّة. هكذا، من عنفوان السِّتينات وتحدِّياتها الفكريَّة، ومن جرأة الأسئلة وعظمة الإجابات، استطاع قرنق أن يتجاوز عقدة الدونيَّة التي رسَّختها مؤسَّسة (المركز) التي لا ترى في الجنوبي غير كائن ينبغي أن تنحصر مطالبه في حدود الجنوب، فحسب، أما القضايا القوميَّة فمن اختصاص آخرين، وأن يعبر هذا الحاجز معرفيَّاً، وفكريَّاً، وسياسيَّاً، ليطرح رؤية بديلة، رؤية ديموقراطيَّة لبناء (مركز) مغاير، بل (مراكز) جديدة تحافظ على وحدة السودان وفق توازن المصالح، وهذا أكبر تحدٍّ فكريٍّ وسياسيٍّ واجهته المؤسَّسة الحاكمة منذ الاستقلال. فالسودان التاريخي أكبر، بما لا يُقاس، من السودان الجُّغرافي اليوم. ومع ذلك فإن بلادنا تحتضن أكثر من 570 قبيلة، بما يفوق الـ 130 لغة ـ (لغة) وليس (رطانة) ـ وبعض هذه اللغات يمتدُّ تاريخها إلى آلاف السنين، بل لقد عرفها التاريخ العالمي حتى قبل بعض اللغات الحيَّة الآن؛ وتضمُّ بلادنا ما يقارب نصف دماء أفريقيا؛ وهي، إلى ذلك، موطن تنوُّع وتعدُّد هائل في الثقافات، والأديان، والموارد، مِمَّا يتطلب تنمية شاملة، ومتوازنة، وعادلة، كي يصبح مصدر غنى وقوَّة في كلِّ مناحي الحياة .
ثمَّ أهدى ياسر ذلك اللقاء، إهداءً ثالثاً، إلى الشَّاعر الناقد، والمفكر الكاتب، والمعلم، والمترجم، والصحفي النور عثمان ابَّكر، في ذكرى تلك الحوارات الفارهة التي حرَّكت ساكن بركة المسكوت عنه بشأن (الغابة والصحراء)، وذكرى الرموز السامقة من المثقفيين الكبار الذين أسهموا في إثراء تلك الحوارات، وتصدُّوا، بجسارة، لكلِّ أسئلتها الشائكة التي بقيت إما دون إجابات، أو بإجابات ناقصة، ضمن الحوارات التي جرت باكراً في إطار (الاتحاد السوداني)، و(اللواء الأبيض)، و(جماعة ابروف)، وعند أولاد عشري، ومنابر الخريجين، وغيرها.
وأخيراً أهدى ياسر اللقاء إلى د. عثمان بليَّة، وسنواته القصيرة المضيئة، حيث عاد إلى الوطن من إثيوبيا، محتشداً بانتباهاته القويَّة، ليتأمَّل، مليَّاً، خلال الفترة ما بين 1955 ـ 1960م، في عناصر وحدة شعب البجة، ثقافيَّاً وتاريخيَّاً، وليخرج بفكرته التي قادته، عام 1958م، إلى تأسيس (مؤتمر البجة)، كمنظمة ديمقراطيَّة للدِّفاع عن حقوق هذا الشَّعب، لكنه سرعان ما رحل، للأسف، قبل الأوان! غير أن فكره لم يرحل مع جسده، بل ما يزال حيَّاً في عذابات أهله، ماضياً وحاضراً، وفى قرى البجة الذين هم "من هول الحياة موتى على قيد الحياة"! و"يحتاجون للماء والحليب، وتلفزيون يتحدث لغة البداويت"!
إن قضايا الأمس ما تزال حاضرة، وشعلة التغيير ما تزال مضيئة، كما ولا يزال الأمل متقداً في أن ينال (الآخر) حقه المستحقَّ في أن يكون (آخر)، ضمن مجتمع يقبل (الآخر)، وينزع، عن قصد وعناية، إلى الحوار الديمقراطي بين مختلف الثقافات، مديراً ظهره لعهود القهر الاقتصادي، والاضطهاد الإثني.
الثلاثاء
كتبت شابَّة إسرائيليَّة، بإحدى مستوطنات الضِّفة الغربيَّة، تستفتي حاخاماً اعتاد أن يردُّ على المستفتين في صحيفة محليَّة، عمَّا إنْ كان بإمكانها المنافسة في الانتخابات البلديَّة، فأفتاها بعدم جواز ذلك، دينيَّاً، وفق تعاليم الحاخامات النافذين، كونها امرأة، والنساء يفتقرن إلى المصداقيَّة .. كما وأنه لا يجوز لهنَّ الاختلاط بالرجال في اجتماعات تستمر حتى وقت متأخر في المساء .. بل ولا يجوز لهنَّ حتى التصويت، لأنه لا يصحُّ أن تصوِّت المرأة لطرف، بينما يصوِّت زوجها لطرف آخر .. فالنساء، عموماً، لا يجوز أن يُسمِعنَ أصواتهنَّ إلا عن طريق أزواجهنَّ فقط!" (موقع بي بي سي على الشَّبكة، 26/5/10).
وفي العام الماضي أعلن الحاخام العسكري للجَّيش الإسرائيلي أن خدمة النساء في الجيش "تتعارض مع الشَّريعة اليهوديَّة"، بحسب صحيفة هآرتس (موقع "المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات" على الشَّبكة، 4/8/09).
كما نقلت وكالة الأنباء الفرنسيَّة أن الإسرائيليَّات، عندما يذهبن، مرة في الشهر، للصَّلاة عند (حائط المبكى) بالقدس، يواجهن احتمال التوقيف، والتعرُّض للشَّتم من قبل متشدِّدين، من بينهم حاخام الحائط نفسه الذي يعتبر (سلوك!) النساء هذا (استفزازاً!) لا يُحتمل، لأن النساء ممنوعات من ارتداء الطاقيَّة اليهوديَّة، وشالات الصَّلاة، وحتى حمل التوراة، وهي جنحة قد تصل عقوبتها إلى السجن ستة أشهر والغرامة ثلاثة آلاف دولار! وقال بعض الحاخامات "إن النساء (يتجرَّأن) على الإنشاد (الدِّيني!)، معرِّضين المصلين في الجَّانب الآخر من الحائط للغواية!" وفي 2003م قرَّرت المحكمة العليا الإسرائيليَّة أن الصَّلاة بصوت مسموع ليس مسموحاً بها للنساء، "لأن في ذلك (تهديداً!) للنظام العام!" (موقع "القدس" على الشَّبكة، 24/12/09)
وبعد، لا شكَّ في أن العقل البشري (الذكوري) هو الذي ينتج مثل هذه (الفتاوى) الشَّاذة، و(التأويلات) المنحرفة للنصوص، في كلِّ الدِّيانات؛ وإذا ما استمرَّ الحال على ما هو عليه، فإنه لن يكون ثمَّة مخرج أمام النساء سوى أن يتحوُّلن، في نهاية المطاف، إلى (أمازونيَّات)!
الأربعاء
لم يكن كارل ماركس (1818 ـ 1883م) هو أوَّل من عالج (الاغتراب/الاستلاب alienation)، كمفهوم ومصطلح، في السِّياق العام للفكر الغربي، لكنه، بالقطع، هو أوَّل من تصدَّى لصياغة دلالته العلميَّة الثوريَّة، من خلال تقعيده، ابتداءً، على الصَّعيد الاقتصادي، ضمن ماديَّته التاريخيَّة، سواء في مؤلفاته الباكرة أو المتأخِّرة، ومن أهمِّها سفره العُمدة (رأس المال)، فضلاً عن (مخطوطات 1844م)، و(الأيديولوجيا الألمانيَّة،1845م)، والتي شحن ماركس، من خلالها، (المفهوم/المصطلح) بدلالته الجديدة، ليعني تحوُّل نتاج النشاط البشري، بما في ذلك ناتج العمل، والعلاقات الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة، وأشكال الوعي الاجتماعي، وغيرها، إلى (أشياء) مستقلة عمَّن أنتجوها، غريبة عنهم، بل ومسيطرة عليهم. وربَّما كان من أسطع الأمثلة الكلاسيكيَّة لتجلي هذه العمليَّة العلاقة بين (البنائين) وبين (البناء) نفسه، حال فراغهم من تشييده، وانفصاله عنهم، وهلمجرَّا.
ولئن كان التقسيم الاجتماعي للعمل يتمظهر، بوضوح أكثر، في الإطار المحدود للعلاقات الطبقيَّة داخل المجتمع الواحد، فإنه يتمظهر، أيضاً، وإن بصورة أكثر تعقيداً، في الإطار الأوسع للعلاقات الاستغلاليَّة المعاصرة بين البلدان الرَّأسماليَّة الغنيَّة، المستغلة (بالكسر) للبلدان الفقيرة. فالأولى تسعى إلى تأبيد الثانية كمصدر للخام، وكسوق للتوزيع. ومن ثمَّ فإن (الاغتراب/الاستلاب) يتمظهر، هنا أيضاً، من خلال هذه العلاقات الاقتصاديَّة (وتوابعها: الثقافيَّة، السِّياسيَّة .. الخ) الدَّوليَّة المختلة، والتي تعتبر (العولمة الرَّأسماليَّة) أحدث أشكالها. وهي علاقات مؤقتة، بطبيعتها، ولن تنحسم، على أيٍّ من المستويين (الوطني) أو (الدَّولي)، إلا بالارتقاء إلى الاشتراكيَّة، وما من حلٍّ آخر!
طافت بذهني هذه الأفكار، وأنا أشاهد، في التلفاز، تقريراً أخباريَّاً، عن (التسليع) الذي يتعرَّض له شعر الهنديَّات الفقيرات، طفلات، وصبايا، ونساء راشدات، بعد حلاقته، كممارسة لعبادة خاصَّة، فيقوم بعض (الوكلاء المحليِّين) بجمعه، وتجفيفه، وشحنه، من ثمَّ، لصالح مجموعة من الشَّركات الغربيَّة تستثمر، منذ حين، في هذه (السِّلعة) المبتكرة، وذلك عن طريق إخضاع هذه (الشُّحنات)، بعد استلامها في الموانئ الغربيَّة، لسلسلة من عمليَّات التنظيف، والمعالجة المعقدة، ليس أقلها التلوين بقرابة الخمسين لوناً؛ ثمَّ عرضها، بعد ذلك، للبيع، في محلات (الموضة)، والصَّوالين الفاخرة، حيث يتزايد الإقبال بنهم، في الوقت الرَّاهن، على التزيُّن بهذا الشَّعر الهندي الجميل، من جانب عارضات الأزياء، ومغنيَّات البوب، ونجمات السينما، ومذيعات التلفزيون، وغيرهنَّ، رغم أن أسعاره آخذة في الارتفاع إلى أرقام فلكيَّة قد لا تصدِّقها صاحبات هذا الشَّعر الأصليَّات، أنفسهنَّ، في شبه القارَّة الهنديَّة، وربَّما لا يصدِّقها، كذلك، جامعو الشَّعر (الخام) من مختلف دور العبادة، خصوصاً الرَّازحون منهم في أدنى سلم (الوكلاء).
هكذا يجري تحويل طقس ديني قديم إلى موضوع لتجارة جديدة تعزِّز ظاهرة (العولمة الرَّأسماليَّة)! هل تذكرون كيف راكم (الرَّأسماليُّون) السودانيُّون الأوائل ثرواتهم عن طريق العمولات التي كانوا يحصلون عليها لقاء جمع المحاصيل، في المواسم، من مناطق الإنتاج، وشحنها إلى الشَّركات الأجنبيَّة التي تعالجها، وتصنعها، وتعيدها إلى أسواقنا؟! المضمون ذاته، وإن اختلف الشكل!
استنطق التقرير أحد (أنبياء) العولمة (الكذبة) الجدد هؤلاء، فقال، لا فض فوه، إنهم، بهذا (الاستثمار) الجديد، يوفرون فرص العمل لملايين الناس! ويقصد، بالطبع، المستويات المختلفة للعاملين الهنود في حلاقة شعر النساء الهندوسيَّات المؤمنات بأن ذلك طقس لازم للتقرب من الآلهة، ونيل (البركة)؛ ثم تجفيفه، وتجهيزه في أكياس ضخمة تزوِّدهم بها كبريات الشركات الناشطة في هذا المجال، والتي (تحتكر) كلٌّ منها (معبداً) أو مجموعة (معابد)!
في تبريره لهذا النهب الرَّأسمالي العالمي، بأسعار بخسة، لأحد (موارد) البلدان الفقيرة، قال أحد دهاقنة هذا الضرب الجديد من (الاستغلال): "ولكنكم لا تعرفون كم تكلفنا عمليَّات معالجة وتجهيز هذا الخام"!
لو قدِّر لإحدى هاتيك النساء الفقيرات أن تشاهد، بالمصادفة، شعرها يزيِّن رأس نجمة ما، في إحدى القنوات الفضائيَّة، فسوف تنكره، يقيناً! لقد انفصل شعرها عنها! إستقل بنفسه! "تشيَّأ"، وفق تطوير لوكاش العصري لدلالة (الاغتراب/الاستلاب) الماركسيَّة!
الخميس
ما زال إضراب المحامين في مصر مستمرَّاً، منذ أيَّام، بسبب الحكم الذي أصدره أحد القضاة على محاميين بالسَّّجن، بتهمة اعتدائهما على رئيس نيابة طنطا. تكتل القضاة، رافضين كلَّ الحلول التي اقترحها الوسطاء، فتكتل المحامون وأعلنوا الإضراب عن الظهور أمام المحاكم، وأصرَّ الموكلون، من جانبهم، على حقهم في عدم المثول للمحاكمات بدون محامييهم؛ وكما في بعض أمثال مستعربي السودان: "كلُّ ديكاً في بلدو عُوعاي"!
الجمعة
ما من أحد يمكن أن يكابر في أن حكومتنا، مثلها مثل أيَّة حكومة أخرى، لديها كامل الحقِّ في الاحتجاج على تدخُّل أيَّة دولة أجنبيَّة في شئونها الدَّاخليَّة، ولا استثناء من ذلك حتى في مواجهة الدُّول (الصديقة)!
لذا فما مِن شئ يدعو لاستغراب كائن مَن كان إذا عبَّرت الحكومة، من منطلق هذه القاعدة الرَّاسخة في العلاقات الدوليَّة المعاصرة، عن احتجاجها في مثل هذه الحالات، بل على العكس، فإن عدم الاحتجاج هو الأدعى للاستغراب! ويصدق ذلك بالنسبة لقضيَّة دارفور، على وجه الخصوص، بصرف النظر عن أيِّ موقف مُعارض للحكومة، أو مؤيِّد لهذه الحركة المسلحة أو تلك! لذا كان من الطبيعي، تماماً، أن يجري المشير البشير اتصالاً هاتفيَّاً مع العقيد القذافي، ليحتج على تحرُّكات د. خليل، زعيم حركة العدل والمساواة، الذي تستضيفه ليبيا في الوقت الرَّاهن، طالباً منه منع أيِّ تحرُّك عدائي تجاه السودان (الصَّحافة، 25/6/10).
الواضح أن ما أثار حفيظة الحكومة هو أن د. خليل كان قد تحدث، من طرابلس، إلى (قناة الجزيرة) في 23/6/2010م، لأوَّل مرَّة منذ واقعة احتجازه بمطار انجمينا في 19/5/2010م، ومنعه من دخولها، وإتلاف جوازات سفره، هو ومرافقيه، وإجبار طائرته على العودة إلى طرابلس التي كان قد توجَّه منها إلى العاصمة التشاديَّة، بعد يومين من انتهاء زيارته للقاهرة، على رأس وفد ضخم من حركته، حيث أجرى محادثات مع مستويات عليا. وفي حديثه التلفزيوني ذاك اتهم خليل (الدَّوحة) بعدم الحياد، وطالب بمنبر مغاير، على أن يكون قريباً، بحيث يمكن لقادة حركته الوصول إليه بالسَّيَّارات، تجنباً لما أسماه بـ (القرصنة الجَّويَّة)، كما هدَّد باجتياح نيالا والفاشر وصولاً إلى الخرطوم. وأشارت تقارير صحفيَّة إلى أنه اجتمع، فعليَّاً، بقادته جنوب مدينة سرت (الصحافة ـ وكالات، 24/6/10).
غداة تلك الأحداث والتصريحات، مباشرة، تداول الإعلام المحلي والعالمي عن الناطق الرَّسمي للقوَّات المسلحة السودانيَّة، أنباء معارك تجري، فعليَّاً، بين الطرفين في مناطق (عزبان) و(عدولة) و(أم كتكوت) بدارفور (المصدر). وفي الأثناء أعلنت الحكومة أنها "غير راضية عن تحرُّكات خليل من الأراضي الليبيَّة"، معتبرة وجوده هناك "غير مرغوب فيه!"؛ كما أكد الناطق الرَّسمي باسم الخارجيَّة السودانيَّة على "اتصالات مع أعلى المستويات الليبيَّة للحدِّ من تحرُّكات خليل الذي اختار طريق الحرب"، الأمر الذي عبَّر المراقبون عن كونه يتجه "بالعلاقات السودانيَّة الليبيَّة إلى طور الأزمة" (المصدر).
هذا الاستنتاج لا يبدو بعيداً عن الحقيقة؛ فقد قال مسؤولون حكوميُّون في الخرطوم إن البشير ابتعث وفوداً أمنيَّة وسياسيَّة رفيعة المستوى للتباحث مع المسؤولين الليبيِّين "بهدف حثهم على إبعاد خليل" (الشرق الأوسط، 25/6/10). لكن، وعلى الرَّغم من أن ليبيا التزمت الصمت إزاء هذه التصريحات، في ما بدا كمحاولة لتفادي المزيد من توتر علاقاتها مع السودان، وفق مصادر ليبيَّة مطلعة، إلا أن أنباء صحفيَّة نقلت، في اليوم التالي، عن "مصادر رفيعة المستوى في ليبيا"، تأكيدها على أن طرابلس لا تنوي الاستجابة للمساعي السودانيَّة الهادفة إلى إقناع العقيد القذافي بطرد د. خليل من الأراضي الليبيَّة، "لإجباره على العودة إلى مفاوضات السَّلام المتعثرة في العاصمة القطريَّة"، وأن طرابلس تعتبر خليل "ضيفاً على القيادة الليبيَّة، وعلى العقيد القذافي شخصيَّاً، ولا مجال لإبعاده" (المصدر). وإلى ذلك روت المصادر للصحيفة أن "مسؤولاً ليبيَّاً رفيع المستوى رفضت تسميته" أبلغ وفداً سودانيَّاً التقاه، مؤخراً، بطرابلس، أن ليبيا "دهشت" لإصرار الحكومة السودانيَّة على إبعاد خليل، واعتباره مجرَّد عابر لليبيا وليس مقيما فيها، ".. ففي السَّابق قلتم إنه شخص غير مهم، والآن تريدون منا إبعاده، كيف؟! نحن نستغرب هذا الموقف"! ووصف المسؤول الليبي د. خليل بأنه "مجرَّد شخص عربي يقيم على أرض عربيَّة، ولا مجال لفرض أيِّ مواقف عليه، أو إجباره على مغادرة ليبيا!" (المصدر)!
من جهته صرَّح للصحيفة، أحمد حسين آدم، الناطق الرَّسمي باسم العدل والمساواة، بأن القاهرة سبق أن "رفضت محاولات سودانيَّة رسميَّة مماثلة"، نافياً تقديم ليبيا "أيَّة مساعدات لوجستيَّة أو عسكريَّة" لحركته، مشدِّداً علىً أنها "تقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف والفرقاء في السودان" (المصدر).
الشاهد أن الأمر، لو كان مجرَّد أمر (احتجاج) على ما قد ترى الحكومة أنه تدخل في شئونها، فليس فيه ما يبرِّر (الاستغراب). أمَّا والحال أن مجمل النهج السِّياسي للحكومة ذاتها، تحت الظرف المحيط، داخليَّاً وإقليميَّاً ودوليَّاً، يشير، بأكثر من إصبع، إلى أنها إنما (تحتج) على (نتيجة) تدرك هي نفسها، تماماً، أنها تسبَّبت، منذ البداية، في إرساء (مقدِّماتها)، فهذا هو مدعاة (الاستغراب) الحقيقي!
وكي لا نذهب بعيداً في سَوْق الأدلة، يكفي أن نذكر بأن أصوات الحادبين ارتفعت، في بدايات (مفاوضات الدَّوحة)، تنادي، حتى بحَّت، بضرورة إشراك القوى السِّياسيَّة كافة فيها، وذلك لأسباب أصبح يدركها حتى راعي الضَّأن في الخلاء. فماذا كان موقف الحزب الحاكم؟! أكد د. كمال عبيد، أمين إعلامه، وقتها، أن هذه المفاوضات ستلتئم بين الحكومة والحركات المسلحة فقط! وأضاف، في ما يشبه المكايدة: "لا مشاركة لأية جهة داخليَّة أخرى!" (الرأي العام، 15/12/08).
هذه الحكومة، إذن، هي التي أقصت (الدَّاخل) و(دوَّلت) قضايانا، أجمعها، حتى لم يعُد بمستطاعها، الآن، التراجع، قيد أنملة، عن هذا (التدويل)، أو (الاحتجاج) عليه! باختصار، وعلى حين سمَّمت هذه الحكومة، تماماً، وعلى مدى العقدين الماضيين، مناخات (الجَّبهة الداخليَّة) إلى الحدِّ الذي أضحت فيه هذه المناخات غير صالحة، البتة، لأيِّ تفاوض وطني حُر، ارتضت أن تتبضع بقضايا بلادنا في أسواق شتى العواصم والمدن والبلدات والقرى النائية، شرقاً وغرباً، ما عدا السودان نفسه، بين كينيا، وسويسرا، وليبيا، وألمانيا، وأثيوبيا، وأمريكا، ونيجيريا، وجيبوتي، وإريتريا، ومصر، وتشاد، وقطر، والسُّعوديَّة، وما خفي أعظم!
على خلفيَّة هذه الحقيقة خذ عندك نموذج (أمريكا) مثلاً؛ أفليسَ مدعاة لـ (الاستغراب)، بعد كلِّ تلك الأبسطة الحمراء التي فرشتها الحكومة لها على مداخل أدقِّ قضايانا الوطنيَّة، أن تنقلب نفس هذه الحكومة، كي (تحتجَّ) على ذهاب باقان اموم، الأمين العام للحركة الشَّعبيَّة، إلى واشنطن ليبحث معها ضمانات ترتيب (الاستفتاء) القادم؟!
وخذ عندك، أيضاً، نموذج (وسطاء الدَّوحة)؛ فبأيِّ وجه يمكن للحكومة، بعد كلِّ الإشادات التي دبَّجَتها في حقهم، أن تعترض على (ظهر المِجَنِّ) الذي قلبَه لها جبريل باسولي، الوسيط الأفريقي الدَّولي لمفاوضات دارفور، من خلال المؤتمر الصَّحفي الذي عقده، البارحة، في باريس، بدعوة من نادي الصَّحافة العربيَّة، حيث ألقى على عاتقها بكامل "المسئوليَّة عن إعادة السَّلام إلى المنطقة"، قائلاً، بملء فيه: "تحقيق السَّلام مسؤوليَّة البشير وحكومته"، و"مسؤوليَّة الرئيس البشير أمام التاريخ وأمام شعبه هي تسهيل التوصُّل إلى حل"، مطالباً الحكومة "بتقديم التنازلات اللازمة لتسريع المفاوضات، وتحسين الوضع الأمني، ووقف النشاط العسكري، وتسهيل عودة المبعدين إلى أراضيهم، والتعجيل بتسوية التعويضات، وإعادة إحياء دارفور اقتصاديَّا، وتنميتها لتعود لممارسة أنشطة اقتصاديَّة عاديَّة" (الشرق الأوسط، 25/6/10).
أما إذا أخذنا في الاعتبار نموذج (ليبيا) نفسها، والتي شكلت، منذ البداية، المحور الرئيس لكلمتنا هذه، فقد يكفينا أن نستعيد، هنا، ما سبق أن سقنا، عبر (رزنامة 13/7/09)، حول ما كشف عنه الفريق أوَّل سلفاكير، النائب الأوَّل لرئيس الجُّمهوريَّة، ورئيس حكومة الجنوب، ورئيس الحركة الشعبيَّة، للمصلين في كتدرائيَّة سانت تريزا الكاثوليكيَّة بجوبا، بشأن اتصال العقيد القذافي به في الثالثة من صباح أحد أيَّام زيارته لطرابلس، أواخر يونيو 2010م، ليؤكد له (مساندته!) لجنوب السودان إذا ما قرَّر (الانفصال!) عن شماله، في استفتاء 2011م، و .. "إذا أراد الجنوبيُّون أن يقترعوا على الاستقلال فينبغي ألا يخشوا أحداً، و(سأقف!) إلى جانبهم .. لقد كان من (الخطأ!) الإبقاء على الجنوب موحَّداً مع الشمال بعد عام 1956م .. كان (ينبغي!) أن (ينفصل!)، إما كدولة مستقلة أو ينضمَّ إلى دولة أخرى في شرق أفريقيا!"، واعداً بإرسال (خبراء ليبيِّين!) إلى جنوب السودان "للمساعدة في إعادة إعمار البنية التحتيَّة وفي الزراعة!" (الأحداث، 1/7/09).
لقد قلنا، يومها: كفى بذلك (تحريضاً) على (تفكيك) بنية وطنيَّة قائمة! كما تساءلنا: إذا كان الرَّجل لا يقيم اعتباراً لما تواضعنا عليه، نحن أصحاب الشَّأن، من إلزام لأنفسنا بالعمل من أجل أن تجئ نتيجة (الاستفتاء) في صالح (الوحدة)، كقدس أقداس سيادتنا الوطنيَّة، فما الذي يجبرنا على الصمت على هذه الترهات، مهما كان حجم التعقيدات الجيوبوليتيكيَّة، وما الذي يحول بيننا وبين الرَّدِّ عليها، ولو بطلب توضيح دبلوماسي؟! لماذا نقبل على أنفسنا أن ننتظر حتى تتجرَّأ (السِّفارة) الليبيَّة في الخرطوم بإصدار بيان (تكذب!) فيه، علناً، تصريحات النائب الأوَّل لرئيس الدولة (الصحافة، 3/7/09)؟! أفلو حدث هذا في أيَّة دولة أخرى، أما كانت، على الأقل، ستستدعي سفيرها من طرابلس، كإيماءة غضب مشروع، هذا إذا لم تسحبه، أو تأمر بطرد السفير الليبي؟!
والآن، ها نحن أولاء ما زلنا نتساءل، أوَّلاً، عمَّا عساه يكون دافع الحكومة الحقيقي، اليوم، لهذه (الغضبة المضريَّة) على إيواء ليبيا لخليل، واعتبار ذلك تدخُّلاً عدائيَّاً في شئون (السودان)، بينما صمتت، هي نفسها، بالأمس، على (تحريض) العقيد القذافي للفريق أوَّل سلفا، في الثالثة صباحاً، على (فصل) الجنوب عن الشمال؟! ثمَّ نتساءل، ثانياً، عمَّا إنْ كانت السَّيادة والكرامة الوطنيَّة تقبل القسمة على اثنين، أم، يا ترى، (سلامة النظام) فوق (سلامة الوطن)؟!
السبت
شغلني التفكير، منذ صباح البارحة، في خبر قيام مجموعة من المباحث الفيدراليَّة الأمريكيَّة (FBI) بأخذ (عيِّنات) من داخل سجن كوبر، وإرسالها إلى معاملها بالولايات المتحدة، لمعرفة طريقة هروب المحكومين الأربعة بالإعدام، في قضيَّة مقتل الدبلوماسي الأمريكي جون قرانفيل (الأخبار، 25/6/10). فبصرف النظر عمَّا إن كان ذلك يحقُّ أو لا يحقُّ لهذه المؤسَّسة الأمريكيَّة، فإن السؤال الذي ظلَّ يدور في ذهني هو: عمَّ، تراهم، يبحثون؟! وعلى أيَّة فرضيَّة أوليَّة؟! وما هي نوعيَّة (العيِّنات) المأخوذوة؟!
لقد ظلت التحقيقات والتحرِّيات الجنائيَّة تستخدم، منذ أمد بعيد، طائفة معلومة من المناهج والأساليب التقليديَّة، للكشف عن الجرائم، ولاعتماد مخرجات هذه المناهج والأساليب (قرائن) تربط، أو لا تربط، بين المتهمين وبين الأفعال الإجراميَّة، وإن كانت لا ترقى، بالطبع، في مستوى (وزن البيِّنة)، إلى درجة (الإقرار) أو (الشهادة). ومن هذه المناهج والأساليب (حاسَّة الشَّمِّ) المستندة إلى خاصِّيَّة فيزيولوجيَّة لدى (الكلاب)، وكذلك (فراسة) بعض الأشخاص في (تمييز الخطوط)، أو (القيافة/اقتفاء الأثر)، وخلافه. هذا فضلاً عن نوع آخر من (القرائن) أكثر علميَّة ووثوقاً، مثل (بصمة الإصبع finger print)، على سبيل المثال.
ومع تطوُّر العلوم الحديثة زادت استخدامات هذا النوع الأخير من المناهج والأساليب، إلى الحدِّ الذي يمكن أن نطلق عليه (ثورة القرائن العلميَّة). فأصبح من المعتاد أن يستعين المحققون والمتحرُّون بما يوفره، مثلاً، منهج (التشعيع)، على قاعدة معطيات علم (الكيمياء)، في الكشف عن الكثير من الجرائم، مثلما أصبحوا يستعينون، مؤخَّراً، بأحدث المنجزات العلميَّة، ابتداءً من (البصمة الوراثيَّة DNA)، وحتى استخدام العناكب فى الطب الشرعي. ويشغل مكانة متقدِّمة، دون شك، بين هذه العلوم التي تتزايد استخدامات معطياتها، ضمن المناهج والأساليب الحديثة في التحقيق والتحرِّي الجنائي، (علم الجيولوجيا)، بفروعه المختلفة، وكذلك (علم التربة)، ضمن (الهندسة المدنيَّة).
فإذا وضعنا هذا كله في الاعتبار، لن يصعب، إذن، التكهُّن باحتمالات الأهداف التي يرمي إليها المحققون الأمريكيُّون من أخذ (العيِّنات) المشار إليها، وإرسالها للتحليل في معامل الـ (FBI). فهذه (العيِّنات) لا بُدَّ قد أخذت، بطبيعة الحال، من المكان الذي كان الهاربون محتجزين فيه، والنفق الذي يُقال إنهم حفروه، وتمكنوا من الفرار عن طريقه. والدلالة الوحيدة لهذا هي أن اتجاه تفكير هؤلاء المحققين قد ذهب، في الغالب، إلى اختبار مدى صحَّة هذه الرِّواية الرَّسميَّة؛ أي اختبار ما إن كان هؤلاء المحكومون هم الذين حفروا، بأنفسهم، هذا النفق، الأمر الذي يعني، بالضرورة، أنهم قد استخدموا في ذلك معاول بسيطة، قليلة العدد، وصغيرة الحجم بحيث يسهُل إخفاؤها، أم أن جهة أخرى ذات سلطة على جغرافيا السِّجن، وضوابطه، هي التي فعلت ذلك، مسبقاً، وبتكنولوجيا متطوِّرة، قياساً إلى طول وعرض وعمق النفق، والمدى الزَّمني الذي استغرقه الحفر، وكميَّة التراب المستخرج، وكيفيَّة نقله، والمكان الذي نقل إليه، وهي كلها أمور لا يصعب التيقن منها إنْ أخضعت للمناهج والأساليب العلميَّة المتقدِّمة، خصوصاً وقد جاء في صلب الخبر نفسه أن مصادر مطلعة كشفت عن تورُّط شخصيَّات (اعتباريَّة!) في تهريب هؤلاء المحكومين الأربعة، مِمَّا يفتح شهيَّة أيِّ تحقيق للمضيِّ، حثيثاً، بهذا الاتجاه!
الأحد
ربَّما لا يعرف الكثيرون أن ونستون تشرشل (1874 ـ 1965م)، والذي يُعتبر أشهر رئيس وزراء في تاريخ بريطانيا، هو مبتدع بعض المجازات السِّياسيَّة الرائجة، كشارة النصر، مثلاً، برفع الإصبعين، السَّبَّابة والأوسط، مفتوحين على شكل الحرف الإنجليزي (V)، وهي بادئة لفظ (victory ـ النصر)، وكعبارة (الستار الحديدي)، كناية عن دول المعسكر الاشتراكي بشرق أوربا. وبرغم أن تشرشل كان محافظاً إلا أن علاقة صداقة حميمة ربطت بينه وبين الكاتب الاشتراكي (الفابي) السَّاخر برنارد شو (1856 ـ 1950م)، بل وتنسب إليه، مثل شو نفسه، الكثير من الطرائف والأقوال الرَّشيقة التي تمزج بين عمق الحكمة وخفة الظل، ومنها: "إنك لا تستطيع أن تبلغ على مائدة المفاوضات أبعد مِمَّا تستطيع مدافعك أن تبلغ في ميدان القتال"! و"ليس ثمَّة أصدقاء دائمون، أو أعداء دائمون، بل مصالح دائمة"! و"الأمريكيُّون لا يفعلون الشئ الصَّواب إلا بعد أن يستنفدوا كلَّ الأخطاء الممكنة"! و"ليست مهمَّة الأمم المتحدة أن تأخذنا إلى الجَّنة، بل أن تمنعنا من الذهاب إلى الجحيم"! و"إن الرَّدَّ الوحيد على الهزيمة هو الانتصار"! و"المتفائل هو مَن يرى فرصة في كلِّ مصيبة، أما المتشائم فهو مَن يرى مصيبة في كل فرصة"! و"سوف يذكرني التاريخ بالخير، طالما أنني أنا الذي سوف أكتبه بيدي"! و"المؤهِّل الأساسي للسِّياسي الناشئ هو القدرة على التنبُّؤ بما سيحدث غداً، أو بعد أسبوع، أو شهر، أو سنة .. ثمَّ القدرة، لاحقاً، على تفسير أسباب عدم تحقق أيٍّ من هذه النبوءات"!
الراكوبة
كمال الجزولي
kamalgizouli@hotmail.com
الاثنين
أسفت كثيراً كون ظروفي لم تتح لي أن ألبِّي، في ذلك النهار من مارس الماضي، دعوة صديقي ياسر عرمان لحضور اللقاء الذي حرص على تنظيمه، بقرية البجراويَّة، لجمهرة من المبدعين، على أيَّام حملته الانتخابيَّة كمرشَّح لرئاسة الجُّمهوريَّة، ليس فقط بغرض توجيه خطاب مخصوص إلى هذه الشَّريحة، وإنما، أيضاً، للاستماع لآرائها، والتعرُّف، وثيقاً، على شواغلها، وإدارة مفاكرة نوعيَّة معها حول قضايا الثقافة والإبداع؛ وخيراً فعل، ما في ذلك شك.
تقبَّل ياسر عذري، وبعث إليَّ بنسخة إليكترونيَّة من رسالته المعنونة (رَّقم/8 ـ نحو مصالحة مع الذات ومع تنوُّع الثقافة والتاريخ ـ في إطار مشروع وطني جديد). إطلعت عليها، فسعدت برؤية وجوه عزيزة، بين سطورها، لرجال ونساء كثر، وطيوف تواريخ غاية في النبل، وحلم وسيم قديم ما ينفكُّ يغوص ويطفو، تحت الكلمات وفوقها، مع "تهارقا، وأبادامك، والكنداكة، ومهيرة، والسلطان تاج الدين، وعلى دينار فى برنجيَّة؛ مع كون أنوك، مع السلطان قودوى، مع البداويت والسيوف المشرئبَّة، مع عمارة دنقس، وعبد اللة جمَّاع، وود ضيف الله؛ مع خليل فرح، مع خوجلى عثمان، مع الجنوب والشمال، مع الغرب والوسط والشرق، مع ديانات السَّماء والأرض، ومع النيل".
باختيار ذلك المكان العبقري، شديد الرمزيَّة الآثاريَّة/التاريخيَّة؛ وبمثل هذا اللمس اللطيف الحاني على واقع التنوُّع السوداني، قبيل أشهر معدودات من الحدث الأخطر في تاريخنا الوطني: (الاستفتاء) الذي قد يفصل جنوبنا عن شمالنا؛ أحسن ياسر مداخله نحو قضيَّة (الثقافة) التي "لا يمكن بناء مشروع وطني رصين دون الوقوف عندها"، والتي "غالباً ما يتم التغافل عنها، في البرامج والحملات الإنتخابيَّة، عمداً أو سهواً".
غير أن أكثر ما جذب انتباهي، في الرِّسالة، أمران: أوَّلهما أنها ركزت، بالأخصِّ، على (عدالة التنوُّع) التي ستبقى في الأرض بعد أن يذهب (زبد الاستعلاء) جفاءً! وثانيهما أنها أهدت ذلك اللقاء الثقافي/السِّياسي غير المسبوق إلى كوكبة من أناس بديعين. ففي إيماءة احتفاء موفقة بـ (الحزام السوداني)، أهدى ياسر اللقاء إلى الشيخ أنتا ديوب الذي أرَّقته أسئلة الحضارة الإنسانيَّة، وإسهام الأفارقة في تطويرها بأكثر مِمَّا هو معترَف به؛ فرفض التورُّط في (المركزويَّة الأوربيَّة)، وتعلق، عقلاً وروحاً، بأصول ثقافة قومه في مصر القديمة، ووادي النيل، وضمناً البجراويَّة؛ واستطاع أن يثبت أن ازدهار الثقافة والعلوم في العالم المعاصر يدين لحضارة الإنسان الأسود على النيل، داعياً للاعتراف بذلك، كمقدِّمة لازمة لتصالح كلِّ الأجناس، وبناء مستقبل متوازن على الأرض، والابتعاد عن إرث ثقافة السَّادة والعبيد. وخلص الإهداء إلى أن العودة ضروريَّة إلى كامل تاريخ السودان، كمكوِّن رئيس للرَّوابط المشتركة بين السودانيين وبين جوارهم، وأن أيَّ انتقاص من هذا التاريخ الكامل للسودان سيؤدى، في نهاية المطاف، للانتقاص من جغرافيَّته، فالجغرافيا الفاعلة لا توجد إلا بوجود التاريخ الكامل، ولا بُدَّ، كي تتصالح الشخصيَّة السودانيَّة مع التاريخ، أن تتصالح، أوَّلاً، مع الجغرافيا، لخلق روابط مشتركة، تتغذى على التفاعل مع القضايا المعاصرة، على قاعدة الاعتراف بالتنوع التاريخي والمعاصر.
وأهدى ياسر اللقاء، إهداءً ثانياً، إلى جون قرنق، كمثقف ومفكر تتلمذ على الشيخ أنتا ديوب، جاعلاً من التاريخ عنصراً رئيساً في رؤية (السودان الجديد) باتجاه إعادة صياغة وحدته على أسس مغايرة. فهو، بالحق، رائد التأهيل النظري والعملي على صعيد التنوُّع التاريخي والمعاصر، كأطروحة ثقافيَّة فرضت نفسها، بقوَّة، على الأجندات السِّياسيَّة. هكذا، من عنفوان السِّتينات وتحدِّياتها الفكريَّة، ومن جرأة الأسئلة وعظمة الإجابات، استطاع قرنق أن يتجاوز عقدة الدونيَّة التي رسَّختها مؤسَّسة (المركز) التي لا ترى في الجنوبي غير كائن ينبغي أن تنحصر مطالبه في حدود الجنوب، فحسب، أما القضايا القوميَّة فمن اختصاص آخرين، وأن يعبر هذا الحاجز معرفيَّاً، وفكريَّاً، وسياسيَّاً، ليطرح رؤية بديلة، رؤية ديموقراطيَّة لبناء (مركز) مغاير، بل (مراكز) جديدة تحافظ على وحدة السودان وفق توازن المصالح، وهذا أكبر تحدٍّ فكريٍّ وسياسيٍّ واجهته المؤسَّسة الحاكمة منذ الاستقلال. فالسودان التاريخي أكبر، بما لا يُقاس، من السودان الجُّغرافي اليوم. ومع ذلك فإن بلادنا تحتضن أكثر من 570 قبيلة، بما يفوق الـ 130 لغة ـ (لغة) وليس (رطانة) ـ وبعض هذه اللغات يمتدُّ تاريخها إلى آلاف السنين، بل لقد عرفها التاريخ العالمي حتى قبل بعض اللغات الحيَّة الآن؛ وتضمُّ بلادنا ما يقارب نصف دماء أفريقيا؛ وهي، إلى ذلك، موطن تنوُّع وتعدُّد هائل في الثقافات، والأديان، والموارد، مِمَّا يتطلب تنمية شاملة، ومتوازنة، وعادلة، كي يصبح مصدر غنى وقوَّة في كلِّ مناحي الحياة .
ثمَّ أهدى ياسر ذلك اللقاء، إهداءً ثالثاً، إلى الشَّاعر الناقد، والمفكر الكاتب، والمعلم، والمترجم، والصحفي النور عثمان ابَّكر، في ذكرى تلك الحوارات الفارهة التي حرَّكت ساكن بركة المسكوت عنه بشأن (الغابة والصحراء)، وذكرى الرموز السامقة من المثقفيين الكبار الذين أسهموا في إثراء تلك الحوارات، وتصدُّوا، بجسارة، لكلِّ أسئلتها الشائكة التي بقيت إما دون إجابات، أو بإجابات ناقصة، ضمن الحوارات التي جرت باكراً في إطار (الاتحاد السوداني)، و(اللواء الأبيض)، و(جماعة ابروف)، وعند أولاد عشري، ومنابر الخريجين، وغيرها.
وأخيراً أهدى ياسر اللقاء إلى د. عثمان بليَّة، وسنواته القصيرة المضيئة، حيث عاد إلى الوطن من إثيوبيا، محتشداً بانتباهاته القويَّة، ليتأمَّل، مليَّاً، خلال الفترة ما بين 1955 ـ 1960م، في عناصر وحدة شعب البجة، ثقافيَّاً وتاريخيَّاً، وليخرج بفكرته التي قادته، عام 1958م، إلى تأسيس (مؤتمر البجة)، كمنظمة ديمقراطيَّة للدِّفاع عن حقوق هذا الشَّعب، لكنه سرعان ما رحل، للأسف، قبل الأوان! غير أن فكره لم يرحل مع جسده، بل ما يزال حيَّاً في عذابات أهله، ماضياً وحاضراً، وفى قرى البجة الذين هم "من هول الحياة موتى على قيد الحياة"! و"يحتاجون للماء والحليب، وتلفزيون يتحدث لغة البداويت"!
إن قضايا الأمس ما تزال حاضرة، وشعلة التغيير ما تزال مضيئة، كما ولا يزال الأمل متقداً في أن ينال (الآخر) حقه المستحقَّ في أن يكون (آخر)، ضمن مجتمع يقبل (الآخر)، وينزع، عن قصد وعناية، إلى الحوار الديمقراطي بين مختلف الثقافات، مديراً ظهره لعهود القهر الاقتصادي، والاضطهاد الإثني.
الثلاثاء
كتبت شابَّة إسرائيليَّة، بإحدى مستوطنات الضِّفة الغربيَّة، تستفتي حاخاماً اعتاد أن يردُّ على المستفتين في صحيفة محليَّة، عمَّا إنْ كان بإمكانها المنافسة في الانتخابات البلديَّة، فأفتاها بعدم جواز ذلك، دينيَّاً، وفق تعاليم الحاخامات النافذين، كونها امرأة، والنساء يفتقرن إلى المصداقيَّة .. كما وأنه لا يجوز لهنَّ الاختلاط بالرجال في اجتماعات تستمر حتى وقت متأخر في المساء .. بل ولا يجوز لهنَّ حتى التصويت، لأنه لا يصحُّ أن تصوِّت المرأة لطرف، بينما يصوِّت زوجها لطرف آخر .. فالنساء، عموماً، لا يجوز أن يُسمِعنَ أصواتهنَّ إلا عن طريق أزواجهنَّ فقط!" (موقع بي بي سي على الشَّبكة، 26/5/10).
وفي العام الماضي أعلن الحاخام العسكري للجَّيش الإسرائيلي أن خدمة النساء في الجيش "تتعارض مع الشَّريعة اليهوديَّة"، بحسب صحيفة هآرتس (موقع "المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات" على الشَّبكة، 4/8/09).
كما نقلت وكالة الأنباء الفرنسيَّة أن الإسرائيليَّات، عندما يذهبن، مرة في الشهر، للصَّلاة عند (حائط المبكى) بالقدس، يواجهن احتمال التوقيف، والتعرُّض للشَّتم من قبل متشدِّدين، من بينهم حاخام الحائط نفسه الذي يعتبر (سلوك!) النساء هذا (استفزازاً!) لا يُحتمل، لأن النساء ممنوعات من ارتداء الطاقيَّة اليهوديَّة، وشالات الصَّلاة، وحتى حمل التوراة، وهي جنحة قد تصل عقوبتها إلى السجن ستة أشهر والغرامة ثلاثة آلاف دولار! وقال بعض الحاخامات "إن النساء (يتجرَّأن) على الإنشاد (الدِّيني!)، معرِّضين المصلين في الجَّانب الآخر من الحائط للغواية!" وفي 2003م قرَّرت المحكمة العليا الإسرائيليَّة أن الصَّلاة بصوت مسموع ليس مسموحاً بها للنساء، "لأن في ذلك (تهديداً!) للنظام العام!" (موقع "القدس" على الشَّبكة، 24/12/09)
وبعد، لا شكَّ في أن العقل البشري (الذكوري) هو الذي ينتج مثل هذه (الفتاوى) الشَّاذة، و(التأويلات) المنحرفة للنصوص، في كلِّ الدِّيانات؛ وإذا ما استمرَّ الحال على ما هو عليه، فإنه لن يكون ثمَّة مخرج أمام النساء سوى أن يتحوُّلن، في نهاية المطاف، إلى (أمازونيَّات)!
الأربعاء
لم يكن كارل ماركس (1818 ـ 1883م) هو أوَّل من عالج (الاغتراب/الاستلاب alienation)، كمفهوم ومصطلح، في السِّياق العام للفكر الغربي، لكنه، بالقطع، هو أوَّل من تصدَّى لصياغة دلالته العلميَّة الثوريَّة، من خلال تقعيده، ابتداءً، على الصَّعيد الاقتصادي، ضمن ماديَّته التاريخيَّة، سواء في مؤلفاته الباكرة أو المتأخِّرة، ومن أهمِّها سفره العُمدة (رأس المال)، فضلاً عن (مخطوطات 1844م)، و(الأيديولوجيا الألمانيَّة،1845م)، والتي شحن ماركس، من خلالها، (المفهوم/المصطلح) بدلالته الجديدة، ليعني تحوُّل نتاج النشاط البشري، بما في ذلك ناتج العمل، والعلاقات الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة، وأشكال الوعي الاجتماعي، وغيرها، إلى (أشياء) مستقلة عمَّن أنتجوها، غريبة عنهم، بل ومسيطرة عليهم. وربَّما كان من أسطع الأمثلة الكلاسيكيَّة لتجلي هذه العمليَّة العلاقة بين (البنائين) وبين (البناء) نفسه، حال فراغهم من تشييده، وانفصاله عنهم، وهلمجرَّا.
ولئن كان التقسيم الاجتماعي للعمل يتمظهر، بوضوح أكثر، في الإطار المحدود للعلاقات الطبقيَّة داخل المجتمع الواحد، فإنه يتمظهر، أيضاً، وإن بصورة أكثر تعقيداً، في الإطار الأوسع للعلاقات الاستغلاليَّة المعاصرة بين البلدان الرَّأسماليَّة الغنيَّة، المستغلة (بالكسر) للبلدان الفقيرة. فالأولى تسعى إلى تأبيد الثانية كمصدر للخام، وكسوق للتوزيع. ومن ثمَّ فإن (الاغتراب/الاستلاب) يتمظهر، هنا أيضاً، من خلال هذه العلاقات الاقتصاديَّة (وتوابعها: الثقافيَّة، السِّياسيَّة .. الخ) الدَّوليَّة المختلة، والتي تعتبر (العولمة الرَّأسماليَّة) أحدث أشكالها. وهي علاقات مؤقتة، بطبيعتها، ولن تنحسم، على أيٍّ من المستويين (الوطني) أو (الدَّولي)، إلا بالارتقاء إلى الاشتراكيَّة، وما من حلٍّ آخر!
طافت بذهني هذه الأفكار، وأنا أشاهد، في التلفاز، تقريراً أخباريَّاً، عن (التسليع) الذي يتعرَّض له شعر الهنديَّات الفقيرات، طفلات، وصبايا، ونساء راشدات، بعد حلاقته، كممارسة لعبادة خاصَّة، فيقوم بعض (الوكلاء المحليِّين) بجمعه، وتجفيفه، وشحنه، من ثمَّ، لصالح مجموعة من الشَّركات الغربيَّة تستثمر، منذ حين، في هذه (السِّلعة) المبتكرة، وذلك عن طريق إخضاع هذه (الشُّحنات)، بعد استلامها في الموانئ الغربيَّة، لسلسلة من عمليَّات التنظيف، والمعالجة المعقدة، ليس أقلها التلوين بقرابة الخمسين لوناً؛ ثمَّ عرضها، بعد ذلك، للبيع، في محلات (الموضة)، والصَّوالين الفاخرة، حيث يتزايد الإقبال بنهم، في الوقت الرَّاهن، على التزيُّن بهذا الشَّعر الهندي الجميل، من جانب عارضات الأزياء، ومغنيَّات البوب، ونجمات السينما، ومذيعات التلفزيون، وغيرهنَّ، رغم أن أسعاره آخذة في الارتفاع إلى أرقام فلكيَّة قد لا تصدِّقها صاحبات هذا الشَّعر الأصليَّات، أنفسهنَّ، في شبه القارَّة الهنديَّة، وربَّما لا يصدِّقها، كذلك، جامعو الشَّعر (الخام) من مختلف دور العبادة، خصوصاً الرَّازحون منهم في أدنى سلم (الوكلاء).
هكذا يجري تحويل طقس ديني قديم إلى موضوع لتجارة جديدة تعزِّز ظاهرة (العولمة الرَّأسماليَّة)! هل تذكرون كيف راكم (الرَّأسماليُّون) السودانيُّون الأوائل ثرواتهم عن طريق العمولات التي كانوا يحصلون عليها لقاء جمع المحاصيل، في المواسم، من مناطق الإنتاج، وشحنها إلى الشَّركات الأجنبيَّة التي تعالجها، وتصنعها، وتعيدها إلى أسواقنا؟! المضمون ذاته، وإن اختلف الشكل!
استنطق التقرير أحد (أنبياء) العولمة (الكذبة) الجدد هؤلاء، فقال، لا فض فوه، إنهم، بهذا (الاستثمار) الجديد، يوفرون فرص العمل لملايين الناس! ويقصد، بالطبع، المستويات المختلفة للعاملين الهنود في حلاقة شعر النساء الهندوسيَّات المؤمنات بأن ذلك طقس لازم للتقرب من الآلهة، ونيل (البركة)؛ ثم تجفيفه، وتجهيزه في أكياس ضخمة تزوِّدهم بها كبريات الشركات الناشطة في هذا المجال، والتي (تحتكر) كلٌّ منها (معبداً) أو مجموعة (معابد)!
في تبريره لهذا النهب الرَّأسمالي العالمي، بأسعار بخسة، لأحد (موارد) البلدان الفقيرة، قال أحد دهاقنة هذا الضرب الجديد من (الاستغلال): "ولكنكم لا تعرفون كم تكلفنا عمليَّات معالجة وتجهيز هذا الخام"!
لو قدِّر لإحدى هاتيك النساء الفقيرات أن تشاهد، بالمصادفة، شعرها يزيِّن رأس نجمة ما، في إحدى القنوات الفضائيَّة، فسوف تنكره، يقيناً! لقد انفصل شعرها عنها! إستقل بنفسه! "تشيَّأ"، وفق تطوير لوكاش العصري لدلالة (الاغتراب/الاستلاب) الماركسيَّة!
الخميس
ما زال إضراب المحامين في مصر مستمرَّاً، منذ أيَّام، بسبب الحكم الذي أصدره أحد القضاة على محاميين بالسَّّجن، بتهمة اعتدائهما على رئيس نيابة طنطا. تكتل القضاة، رافضين كلَّ الحلول التي اقترحها الوسطاء، فتكتل المحامون وأعلنوا الإضراب عن الظهور أمام المحاكم، وأصرَّ الموكلون، من جانبهم، على حقهم في عدم المثول للمحاكمات بدون محامييهم؛ وكما في بعض أمثال مستعربي السودان: "كلُّ ديكاً في بلدو عُوعاي"!
الجمعة
ما من أحد يمكن أن يكابر في أن حكومتنا، مثلها مثل أيَّة حكومة أخرى، لديها كامل الحقِّ في الاحتجاج على تدخُّل أيَّة دولة أجنبيَّة في شئونها الدَّاخليَّة، ولا استثناء من ذلك حتى في مواجهة الدُّول (الصديقة)!
لذا فما مِن شئ يدعو لاستغراب كائن مَن كان إذا عبَّرت الحكومة، من منطلق هذه القاعدة الرَّاسخة في العلاقات الدوليَّة المعاصرة، عن احتجاجها في مثل هذه الحالات، بل على العكس، فإن عدم الاحتجاج هو الأدعى للاستغراب! ويصدق ذلك بالنسبة لقضيَّة دارفور، على وجه الخصوص، بصرف النظر عن أيِّ موقف مُعارض للحكومة، أو مؤيِّد لهذه الحركة المسلحة أو تلك! لذا كان من الطبيعي، تماماً، أن يجري المشير البشير اتصالاً هاتفيَّاً مع العقيد القذافي، ليحتج على تحرُّكات د. خليل، زعيم حركة العدل والمساواة، الذي تستضيفه ليبيا في الوقت الرَّاهن، طالباً منه منع أيِّ تحرُّك عدائي تجاه السودان (الصَّحافة، 25/6/10).
الواضح أن ما أثار حفيظة الحكومة هو أن د. خليل كان قد تحدث، من طرابلس، إلى (قناة الجزيرة) في 23/6/2010م، لأوَّل مرَّة منذ واقعة احتجازه بمطار انجمينا في 19/5/2010م، ومنعه من دخولها، وإتلاف جوازات سفره، هو ومرافقيه، وإجبار طائرته على العودة إلى طرابلس التي كان قد توجَّه منها إلى العاصمة التشاديَّة، بعد يومين من انتهاء زيارته للقاهرة، على رأس وفد ضخم من حركته، حيث أجرى محادثات مع مستويات عليا. وفي حديثه التلفزيوني ذاك اتهم خليل (الدَّوحة) بعدم الحياد، وطالب بمنبر مغاير، على أن يكون قريباً، بحيث يمكن لقادة حركته الوصول إليه بالسَّيَّارات، تجنباً لما أسماه بـ (القرصنة الجَّويَّة)، كما هدَّد باجتياح نيالا والفاشر وصولاً إلى الخرطوم. وأشارت تقارير صحفيَّة إلى أنه اجتمع، فعليَّاً، بقادته جنوب مدينة سرت (الصحافة ـ وكالات، 24/6/10).
غداة تلك الأحداث والتصريحات، مباشرة، تداول الإعلام المحلي والعالمي عن الناطق الرَّسمي للقوَّات المسلحة السودانيَّة، أنباء معارك تجري، فعليَّاً، بين الطرفين في مناطق (عزبان) و(عدولة) و(أم كتكوت) بدارفور (المصدر). وفي الأثناء أعلنت الحكومة أنها "غير راضية عن تحرُّكات خليل من الأراضي الليبيَّة"، معتبرة وجوده هناك "غير مرغوب فيه!"؛ كما أكد الناطق الرَّسمي باسم الخارجيَّة السودانيَّة على "اتصالات مع أعلى المستويات الليبيَّة للحدِّ من تحرُّكات خليل الذي اختار طريق الحرب"، الأمر الذي عبَّر المراقبون عن كونه يتجه "بالعلاقات السودانيَّة الليبيَّة إلى طور الأزمة" (المصدر).
هذا الاستنتاج لا يبدو بعيداً عن الحقيقة؛ فقد قال مسؤولون حكوميُّون في الخرطوم إن البشير ابتعث وفوداً أمنيَّة وسياسيَّة رفيعة المستوى للتباحث مع المسؤولين الليبيِّين "بهدف حثهم على إبعاد خليل" (الشرق الأوسط، 25/6/10). لكن، وعلى الرَّغم من أن ليبيا التزمت الصمت إزاء هذه التصريحات، في ما بدا كمحاولة لتفادي المزيد من توتر علاقاتها مع السودان، وفق مصادر ليبيَّة مطلعة، إلا أن أنباء صحفيَّة نقلت، في اليوم التالي، عن "مصادر رفيعة المستوى في ليبيا"، تأكيدها على أن طرابلس لا تنوي الاستجابة للمساعي السودانيَّة الهادفة إلى إقناع العقيد القذافي بطرد د. خليل من الأراضي الليبيَّة، "لإجباره على العودة إلى مفاوضات السَّلام المتعثرة في العاصمة القطريَّة"، وأن طرابلس تعتبر خليل "ضيفاً على القيادة الليبيَّة، وعلى العقيد القذافي شخصيَّاً، ولا مجال لإبعاده" (المصدر). وإلى ذلك روت المصادر للصحيفة أن "مسؤولاً ليبيَّاً رفيع المستوى رفضت تسميته" أبلغ وفداً سودانيَّاً التقاه، مؤخراً، بطرابلس، أن ليبيا "دهشت" لإصرار الحكومة السودانيَّة على إبعاد خليل، واعتباره مجرَّد عابر لليبيا وليس مقيما فيها، ".. ففي السَّابق قلتم إنه شخص غير مهم، والآن تريدون منا إبعاده، كيف؟! نحن نستغرب هذا الموقف"! ووصف المسؤول الليبي د. خليل بأنه "مجرَّد شخص عربي يقيم على أرض عربيَّة، ولا مجال لفرض أيِّ مواقف عليه، أو إجباره على مغادرة ليبيا!" (المصدر)!
من جهته صرَّح للصحيفة، أحمد حسين آدم، الناطق الرَّسمي باسم العدل والمساواة، بأن القاهرة سبق أن "رفضت محاولات سودانيَّة رسميَّة مماثلة"، نافياً تقديم ليبيا "أيَّة مساعدات لوجستيَّة أو عسكريَّة" لحركته، مشدِّداً علىً أنها "تقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف والفرقاء في السودان" (المصدر).
الشاهد أن الأمر، لو كان مجرَّد أمر (احتجاج) على ما قد ترى الحكومة أنه تدخل في شئونها، فليس فيه ما يبرِّر (الاستغراب). أمَّا والحال أن مجمل النهج السِّياسي للحكومة ذاتها، تحت الظرف المحيط، داخليَّاً وإقليميَّاً ودوليَّاً، يشير، بأكثر من إصبع، إلى أنها إنما (تحتج) على (نتيجة) تدرك هي نفسها، تماماً، أنها تسبَّبت، منذ البداية، في إرساء (مقدِّماتها)، فهذا هو مدعاة (الاستغراب) الحقيقي!
وكي لا نذهب بعيداً في سَوْق الأدلة، يكفي أن نذكر بأن أصوات الحادبين ارتفعت، في بدايات (مفاوضات الدَّوحة)، تنادي، حتى بحَّت، بضرورة إشراك القوى السِّياسيَّة كافة فيها، وذلك لأسباب أصبح يدركها حتى راعي الضَّأن في الخلاء. فماذا كان موقف الحزب الحاكم؟! أكد د. كمال عبيد، أمين إعلامه، وقتها، أن هذه المفاوضات ستلتئم بين الحكومة والحركات المسلحة فقط! وأضاف، في ما يشبه المكايدة: "لا مشاركة لأية جهة داخليَّة أخرى!" (الرأي العام، 15/12/08).
هذه الحكومة، إذن، هي التي أقصت (الدَّاخل) و(دوَّلت) قضايانا، أجمعها، حتى لم يعُد بمستطاعها، الآن، التراجع، قيد أنملة، عن هذا (التدويل)، أو (الاحتجاج) عليه! باختصار، وعلى حين سمَّمت هذه الحكومة، تماماً، وعلى مدى العقدين الماضيين، مناخات (الجَّبهة الداخليَّة) إلى الحدِّ الذي أضحت فيه هذه المناخات غير صالحة، البتة، لأيِّ تفاوض وطني حُر، ارتضت أن تتبضع بقضايا بلادنا في أسواق شتى العواصم والمدن والبلدات والقرى النائية، شرقاً وغرباً، ما عدا السودان نفسه، بين كينيا، وسويسرا، وليبيا، وألمانيا، وأثيوبيا، وأمريكا، ونيجيريا، وجيبوتي، وإريتريا، ومصر، وتشاد، وقطر، والسُّعوديَّة، وما خفي أعظم!
على خلفيَّة هذه الحقيقة خذ عندك نموذج (أمريكا) مثلاً؛ أفليسَ مدعاة لـ (الاستغراب)، بعد كلِّ تلك الأبسطة الحمراء التي فرشتها الحكومة لها على مداخل أدقِّ قضايانا الوطنيَّة، أن تنقلب نفس هذه الحكومة، كي (تحتجَّ) على ذهاب باقان اموم، الأمين العام للحركة الشَّعبيَّة، إلى واشنطن ليبحث معها ضمانات ترتيب (الاستفتاء) القادم؟!
وخذ عندك، أيضاً، نموذج (وسطاء الدَّوحة)؛ فبأيِّ وجه يمكن للحكومة، بعد كلِّ الإشادات التي دبَّجَتها في حقهم، أن تعترض على (ظهر المِجَنِّ) الذي قلبَه لها جبريل باسولي، الوسيط الأفريقي الدَّولي لمفاوضات دارفور، من خلال المؤتمر الصَّحفي الذي عقده، البارحة، في باريس، بدعوة من نادي الصَّحافة العربيَّة، حيث ألقى على عاتقها بكامل "المسئوليَّة عن إعادة السَّلام إلى المنطقة"، قائلاً، بملء فيه: "تحقيق السَّلام مسؤوليَّة البشير وحكومته"، و"مسؤوليَّة الرئيس البشير أمام التاريخ وأمام شعبه هي تسهيل التوصُّل إلى حل"، مطالباً الحكومة "بتقديم التنازلات اللازمة لتسريع المفاوضات، وتحسين الوضع الأمني، ووقف النشاط العسكري، وتسهيل عودة المبعدين إلى أراضيهم، والتعجيل بتسوية التعويضات، وإعادة إحياء دارفور اقتصاديَّا، وتنميتها لتعود لممارسة أنشطة اقتصاديَّة عاديَّة" (الشرق الأوسط، 25/6/10).
أما إذا أخذنا في الاعتبار نموذج (ليبيا) نفسها، والتي شكلت، منذ البداية، المحور الرئيس لكلمتنا هذه، فقد يكفينا أن نستعيد، هنا، ما سبق أن سقنا، عبر (رزنامة 13/7/09)، حول ما كشف عنه الفريق أوَّل سلفاكير، النائب الأوَّل لرئيس الجُّمهوريَّة، ورئيس حكومة الجنوب، ورئيس الحركة الشعبيَّة، للمصلين في كتدرائيَّة سانت تريزا الكاثوليكيَّة بجوبا، بشأن اتصال العقيد القذافي به في الثالثة من صباح أحد أيَّام زيارته لطرابلس، أواخر يونيو 2010م، ليؤكد له (مساندته!) لجنوب السودان إذا ما قرَّر (الانفصال!) عن شماله، في استفتاء 2011م، و .. "إذا أراد الجنوبيُّون أن يقترعوا على الاستقلال فينبغي ألا يخشوا أحداً، و(سأقف!) إلى جانبهم .. لقد كان من (الخطأ!) الإبقاء على الجنوب موحَّداً مع الشمال بعد عام 1956م .. كان (ينبغي!) أن (ينفصل!)، إما كدولة مستقلة أو ينضمَّ إلى دولة أخرى في شرق أفريقيا!"، واعداً بإرسال (خبراء ليبيِّين!) إلى جنوب السودان "للمساعدة في إعادة إعمار البنية التحتيَّة وفي الزراعة!" (الأحداث، 1/7/09).
لقد قلنا، يومها: كفى بذلك (تحريضاً) على (تفكيك) بنية وطنيَّة قائمة! كما تساءلنا: إذا كان الرَّجل لا يقيم اعتباراً لما تواضعنا عليه، نحن أصحاب الشَّأن، من إلزام لأنفسنا بالعمل من أجل أن تجئ نتيجة (الاستفتاء) في صالح (الوحدة)، كقدس أقداس سيادتنا الوطنيَّة، فما الذي يجبرنا على الصمت على هذه الترهات، مهما كان حجم التعقيدات الجيوبوليتيكيَّة، وما الذي يحول بيننا وبين الرَّدِّ عليها، ولو بطلب توضيح دبلوماسي؟! لماذا نقبل على أنفسنا أن ننتظر حتى تتجرَّأ (السِّفارة) الليبيَّة في الخرطوم بإصدار بيان (تكذب!) فيه، علناً، تصريحات النائب الأوَّل لرئيس الدولة (الصحافة، 3/7/09)؟! أفلو حدث هذا في أيَّة دولة أخرى، أما كانت، على الأقل، ستستدعي سفيرها من طرابلس، كإيماءة غضب مشروع، هذا إذا لم تسحبه، أو تأمر بطرد السفير الليبي؟!
والآن، ها نحن أولاء ما زلنا نتساءل، أوَّلاً، عمَّا عساه يكون دافع الحكومة الحقيقي، اليوم، لهذه (الغضبة المضريَّة) على إيواء ليبيا لخليل، واعتبار ذلك تدخُّلاً عدائيَّاً في شئون (السودان)، بينما صمتت، هي نفسها، بالأمس، على (تحريض) العقيد القذافي للفريق أوَّل سلفا، في الثالثة صباحاً، على (فصل) الجنوب عن الشمال؟! ثمَّ نتساءل، ثانياً، عمَّا إنْ كانت السَّيادة والكرامة الوطنيَّة تقبل القسمة على اثنين، أم، يا ترى، (سلامة النظام) فوق (سلامة الوطن)؟!
السبت
شغلني التفكير، منذ صباح البارحة، في خبر قيام مجموعة من المباحث الفيدراليَّة الأمريكيَّة (FBI) بأخذ (عيِّنات) من داخل سجن كوبر، وإرسالها إلى معاملها بالولايات المتحدة، لمعرفة طريقة هروب المحكومين الأربعة بالإعدام، في قضيَّة مقتل الدبلوماسي الأمريكي جون قرانفيل (الأخبار، 25/6/10). فبصرف النظر عمَّا إن كان ذلك يحقُّ أو لا يحقُّ لهذه المؤسَّسة الأمريكيَّة، فإن السؤال الذي ظلَّ يدور في ذهني هو: عمَّ، تراهم، يبحثون؟! وعلى أيَّة فرضيَّة أوليَّة؟! وما هي نوعيَّة (العيِّنات) المأخوذوة؟!
لقد ظلت التحقيقات والتحرِّيات الجنائيَّة تستخدم، منذ أمد بعيد، طائفة معلومة من المناهج والأساليب التقليديَّة، للكشف عن الجرائم، ولاعتماد مخرجات هذه المناهج والأساليب (قرائن) تربط، أو لا تربط، بين المتهمين وبين الأفعال الإجراميَّة، وإن كانت لا ترقى، بالطبع، في مستوى (وزن البيِّنة)، إلى درجة (الإقرار) أو (الشهادة). ومن هذه المناهج والأساليب (حاسَّة الشَّمِّ) المستندة إلى خاصِّيَّة فيزيولوجيَّة لدى (الكلاب)، وكذلك (فراسة) بعض الأشخاص في (تمييز الخطوط)، أو (القيافة/اقتفاء الأثر)، وخلافه. هذا فضلاً عن نوع آخر من (القرائن) أكثر علميَّة ووثوقاً، مثل (بصمة الإصبع finger print)، على سبيل المثال.
ومع تطوُّر العلوم الحديثة زادت استخدامات هذا النوع الأخير من المناهج والأساليب، إلى الحدِّ الذي يمكن أن نطلق عليه (ثورة القرائن العلميَّة). فأصبح من المعتاد أن يستعين المحققون والمتحرُّون بما يوفره، مثلاً، منهج (التشعيع)، على قاعدة معطيات علم (الكيمياء)، في الكشف عن الكثير من الجرائم، مثلما أصبحوا يستعينون، مؤخَّراً، بأحدث المنجزات العلميَّة، ابتداءً من (البصمة الوراثيَّة DNA)، وحتى استخدام العناكب فى الطب الشرعي. ويشغل مكانة متقدِّمة، دون شك، بين هذه العلوم التي تتزايد استخدامات معطياتها، ضمن المناهج والأساليب الحديثة في التحقيق والتحرِّي الجنائي، (علم الجيولوجيا)، بفروعه المختلفة، وكذلك (علم التربة)، ضمن (الهندسة المدنيَّة).
فإذا وضعنا هذا كله في الاعتبار، لن يصعب، إذن، التكهُّن باحتمالات الأهداف التي يرمي إليها المحققون الأمريكيُّون من أخذ (العيِّنات) المشار إليها، وإرسالها للتحليل في معامل الـ (FBI). فهذه (العيِّنات) لا بُدَّ قد أخذت، بطبيعة الحال، من المكان الذي كان الهاربون محتجزين فيه، والنفق الذي يُقال إنهم حفروه، وتمكنوا من الفرار عن طريقه. والدلالة الوحيدة لهذا هي أن اتجاه تفكير هؤلاء المحققين قد ذهب، في الغالب، إلى اختبار مدى صحَّة هذه الرِّواية الرَّسميَّة؛ أي اختبار ما إن كان هؤلاء المحكومون هم الذين حفروا، بأنفسهم، هذا النفق، الأمر الذي يعني، بالضرورة، أنهم قد استخدموا في ذلك معاول بسيطة، قليلة العدد، وصغيرة الحجم بحيث يسهُل إخفاؤها، أم أن جهة أخرى ذات سلطة على جغرافيا السِّجن، وضوابطه، هي التي فعلت ذلك، مسبقاً، وبتكنولوجيا متطوِّرة، قياساً إلى طول وعرض وعمق النفق، والمدى الزَّمني الذي استغرقه الحفر، وكميَّة التراب المستخرج، وكيفيَّة نقله، والمكان الذي نقل إليه، وهي كلها أمور لا يصعب التيقن منها إنْ أخضعت للمناهج والأساليب العلميَّة المتقدِّمة، خصوصاً وقد جاء في صلب الخبر نفسه أن مصادر مطلعة كشفت عن تورُّط شخصيَّات (اعتباريَّة!) في تهريب هؤلاء المحكومين الأربعة، مِمَّا يفتح شهيَّة أيِّ تحقيق للمضيِّ، حثيثاً، بهذا الاتجاه!
الأحد
ربَّما لا يعرف الكثيرون أن ونستون تشرشل (1874 ـ 1965م)، والذي يُعتبر أشهر رئيس وزراء في تاريخ بريطانيا، هو مبتدع بعض المجازات السِّياسيَّة الرائجة، كشارة النصر، مثلاً، برفع الإصبعين، السَّبَّابة والأوسط، مفتوحين على شكل الحرف الإنجليزي (V)، وهي بادئة لفظ (victory ـ النصر)، وكعبارة (الستار الحديدي)، كناية عن دول المعسكر الاشتراكي بشرق أوربا. وبرغم أن تشرشل كان محافظاً إلا أن علاقة صداقة حميمة ربطت بينه وبين الكاتب الاشتراكي (الفابي) السَّاخر برنارد شو (1856 ـ 1950م)، بل وتنسب إليه، مثل شو نفسه، الكثير من الطرائف والأقوال الرَّشيقة التي تمزج بين عمق الحكمة وخفة الظل، ومنها: "إنك لا تستطيع أن تبلغ على مائدة المفاوضات أبعد مِمَّا تستطيع مدافعك أن تبلغ في ميدان القتال"! و"ليس ثمَّة أصدقاء دائمون، أو أعداء دائمون، بل مصالح دائمة"! و"الأمريكيُّون لا يفعلون الشئ الصَّواب إلا بعد أن يستنفدوا كلَّ الأخطاء الممكنة"! و"ليست مهمَّة الأمم المتحدة أن تأخذنا إلى الجَّنة، بل أن تمنعنا من الذهاب إلى الجحيم"! و"إن الرَّدَّ الوحيد على الهزيمة هو الانتصار"! و"المتفائل هو مَن يرى فرصة في كلِّ مصيبة، أما المتشائم فهو مَن يرى مصيبة في كل فرصة"! و"سوف يذكرني التاريخ بالخير، طالما أنني أنا الذي سوف أكتبه بيدي"! و"المؤهِّل الأساسي للسِّياسي الناشئ هو القدرة على التنبُّؤ بما سيحدث غداً، أو بعد أسبوع، أو شهر، أو سنة .. ثمَّ القدرة، لاحقاً، على تفسير أسباب عدم تحقق أيٍّ من هذه النبوءات"!
الراكوبة
nashi- مشرف المنتدى الرياضى
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى