ابوجبيهه


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

ابوجبيهه
ابوجبيهه
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

بروفيسور عبد الله الطيب يكتب عن الشاعر صلاح أحمد إبراهيم

3 مشترك

اذهب الى الأسفل

بروفيسور عبد الله الطيب يكتب عن الشاعر صلاح أحمد إبراهيم Empty بروفيسور عبد الله الطيب يكتب عن الشاعر صلاح أحمد إبراهيم

مُساهمة من طرف الفضل الحاج البشير 3rd ديسمبر 2009, 18:04

هذه هي المقدمة لكتاب صلاح أحمد إبراهيم "نحن والردى" بقلم الراحل البروفيسر عبدالله الطيب المجذوب وما أروعها من مقدمة آمل من محبي المنتدى الاضطلاع عليها حرفاً حرفا.
بروفيسور عبد الله الطيب يكتب عن الشاعر صلاح أحمد إبراهيم


بسم الله الرحمن الرحيم

قرأت في زمان مضى كلمة للأستاذ صلاح أحمد إبراهيم رحمه الله في إحدى المجلات أو في كتيِّب ( لا أذكر على وجه التحديد ) بعنوان "ماتوا سَمْبَـله". أحسبها كانت مقالة كقصة أو قصة صغيرة كمقالة. وصف فيها جنوبيَّاً (لم يُحدِّد قبيلته ولكن يغلب على الظن أنه من الاستوائية) بيده أداة موسيقية يترنم بها ويغنِّى بين حين وحين: " ماتوا سمبلة ".
"وسمبلة" هذه تحريف للكلمة الإنجليزية Simple . وكأنَّ الأصل جملة إنجليزية They simply died صاغها الجنوبى المترنم أو توهمها أو سمعها أو صيغت له، أى ذلك كان، ولبست في غنائه وترنمه معنى " ماتوا هَمَلَهْ " كما نقول في اللسان العامى أو بلا سبب ولا دافع، وكأنَّ القاتل قتلهم بلا "غبينة". ماتوا سمبلة كما يموت النمل يقتله الولد الصغير بإصبعه. أو كما يُقْتل الذباب، ماتوا سمبلة.
في المقالة حزن شديد عميق. وفيه دموع كأنها تجرى من موسيقا الجنوبى وترنمه. كأنَّ هذا الجنوبى نفسه يرثي القتلى " سمبلة " بلوعةٍ ويعلم أنه هو وقومه ضَيَّعوا حياة هؤلاء القتلى بلا سبب. كانوا يظنونهم صقوراً جارحة فإذا هم ذباب يعصرونه ويهصرونه ويَفْطَس.أثرت في نفسى تلك المقالة. أحسست فيها رقة بالغة.
قرأت لصلاح من شعره من بعد. وأسفت لأنه ترك الوزن الرصين الذى في مدحه لصهره الشفيع أحمد الشيخ رحمه الله.
يا شعب إنْ أبدى الجبانُ خنوعا
لا تيأسـنَّ فقـد ولـدتَّ شفيعـا
وقد ذكر في مقدمة هذا الديوان الذى بين يديك أيها القارئ الكريم أنه نظم هذه الأبيات العينية وهو ابن عشرين وهى سن العمر الحلوة كما قال شكسبير ـ Sweet and twenty ـ فلعله أن لو استمر على هذا النسق أن يلحق بطبقة التجانى رحمه الله، لما ههنا من رصانة لفظ وجودة نَغَم. لكن صلاحاً رحمه الله آثر ما سماه المعاصرون " الشعر الحديث ".
هذا الشعر الحديث أدَّعى اختراعه والسبق إليه جماعة. ادعت نازك الملائكة السبق إليه واختراعه فيمن سبقوا إليه أو اخترعوه. وهذا عجيب لأنها استشهدت بأبيات الناقوس المنسوبة إلى على كرَّمَ الله وجهه:
يا ابن الدنيا مهلاً مهلاً
وهي أبيات عدة. ويكون على هذا سيدنا علىٌّ اخترع وزن التفعيلة لا نازك. والحق أنَّ أنواع الوزن واللا وزن كثيرة وسبق إليها كثيرون منذ نشأ شعر العرب. وممن ينسب إليهم السبق والاختراع، بدر شاكر السيَّاب، والبياتى، ونزار قبانى. والحقيقة أن قبلهم عددا.
ونحن في السودان الأسودِ ألوانَ بَشَرةِ عَرَبِه سبقناهم ـ سبقنا هؤلاء الذين ادعوا السبق أو ادعى لهم. وقد ذكرتُ في بعض ما كتبت أنَّ أبا بكر أحمد موسى، الأستاذ الأديب البارع رحمه الله كان يخترع أوزاناً يحاكى بها أحيانا نغمات الطيور وزقزقات العصافير.
وقد كنت معجباً بأغانى شكسبير وكانت لدينا في كلية غوردون اسطوانات مثل:
It was a lover and his lass
ومثل :
Come away come away death
ومع أنَّ عدداً من خطب مشهورات رواياته كان مقررا علينا وكنا به معجبين، ما كنت ( مع ما كان يقال لنا إنه شعر مرسل) أراه إلاَّ نثرا. وقد وجدت أستاذ الإنجليزية بجامعة الخرطوم من بعد البروفيسور ليفي يرى ذلك أيضاً، ولكن زملاؤه قالوا إنَّه يهودى. ولا أدرى ما صلة هذه العنصرية بالنقد. هذا وكان الشعر الإنجليزى الموزون لا يعجبنى لضعف وزنه. ولفتنى أحد زملائى النجباء إلى جمال قصيدة أو مقطوعة قنطرة وستمنستر لوردزورث التى درَّسها لهم المستر هارت وكان حريصاً على تحبيب طلبته في الشعر الإنجليزى، ولم تعجبنى أول الأمر ولكنى حملت نفسى على الاعجاب بها وبسائر ما تلقيناه من شعر وردزورث.ثم أقبلت على محاولة النظم المرسل والأوزان المختلفة على طريقة شوقي في مسرحياته ثم على أوزان كالمخترعة أو كالحرة. ثم بعد هذه الفتنة الشبابية أعرضت إعراضاً عن التفعيلات السائبة وما بمجراها. وأذكر إذ كتب إلىَّ المرحوم محمد عبد الحى وهو يُعِدُّ رسالة الدكتوراه بجامعات بريطانيا يسأل عن أمر هذه المحاولات ليزعم أنها أسبق من محاولات من ادعوا السبق إلى الشعر الحر من المعاصرين ثمَّ كأنْ قد صَحّ عنده أنه لا فائدة في هذه المغالطات التى لا تخلو من بعض نوع من العصبية، إلاَّ تكن عصبية قبلية فلعلَّها شبيهة بعصبيات أتيام الكرة ونعراتها القومية.
مع تَوَجُّـه صلاح رحمه الله نحو الشعر الحر الحديث أبى النغم البارعُ الرصين القديم إلاَّ أن ينبثق من أسطره الجياد. لاسيما نغم بحر الرمل كما في قوله: ـ
يا ذكىَّ العود بالمطرقة الصماء والفأس تشظَّى
وبنيران لها الف لسان تتلظَّى
ضع على ضوئك في الناس اصطبارا ومآثرْ
مثلمّا ضوع في الأهوال صبرا آل ياسرْ
فلئن كنت كما أنت عبِقْ
فاحترقْ
وان شئت ألحقت "فاحترقْ " "بِعَبِقْ" بعد فاصل ما. المعانى واضحة، مشرقة، مأخوذة من مصدرين معروفين في حياتنا اليومية إلى عهد قريب.الأول عمل الريحة للعرس والطهارة ـ يدق الصندل أو الكليْت والشاف أو ما عسى ان يكون من حطب الطيب. والمصدر الثانى حطب الوقود " لتُقَّابة" الخلوة والقرآن. والحطب يُجْمَع من الغابات وأشجار القرية. ثُمَّ يُكَسَّر بالفأس وكلاهما ـ خَشَبُ الطيبِ وخَشَبُ وقودِ التُقَّابة يُعْرَض للنار فتشتعل فيه. ومِجْمَر البخور قد يُوضع فيه اللبان وسواه. وحطب التُقَّابة ترتفع ألسنة نيرانه وتستضىء بها الحلقة التى حولها من الحيران.
وكلمة ضوع في قوله "مثلما ضوع في فى الأهوال صبرا" قد تلمس فيها فتجده معنى ضَوَّع الذى للطيب وللبخور ومعنى ضَوَّأ بتشديد الواو الذى من الضوء بقلب الهمزة عينا على اللهجة الشائعة في كثير من كلام أهلنا.
الافتتان في قوله :
فلئن كنت كما أنت عَبِقْ
فاحتَرِقْ
قمَّة في حسن التعبير وإصابة عين الثور Bull’s eye كما يقال بالإنجليزية من أساليب الطفرة التعبيرية. وتوضيح ذلك أن البخور تزكو رائحته بالاحتراق كما هو معلوم، وكما أشار إليه حبيب بن أوس (أبو تمام) في قولته المشهورة:
وإذا أراد اللهُ نَشْـر فَضِيـلَـةٍ
طُوِيَتْ أتَاحَ لَهَا لِسَـانُ حَسُّـودِ
لَوْلا اشْتِعَالُ النارِ فِيْمَا جَاوَرَتْ
ما كَانَ يُعْرَف طِيبُ عَرْفِ العُودِ
فالشاعر هنا يقول للمجاهد المناضل الصابر المخلص الحسن الأعمال " أنت عطر فائح الطيب بعملك الطيب ولكن ذكاء عطرك يفوح حقّاً حين يحترق. لذلك فاحترق يا أيها الطيب العبق الرائحة لكى تفوح وينتشر طيبك ".
ولئن كُنْتَ كما أنت عبق ،
فاحترق.
وفي النغم انبهار ومفاجأة. ولذلك يجوز الوجهان ـ فاصل بعد عَبِـقْ، وتكتب "فاحترق" في نفس السطر. أو تكتب في السطر الذى يلى ـ فإنها بيت شعر كامل. لأن الوقفة عند آخر الشطر الفائت طويلة تعادل أكثر من نصف شطر. وتكون بقوله " فاحترق" شطراً تاما.
وتأمّل بعد قوله:
ـ مثلما ضوع في الأهوال صبرا آل ياسر ـ هنا إشارة ثقافية إسلامية شديدة الوغول في بحبوحة الإسلام. آل ياسر مثل عالٍ في الصبر والاستشهاد. حتَّى عمَّار المجاهد التوَّاب المهاجر، ( وقد ولاّه عمر ) لم يسلم من الأذى. وقد قتل شهيداً في صفين. وفطن شوقي إلى هذا في قوله :
وأوقع الأنجاد بالأنجاد *** وخـرَّ عمَّار من النجـاد
وممن فطن من قبل زمان شوقى، الوزير الأندلسى ابن عبدون حيث قال في رائيته المشهورة :
وما رعت لأبى اليقظان صُحْبَتَهُ
ولم تُزَوِّدْهُ غير الضَّيْح في الغُمرِ
والضمير يعود على الليالى وعلى صروف الزمان وأحواله وأبو اليقظان هو عمار ابن ياسر. والضيح بالضاد المشددة المفتوحة بعدها ياء ساكنة ( يا مُثَـنَّاة تحتيّة ) أى اللبن اخر الكلمة حاء مهملة. الغمر بالغين المعجمة المضمومة بعدها ميم وراء بوزن عُمَر أى القدح الصغير.
في شعر صلاح إشارات إسلامية السّنخ قوية منبثقة بلا تكلف من أصول معانيه وعواطفه وانفعالاته ـ كقوله :
حُزْننا ونحن الصامتونْ
فابْطشى ما شئت فينا يا مَنُونْ
كم فتىً في مكّـة يشبه حَمْزَةْ
ولم يفجع الرسول صلّى الله عليه وسلَّم بأوجع من مقتل حمزة وقال الكلمة المشهورة لما رأى نساء الأنصار يندبن من قُتِل في أُحد من رجالهن :" ولكن حمزة لا بواكى له " فأقبلن يبكين حمزة وقال شاعرهم
صفية قومى ولا تعجزى *** وبَكِّـى النساء على حمزة
والإشارة الإسلامية غير ما قدمنا كثيرة في شعر صلاح رحمه الله ـ مثلاً
وضمير لم يذق والشعب في السبى اغتماضه
وبقلب كحجيج محرم عند الإفـاضة
ومثلاً :
ونزوع للذى خلف الحجاب
برهة من سرمد الدهر أقمنا
ما عرفنا بم أو فيم أتينا وانتهينا
الشاهد هنا ( نزوع للذى خلق الحجاب أى الغيب كما في سورة الشورى ) نَظَرُه إلى قول زياد: " في الزمن السرمدى الذى لا يزول ـ وأصل هذا قرآنى من سورة القصص. ومثلاً
وآل عَلِـىٍّ حُـفَاةٌ ظماء
وآل زياد عليهم نعيم
وآل زياد فيهم سفاح وفيهم فجور وظلم وذكر المؤرخون أن غناهم استمر إلى الزمان العباسى فتأمل.
وفى هذه الكلمة نفسها :
ويا فارساً وحده في الطريق
على الرمح متكئاً نازف الجرح مات
َبْعَد أن أمّن الخائف.
هذا الفارس هو أحد الصناديد الأربعة المذكورين المشهود لهم بالتفوُّق في الشجاعة هو ربيعة بن مكدَّم حامى الظعن. رموه بسهم فاتكأ على رمحه والفرسان يتحاشونه حتّى سلمت النساء من السباء. والخبر مذكور مشهور. من بنى كنانة من بنى فراس بن غنم الذين تمنى سيدنا على أن لو كان معه منهم مائة فارس مكان العصاة المتمردين الذين كانوا حوله.
لا عجب من استكثار صلاح من الشواهد والإشارات الدالة على تأثره بثقافة السيرة والدين ونوادر الأدب العربى. فقد نشأ في دار ثقافة إسلامية. وكان أبوه رحمه الله من أساتذة العربية والدين معلماً شديد التقوى غضيض الطرف معروفاً بذلك مشهوداً له فيه.
وقال صلاح يفتخر ببعض ذلك في قريضه :
نترك الدنيا وفى ذاكرة الدنيا لنا ذكر وذكرى
من فعالٍ وخُلُقِْ
ولنا إرث من الحكمة والحلم وحب الآخرين
وولاء حينما يكذب أهليه الأمين
ويكذب أهليه أخذها بلا ريب من الحديث " إنّ الرائد لا يكذب أهله " ولا أحسب صلاحاً خرج عن مجال الإسلام والعربية في إشاراته إلا في موضع أشار فيه إلى الصليب. وحمل الصليب، دلالة على احتمال التعذيب والمشقات في مواجهة النهاية والمأساة كثير في أشعار العصر المتأثرة بأساليب الإفرنج. كان المستر تشرشل يعبر عن تبرمه وضيقه بالجنرال ديجول بقوله إن أثقل صليب كان يحمله هو صليب اللورين وهو شعار دى جول أصله من مأساة جان دارك التى حررت فرنسا وخذلها الملك شارل السابع فلم يحاول نجدتها لمّا حُرِّقت في روان.
وأصل معنى حمل الصليب من أساليب جبروت الروم القدماء. فانهم كانوا حين يحكمون بإعدام امرئ صلْباً يجعلون الصليب من خشبتين، خشبة قائمة عمودية يحفرون لها حفرة ويثبتونها فيها قائمة. ويكلفون المحكوم عليه بحمل الخشبة الثانية التى تُجْعَلُ معترضة فوق الخشبة القائمة. ثم بعد ذلك يُسَمِّرون يديه على الخشبة المعترضة التى جاء وهو يحملها يجعلونها على رأس العمود كحرف "تى" الأفرنجى. ويدخلون المسامير بين عظمى اليد عند الرسغ ويخترقون عظام القدمين بجعل المسامير بين العظيمات الصغيرة التى في القدم، وقد وضعوا قدماً فوق الأخر وسمروهما معاً على الخشبة القائمة .
وزعم النصارى أن الروم صلبوا المسيح بتدبير اليهود. وفي القرآن: " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّه لهم " . وينسب إلى بعض المسلمين المتأولين أنهم قالوا هذا كمثل قوله تعالى " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " فالمعنى هنا ان الله هو الذى قتله وصلبه لا هم. وهذا خطأ آية الأنفال (17) " وما رميت إذ رميت " لا تنفى أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رمى حين قذف حفنة التراب وقال شاهت الوجوه، ولكن تدل على أن رمية رسول الله كانت معها سطوة الله. وهذا كمثل قوله تعالى : " إنَّ الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يدُ اللهِ فوق أيديهم " أى قوة الله وعونه مع اخلاصهم والعهد الذى عاهدوه. ولم يقل الله عزَّ وجلَّ " وما قتلوه إذ قتلوه وما صلبوه إذ صلبوه ولكن شبه لهم" كما قال عزَّ وجلَّ: " وما رميت إذ رميت ولكن اللهَ رمى " فالآية دالة دلالة قاطعة على أن عيسى عليه السلام لم يُقْتَلْ ولم يُصْلَبْ، والذى تأوله المتأول على تمثيل آية النساء (157) " وما قتلـــــــوه " بآية الأنفال "وما رميت" تمثيل خاطئ بلا شك بلا أدنى شك.
وما أرى أن صلاحاً قصد إليه ولكن سار على المألوف من عبارات أهل العصر مسايرين لعبارات الإفرنج في هذا المجال، وبين يدىَّ عشرات من دواوين أهل العصر تَرِدْ فيها عبارة حمل الصليب كما ترد عبارة " كودتا" في اللغة الإنجليزية و"ويكند" في اللغة الفرنسية وهذا تقريب للفكرة على بعدها.
مصدر مهم من مصادر الإشارة والمجاز في بيان صلاح رحمه الله هو عادات أهل بلدنا وتقاليدهم. وهذا واضح في القصيدة التى أعجبت صديقه على المك رحمه الله. وبعض هذه القصيدة ينظر نظراً شديداً إلى منظومات الموت التى ينشدها المُدَّاح مثل :
زايلة الدنيا دى الما بِدْوُمْ لى خيرا
ولَّت وأدْبَرت وبِقَتْ عصيرا
ويذكروننا أن مصير الإنسان إلى حفرةٍ عرضها شبر.
ما الذى أقسى من الموت ؟
فهذا قد كشفنا سرَّهُ وخبرنا مُرّهُ
ما جزعنا إن تشهَانا ولم يرض الرحيل
( أحسبها ولم نرض لا ولم يرض بالنون لا بالياء كما في النص المطبوع )
فله فينا اغتباق واصطباح ومقيل
آخر العمر قصيراً أم طويلْ
كفنٌ من طرفِ السوق وشِـبْرٌ في المقابر
هذا موضع استشهادنا على الأخذ من تقاليد البلد وعاداته. ولنا في الدفن أسلوب بعضه مأخوذ من السنة التى كان عليها عمل أهل المدينة وبها دفن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وبعضه مأخوذ من عادات وطننا القديم في أيام ما قبل الميلاد حسب تاريخ علماء الآثار إلى عصر طويل بعده ـ من ذلك الحمل على العنقريب والتغطية بالسُّرَّتى. وأول من دُفِنَ على عنقريب ( نعش ) من أهل الإسلام سيدتنا أم المؤمنين زينب بنت جحش. أشارت بحملها عليه سيدتنا أُم المؤمنين أم سلمة رضى الله عنها قالت رأت النعش بأرض الحبشة التى هاجر إليها الصحابة سيدنا جعفر وسيدنا عثمان ومن معهم هى هذه البلاد لا بلاد أكسوم وقندار لأنهم لا يحملون الميت على العنقريب.
شاهد آخر قصيدة صلاح في رثاء على المك رحمهما الله وقوله اغتباق واصطباح ومقيل مأخوذ من اصطلاحات العرب الأوائل لشراب الصبح والليل والقيلولة ـ واستعمل صلاح كلمة المقيل للدلالة على القَيْل. فقد جاء بها مناحة واستعمل فيها عبارات البكاء التى نبكى بها ـ
عليّ شريك النضال على رفيقى
ويا خندقى في الحصار ويا فرجى وقت ضيقى
ويا صُرَّةَ الزاد تمسكنى في اغتماض الطريق
ويا رَكْوَتى كعكعت في لهاتى وقد جفَّ ريقي
عليُّ ذراعى اليمين على خريفى
ونيلى وجرفى وبهجة ريفى
ولا يخفى أن خندقى في الحصار " مأخوذة من خبر السيرة وغزوة الأحزاب في السنة الخامسة من الهجرة.
ذهب صلاح رحمه الله إلى غانا مدرسـاً. وأحسب أن من أسباب ذهابه إليها قد كان بعض الإعجاب بيسارية قوامى نكر وما ودعوته الشاملة يرجو بها نهضة أفريقيا السوداء. وأحسب أن صلاحاً وجد في غانا شيئاً ترك فيه أثراً عميقا للغاية، زعزع عنده اليسارية العربية التى كانت أمراً مثاليّاً رائجاً في سنوات الخمسين والستين.
الذى وجده في غانا هو إسلام غرب أفريقية ـ إسلام يختلط بالشخصية فتنصهر فيه وينصهر فيها. إسلام له اعتزاز يقاوم به تعالى العنصرية الافرنجية وغزوة التبشير الصليبى. إسلام فيه صوفية وزهد وبساطة وقوة وتحدٍّ. وراجع في أصوله لا إلى الفتوح وصراع الخلافة والشيعة والسنة والشراة لكن إلى أهل الصفة وأويس القرنى وسعيد بن المسيّب ومعروف الكرخى ورابعة العدوية وعبد الرحمن التكرورى وعبد السلام بن مشيس ومختار الكنتى ومقاومة التجانية والقادرية للغرب المستعمر المسترق.
قال لى الأستاذ محمد المدنى الأمريكى الأفريقى في مدينة لوس أنجلوس 1982م في ديسمبر وكان ذلك في احتفالات المولد النبوى 1412هـ : ( أنا التمس اثبات نفسى ووجودها بالإسلام. لا التمس أى كسب سياسى أو اقتصادى. أريد أن أكون بشراً هو أنا، أحترم نفسى من حيث كينونة البشرية. يمكننى أن أكون بلا إسلام مليونير أسود أو أى شئ طبقى كبير أسود ولكن مع ذلك أكون أنا مسلوب البشرية. بالإسلام تكون بشريتى موجبة ).
هذا الإيجاب لبشرية الشخص محسوس ملموس في إسلام غرب أفريقية. ولما ثار بعض المستعبدين السود في أمريكا الجنوبية في منتصف القرن الماضى ثورة مفاجئة، وكانوا من أطوع العبيد وأصبرهم على العمل، استغرب سادتهم. ثم اكتشفوا كتابات يديرونها بينهم على ألواح واستشاروا فيها الكنيسة فأخبرهم الفاتيكان أنها كتابات تعاليم صلوات اسلامية وان الصوّاب من التصرف هو التخلص منهم حالاً وبسرعة بإرسالهم في سفن إلى شاطئ غرب أفريقية. وكان السلطان محمد بلو وأصحابه يطمعون أن يصل الإسلام إلى شاطئ بلادهم الغربى ولكن كانوا يعلمون أن هناك سفن النصارى بنيرانها وسطوتها ـ فقد أرسل الآن النصارى رقيقهم المسلمين إلى نفس الشاطئ ليتخلصوا منهم ومن دينهم.
لا أشك أن صلاحاً رحمه الله تأثّر بروح هذا الإسلام وقوته غير المتكلفة التى أحسها في غرب أفريقية. الإسلام عندنا في السودان قوى وبسيط وإنسانى المساواة. ولكن جاءنا إسلام حضارى معقد من طريق محمد على باشا ومن طريق مذاهب مختلفة الاهواء في بلاد الشرق العربى وغير العربى التى قال عنها رسولنا صلَّى الله عليه وسلَّم قبيل وفاته أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ) ووصفها عمر ابن الخطّاب لحذيفة بن اليمان رضى الله عنهم بأنها فتنة تموج كموج البحر.
أذكر لمّا كنت بانجلترا أعد لدرجات شهاداتها أن منزل حركة الطلاّب في شارع غاور كان يعج باليساريين على مذاهب غرب أوربا وشرقها وبين ذلك. وكانوا كلهم ينصرون دعوة الصهيونية على شكاوى العرب بحجة أن العرب اقطاعيون متأخرون. وكان معنا طلبة من غرب أفريقية. فكان الميل إلى جانب بنى قريظة عندهم كما كان عندى أمرا منكرا. (من العجب أنه كما بلغنى من عالم بالأمر أن قد ولد قوامى تكروما صغيرا مسلما فى ناحية "كماسى" من ساحل الذهب واخْتُطِف ونُصِّرَ ومع ذلك يُسّرَ وهذا عند المبشرين لا يناقض الصليبية وصار عدوّاً لإسلام غرب افريقية وتأمر سرّا وجهرا ضد قادته وكان مقتل أحمد بلو وأصحابه هدفاً ـ ولكن هذا باب آخر لا أنصرف إليه الآن.
رحمة الله على علي المك وعلى صلاح كليهما. آخر عهدى بصلاح في مربد بغداد أخر سنة 89م أو 88م ـ أذكر إشراق وجهه وحديثه الكريم المشجع المتفائل المناصر ـ كان ذلك آخر العهد به . وبعد زمان غير بعيد منه كانت وفاة على المك المفاجئة وموقفنا عند صندوق جنازته في مقابر البكرى.
ثم بعد مدة غير جد طويلة وأقرب إلى أن تكون جد قصيرة قضى صلاح نحبه ولم ينتظر ـ وكنت أرجو أن ألم به وأحييه في بعض غدواتى وروحاتى إلى مطار باريس في طريقى إلى بلاد المغرب الأقصى رحم الله صلاحاً ـ
شعره رنّان وقوافيه حسان قال رحمه الله :
إن بى شوقاً إلى الشعر الذى أحمله رمحاً طويلاً ومجناً
(( كربيعة بن مكدم ))
ان بى شوقاً إلى القافية الحسناء كالصهباء أدنيها لكم دناً فدناً
ناءَ شعرى بالذى كان حَمَل
من رزايانا وأبياتى في المهد صبيّة.
لصلاح نغم متين مستقيم رصين في بحرى الرمل والمتقارب والأول أكثر. وانتهى رثاؤه لعلى المك رحمهما الله بقوله :
مضيت وخلّفت لى ترحـة *** كـأنْ للمنيـة عنـدى ثارْ
وغوّرت في مهجتى قرحة *** إذ ما ذكرتك ذات اعتصار
وهذى المرارات في شفتى *** كهذى الدموع الغزار الحرار
وطيفك يخطر في مقلتى *** يُحَنْظِل حَلْـواى ليل نهـار
وهذا هو النغم الذى أقبل الخليل على تحليله وفك طلاسمه معجباً مغرماً مفتوناً برنات التفاعيل فحسب ابنه إذ سمعه يرددها أنه مجنون ـ الشعر موسيقا العرب منذ الأزل القديم. حتّى قابيل حين قتل هابيل نسب إليه الرواة أنه رثي ابنه بقصيدة عربية.
لعل صلاحاً رحمه الله تأثر ببعض نظم أستاذه كاتب هذه السطور وذلك إن صحّ مما افخر به وأتشرّف ـ مات لى أخ يدعى "حسنا" ابن ست سنين غريقاً وزعم الأستاذ الجامعى محمد يوسف مصطفى الواثق أنى أقمت له مناحات في دواوين شعرى . في أصداء النيل في طبعته الأولى 1957م : ـ
حبّذا خبـز بركـدال ومُبْيضُّ اللَبَـنْ
بَيْعُكَ الماضِىَ مِنْ عمركِ بالآن غبـنْ
ولقد أحزننى أن خيط في الدارِ الكَفَنْ
مثلما أحزننى أن قطف الموتُ حسنْ
ودياب قرع الطبل فـدوَّى و رطـنْ
والفتى المادِحُ قدْ رققَ صوتاً ولَحَـنْ
وفي نافذة القطار ، طبعته الأولى سنة 1964م ص 146/147
وقد تحدّر من عينى وقد قرأت
كتاب منعاه دَمْعٌ قَطْـرَه سَخُنا
إذ فارقته قريباً إذ يقـول لهـا
لمّـا دعتـه ذرينى ألعَبَنَّ هنـا
إذ كان يلعب حُرّاً إذ تربص لل
عصفور إذ خَلْفه صِلُّ الردى كمنا
يـا للأقدار !!
كاد يسيل دمعى وأنا أقرأ في ( مرثية بعد قرابة خمسين عاما لطفل اسمه حسن ) في هذا الديوان الذى بين يديك أيها القارئ الكريم : ـ
مات والأهل جميعاً في فرح
بختانى ـ حسن لم يُخْتَتـن
مات في يوم كَمَنْ
شبح الموت له في الملعب
جَرّه من يده قُدّامنا نَتْلاً بدائياً وقَحْ
لم يُتحْ لى منه إلاّ حَسَوات
شعـشعتنى ثم أْهْرِبق القدحْ
أين حسـن
أين حسـن
قال تعالى : " كُلُّ نَفْسٍ ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة " وأقرأ "ودعاء الطفل المظلوم" .
فهى مرثية للشفيع رحمه الله جعلها دعاء ابنه المظلوم
يتيم من الضيم يبكى بكى وهو عارف
بكى رافعاً يده رافعاً صوته غير خائف
بكى قبل أن يتعلم إلاّ حروف كلمةُ بابا
يرددها وهو ينظر بابا
مضى الجند منه وفيهم أبوه
إلى غير رجعة
يردد ما ليس ينسى
وفي العين دمعه
رحمهم الله جميعاً ـ ونسأل الله العفو والرحمة والغفران وصلَّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم تسليما.

عبد الله الطيب
12 من جمادى الأولى سنة 1420هـ
23/ 8 / 1999م

مقدمة ديوان نحن والردى للشاعر الراحل صلاح أحمد إبراهيم

الفضل الحاج البشير
مشرف منتدى الشعر
مشرف منتدى الشعر


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

بروفيسور عبد الله الطيب يكتب عن الشاعر صلاح أحمد إبراهيم Empty رد: بروفيسور عبد الله الطيب يكتب عن الشاعر صلاح أحمد إبراهيم

مُساهمة من طرف محمد كمبال 3rd ديسمبر 2009, 19:28

معادن العز قد مال الرغام بهم*** لو هان في تربه الابريز ما هانوا

محمد كمبال
نشط ثلاثة نجوم
نشط ثلاثة نجوم


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

بروفيسور عبد الله الطيب يكتب عن الشاعر صلاح أحمد إبراهيم Empty رد: بروفيسور عبد الله الطيب يكتب عن الشاعر صلاح أحمد إبراهيم

مُساهمة من طرف أزهرى الحاج البشير 5th ديسمبر 2009, 10:27

لقد كنت - من جهلي - حزينا لعدم إهتمام أهل السودان بالقامة الهرم صلاح ، حتى أتحفتنا ياأستاذ فضل بهذا المقال الرائع للحبر العلاّمة والنحرير فريد عصره ووحيد زمانه بروفسير عبد الله المجذوب ، ويكفي صلاح هذا التقديم ... ولعل أهل السودان أن يفيقوا من إغماءهم والبكاء على صلاح والتغني بشعره ففي ذلك حب للسودان .


يا شعب إنْ أبدى الجبانُ خنوعا
لا تيأسـنَّ فقـد ولـدتَّ شفيعـا
وقد ذكر في مقدمة هذا الديوان الذى بين يديك أيها القارئ الكريم أنه نظم هذه الأبيات العينية وهو ابن عشرين وهى سن العمر الحلوة كما قال شكسبير ـ Sweet and twenty ـ فلعله أن لو استمر على هذا النسق أن يلحق بطبقة التجانى رحمه الله، لما ههنا من رصانة لفظ وجودة نَغَم. لكن صلاحاً رحمه الله آثر ما سماه المعاصرون " الشعر الحديث ".
أزهرى الحاج البشير
أزهرى الحاج البشير
مشرف عام
مشرف عام


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى