اشهر خريجات دار المايقوما نور حسين أسيوطي لـ(الصيحة)
صفحة 1 من اصل 1
اشهر خريجات دار المايقوما نور حسين أسيوطي لـ(الصيحة)
في الروضة فقط عرفتُ أنني مجهولة الأبوين
بسبب كلمة مسيئة قرّرتُ عدم مواصلة مشواري التعليمي
(بابا) نميري كان يعاملنا بإنسانية ولا يمكن أن ننساه
زيارة طالبات المدرسة لنا في الدار شكلت نقطة تحوّل في حياتنا
حاروها: صديق رمضان
أن يتصالح الإنسان مع حقيقة أنه مجهول الأبوين فإن هذا فعل لا يمكن أن يستطيع ترجمته على أرض الواقع، إلا أقوياء الإرادة والشكيمة، الذين يتعاملون مع الأمر من زاوية أنها أقدار الله التي ليس لهم فيها يد، ولا يمكنهم أن يفعلوا شيئاً حيالها غير التسليم بها، جلسنا إلى أشهر خريجات دار المايقوما صاحبة الإرادة الحديدية ومديرة منظمة شمعة نور حسين إسيوطي وطرحنا عليها الكثير من الأسئلة التي أجابت عليها بثقة وثبات ينتزعان الإعجاب، فإلي مضابط الحلقة الأولى.
* لتكن بدايتنا لهذا الحوار عن مولدك ونشأتك؟
- أبصرت عيناي النور قبل ثمانية وأربعين عاماً بالخرطوم، ووجدت نفسي أسيرة لجدران دار المايقوما للأطفال مجهولي الأبوين أو فاقدي السند ، وقضيت فيها سنوات عمري الأولى .
*أين تلقيتِ تعليمك؟
- مراحلي التعليمية بدأت بروضة دار الحنان في الخرطوم اثنين، ثم المرحلة الابتدائية بمدرسة الاتحاد بذات الحي الذي يقع وسط العاصمة، ثم انتقلت للمرحلة المتوسطة التي درستها بمدرسة حلويات سعد، ثم الخرطوم التجارية الثانوية التي كانت محطتي الرابعة في التعليمي الأولى، أما الجامعة فقد درستها بالمملكة الأردنية الهاشمية في كلية متخصصة في إدارة الأعمال والسكرتارية .
*الأردن؟
- نعم.. حظيت بفرصة الدراسة في الأردن إثر منحة من منظمة "إس أو إس"، وكنت أول شابة من شريحة فاقدي السند تدرس خارج السودان، أنال هذا الشرف، وبعد تخرجي عدت مجددًا إلى القرية التي احتضنت جزءاً من سنوات عمري، وعملت فيها موظفة بالمنظمة لمدة عشر سنوات ثم بعد تزوجت.
*قبل التعرف أكثر على مشوارك المهني الناجح، لنعد بك إلى دار المايقوما، ونسأل متى عرفتِ حقيقة أنك من مجهولي الأبوين؟
- كنت وقتها طفلة في الروضة لم يتجاوز عمري الأربعة أعوام وستة أشهر، كنا ننتقل من الدار إلى الروضة بعربة ماركة بولمون يقودها وقتها عم علي، وعند نهاية اليوم الدراسي وقبل العودة إلى الدار كنت أجلس في فناء الروضة في انتظار الترحيل، فلفت نظري مشهد ظل يتكرر يومياً، وقد استوقفني كثيراً، وكنت أتأمله في تلك السن الصغيرة، لأنه كان يثير إعجابي بل وأستمتع به كثيراً، ويتمثل في حضور شاب وشابة يومياً لاصطحاب اثنين من زملائنا وكنت ألحظ الحميمية بينهم.
*هل دفعك المشهد للسؤال عن ماهيته، أم وجدتِ له تفسيراً دون الاستعانة بأحد؟
لم يكن بمقدوري أن أجد له تفسيراً وأنا في تلك السن الصغيرة، واتجهت إلى المشرفة، وسألتها عن علاقة الشاب والشابة بالزميل والزميلة، فقالت إن الشاب والد زميلتك، وأيضا الشابة والدة لأحد زملائك، فازدادت حيرتي من إجابتها .
*هل واصلتِ طرح الأسئلة على المشرفة؟
نعم .. قلت لها وأنا مندهشة "يعني شنو والد ووالدة "، وكنت لا اعرف معنى هاتين المفردتين، فقالت إن الوالد والوالدة هما من ينجبان الأطفال ويعملان على تربيتهم والعناية بهم ويعطفان عليهما، فسألتها مجدداً:"وين أمي وأبوي أنا طيب"؟.
*وما هي إجابتها؟
فجأة دخلت المشرفة ماما حنان سعد الدين في نوبة بكاء أشبه بالهستريا، وتعجبت وأنا في تلك السن من بكائها، ويبدو أن سؤالي كان مباغتاً وغير متوقع لها، وبعد أن هدأت وتماسكت قالت لي :"أمك وأبوك في الجنة"، مجدداً سألتها "يعني شنو الجنة"، قالت لي إنه مكان جميل فيه حدائق وعسل ولبن ومراجيح وأي شيء حلو، ولكن لم أتوقف من طرح الأسئلة وقلت لها: لماذا هما في الجنة، فأجابتني بأنهما توفيا.
*هل اكتفيتِ وأقنعتك إجابتها؟
نعم.. وقد رسمت المشرفة أجمل صورة في مخيلتي عن الجنة التي سوف ألتقي فيها بوالديّ في تلك السن الباكرة من عمري، والشاهد في الأمر أنني وبعد الإجابات التي تلقيتها لم أسأل مجدداً، وكنت على قناعة تامة بأن والدي في الجنة، ولم أشعر بعدها بنقص ودونية عند رؤية زميلاتي يخرجن آخر اليوم من الروضة رفقة أهلهن .
*بعد انتقالك إلى المرحلة الابتدائية ألم تعد الأسئلة مجدداً لتسيطر عليك؟
- لا.. ولكن وأنا في الصف الأول تعرضت لهزة نفسية عنيفة حينما تشاجرت مع إحدي زميلاتي التي حاولت الاستيلاء على بعض معداتي الدراسية، التي وجهني إخواني وأخواتي في الدار وقتها بضرورة الحفاظ عليها وعدم التفريط فيها، فرفضت التنازل عنها لزميلتي التي وبعد محاولات منها تمكنت من انتزاعها من حقيبتي، التي كنت أضعها في ظهري، وتصرفها هذا أثار غضبي فدخلت معها أذكر في معركة حامية انتهت "بجلدي" لها وانتزاع معداتي المدرسية .
*كيف كانت ردة فعلها ؟
- يبدو أنها بعد أن شعرت بالهزيمة أمام زميلاتنا تملكها الغضب، فكان أن تفوهت بلفظ لا يمكن أن أورده على لساني ومعناها أنني مجهولة الأبوين، قالتها لي أمام زميلاتي وبعضهن قابلن حديثها بالضحك، فبعد أن كنت منتشية بانتصاري عليها شعرت بانكسار وحزن يتسلل إلى دواخلي ويسيطر عليها ولم أجد للتعبير عنه غير ذرف الدموع بأسى وغبن، وفي هذه اللحظات العصيبة وصل خبر المشكلة إلى أخواتي في الدار وكنا معي بالمدرسة فحضرن وقد ظهر عليهن الغضب واعتدين على التلميذة، وعملن على تهدئتي بشراء حلويات وإحضار مياه شرب .
*هل خلفت هذه الحادثة شرخاً في دواخلك؟
- نعم.. وما تفوهت به زميلتي التي تشاجرت معها أعاد مجددًا الأسئلة إلى ذهني، لكن تركيزي كان منصباً على الكلمة التي أطلقتها ناحيتها وما حملته في ثناياها من اتهام، بكل صدق شعرت بإهانة كبيرة وارودني إحساس بالدونية والقهر، وأكثر ما أثار حزني الصدمة التي أصابتني من المجتمع الذي تم تصويره لنا، ونحن داخل الدار وجمعية حماية الطفل بأنه ملائكي وجميل، ويومها عرفت أن "الدنيا " خارج الدار ليست كداخلها، حيث كنا نحظى بعطف وحنان، ولم نكن ندرك أن للحياة وجهاً آخر أكثر قتامة ينتظرنا خارج الأسوار، وعلينا التعامل معه.
*هل واصلتِ مشوارك الدراسي؟
- تلك الحادثة أصابتني كما يقولون في مقتل وبسببها ظللني الأسى والحزن وأنا مازلت طفلة صغيرة غضة الإهاب لا تملك الإرادة التي تستطيع أن تواجه بها هكذا مواقف بتماسك وقوة، فكان أن قررت ترك الدراسة وعدم الذهاب مجدداً إلى المدرسة، ولكن المشرفات وأخواتي في الدار قابلن قراري هذا بالرفض ونجحن في إقناعي بالعدول عنه، ومواصلة مشواري الأكاديمي دون الاكتراث لمثل هذه العقبات، كانت كلماتهن مثل البلسم الذي أسهم في أن يندمل جرحي سريعاً.
*الحادثة جعلتك وأخواتك أكثر شراسة في المدرسة؟
- نعم .. فقد شعرنا بضرورة أن نتوحد بحكم أننا من شريحة مجتمعية واحدة، ورأينا أن استمرار مشوارنا في الحياة يعتمد بشكل أساسي على أن نستدعي الوجه الآخر لنا، وهو ذلك الذي يعبر عن العنف، لنتحول إلى طالبات شرسات تخشاهن البنات اللواتي لم يكن يمتلك الجرأة على وصفنا بما نكره ونبغض من كلمات، والتحول الذي حدث لنا اعتبره طبيعياً يوضح غريزة البقاء عند الإنسان حينما يتعرض لمخاطر تهدده، وأيضاً كان من أجل إثبات الوجود وإجبار المجتمع على احترامنا، وواصلنا بذات النهج، وكنا نأتي نهاية اليوم الدراسي إلى الدار، ونسرد للمشرفات وعلى رأسهن ماما ليلى معاركنا مع الطالبات ، فعرفت أن ثمة أمر يجب معالجته قبل ان يستفحل .
*وماذا فعلت؟
- توجهت ناحية المدرسة للتقصي عن أسباب بروز روح العدوانية لدينا، وهنا دعني أشير إلى أي مدى كان الوعي يميز إنسان تلك المرحلة من تاريخ البلاد، وبالفعل جلست ماما ليلي إلى مديرة المدرسة، وكشفت لها عن المتغير النفسي والسلوكي الذي أصابنا، وسردت لها المديرة الأسباب، وحينما عادت المشرفة وجهتنا بعدم الذهاب إلى المدرسة في اليوم التالي، وكان القرار مفاجئاً أثار حيرتنا ولم نجد إجابات توضح أسبابه .
*وأشرقت شمس اليوم التالي؟
في ساعات الصباح الأولى تعرفنا على السبب الذي حال بيننا والتوجه ناحية المدرسة، فقد تم إخبارنا بأن كل زميلاتنا في المرحلة الابتدائية ومعهن إدارة المدرسة بصدد زيارتنا في دار حماية الطفل بحي المطار في ذلك اليوم، وبالفعل هذا ما حدث، كان يوما خالداً لا يمكن أبداً أن يسقط عن ذاكرتي، دار الجمعية كانت في منزل فخم وأنيق كما أشرت بحي المطار، فتزينت يومها وظهرت في أحلي ثوب، وكنا سعداء غاية السعادة بزيارة زميلاتنا لأننا أردنا ان يحضرن ويرين بأعينهن أننا نعيش حياة رفاهية ودعة، أفردنا لهن أحضاننا ترحاباً وحباً وفعلن هن ذات الشيء بل أحضرت كل واحدة منهن هدية وكان هذا أجمل وأرقى اعتذار .
*هذا يعني أن إدارة المدرسة تعاطفت معكن؟
- نعم.. كم كانت المديرة رائعة ومعها المعلمات، وبعد حضور زميلاتنا لاحظنا أن سلوكهن تغير تماماً وأظهرن تعاطفاً وحناناً واضحاً في تعاملهن معنا بدار جمعية حماية الطفل، وعلمنا أن يوم الزيارة وقبل أن يتحركن نحونا تم تخصيص طابور الصباح لتناول قضية شريحتنا، وتم إخبار الطالبات أن فاقدات السند لم يرتكبن جرماً وأنهن ضحايا ويجب أن تتم معاملتهن بعطف وإحسان وحنان، وقد احتفينا بالزميلات وكن سعيدات بزيارتهن واجتاحتنا موجة من الفخر حينما اصطحبناهن في جولة على الدار الأنيقة وغرفنا الجميلة، وخرجن بانطباع جيد شكل علامة فارقة لاحقاً في تعاملهن معنا .
*كيف شهد تعامل الطالبات معكن تغييراً ؟
- حينما توجهنا في اليوم الثاني لزيارتهن نحو المدرسة تفاجأنا بمعظم الزميلات وقد أحضرن معهن هدايا وتم تقديمها لنا نحن بنات دار حماية الطفل، وعرفنا أنهن أخبرن أهلهن بتفاصيل الزيارة، ووجدن تشجيعا وحثاً على التعامل معنا بأريحية ،وهنا يبرز دور الوعي الذي كان له أثر إيجابي في تغيير مفاهيم زميلاتنا، وكل ذلك تم بفضل إدارة المدرسة، ودار حماية الطفل وأولياء أمور زميلاتنا، وبكل تأكيد كلما ارتفع وعي المجتمع حدث تغيير في سلوك أفراده نحو الأفضل، منذ تلك الزيارة فقد ازدادت ثقتنا في أنفسنا وبتنا نملك القدرة على التعبير.
*في تلك السن انتقلتِ من دار المايقوما إلى دار حماية الطفل بحي المطار؟
- نعم.. ياسلاااام.. فترة دار حماية الطفولة لا يمكن أن تسقط عن ذاكرتي أبداً، لأنها كانت خصبة استفدنا منها فائدة كبيرة، فهذه الدار التي كانت تقع في حي المطار حظيت وقتها باهتمام كبير من اتحاد نساء السودان برئاسة ماما نفيسة كامل وزوجات الوزراء والسفراء وأعضاء السلك الدبلوماسي وعلى رأسهن حرم رئيس الجمهورية بثينة خليل، وكنا نحظى برعاية وعطف واهتمام لا حدود له من السيدات الفضليات اللواتي كانت دواخلهن تفيض إنسانية .
*ماذا كن يقدمن لكُن؟
- كل ما يخطر على بالك، وما لا يخطر، هن كن منتظمات في جمعية خيرية تشرف على دار حماية الطفل ويعملن على توفير التمويل لها والتبرع أيضاً من مالهن الخاص، ولا يمكن أن أنسى كيف كن عضوات الجمعية يحضرن كل خميس ليصطحبن إلى منازلهن أخواتي في الدار ومن ثم إعادتنا يوم السبت مساءً، وذلك لقضاء ساعات جميلة في حضن أسرهن الدافئ واللعب مع أطفالهن، وكن أيضًا يحرصن على صناعة الطعام بأنفسهن وإحضاره إلى الدار وتناوله معنا، لقد كان تعامل عضوات الجمعية إسلاميا إنسانياً غارقاً في السوداناوية، وأعتبر أن أبناء جيلي من أطفال عقد السبعينيات كانوا محظوظين لأن ذلك الزمان من تاريخ البلاد كان جميلًا في كل تفاصيله.
*هل تعني أن الزمان لم يعد مثل بقية الأزمنة؟
- لا أستطيع أن أقول هكذا.. لكن ذلك زمان يعرفه كل من عاش أيامه وسنواته النضرة والوسيمة، فقد كان السودانيون أصحاب قلوب تفيض رحمة وإنسانية وحباً، بل حتى الأوضاع الاقتصادية كانت في أفضل حالاتها،ولا أعتقد أن شخصيات تلك الحقبة من عمر البلاد ستتكرر، نعم هو زمان لن يعود، ولكن في حاضرنا يوجد أيضاً من تفيض دواخلهم رحمة، ورسولنا الكريم قال "الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة".
*هل كان الاهتمام بدار حماية الطفل حصرياً على المجتمع ممثلاً في الجمعية النسوية الخيرية ؟
- لا.. الاهتمام كان من كل مؤسسات الدولة والجمعية وعلى رأسها الرئيس الراحل بابا جعفر نميري وزوجته ماما بثينة خليل، وماما نفيسة كانت تتولى الإشراف المباشر على الدار وتوفر لها كل المطلوبات والاحتياجات .
*اهتمام خاص من الرئيس الراحل جعفر نميري؟
- يا سلاااااام..هذا الرجل لا يمكن أن يأتي يوم وننسى أفضاله علينا، فرغم زحمة عمله وتشعب مهامه إلا أنه كان يستقطع من وقته لزيارة الدار وتفقد أحوال من هن فيها، وما نزال نجتر الكثير من الذكريات المرتبطة به ،ومنها حرصه الكبير على أن يرسل في يوم الجمعة من كل أسبوع طاقم الطباخة الخاص به على متن عربة رئاسية تحمل كمية كبيرة من الألبان الطازجة والتفاح ، وكان تبرعاً منه، ونميري شخصية سودانية فريدة بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ.
بسبب كلمة مسيئة قرّرتُ عدم مواصلة مشواري التعليمي
(بابا) نميري كان يعاملنا بإنسانية ولا يمكن أن ننساه
زيارة طالبات المدرسة لنا في الدار شكلت نقطة تحوّل في حياتنا
حاروها: صديق رمضان
أن يتصالح الإنسان مع حقيقة أنه مجهول الأبوين فإن هذا فعل لا يمكن أن يستطيع ترجمته على أرض الواقع، إلا أقوياء الإرادة والشكيمة، الذين يتعاملون مع الأمر من زاوية أنها أقدار الله التي ليس لهم فيها يد، ولا يمكنهم أن يفعلوا شيئاً حيالها غير التسليم بها، جلسنا إلى أشهر خريجات دار المايقوما صاحبة الإرادة الحديدية ومديرة منظمة شمعة نور حسين إسيوطي وطرحنا عليها الكثير من الأسئلة التي أجابت عليها بثقة وثبات ينتزعان الإعجاب، فإلي مضابط الحلقة الأولى.
* لتكن بدايتنا لهذا الحوار عن مولدك ونشأتك؟
- أبصرت عيناي النور قبل ثمانية وأربعين عاماً بالخرطوم، ووجدت نفسي أسيرة لجدران دار المايقوما للأطفال مجهولي الأبوين أو فاقدي السند ، وقضيت فيها سنوات عمري الأولى .
*أين تلقيتِ تعليمك؟
- مراحلي التعليمية بدأت بروضة دار الحنان في الخرطوم اثنين، ثم المرحلة الابتدائية بمدرسة الاتحاد بذات الحي الذي يقع وسط العاصمة، ثم انتقلت للمرحلة المتوسطة التي درستها بمدرسة حلويات سعد، ثم الخرطوم التجارية الثانوية التي كانت محطتي الرابعة في التعليمي الأولى، أما الجامعة فقد درستها بالمملكة الأردنية الهاشمية في كلية متخصصة في إدارة الأعمال والسكرتارية .
*الأردن؟
- نعم.. حظيت بفرصة الدراسة في الأردن إثر منحة من منظمة "إس أو إس"، وكنت أول شابة من شريحة فاقدي السند تدرس خارج السودان، أنال هذا الشرف، وبعد تخرجي عدت مجددًا إلى القرية التي احتضنت جزءاً من سنوات عمري، وعملت فيها موظفة بالمنظمة لمدة عشر سنوات ثم بعد تزوجت.
*قبل التعرف أكثر على مشوارك المهني الناجح، لنعد بك إلى دار المايقوما، ونسأل متى عرفتِ حقيقة أنك من مجهولي الأبوين؟
- كنت وقتها طفلة في الروضة لم يتجاوز عمري الأربعة أعوام وستة أشهر، كنا ننتقل من الدار إلى الروضة بعربة ماركة بولمون يقودها وقتها عم علي، وعند نهاية اليوم الدراسي وقبل العودة إلى الدار كنت أجلس في فناء الروضة في انتظار الترحيل، فلفت نظري مشهد ظل يتكرر يومياً، وقد استوقفني كثيراً، وكنت أتأمله في تلك السن الصغيرة، لأنه كان يثير إعجابي بل وأستمتع به كثيراً، ويتمثل في حضور شاب وشابة يومياً لاصطحاب اثنين من زملائنا وكنت ألحظ الحميمية بينهم.
*هل دفعك المشهد للسؤال عن ماهيته، أم وجدتِ له تفسيراً دون الاستعانة بأحد؟
لم يكن بمقدوري أن أجد له تفسيراً وأنا في تلك السن الصغيرة، واتجهت إلى المشرفة، وسألتها عن علاقة الشاب والشابة بالزميل والزميلة، فقالت إن الشاب والد زميلتك، وأيضا الشابة والدة لأحد زملائك، فازدادت حيرتي من إجابتها .
*هل واصلتِ طرح الأسئلة على المشرفة؟
نعم .. قلت لها وأنا مندهشة "يعني شنو والد ووالدة "، وكنت لا اعرف معنى هاتين المفردتين، فقالت إن الوالد والوالدة هما من ينجبان الأطفال ويعملان على تربيتهم والعناية بهم ويعطفان عليهما، فسألتها مجدداً:"وين أمي وأبوي أنا طيب"؟.
*وما هي إجابتها؟
فجأة دخلت المشرفة ماما حنان سعد الدين في نوبة بكاء أشبه بالهستريا، وتعجبت وأنا في تلك السن من بكائها، ويبدو أن سؤالي كان مباغتاً وغير متوقع لها، وبعد أن هدأت وتماسكت قالت لي :"أمك وأبوك في الجنة"، مجدداً سألتها "يعني شنو الجنة"، قالت لي إنه مكان جميل فيه حدائق وعسل ولبن ومراجيح وأي شيء حلو، ولكن لم أتوقف من طرح الأسئلة وقلت لها: لماذا هما في الجنة، فأجابتني بأنهما توفيا.
*هل اكتفيتِ وأقنعتك إجابتها؟
نعم.. وقد رسمت المشرفة أجمل صورة في مخيلتي عن الجنة التي سوف ألتقي فيها بوالديّ في تلك السن الباكرة من عمري، والشاهد في الأمر أنني وبعد الإجابات التي تلقيتها لم أسأل مجدداً، وكنت على قناعة تامة بأن والدي في الجنة، ولم أشعر بعدها بنقص ودونية عند رؤية زميلاتي يخرجن آخر اليوم من الروضة رفقة أهلهن .
*بعد انتقالك إلى المرحلة الابتدائية ألم تعد الأسئلة مجدداً لتسيطر عليك؟
- لا.. ولكن وأنا في الصف الأول تعرضت لهزة نفسية عنيفة حينما تشاجرت مع إحدي زميلاتي التي حاولت الاستيلاء على بعض معداتي الدراسية، التي وجهني إخواني وأخواتي في الدار وقتها بضرورة الحفاظ عليها وعدم التفريط فيها، فرفضت التنازل عنها لزميلتي التي وبعد محاولات منها تمكنت من انتزاعها من حقيبتي، التي كنت أضعها في ظهري، وتصرفها هذا أثار غضبي فدخلت معها أذكر في معركة حامية انتهت "بجلدي" لها وانتزاع معداتي المدرسية .
*كيف كانت ردة فعلها ؟
- يبدو أنها بعد أن شعرت بالهزيمة أمام زميلاتنا تملكها الغضب، فكان أن تفوهت بلفظ لا يمكن أن أورده على لساني ومعناها أنني مجهولة الأبوين، قالتها لي أمام زميلاتي وبعضهن قابلن حديثها بالضحك، فبعد أن كنت منتشية بانتصاري عليها شعرت بانكسار وحزن يتسلل إلى دواخلي ويسيطر عليها ولم أجد للتعبير عنه غير ذرف الدموع بأسى وغبن، وفي هذه اللحظات العصيبة وصل خبر المشكلة إلى أخواتي في الدار وكنا معي بالمدرسة فحضرن وقد ظهر عليهن الغضب واعتدين على التلميذة، وعملن على تهدئتي بشراء حلويات وإحضار مياه شرب .
*هل خلفت هذه الحادثة شرخاً في دواخلك؟
- نعم.. وما تفوهت به زميلتي التي تشاجرت معها أعاد مجددًا الأسئلة إلى ذهني، لكن تركيزي كان منصباً على الكلمة التي أطلقتها ناحيتها وما حملته في ثناياها من اتهام، بكل صدق شعرت بإهانة كبيرة وارودني إحساس بالدونية والقهر، وأكثر ما أثار حزني الصدمة التي أصابتني من المجتمع الذي تم تصويره لنا، ونحن داخل الدار وجمعية حماية الطفل بأنه ملائكي وجميل، ويومها عرفت أن "الدنيا " خارج الدار ليست كداخلها، حيث كنا نحظى بعطف وحنان، ولم نكن ندرك أن للحياة وجهاً آخر أكثر قتامة ينتظرنا خارج الأسوار، وعلينا التعامل معه.
*هل واصلتِ مشوارك الدراسي؟
- تلك الحادثة أصابتني كما يقولون في مقتل وبسببها ظللني الأسى والحزن وأنا مازلت طفلة صغيرة غضة الإهاب لا تملك الإرادة التي تستطيع أن تواجه بها هكذا مواقف بتماسك وقوة، فكان أن قررت ترك الدراسة وعدم الذهاب مجدداً إلى المدرسة، ولكن المشرفات وأخواتي في الدار قابلن قراري هذا بالرفض ونجحن في إقناعي بالعدول عنه، ومواصلة مشواري الأكاديمي دون الاكتراث لمثل هذه العقبات، كانت كلماتهن مثل البلسم الذي أسهم في أن يندمل جرحي سريعاً.
*الحادثة جعلتك وأخواتك أكثر شراسة في المدرسة؟
- نعم .. فقد شعرنا بضرورة أن نتوحد بحكم أننا من شريحة مجتمعية واحدة، ورأينا أن استمرار مشوارنا في الحياة يعتمد بشكل أساسي على أن نستدعي الوجه الآخر لنا، وهو ذلك الذي يعبر عن العنف، لنتحول إلى طالبات شرسات تخشاهن البنات اللواتي لم يكن يمتلك الجرأة على وصفنا بما نكره ونبغض من كلمات، والتحول الذي حدث لنا اعتبره طبيعياً يوضح غريزة البقاء عند الإنسان حينما يتعرض لمخاطر تهدده، وأيضاً كان من أجل إثبات الوجود وإجبار المجتمع على احترامنا، وواصلنا بذات النهج، وكنا نأتي نهاية اليوم الدراسي إلى الدار، ونسرد للمشرفات وعلى رأسهن ماما ليلى معاركنا مع الطالبات ، فعرفت أن ثمة أمر يجب معالجته قبل ان يستفحل .
*وماذا فعلت؟
- توجهت ناحية المدرسة للتقصي عن أسباب بروز روح العدوانية لدينا، وهنا دعني أشير إلى أي مدى كان الوعي يميز إنسان تلك المرحلة من تاريخ البلاد، وبالفعل جلست ماما ليلي إلى مديرة المدرسة، وكشفت لها عن المتغير النفسي والسلوكي الذي أصابنا، وسردت لها المديرة الأسباب، وحينما عادت المشرفة وجهتنا بعدم الذهاب إلى المدرسة في اليوم التالي، وكان القرار مفاجئاً أثار حيرتنا ولم نجد إجابات توضح أسبابه .
*وأشرقت شمس اليوم التالي؟
في ساعات الصباح الأولى تعرفنا على السبب الذي حال بيننا والتوجه ناحية المدرسة، فقد تم إخبارنا بأن كل زميلاتنا في المرحلة الابتدائية ومعهن إدارة المدرسة بصدد زيارتنا في دار حماية الطفل بحي المطار في ذلك اليوم، وبالفعل هذا ما حدث، كان يوما خالداً لا يمكن أبداً أن يسقط عن ذاكرتي، دار الجمعية كانت في منزل فخم وأنيق كما أشرت بحي المطار، فتزينت يومها وظهرت في أحلي ثوب، وكنا سعداء غاية السعادة بزيارة زميلاتنا لأننا أردنا ان يحضرن ويرين بأعينهن أننا نعيش حياة رفاهية ودعة، أفردنا لهن أحضاننا ترحاباً وحباً وفعلن هن ذات الشيء بل أحضرت كل واحدة منهن هدية وكان هذا أجمل وأرقى اعتذار .
*هذا يعني أن إدارة المدرسة تعاطفت معكن؟
- نعم.. كم كانت المديرة رائعة ومعها المعلمات، وبعد حضور زميلاتنا لاحظنا أن سلوكهن تغير تماماً وأظهرن تعاطفاً وحناناً واضحاً في تعاملهن معنا بدار جمعية حماية الطفل، وعلمنا أن يوم الزيارة وقبل أن يتحركن نحونا تم تخصيص طابور الصباح لتناول قضية شريحتنا، وتم إخبار الطالبات أن فاقدات السند لم يرتكبن جرماً وأنهن ضحايا ويجب أن تتم معاملتهن بعطف وإحسان وحنان، وقد احتفينا بالزميلات وكن سعيدات بزيارتهن واجتاحتنا موجة من الفخر حينما اصطحبناهن في جولة على الدار الأنيقة وغرفنا الجميلة، وخرجن بانطباع جيد شكل علامة فارقة لاحقاً في تعاملهن معنا .
*كيف شهد تعامل الطالبات معكن تغييراً ؟
- حينما توجهنا في اليوم الثاني لزيارتهن نحو المدرسة تفاجأنا بمعظم الزميلات وقد أحضرن معهن هدايا وتم تقديمها لنا نحن بنات دار حماية الطفل، وعرفنا أنهن أخبرن أهلهن بتفاصيل الزيارة، ووجدن تشجيعا وحثاً على التعامل معنا بأريحية ،وهنا يبرز دور الوعي الذي كان له أثر إيجابي في تغيير مفاهيم زميلاتنا، وكل ذلك تم بفضل إدارة المدرسة، ودار حماية الطفل وأولياء أمور زميلاتنا، وبكل تأكيد كلما ارتفع وعي المجتمع حدث تغيير في سلوك أفراده نحو الأفضل، منذ تلك الزيارة فقد ازدادت ثقتنا في أنفسنا وبتنا نملك القدرة على التعبير.
*في تلك السن انتقلتِ من دار المايقوما إلى دار حماية الطفل بحي المطار؟
- نعم.. ياسلاااام.. فترة دار حماية الطفولة لا يمكن أن تسقط عن ذاكرتي أبداً، لأنها كانت خصبة استفدنا منها فائدة كبيرة، فهذه الدار التي كانت تقع في حي المطار حظيت وقتها باهتمام كبير من اتحاد نساء السودان برئاسة ماما نفيسة كامل وزوجات الوزراء والسفراء وأعضاء السلك الدبلوماسي وعلى رأسهن حرم رئيس الجمهورية بثينة خليل، وكنا نحظى برعاية وعطف واهتمام لا حدود له من السيدات الفضليات اللواتي كانت دواخلهن تفيض إنسانية .
*ماذا كن يقدمن لكُن؟
- كل ما يخطر على بالك، وما لا يخطر، هن كن منتظمات في جمعية خيرية تشرف على دار حماية الطفل ويعملن على توفير التمويل لها والتبرع أيضاً من مالهن الخاص، ولا يمكن أن أنسى كيف كن عضوات الجمعية يحضرن كل خميس ليصطحبن إلى منازلهن أخواتي في الدار ومن ثم إعادتنا يوم السبت مساءً، وذلك لقضاء ساعات جميلة في حضن أسرهن الدافئ واللعب مع أطفالهن، وكن أيضًا يحرصن على صناعة الطعام بأنفسهن وإحضاره إلى الدار وتناوله معنا، لقد كان تعامل عضوات الجمعية إسلاميا إنسانياً غارقاً في السوداناوية، وأعتبر أن أبناء جيلي من أطفال عقد السبعينيات كانوا محظوظين لأن ذلك الزمان من تاريخ البلاد كان جميلًا في كل تفاصيله.
*هل تعني أن الزمان لم يعد مثل بقية الأزمنة؟
- لا أستطيع أن أقول هكذا.. لكن ذلك زمان يعرفه كل من عاش أيامه وسنواته النضرة والوسيمة، فقد كان السودانيون أصحاب قلوب تفيض رحمة وإنسانية وحباً، بل حتى الأوضاع الاقتصادية كانت في أفضل حالاتها،ولا أعتقد أن شخصيات تلك الحقبة من عمر البلاد ستتكرر، نعم هو زمان لن يعود، ولكن في حاضرنا يوجد أيضاً من تفيض دواخلهم رحمة، ورسولنا الكريم قال "الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة".
*هل كان الاهتمام بدار حماية الطفل حصرياً على المجتمع ممثلاً في الجمعية النسوية الخيرية ؟
- لا.. الاهتمام كان من كل مؤسسات الدولة والجمعية وعلى رأسها الرئيس الراحل بابا جعفر نميري وزوجته ماما بثينة خليل، وماما نفيسة كانت تتولى الإشراف المباشر على الدار وتوفر لها كل المطلوبات والاحتياجات .
*اهتمام خاص من الرئيس الراحل جعفر نميري؟
- يا سلاااااام..هذا الرجل لا يمكن أن يأتي يوم وننسى أفضاله علينا، فرغم زحمة عمله وتشعب مهامه إلا أنه كان يستقطع من وقته لزيارة الدار وتفقد أحوال من هن فيها، وما نزال نجتر الكثير من الذكريات المرتبطة به ،ومنها حرصه الكبير على أن يرسل في يوم الجمعة من كل أسبوع طاقم الطباخة الخاص به على متن عربة رئاسية تحمل كمية كبيرة من الألبان الطازجة والتفاح ، وكان تبرعاً منه، ونميري شخصية سودانية فريدة بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ.
محمود منصور محمد علي- مشرف المنتدى العام و مصحح لغوي
مواضيع مماثلة
» اشهر الحكامات
» اشهر طلاق لإبنة أسرة عريقة بشهر العسل في طريقه للمحاكم بسبب سيجارة
» عنتر صاحب اشهر هدف!!!
» اشهر ثلاثه عجلات في ابوجبيهة
» كلول اشهر بائع جبنه بالحباك
» اشهر طلاق لإبنة أسرة عريقة بشهر العسل في طريقه للمحاكم بسبب سيجارة
» عنتر صاحب اشهر هدف!!!
» اشهر ثلاثه عجلات في ابوجبيهة
» كلول اشهر بائع جبنه بالحباك
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى