هل هناك حقّاً "عملية انتقال ديمقراطي" في السودان؟!!!!!!!!!!!!!!11
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
هل هناك حقّاً "عملية انتقال ديمقراطي" في السودان؟!!!!!!!!!!!!!!11
دعونا نتحدّث بصراحة
د.عبد الوهاب الأفندي
(هل هناك حقّاً "عملية انتقال ديمقراطي" في السودان؟) الخطاب السياسي يُشبه في كثير من مظاهره الأدب الخيالي: السياسيون يكذبون كثيراً، وغالبية الناس يعرفون أنّهم يكذبون، لكنَّ الجميع يشاركون في التمثيلية، تماماً كما يندمج المشاهد مع فيلم ممتع أو القارئ مع رواية شائقة، رغم أنه يعلم أنَّ القصّة مُتخيّلة بالكامل. ولأنَّ الكل يعلم أنَّ السياسيين، مثل الشعراء، يقولون ما لا يفعلون، وفي كل وادٍ يهيمون، فإنَّ الجمهور يتعامل مع عروضهم المسرحية بما تستحق، ويفاضل بين أدائهم على هذا الأساس. ولا يعني هذا أنَّ الشعوب تنخدع بادعاءات المُدّعين أو نفاق المنافقين أو وعود المبالغين، ولكنّها تتعامل مع هذه الدعاوى في إطارها. فإذا تصنَّع سياسيٌ بالحنو على الأطفال، أو أظهر الحزن والخشوع على مآسي الآخرين، فلا أحد يعتقد للحظة أنَّ هذه مشاعر حقيقية، ولكنّه يُقدِّر أنَّ السياسي المعني قد سلك السلوك المناسب في الظرف المعني. وهناك مواقع كثيرة في العمل العام يُسبِّب فيها الصدق في التعبير عن المشاعر والآراء لصاحبه من الضرر أكثرمن الكذب. ومن قبيل ذلك ما حدث للإذاعي الكوميدي الأمريكي الشهير بيل مار الذي علَّق في برنامجه التلفزيوني على قناة أي بي سي بُعيد أحداث الحادي عشر من سبتمبر رافضاً اتهام مُرتكبي الحادث بأنّهم جبناء. فقد قال مار إنَّ الجبناء هم من يرسلون الصواريخ ضدَّ أعدائهم من على بعد ألفي ميل، أمّا من يبقى في طائرة وهي تصطدم بمبنى فيمكن أن يُتهم بتهم كثيرة، ليس من بينها الجبن. وقد أثارت تعليقات مار عاصفة من النقد سرعان ما أفقدته وظيفته وظلّ لفترة منبوذاً إعلامياً وسياسياً رغم اعتذاره المتكرر والحديث عن "إساءة فهم تعليقاته". ومثل هذا في عالم السياسة كثير، حيث الكذب منجاة والصدق مهلكة. ونحن نتحدَّث هنا عن عالم السياسة في تجلِّياتها الديمقراطية، أمّا الأنظمة غير الديمقراطية فهي تقوم أساساً على الخداع والمخادعة نهجاً. ذلك أنَّ أهم سلاح لدى الأنظمة القمعية هو إخفاء وتمويه الحقائق، بدءاً بإطلاق تسمية "الديمقراطية" على الدوّل الاستبداية الشمولية مثل كوريا الشمالية وسابقاتها، مروراً بالإشادة المتكررة بفضائل الحاكم الأوحد التي لا تُحصى، والحديث عن إنجازات النظام الخارقة، وبالطبع إخفاء كل فشل وتقصير وإظهاره على أنّه فتحٌ مُبين. ولا نحتاج هنا إلى أن نفيض فيما هو معلوم من تفاصيل السياسة السودانية، والطابع السريالي لتقلُّبات أهلها الإيديولوجية والسياسية، وتسمية الأشياء بغير أسمائها، ووصف الناس بضدّ ما هم عليه، لأنَّ كل هذا معلوم وظاهر من حاضر السياسة السودانية وماضيها القريب. فكثيرٌ من أحزابنا لا تزيد على كونها ألقاب مملكة في غير موضعها، وكثيرٌ منها يُخالف إيديولوجيته، بل يناقض برامجه المُعلنة، وهي برامج تخالف بدورها الأفعال. أمّا القيادات ومسالكها وسلوكياتها، والتحالفات وتقلُّباتها، فحدِّث ولا حرج. وتعامل الجمهور والنُخب مع هذه الأوضاع، والتكيُّف معها يستحقُّ بدوره دراسات متعمِّقة في سوسيولوجيا الكيانات السياسية وسيكلوجية النفس البشرية. فليس كلُ الممثلين في المهازل كاذبين مخادعين، بل كثير منهم صادق مع نفسه التي نجح نجاحاً يُحسد عليه في خداعها حتى لم يعد يُميز بين الخيال المسرحي والواقع حول الخشبة. ولكن هذا مبحث آخر. ما نودُّ أن نُركِّز عليه هنا هو المسرحية التي تُمثّل أمام أعيننا باعتبارها ترسم ملامح و "خارطة طريق" مرحلة انتقالية تعبر فيها البلادُ وضعاً إعترف الجميع بأنّه استبدادي غاشم، إلى وضع يأمُل البعض (ويخشى آخرون) أن يصبح ديمقراطياً. وبحسب هذه "الرواية" (بكل معاني هذا التعبير)، فإنَّ هناك خطوات عملية وتشريعية مترابطة يجري اتخاذها لرسم خارطة الطريق المؤدِّية من صحراء الدكتاتورية إلى واحة الديمقراطية، من بسط للحريات في مجال التعبير والتنظيم، وبناء هياكل ومؤسَّسات تُشرف على عملية الانتقال، بما في ذلك تسجيل الأحزاب، وإعداد كشوف الناخبين، ثمّ الترشيح والاقتراع، وانتهاءً بتسليم السلطة كاملة للشعب عبر ممثليه المُنتخبين. وكجزءٍ من هذه "الرواية" تمّت صياغة دستور انتقالي أكسبتنا نصوصه في الحقوق والحريات حسد مواطني أوروبا، بينما تُكسبنا الممارسات التي تتعايش مع هذه النصوص عطف سكان ميانمار وزيمبابوي. وبحسب هذه "الرواية" فإنَّ من أهم دعائم فترة الانتقال "شراكة" وتقاسم سلطة بين طرفي اتفاق نيفاشا، أي الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني، وبقية رصفائهم في "حكومة الوحدة الوطنية" (أي والله، هذا هو الإسم الرسمي للحكومة وليس اختراعاً من بنات خيالي). وهناك أيضاً "توافق" بين الشريكين على إجراء استفتاء شعبي في الجنوب يؤكدان أنه ضروري لتأكيد وحدة السودان، لأنَّ الإخوة في الجنوب من شدَّة حرصهم على الوحدة طالبوا باستفتاء يُعبِّروا فيه عن تولُّههم بوحدة البلاد في سابقة لا مثيل لها سُفكت فيها دماءٌ غزيرةٌ من أجل انتزاع حق الانفصال ليس رغبة فيه، بل اشتهاءً للوحدة ومزاياها. وفي داخل هذا العمل المسرحي المُتقن الصياغة والإخراج، نسمع من يتصايحون احتجاجاً على تقصير عن الوفاء بحق الانتقال الديمقراطي، ويجتهدون في الضغط إعلامياً وعبر الشارع وعبر التدخُّلات الدبلوماسية الدولية، حتى يتمّ الوفاء بما قصّر في الوفاء به. ويجتهد آخرون في الحديث عن ضرورة التحرُّك السريع لجعل الوحدة "جاذبة"، ومساعدتها للتزيُّن لخُطّابها المُفترضين. وإذا كان هناك بيننا من يُصدِّق أننا نعيش مرحلة انتقال نحو الديمقراطية، أو أنَّ هناك من يعمل حتى تكون الوحدة "جاذبة"، فإنَّ هناك فئة مهنية واحدة على الأقل يمكن أن أتنبأ لها بمستقبل باهر في "السودان الجديد" المُرتقب، مهما كان شكله، ألا وهي فئة محترفي العلاج النفسي. فالمنطق يقول إنَّ الخراف لا تتحمّس لعيد النحر، كما أنَّ الأنظمة الدكتاتورية لا تقود الانتقال نحو الديمقراطية إلاَّ بشرطين: الأوّل أن تنشأ قيادة جديدة تؤمن بالديمقراطية كمخرج لمأزق النُخبة الحاكمة، كما حدث في روسيا مع ميخائيل غورباتشوف، أو الصين في عهد زين زيانغ (قبل خلعه في صيف عام 1989م)، والثاني أن تتصدَّع النُخبة الحاكمة وتتداعى، كما حدث في اسبانيا والبرتغال في منتصف السبعينات، وفي الجزائر أواخر الثمانينات، ومصر في أول عهد السادات. حالياً لا نلمس أي شواهد مُقنعة على أنَّ النُخبة المُهيمنة في المؤتمر الوطني قد توصّلت إلى قناعة بأنَّ التحوُّل الديمقراطي يخدم مصالحها أو يوافق قناعاتها الفكرية، إذ "لو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدّة". فلو كان لدى القوم قناعة بأنُّ الديمقراطية "عائدة وراجحة" (بحسب تعبير الزعيم الصادق المهدي) لكنّا شهدنا اجتهاداً من القيادات في تنظيم الصفوف وتعديل الخطاب وتطوير أساليب كسب الرأي العام يُعادل الاجتهاد في تسليح وتمويل وتوسيع الأجهزة الأمنية ودعمها بقوانين هي بدورها أسلحة من أسلحة القمع والكبت. نفس الشيء يمكن أن يُقال عن المعارضة، إذ لو أنَّ قادة المعارضة كانوا مقتنعين حقاًّ بأنَّ البلاد مقبلة على تحوُّل ديمقراطي لتغيَّر خطابُهم إلى خطاب تصالحي غير إقصائي تجاه الحزب الحاكم وحلفائه، ولبدأوا في خطوات عملية للتفاوض مع الفئة الحاكمة حول الضمانات الشخصية والمؤسّسية ضد أي استهداف قد يتعرّض له قادة الحزب الحاكم ومؤيدوه بعد تسليم السلطة إلى الحكومة الجديدة المنتخبة. أمّا إذا كان المعارضون يعتقدون أنَّ قادة الحزب الحاكم المُتمترس داخل القوّات النظامية وفي نسيج الدولة وهياكلها البيروقراطية، والمُتمكِّن من مفاصل الاقتصاد، سيُسلِّمون الحكم طواعية إلى من يتوعّدونهم بالويل والثبور، ويطفح خطابهم ضدَّهم بكراهية تُنذر بنُذر الإبادة الجماعية إذا تغيَّرت الأوضاع، إن كانوا يعتقدون جادين أنَّ "التسليم والتسلُّم" في إطار انتقال سلمي للسلطة سيتم تحت هذه الظروف، فإنّهم في أمسّ الحاجة إلى مراجعة أطبّائهم النفسانيين، لأنَّ هذا وهمٌ سيكون مُكلفاً لو تم التمادي فيه. قد يكون القدر المعقول من تجارة الأوهام ضرورياً لتفادي انهيار البنية السياسية للمجتمعات، لأنَّ فكرة الوطن نفسها وكلَّ مستويات الهُوية تقوم على قدر كبير من الخيال. فأن يكون المرء سودانياً، أو مصرياً، أو جنوبياً، أو شمالياً، أو منتمياً إلى جماعة دينية أو عرقية أو سياسية، فهذه حالة ذهنية وليست حالة طبيعية، إذ قد يُولد المرء في مكان ما ويعيش عمره كله فيه دون أن يشعر بالانتماء إليه. ولكنَّ التمادي في التعلُّق بالأوهام قد يتحوَّل إلى حالة مرَضيِّة تتوَّلد عنها كوارث مُدمِّرة. فيما يتعلَّق بالوضع الانتقالي المُفترض في السودان، فإنَّ تطوُّرات الأسابيع الأخيرة عبَّرت عن اصطدام الحالة المُتخيَّلة بجدار الحقيقة، ولكن قد لايكون هناك خيار عملي غير مجاراة الوهم إلى منتهاه، والمرور عبر العملية الانتخابية، فالاستفتاء ثمّ التعامل مع النتائج لاحقاً. فكما ذكرت في وقت سابق، لا تُعتبر خطّة بعض أطياف المعارضة لإشعال "انتفاضة" في الظروف الحالية عملية والانتخابات على بُعد أشهر فقط. فما دام هناك أمل في التغيير السلمي عبر الانتخابات، لن يبدو مقنعاً للجماهير أن تتقدَّم للدخول في صراع عنيف مع نظام قبِل نظرياً بأن يُسلِّم مصيره إلى انتخابات حرّة يقول فيها الشعب رأيه. فالمطلوب حالياً من المعارضة تعبئة أنصارها لخوض الانتخابات وبذل الجهد للتأكد من سلامة العملية الانتخابية، ثم بعد ذلك لكل حادثٍ حديث.
التيار
د.عبد الوهاب الأفندي
(هل هناك حقّاً "عملية انتقال ديمقراطي" في السودان؟) الخطاب السياسي يُشبه في كثير من مظاهره الأدب الخيالي: السياسيون يكذبون كثيراً، وغالبية الناس يعرفون أنّهم يكذبون، لكنَّ الجميع يشاركون في التمثيلية، تماماً كما يندمج المشاهد مع فيلم ممتع أو القارئ مع رواية شائقة، رغم أنه يعلم أنَّ القصّة مُتخيّلة بالكامل. ولأنَّ الكل يعلم أنَّ السياسيين، مثل الشعراء، يقولون ما لا يفعلون، وفي كل وادٍ يهيمون، فإنَّ الجمهور يتعامل مع عروضهم المسرحية بما تستحق، ويفاضل بين أدائهم على هذا الأساس. ولا يعني هذا أنَّ الشعوب تنخدع بادعاءات المُدّعين أو نفاق المنافقين أو وعود المبالغين، ولكنّها تتعامل مع هذه الدعاوى في إطارها. فإذا تصنَّع سياسيٌ بالحنو على الأطفال، أو أظهر الحزن والخشوع على مآسي الآخرين، فلا أحد يعتقد للحظة أنَّ هذه مشاعر حقيقية، ولكنّه يُقدِّر أنَّ السياسي المعني قد سلك السلوك المناسب في الظرف المعني. وهناك مواقع كثيرة في العمل العام يُسبِّب فيها الصدق في التعبير عن المشاعر والآراء لصاحبه من الضرر أكثرمن الكذب. ومن قبيل ذلك ما حدث للإذاعي الكوميدي الأمريكي الشهير بيل مار الذي علَّق في برنامجه التلفزيوني على قناة أي بي سي بُعيد أحداث الحادي عشر من سبتمبر رافضاً اتهام مُرتكبي الحادث بأنّهم جبناء. فقد قال مار إنَّ الجبناء هم من يرسلون الصواريخ ضدَّ أعدائهم من على بعد ألفي ميل، أمّا من يبقى في طائرة وهي تصطدم بمبنى فيمكن أن يُتهم بتهم كثيرة، ليس من بينها الجبن. وقد أثارت تعليقات مار عاصفة من النقد سرعان ما أفقدته وظيفته وظلّ لفترة منبوذاً إعلامياً وسياسياً رغم اعتذاره المتكرر والحديث عن "إساءة فهم تعليقاته". ومثل هذا في عالم السياسة كثير، حيث الكذب منجاة والصدق مهلكة. ونحن نتحدَّث هنا عن عالم السياسة في تجلِّياتها الديمقراطية، أمّا الأنظمة غير الديمقراطية فهي تقوم أساساً على الخداع والمخادعة نهجاً. ذلك أنَّ أهم سلاح لدى الأنظمة القمعية هو إخفاء وتمويه الحقائق، بدءاً بإطلاق تسمية "الديمقراطية" على الدوّل الاستبداية الشمولية مثل كوريا الشمالية وسابقاتها، مروراً بالإشادة المتكررة بفضائل الحاكم الأوحد التي لا تُحصى، والحديث عن إنجازات النظام الخارقة، وبالطبع إخفاء كل فشل وتقصير وإظهاره على أنّه فتحٌ مُبين. ولا نحتاج هنا إلى أن نفيض فيما هو معلوم من تفاصيل السياسة السودانية، والطابع السريالي لتقلُّبات أهلها الإيديولوجية والسياسية، وتسمية الأشياء بغير أسمائها، ووصف الناس بضدّ ما هم عليه، لأنَّ كل هذا معلوم وظاهر من حاضر السياسة السودانية وماضيها القريب. فكثيرٌ من أحزابنا لا تزيد على كونها ألقاب مملكة في غير موضعها، وكثيرٌ منها يُخالف إيديولوجيته، بل يناقض برامجه المُعلنة، وهي برامج تخالف بدورها الأفعال. أمّا القيادات ومسالكها وسلوكياتها، والتحالفات وتقلُّباتها، فحدِّث ولا حرج. وتعامل الجمهور والنُخب مع هذه الأوضاع، والتكيُّف معها يستحقُّ بدوره دراسات متعمِّقة في سوسيولوجيا الكيانات السياسية وسيكلوجية النفس البشرية. فليس كلُ الممثلين في المهازل كاذبين مخادعين، بل كثير منهم صادق مع نفسه التي نجح نجاحاً يُحسد عليه في خداعها حتى لم يعد يُميز بين الخيال المسرحي والواقع حول الخشبة. ولكن هذا مبحث آخر. ما نودُّ أن نُركِّز عليه هنا هو المسرحية التي تُمثّل أمام أعيننا باعتبارها ترسم ملامح و "خارطة طريق" مرحلة انتقالية تعبر فيها البلادُ وضعاً إعترف الجميع بأنّه استبدادي غاشم، إلى وضع يأمُل البعض (ويخشى آخرون) أن يصبح ديمقراطياً. وبحسب هذه "الرواية" (بكل معاني هذا التعبير)، فإنَّ هناك خطوات عملية وتشريعية مترابطة يجري اتخاذها لرسم خارطة الطريق المؤدِّية من صحراء الدكتاتورية إلى واحة الديمقراطية، من بسط للحريات في مجال التعبير والتنظيم، وبناء هياكل ومؤسَّسات تُشرف على عملية الانتقال، بما في ذلك تسجيل الأحزاب، وإعداد كشوف الناخبين، ثمّ الترشيح والاقتراع، وانتهاءً بتسليم السلطة كاملة للشعب عبر ممثليه المُنتخبين. وكجزءٍ من هذه "الرواية" تمّت صياغة دستور انتقالي أكسبتنا نصوصه في الحقوق والحريات حسد مواطني أوروبا، بينما تُكسبنا الممارسات التي تتعايش مع هذه النصوص عطف سكان ميانمار وزيمبابوي. وبحسب هذه "الرواية" فإنَّ من أهم دعائم فترة الانتقال "شراكة" وتقاسم سلطة بين طرفي اتفاق نيفاشا، أي الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني، وبقية رصفائهم في "حكومة الوحدة الوطنية" (أي والله، هذا هو الإسم الرسمي للحكومة وليس اختراعاً من بنات خيالي). وهناك أيضاً "توافق" بين الشريكين على إجراء استفتاء شعبي في الجنوب يؤكدان أنه ضروري لتأكيد وحدة السودان، لأنَّ الإخوة في الجنوب من شدَّة حرصهم على الوحدة طالبوا باستفتاء يُعبِّروا فيه عن تولُّههم بوحدة البلاد في سابقة لا مثيل لها سُفكت فيها دماءٌ غزيرةٌ من أجل انتزاع حق الانفصال ليس رغبة فيه، بل اشتهاءً للوحدة ومزاياها. وفي داخل هذا العمل المسرحي المُتقن الصياغة والإخراج، نسمع من يتصايحون احتجاجاً على تقصير عن الوفاء بحق الانتقال الديمقراطي، ويجتهدون في الضغط إعلامياً وعبر الشارع وعبر التدخُّلات الدبلوماسية الدولية، حتى يتمّ الوفاء بما قصّر في الوفاء به. ويجتهد آخرون في الحديث عن ضرورة التحرُّك السريع لجعل الوحدة "جاذبة"، ومساعدتها للتزيُّن لخُطّابها المُفترضين. وإذا كان هناك بيننا من يُصدِّق أننا نعيش مرحلة انتقال نحو الديمقراطية، أو أنَّ هناك من يعمل حتى تكون الوحدة "جاذبة"، فإنَّ هناك فئة مهنية واحدة على الأقل يمكن أن أتنبأ لها بمستقبل باهر في "السودان الجديد" المُرتقب، مهما كان شكله، ألا وهي فئة محترفي العلاج النفسي. فالمنطق يقول إنَّ الخراف لا تتحمّس لعيد النحر، كما أنَّ الأنظمة الدكتاتورية لا تقود الانتقال نحو الديمقراطية إلاَّ بشرطين: الأوّل أن تنشأ قيادة جديدة تؤمن بالديمقراطية كمخرج لمأزق النُخبة الحاكمة، كما حدث في روسيا مع ميخائيل غورباتشوف، أو الصين في عهد زين زيانغ (قبل خلعه في صيف عام 1989م)، والثاني أن تتصدَّع النُخبة الحاكمة وتتداعى، كما حدث في اسبانيا والبرتغال في منتصف السبعينات، وفي الجزائر أواخر الثمانينات، ومصر في أول عهد السادات. حالياً لا نلمس أي شواهد مُقنعة على أنَّ النُخبة المُهيمنة في المؤتمر الوطني قد توصّلت إلى قناعة بأنَّ التحوُّل الديمقراطي يخدم مصالحها أو يوافق قناعاتها الفكرية، إذ "لو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدّة". فلو كان لدى القوم قناعة بأنُّ الديمقراطية "عائدة وراجحة" (بحسب تعبير الزعيم الصادق المهدي) لكنّا شهدنا اجتهاداً من القيادات في تنظيم الصفوف وتعديل الخطاب وتطوير أساليب كسب الرأي العام يُعادل الاجتهاد في تسليح وتمويل وتوسيع الأجهزة الأمنية ودعمها بقوانين هي بدورها أسلحة من أسلحة القمع والكبت. نفس الشيء يمكن أن يُقال عن المعارضة، إذ لو أنَّ قادة المعارضة كانوا مقتنعين حقاًّ بأنَّ البلاد مقبلة على تحوُّل ديمقراطي لتغيَّر خطابُهم إلى خطاب تصالحي غير إقصائي تجاه الحزب الحاكم وحلفائه، ولبدأوا في خطوات عملية للتفاوض مع الفئة الحاكمة حول الضمانات الشخصية والمؤسّسية ضد أي استهداف قد يتعرّض له قادة الحزب الحاكم ومؤيدوه بعد تسليم السلطة إلى الحكومة الجديدة المنتخبة. أمّا إذا كان المعارضون يعتقدون أنَّ قادة الحزب الحاكم المُتمترس داخل القوّات النظامية وفي نسيج الدولة وهياكلها البيروقراطية، والمُتمكِّن من مفاصل الاقتصاد، سيُسلِّمون الحكم طواعية إلى من يتوعّدونهم بالويل والثبور، ويطفح خطابهم ضدَّهم بكراهية تُنذر بنُذر الإبادة الجماعية إذا تغيَّرت الأوضاع، إن كانوا يعتقدون جادين أنَّ "التسليم والتسلُّم" في إطار انتقال سلمي للسلطة سيتم تحت هذه الظروف، فإنّهم في أمسّ الحاجة إلى مراجعة أطبّائهم النفسانيين، لأنَّ هذا وهمٌ سيكون مُكلفاً لو تم التمادي فيه. قد يكون القدر المعقول من تجارة الأوهام ضرورياً لتفادي انهيار البنية السياسية للمجتمعات، لأنَّ فكرة الوطن نفسها وكلَّ مستويات الهُوية تقوم على قدر كبير من الخيال. فأن يكون المرء سودانياً، أو مصرياً، أو جنوبياً، أو شمالياً، أو منتمياً إلى جماعة دينية أو عرقية أو سياسية، فهذه حالة ذهنية وليست حالة طبيعية، إذ قد يُولد المرء في مكان ما ويعيش عمره كله فيه دون أن يشعر بالانتماء إليه. ولكنَّ التمادي في التعلُّق بالأوهام قد يتحوَّل إلى حالة مرَضيِّة تتوَّلد عنها كوارث مُدمِّرة. فيما يتعلَّق بالوضع الانتقالي المُفترض في السودان، فإنَّ تطوُّرات الأسابيع الأخيرة عبَّرت عن اصطدام الحالة المُتخيَّلة بجدار الحقيقة، ولكن قد لايكون هناك خيار عملي غير مجاراة الوهم إلى منتهاه، والمرور عبر العملية الانتخابية، فالاستفتاء ثمّ التعامل مع النتائج لاحقاً. فكما ذكرت في وقت سابق، لا تُعتبر خطّة بعض أطياف المعارضة لإشعال "انتفاضة" في الظروف الحالية عملية والانتخابات على بُعد أشهر فقط. فما دام هناك أمل في التغيير السلمي عبر الانتخابات، لن يبدو مقنعاً للجماهير أن تتقدَّم للدخول في صراع عنيف مع نظام قبِل نظرياً بأن يُسلِّم مصيره إلى انتخابات حرّة يقول فيها الشعب رأيه. فالمطلوب حالياً من المعارضة تعبئة أنصارها لخوض الانتخابات وبذل الجهد للتأكد من سلامة العملية الانتخابية، ثم بعد ذلك لكل حادثٍ حديث.
التيار
nashi- مشرف المنتدى الرياضى
رد: هل هناك حقّاً "عملية انتقال ديمقراطي" في السودان؟!!!!!!!!!!!!!!11
"بحسب تعبير الزعيم الصادق المهدي" : أختي الغالية " صدق الإمام ولكن من يتفق معه في الآليات ؟؟؟"
الفاتح محمد التوم- مشرف المنتدى السياسى
مواضيع مماثلة
» وحدة السودان و"سيف" عقوبات أميركا
» مجلس الامن يتبنى بالاجماع قرارا يطالب السودان وجنوب السودان بوقف الاعمال العدائية في خلال ثمان واربعين ساعة ويهدد بفرض عقوبات على السودان وجنوب السودان
» انتقال يسرا يوسف الضو
» ابيي (كشميرالسودان)
» تضامن أحرار السودان مع اطباء السودان الشرفاء
» مجلس الامن يتبنى بالاجماع قرارا يطالب السودان وجنوب السودان بوقف الاعمال العدائية في خلال ثمان واربعين ساعة ويهدد بفرض عقوبات على السودان وجنوب السودان
» انتقال يسرا يوسف الضو
» ابيي (كشميرالسودان)
» تضامن أحرار السودان مع اطباء السودان الشرفاء
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى