أنونق ......... - منقول من سودانايل
صفحة 1 من اصل 1
أنونق ......... - منقول من سودانايل
أنونق ......... - منقول من سودانايل
للنهرِ مسارٌ تاريخيٌّ صاخب ، ضجيجٌ حياتيٌ مُزبد . التيّارُ الوابليُ الفكتوري الجنوبي يدفعه إلى الأمام تجاه الشمال ، معانقاً أعشاب النيل الريّانة بالخضرة و الماء المنقّى – طبيعياً- . و (الدّيس) الشامخ كثافةً ، يتشابك غابةً من الأوراق الرفيعة الخضرة على السطح و في الجوف ، يطاوع النهرَ تيّاراً و انتباهاً ، محتضناً في أغواره البعيدة ، و أعماقه الدافئة السحيقة ، جماعاتِ السمك المتنوعةَ الطّباع .. المتباينةَ الألوان .. المتفاوتةَ الأحجام و السلوك الزعنفي .
هذا (البلطي) يأبى أن ينصاع لأوامر الأم ، فيضلُّ السبيلَ ضائعاً بين جذور العشب النيلي المنتفخ ماءً و ثباتا . و ها هنا سمكة تخترق كثافة ال (H2O) مسبِّحةً لربِّها الذي حباها فماً حادّاً أحمر اللون ، لتعزف لحنها المتفرِّدَ و تشدو بهرمونية الأحياء النيلية و سمفونية الأسماك ، إنها (خشم بنات) هذا الوسمُ الذي أطلقه عليها النيليون جنوبَ كوستي ، شمالَ تونجه على ضفاف النيل ، مروراً ب ملكال ، و فشوده ، و كدوك ، و ملوط ، و كاكا التجاريه ، والمطيمر، و جلهاك ، و كوع المنقو، و ملولو ، وليلو أماره ، و ود دكونه ، و البشاره ، والرنك ، و أبو خضره ، وبير كدوك ، و القيقر ، و الكويك ، و أم جلاله ، و هلكه ، و جوده ، و الجبلين حتى تخوم النعيم و جوري و الرديس و خور أجول و أم مهاني جنوب النيل الأبيض ، و ذلك للتشابه الواقع بين كليهما في حدة الاختراق. و على جذور (أم فوله) المسماة – بحق – وردةَ النيل ، تختبئ (البَرَده) تلكم المشحونة بدفق الحياة في فيزيائها الفاعلة، و كيمياء لسعاتها الكهربائية المخففة ، باثةً مفردات الشفاء و التعالج في الذهن الشعبي المستسلم لجازم الاعتقاد في النيل و ما يحوي من أنماط حيولات و تمائم خرافية . أما (أُكوك) هذا (القرموط) أو (القرقور) فتأبى خياشيمه التسليم لأناشيد (الصير) المهتزة دوماً - حال القلب - آن يرجُّهُ الفرحُ السخي . و حدّث عن فرس البحر و حارسه الأمين ( القرنتيه) هذا المخلوق الذي ينتسب إلى عوالم لا تعرف الانتماءَ إلى غير أعظم الأنهار في المعموره ، مطلقاً صوته – المحايد- " حُووو ، حُووو ، حُووو " ، واضعاً فكَّه على ظهر الذي يسبقه سبحاً و – عوماً- في إلفةٍ تستدعي تواريخَ المخاوف المحدقةِ بقبيلةٍ من العصر الحجري يتعاضد أفرادُها زوداً عن إرثٍ تاريخي يحاول الهرب . ثعبانُ البحر ( أم دبيبو) يعشق الطينَ و السوادَ اللّزج ، و كأنه فطن إلى أصل الخلق و قيمة الوطن الممهور بالسواد و خصوبة التمازج بين العناصر المشيمية للتراب . و على مناخيرِ سيِّد الأعماق الرحبة و الضفاف الواعدة بالتحدي التاريخي في النهر العتيق ، هذا الفتى الشائخ نيلياً( التمساح ) ينفض الطائرُ الصديقُ – من على شموخه - جناحيه من البلل انتشاءً بصحبة الملك ، و سيد النيل يضرب بذيله الأسطوري شاقاً طريقه إلى فريسة سمكية أو أخرى حيوانية بريّة . و هناك على الضفاف الخلاسية يرقد خادمُ البرِّ و البحر ( الورلُ ) هذا البرمائي الموسوم بالجبن في القاموس الشعبي ، و الممتلئ لحماً مدرّاً للسعد المفضي إلى عوالم الخصوبة في فضاءات النيليين المسكونة اعتقاداً في طاقته الجبّارة و مداه ذي الأفق اللامتناهي الإشباع .
( أنونق ) فتاةُ العشقِ النيلي المحض الهاربِ مخلِّفاً إرثَ التطلُّعِ إلى البوح الصُّراح ، و وارف الأحلام و الآمال (الورلية) في أرضٍ تستوعب (شتاته) و تشرُّده بين اليابسة و الماء .. تتماهى في لحنها الليموني العبق ، صادقةَ الابتسام مهديهً إياه للسابلة و ضالي الطريق، بطاقمِ اللُّجين الأسناني اللّبِن .. مُحبةٌ للحياة في ابتدائها المشيمي الآسر .. تؤمن بأن الجدة ( نادينق ) تتقمصها برويةٍ حتي أقصى بليدِ التَّصرُّفِ فيها آن يشاغب ذروةَ الإشراقِ فيها نغم ٌ من (ربابة) السفر المشع – ضياءً – على درب التواصل الحميم .. تقول و تفعل - بلا ريب أو تهارب - ما يعنُّ لها من بهرة حقيقةٍ تطرّز كاملَ الأحلام في أنثى حباها اللهُ عمقاً وطوقاً من جمال الروح قبل متاهات و دهاليز الجسد الفناء .. طينيةٌ الملامح و الصفات .. لا أرضَ تستوعب أحلامَها العذراء و لا سماء .. حتى (الكجور) صار يذكرها في جلساته الحميمة الاستشرافية الأودية و الأصقاع .. لها بُعدُ التفاؤلِ و انطفاءاتُ الرؤى البليدة ، و السلام .. تحمل (جرّتها) يومياً و تهاجر نحو الحياة و صخبها النيلي .. نعم تهاجر كعادة قريناتها – دوماً – ينزلقن في محبّةٍ إلى النهر و عوالمه السخية الواعدة بالانطلاق إلى مواطنِ مزامير الزمن اليحنِّ إلى حداء الأسئلة ، و الولود بالاستجابات الغارقة في اللا متناهي ، و المغيّب ، و المسكوت عنه ، و المخبأ بين صُديفاتٍ زرقٍ تمنح النيلَ معنى أن يرشق الضفافَ بالأمل الغياب .. نعم يتدحرجن إلي ضفاف إمبراطور الأنهار و هو سادرٌ في انحداره التاريخي تجاه الريح بكل ما يستطيع من دفقٍ شديد البوح ، كاملَ القناعة في التواصل (المُؤنَّسَنِ و المُحيوَنِ و المُنبَّتِ) ، كاشفاتٍ عن معانٍ تسكن الماضي ، و الحاضر ، و ما ستأتي به الصباحات جميعها .
في إحدى تلكم الصباحات الندية من بدايات أبريل بعد منتصف السبعينات - و الصيف يرسل أولى زخّات السخونة - تَصادفَ أن كان على ضفة النيل الغربية "محجوب الدوش" ، هذا الفتى ( الشندي) المنداح سودانويةً تظلل البلاد و العباد ، عابرةً ديار (الريح) لتنشر أريجها في كل الأصقاع الزولية ، مركزةً عبقها على (الصعيد) . إنه معلم تلاميذ المدرسة الابتدائية ألفَ باء التعليم النظامي ، و يائيةَ الحياة ، و الذي يذكره جميع (الود دكوناب) بكل خير و احترام و محبة .. كانت – حينها – أنونق تتدحرج إلى النهر مع صويحباتها ، تملؤها النضارةُ و ألقُ الفتوةِ و بياضُ السريرةِ سحراً من رونق ظلالٍ ذات جاذبيةٍ حوائيةِ الأصل و المنبت . ساعتها التقط الدّوشُ أولى إشاراتِ التواصل الحياتي الحميم آن شاهدها و هي ترشقُ إحدى صويحباتها بالماءِ الينزِّ رشاقةً ، مذكرةً إياه بما سجَّله الشاعرُ السودانوي الضخم – مع اختلاف مفردات المكان و الزمان ، و اتساق المآلات و فضاء النصين - (الناصر قريب الله) في إحدى قصائده :
" و فتاةٍ ثمَّ تجني ثمرَ السُّنطِ في انفرادِ الغزالِ ..
تمنحُ الغصنَ أسفلي قدميها ، و يداها في صدرِ آخرَ عالِ ..
و يظلُّ ال (...) في خفقانِ الموجِ ، و الكِشحُ مُفرِطاً في الهزالِ ..."
وهكذا ، قادته قدماه في رحلةٍ شاعريةٍ ذات جذور مشيمية إلى النيل في هذا الصباح المفارق لتواريخ مكوثه و تماهيه في القرية الأم و أهاليها ( ود دكونه ) . حيث كلَّفه العمدةُ (أبو آسيا) بإلقاء كلمة أهل المنطقة في الاجتماع التأسيسي الأول للجمعية العمومية لأصحاب مشاريع الطيارة الزراعية المطرية ، و الذي تقرّر إقامتُه بود كونه . ومنذ أن شرّفه أبو آسيا بهذه الكلمة نيابةً عنه و أهل المنطقة ، ظلت الكلماتُ تتقافز أمامه و تنفر في حيادٍ و تبلُّد جانحةٍ إلى الصمت السكون ، كفراشات تأبى الدخول إلى (جراب) مخزونه الفصيح عربياً و زوليا .. ناداها : يا كلماتُ انبتي على دربي الأخضر الفسيح ، و انسجيني لساناً يمنطق الآني و يهدي البوارَ شعاعَ الأسئلة النبيلة.. و لكن لا مجيب سوى الصدى و... و في ذلك الصباح قرر النزولَ إلى النهر مجترّاً تواريخ ( القرايه أم دق ) حينما كان تلميذاً بمدرسة (جبل أم على الوسطى) _ جنوب شندي ، شمال الجيلي _ حيث للصباح إكسيره المدرُّ للتذكُّر و صفاء الذهن ... لذا حزم نفسه نازلاً إلى النهر قبيل بزوغ شمس يوم الاجتماع ، فكانت (أنونق) ملهمةَ المؤتمرين ظلال كلماتٍ ارتجلها الدّوش ، ( فوافقَ شنٌّ طبقا ) .
تقاطرت جموعُ المحظوظين بامتلاك أرضٍ مساحتُها ألف و خمسمائة فدان زراعي في مشاريع الطياره المطريه .. كان تسعون في المائة منهم و أكثر من أبناء ( الريح) أي الشمال في القاموس السليمي ، و ما تبقى كان من نصيب أولاد (الصعيد) و من انتسب إليهم ، أي الملكية و السليم و الشلك و البرقو و الزغاوه و الفور والجعليين (علياب) وبني هلبه و سائر بطون الأنصار و مَن سار سيرهم المُتعب نحو أفقِ يتسودن .. حيث لم تُفلح نداءاتُ (أبو آسيا) لسكان القرية و ما جاورها باغتناء مشروع زراعي على أرض الطياره حتى و لو في شكل جمعيةٍ تعاونية ، مذكِّراً إياهم بما حدث لأهالي (الرنك) الأصليين من دينكا (أبلانق) و (صَبحه) و (نزّي) و (رفاعه) حينما قامت المشايعُ المطرية بأرضهم ، فلم يصيبوا منها غيرَ (الفتات) .. و حتى مَن كان منهم ذا رؤيا و بُعدِ نظر ، تهاوت محاولاتُه متهالكةً بعيداً عن الاستمرار في الزراعة ، و ذلك لتمكُّن العقل (الرعوي) من بصيلات تفكيرهم ، و غياب الحسِّ الزراعي من على أمسهم ، و تعتيم يومهم بالجهل و الركون إلى متاهات التعاضد ضد تيار الحياة الدافق بالجديد. و كما جرت العادةُ ، فإنّ أهلَ الرِّيح أصحابُ حقٍّ في الأرض – كسودانيين - ، و لكنِّ الأولوية – دائماً – تكون للقاطنين بتلكم الديار ، و لكن لا حياة لمن تنادي .. حيث يضرب الجهلُ و غيابُ الوعي التاريخيُّ بأطنابه نواحي فرقان و قرى و أشباه مدن تلكم المناطق . ونتيجةَ العوزِ (الثقافي - تنويري) لم يرعوِ اللاحقون بما حاق بالأولين منهم .. و كأننا يا (عمده) لا رحنا و لا جئنا .
عموماً ، كان الملتقى الأول لاتحاد مزارعي الطيارة تحت ظلال ثلاثِ شُجرات من (العرديب) شمالَ مُشرعِ البنطون ، جنوبَ محطة وابورات النقل النهري بود دكونه ، حيث ذُبحت البهائمُ بتنوعها من عجول و ضأن و دجاجٍ قروي .. و تنادى شبابُ القرية بكل ألوان طيفهم من ملكية و سليم و شلك و جعليين (علياب) خادمين للضيوف .. و حانت لحظةُ التشريف و القول الفصيح ، فشنَّف آذانَهم كَلِمُ (الدّوش) مرحباً و داعياً إلى نهضة زراعية ، ثقافية ، اجتماعية ينتظرها ( الكتاكو) قبل المالكين للمشايع الزراعية و ثرواتها المتوقعة – حجراً بكف – .. و انتهى المؤتمر بتعيين أعيان الزراعة و من بينهم (أبو آسيا) قادةً للعمل الزراعي و اتحاد مزارعي الطياره ... أمّا الدوش فقد كانت له مسارب أخرى و كلمات مجنحة ارتوت بطين الأرض و انتشت بالذي يأتي . فقد رشحه (العمدة) لقيادة الاتحاد ، و لكنه رفض في شموخ (تربوي) و آثر العيش (مؤدباً) و مرشداً لعموم (الكتاكو) و مَن ينتجون مِن بذرٍ إنساني . و حتى فكرة حيازة مشروع مطري نواحي الطياره ، رفضها الدوش متفرغاً لمشاريعه المنتمية إلى تواريخ مهنة الأنبياء في إقتناعٍ راسخ ركوزَ النيل في رحلته السرمديه .
للنهرِ مسارٌ تاريخيٌّ صاخب ، ضجيجٌ حياتيٌ مُزبد . التيّارُ الوابليُ الفكتوري الجنوبي يدفعه إلى الأمام تجاه الشمال ، معانقاً أعشاب النيل الريّانة بالخضرة و الماء المنقّى – طبيعياً- . و (الدّيس) الشامخ كثافةً ، يتشابك غابةً من الأوراق الرفيعة الخضرة على السطح و في الجوف ، يطاوع النهرَ تيّاراً و انتباهاً ، محتضناً في أغواره البعيدة ، و أعماقه الدافئة السحيقة ، جماعاتِ السمك المتنوعةَ الطّباع .. المتباينةَ الألوان .. المتفاوتةَ الأحجام و السلوك الزعنفي .
هذا (البلطي) يأبى أن ينصاع لأوامر الأم ، فيضلُّ السبيلَ ضائعاً بين جذور العشب النيلي المنتفخ ماءً و ثباتا . و ها هنا سمكة تخترق كثافة ال (H2O) مسبِّحةً لربِّها الذي حباها فماً حادّاً أحمر اللون ، لتعزف لحنها المتفرِّدَ و تشدو بهرمونية الأحياء النيلية و سمفونية الأسماك ، إنها (خشم بنات) هذا الوسمُ الذي أطلقه عليها النيليون جنوبَ كوستي ، شمالَ تونجه على ضفاف النيل ، مروراً ب ملكال ، و فشوده ، و كدوك ، و ملوط ، و كاكا التجاريه ، والمطيمر، و جلهاك ، و كوع المنقو، و ملولو ، وليلو أماره ، و ود دكونه ، و البشاره ، والرنك ، و أبو خضره ، وبير كدوك ، و القيقر ، و الكويك ، و أم جلاله ، و هلكه ، و جوده ، و الجبلين حتى تخوم النعيم و جوري و الرديس و خور أجول و أم مهاني جنوب النيل الأبيض ، و ذلك للتشابه الواقع بين كليهما في حدة الاختراق. و على جذور (أم فوله) المسماة – بحق – وردةَ النيل ، تختبئ (البَرَده) تلكم المشحونة بدفق الحياة في فيزيائها الفاعلة، و كيمياء لسعاتها الكهربائية المخففة ، باثةً مفردات الشفاء و التعالج في الذهن الشعبي المستسلم لجازم الاعتقاد في النيل و ما يحوي من أنماط حيولات و تمائم خرافية . أما (أُكوك) هذا (القرموط) أو (القرقور) فتأبى خياشيمه التسليم لأناشيد (الصير) المهتزة دوماً - حال القلب - آن يرجُّهُ الفرحُ السخي . و حدّث عن فرس البحر و حارسه الأمين ( القرنتيه) هذا المخلوق الذي ينتسب إلى عوالم لا تعرف الانتماءَ إلى غير أعظم الأنهار في المعموره ، مطلقاً صوته – المحايد- " حُووو ، حُووو ، حُووو " ، واضعاً فكَّه على ظهر الذي يسبقه سبحاً و – عوماً- في إلفةٍ تستدعي تواريخَ المخاوف المحدقةِ بقبيلةٍ من العصر الحجري يتعاضد أفرادُها زوداً عن إرثٍ تاريخي يحاول الهرب . ثعبانُ البحر ( أم دبيبو) يعشق الطينَ و السوادَ اللّزج ، و كأنه فطن إلى أصل الخلق و قيمة الوطن الممهور بالسواد و خصوبة التمازج بين العناصر المشيمية للتراب . و على مناخيرِ سيِّد الأعماق الرحبة و الضفاف الواعدة بالتحدي التاريخي في النهر العتيق ، هذا الفتى الشائخ نيلياً( التمساح ) ينفض الطائرُ الصديقُ – من على شموخه - جناحيه من البلل انتشاءً بصحبة الملك ، و سيد النيل يضرب بذيله الأسطوري شاقاً طريقه إلى فريسة سمكية أو أخرى حيوانية بريّة . و هناك على الضفاف الخلاسية يرقد خادمُ البرِّ و البحر ( الورلُ ) هذا البرمائي الموسوم بالجبن في القاموس الشعبي ، و الممتلئ لحماً مدرّاً للسعد المفضي إلى عوالم الخصوبة في فضاءات النيليين المسكونة اعتقاداً في طاقته الجبّارة و مداه ذي الأفق اللامتناهي الإشباع .
( أنونق ) فتاةُ العشقِ النيلي المحض الهاربِ مخلِّفاً إرثَ التطلُّعِ إلى البوح الصُّراح ، و وارف الأحلام و الآمال (الورلية) في أرضٍ تستوعب (شتاته) و تشرُّده بين اليابسة و الماء .. تتماهى في لحنها الليموني العبق ، صادقةَ الابتسام مهديهً إياه للسابلة و ضالي الطريق، بطاقمِ اللُّجين الأسناني اللّبِن .. مُحبةٌ للحياة في ابتدائها المشيمي الآسر .. تؤمن بأن الجدة ( نادينق ) تتقمصها برويةٍ حتي أقصى بليدِ التَّصرُّفِ فيها آن يشاغب ذروةَ الإشراقِ فيها نغم ٌ من (ربابة) السفر المشع – ضياءً – على درب التواصل الحميم .. تقول و تفعل - بلا ريب أو تهارب - ما يعنُّ لها من بهرة حقيقةٍ تطرّز كاملَ الأحلام في أنثى حباها اللهُ عمقاً وطوقاً من جمال الروح قبل متاهات و دهاليز الجسد الفناء .. طينيةٌ الملامح و الصفات .. لا أرضَ تستوعب أحلامَها العذراء و لا سماء .. حتى (الكجور) صار يذكرها في جلساته الحميمة الاستشرافية الأودية و الأصقاع .. لها بُعدُ التفاؤلِ و انطفاءاتُ الرؤى البليدة ، و السلام .. تحمل (جرّتها) يومياً و تهاجر نحو الحياة و صخبها النيلي .. نعم تهاجر كعادة قريناتها – دوماً – ينزلقن في محبّةٍ إلى النهر و عوالمه السخية الواعدة بالانطلاق إلى مواطنِ مزامير الزمن اليحنِّ إلى حداء الأسئلة ، و الولود بالاستجابات الغارقة في اللا متناهي ، و المغيّب ، و المسكوت عنه ، و المخبأ بين صُديفاتٍ زرقٍ تمنح النيلَ معنى أن يرشق الضفافَ بالأمل الغياب .. نعم يتدحرجن إلي ضفاف إمبراطور الأنهار و هو سادرٌ في انحداره التاريخي تجاه الريح بكل ما يستطيع من دفقٍ شديد البوح ، كاملَ القناعة في التواصل (المُؤنَّسَنِ و المُحيوَنِ و المُنبَّتِ) ، كاشفاتٍ عن معانٍ تسكن الماضي ، و الحاضر ، و ما ستأتي به الصباحات جميعها .
في إحدى تلكم الصباحات الندية من بدايات أبريل بعد منتصف السبعينات - و الصيف يرسل أولى زخّات السخونة - تَصادفَ أن كان على ضفة النيل الغربية "محجوب الدوش" ، هذا الفتى ( الشندي) المنداح سودانويةً تظلل البلاد و العباد ، عابرةً ديار (الريح) لتنشر أريجها في كل الأصقاع الزولية ، مركزةً عبقها على (الصعيد) . إنه معلم تلاميذ المدرسة الابتدائية ألفَ باء التعليم النظامي ، و يائيةَ الحياة ، و الذي يذكره جميع (الود دكوناب) بكل خير و احترام و محبة .. كانت – حينها – أنونق تتدحرج إلى النهر مع صويحباتها ، تملؤها النضارةُ و ألقُ الفتوةِ و بياضُ السريرةِ سحراً من رونق ظلالٍ ذات جاذبيةٍ حوائيةِ الأصل و المنبت . ساعتها التقط الدّوشُ أولى إشاراتِ التواصل الحياتي الحميم آن شاهدها و هي ترشقُ إحدى صويحباتها بالماءِ الينزِّ رشاقةً ، مذكرةً إياه بما سجَّله الشاعرُ السودانوي الضخم – مع اختلاف مفردات المكان و الزمان ، و اتساق المآلات و فضاء النصين - (الناصر قريب الله) في إحدى قصائده :
" و فتاةٍ ثمَّ تجني ثمرَ السُّنطِ في انفرادِ الغزالِ ..
تمنحُ الغصنَ أسفلي قدميها ، و يداها في صدرِ آخرَ عالِ ..
و يظلُّ ال (...) في خفقانِ الموجِ ، و الكِشحُ مُفرِطاً في الهزالِ ..."
وهكذا ، قادته قدماه في رحلةٍ شاعريةٍ ذات جذور مشيمية إلى النيل في هذا الصباح المفارق لتواريخ مكوثه و تماهيه في القرية الأم و أهاليها ( ود دكونه ) . حيث كلَّفه العمدةُ (أبو آسيا) بإلقاء كلمة أهل المنطقة في الاجتماع التأسيسي الأول للجمعية العمومية لأصحاب مشاريع الطيارة الزراعية المطرية ، و الذي تقرّر إقامتُه بود كونه . ومنذ أن شرّفه أبو آسيا بهذه الكلمة نيابةً عنه و أهل المنطقة ، ظلت الكلماتُ تتقافز أمامه و تنفر في حيادٍ و تبلُّد جانحةٍ إلى الصمت السكون ، كفراشات تأبى الدخول إلى (جراب) مخزونه الفصيح عربياً و زوليا .. ناداها : يا كلماتُ انبتي على دربي الأخضر الفسيح ، و انسجيني لساناً يمنطق الآني و يهدي البوارَ شعاعَ الأسئلة النبيلة.. و لكن لا مجيب سوى الصدى و... و في ذلك الصباح قرر النزولَ إلى النهر مجترّاً تواريخ ( القرايه أم دق ) حينما كان تلميذاً بمدرسة (جبل أم على الوسطى) _ جنوب شندي ، شمال الجيلي _ حيث للصباح إكسيره المدرُّ للتذكُّر و صفاء الذهن ... لذا حزم نفسه نازلاً إلى النهر قبيل بزوغ شمس يوم الاجتماع ، فكانت (أنونق) ملهمةَ المؤتمرين ظلال كلماتٍ ارتجلها الدّوش ، ( فوافقَ شنٌّ طبقا ) .
تقاطرت جموعُ المحظوظين بامتلاك أرضٍ مساحتُها ألف و خمسمائة فدان زراعي في مشاريع الطياره المطريه .. كان تسعون في المائة منهم و أكثر من أبناء ( الريح) أي الشمال في القاموس السليمي ، و ما تبقى كان من نصيب أولاد (الصعيد) و من انتسب إليهم ، أي الملكية و السليم و الشلك و البرقو و الزغاوه و الفور والجعليين (علياب) وبني هلبه و سائر بطون الأنصار و مَن سار سيرهم المُتعب نحو أفقِ يتسودن .. حيث لم تُفلح نداءاتُ (أبو آسيا) لسكان القرية و ما جاورها باغتناء مشروع زراعي على أرض الطياره حتى و لو في شكل جمعيةٍ تعاونية ، مذكِّراً إياهم بما حدث لأهالي (الرنك) الأصليين من دينكا (أبلانق) و (صَبحه) و (نزّي) و (رفاعه) حينما قامت المشايعُ المطرية بأرضهم ، فلم يصيبوا منها غيرَ (الفتات) .. و حتى مَن كان منهم ذا رؤيا و بُعدِ نظر ، تهاوت محاولاتُه متهالكةً بعيداً عن الاستمرار في الزراعة ، و ذلك لتمكُّن العقل (الرعوي) من بصيلات تفكيرهم ، و غياب الحسِّ الزراعي من على أمسهم ، و تعتيم يومهم بالجهل و الركون إلى متاهات التعاضد ضد تيار الحياة الدافق بالجديد. و كما جرت العادةُ ، فإنّ أهلَ الرِّيح أصحابُ حقٍّ في الأرض – كسودانيين - ، و لكنِّ الأولوية – دائماً – تكون للقاطنين بتلكم الديار ، و لكن لا حياة لمن تنادي .. حيث يضرب الجهلُ و غيابُ الوعي التاريخيُّ بأطنابه نواحي فرقان و قرى و أشباه مدن تلكم المناطق . ونتيجةَ العوزِ (الثقافي - تنويري) لم يرعوِ اللاحقون بما حاق بالأولين منهم .. و كأننا يا (عمده) لا رحنا و لا جئنا .
عموماً ، كان الملتقى الأول لاتحاد مزارعي الطيارة تحت ظلال ثلاثِ شُجرات من (العرديب) شمالَ مُشرعِ البنطون ، جنوبَ محطة وابورات النقل النهري بود دكونه ، حيث ذُبحت البهائمُ بتنوعها من عجول و ضأن و دجاجٍ قروي .. و تنادى شبابُ القرية بكل ألوان طيفهم من ملكية و سليم و شلك و جعليين (علياب) خادمين للضيوف .. و حانت لحظةُ التشريف و القول الفصيح ، فشنَّف آذانَهم كَلِمُ (الدّوش) مرحباً و داعياً إلى نهضة زراعية ، ثقافية ، اجتماعية ينتظرها ( الكتاكو) قبل المالكين للمشايع الزراعية و ثرواتها المتوقعة – حجراً بكف – .. و انتهى المؤتمر بتعيين أعيان الزراعة و من بينهم (أبو آسيا) قادةً للعمل الزراعي و اتحاد مزارعي الطياره ... أمّا الدوش فقد كانت له مسارب أخرى و كلمات مجنحة ارتوت بطين الأرض و انتشت بالذي يأتي . فقد رشحه (العمدة) لقيادة الاتحاد ، و لكنه رفض في شموخ (تربوي) و آثر العيش (مؤدباً) و مرشداً لعموم (الكتاكو) و مَن ينتجون مِن بذرٍ إنساني . و حتى فكرة حيازة مشروع مطري نواحي الطياره ، رفضها الدوش متفرغاً لمشاريعه المنتمية إلى تواريخ مهنة الأنبياء في إقتناعٍ راسخ ركوزَ النيل في رحلته السرمديه .
اشرف بشرى إدريس- مبدع مميز
مواضيع مماثلة
» بقية أنونق ......... - منقول من سودانايل
» عرمان:- تنازل البشير للحركه سيجعله بطلا قوميا......منقول(سودانايل)
» زمن الغُنا «العولاق» ....صبح الطرب «دقداق »
» منقول
» إبحار عكس النيل.. ( روايــة بقلم : فايزة العزي )
» عرمان:- تنازل البشير للحركه سيجعله بطلا قوميا......منقول(سودانايل)
» زمن الغُنا «العولاق» ....صبح الطرب «دقداق »
» منقول
» إبحار عكس النيل.. ( روايــة بقلم : فايزة العزي )
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى