قصـــــــــــــة واقعيـــــــــــة ..رقم (13)
صفحة 1 من اصل 1
قصـــــــــــــة واقعيـــــــــــة ..رقم (13)
:: أحلام البسطاء ::
للمرة الأولى في حياتي أفكر بنشر بعض أفكاري، إنه أمر معقد وصعب، لم أتقبل الفكرة بسهولة، فما أخاف منه هو أن ينقلب الموقف ضدي بعد نشر القصة، على الرغم من عدم وجود أسماء وعناوين وأماكن، إلا إنني أتوهم بأن كل من سيقرأ القصة سيقول: إنها فلانة.. عندها سأشعر بتأثر شديد، وألوم نفسي: لماذا رضيت بأن تنشر حكايتي؟ أعذروني، فكما تعلمون بأنه يصعب على الإنسان أن يكشف أمور حياته أمام الآخرين، ولكني مضطرة لهذه المخاطرة، فقد وجدت بأنني أعيش في دائرة مغلقة، ولا يمكنني أن أحقق أي شيء من أحلامي وطموحاتي بسبب ضيق تلك الدائرة، أخيراً وبعد تردد طويل قررت أن أروي حكايتي مهما كانت الظروف.
أنا ومدينتي
أنا فتاة في السادسة والعشرين من عمري، أعيش في منطقة نائية شبه منقطعة عن أسباب الحضارة، ولكنها منطقة مميزة بطبيعة خلابة ساحرة، تجتمع فيها المرتفعات الجبلية المتوسطة الارتفاع، مع السهول الخضراء المنبسطة بشكل ساحر وخلاب، الجو فيها معتدل وخال من الرطوبة تقريباً، الطيور تلعب فيها بحرية فيشكل غناؤها مع حفيف الأشجار الصوت الوحيد الذي يمكن سماعه طوال اليوم، بالإضافة لأصوات الأغنام والماعز والبقر، وبعض السيارات التي تسير بهدوء وبغير ضجيج في تلك البقعة الساحرة، ماذا أقول؟ إنها بيئتي التي أعشقها، والتي تشكلت فيها ذكرياتي وأحلامي، المدرسة التي درست فيها، والمسجد الذي ينطلق منه الأذان بالدعوة للصلاة، وبعض الإضاءات البسيطة لأعمدة الإنارة والتي تضيء ليل مدينتنا الشاحب الذي تجتمع فيه البيوت بأهلها، فلا يخرج الناس ليلاً إلا في الضرورات الملحة، في هذا المكان ولدت، وفيه حدثت فصول حكايتي.
أنا وأهلي
والدي رحمه الله، رجل طيب بسيط، كان يعمل حارساً في المركز الصحي التابع لمنطقتنا، كنا عائلة سعيدة مستقرة، أنا وأبي وأمي وأخوتي الثلاثة، ثم تبدلت حياتنا، ورحلت السعادة وذهب الاستقرار مع رحيل الوالد، إنها إرادة الله، كان سليماً معافى لا يشكو من علة، ولكن قلبه توقف بشكل مفاجئ ولم يمهله الزمن فانتقل إلى رحمة الله، كنت وقتها بعمر السبعة أشهر، فأنا الأصغر بين أخوتي، كم تمنيت لو أتيحت لي فرصة مشاهدة أبي والتحدث معه، ولكنها إرادة ربي وأنا راضية ولله الحمد.
لم يكن سهلاً لامرأة شابة أن تبقى بلا زواج لفترة طويلة، كما هو الحال في معظم الأحيان، فقد تزوجت أمي من أحد أقربائها، وهي معتقدة بأنه الرجل الذي يستطيع أن يتحمل مسؤولية أسرتنا، فكما هو معروف في منطقتنا فإن المرأة لا تستطيع الاعتماد على نفسها والتحرك خارج البيت لتأمين احتياجات الأسرة، لذلك فإن الحل الوحيد كان في زواجها، ولكن للأسف فإن ذلك الرجل لم يكن أهلاً للمسؤولية، بل صار عبئاً جديداً، ومعاناة صعبة عاشتها أمي حتى تم طلاقها منه بعد سبعة أشهر من الزواج، وقد كانت حاملاً بأخي، الذي شكل مسؤولية جديدة على كاهلها، لأن والده إنسان سكير لا يريد أن ينفق على ولده ولا يكترث له.
هذه المرأة المسكينة وجدت صعوبات شديدة في الحياة بعد أن خسرت الجولة الثانية من حياتها الزوجية، فليس سهلاً على المرأة أن تكرر الزواج لأكثر من مرة في مجتمعنا، ولكنها الظروف هي التي تتحكم بالإنسان في مثل هذه المواضع، وقد شعرت وقتها بأنها لو كانت متعلمة وحاصلة على شهادة لكانت اعتمدت عليها في العمل والاعتماد على النفس، ولما صارت حياتها في مهب الريح، عرفت أمي بأن العلم هو الخير الحقيقي في حياة الإنسان العملية، لذلك صارت تحثنا على العلم وتحرص على تفوقنا وتبذل كل ما لديها لنحقق النجاح ونحصل على الشهادة.
على الرغم من محاولاتها المستميتة للاستمرار في الحياة بدون الحاجة للزواج مرة أخرى، إلا إن ذلك كان صعباً للغاية في ظل ظروف مجتمعنا المغلق والذي لا يعطي للمرأة الحق في التحرك خارج منزلها، لذلك قررت أمي قبول عرض الزواج الثالث الذي تقدم لها.
بعد أن تزوجت أمي للمرة الثالثة أنجبت أخوتي الثلاثة ابنتان وولد، فامتلأ البيت الصغير الذي تركه والدنا رحمه الله لنا حتى لم يعد يتسع للجميع أخوتي الثلاثة من أبي وأنا والأخ الذي ولدته من الزواج الثاني وهؤلاء الأخوة الثلاثة، فصار مجموعنا تسعة وأمنا العاشرة، ثم سهل الله أمور أخوتي الكبار فأنهوا دراستهم الجامعية ثم توظفوا وتزوجوا وانطلقوا في حياتهم الجديدة بعيداً عنا، بعد أن أصبح لكل منهم مسؤولياته وانشغالاته، فلم نعد نراهم إلا بشكل متباعد بحسب ظروفهم.
أنا وطموحاتي
أما بالنسبة لي فقد ظلت طموحاتي محبوسة ومختنقة بسبب الظروف التي مررت بها، ففي بداية المشوار تأكدت إصابتي بمرض السكري خلال فترات الدراسة، مما أعاق إمكانية استمراري وحصولي على الشهادة، لذلك بقيت في البيت بعد أن أنهيت دراستي الثانوية.
لم يكن لدينا خادمة فوقعت علي أعباء المنزل، حاولت أن أكون اليد اليمنى لأمي، حاولت أن أجعلها تعتمد علي لترتاح قليلاً، فكان الحمل أكبر من طاقتي، المنظفات أصابتني بحساسية شديدة في الجلد، وقد سقطت عدة مرات بعد أن تزحلقت بالصابون أثناء عملية التنظيف، فأصيبت ركبتي بالتلف، وكذلك ظهري، فصرت أتردد على العيادات بشكل مستمر، ثم ارتفعت نسبة السكري لدي فأصيبت شبكة عيني بتلف، مما أدى إلى خضوعي لعمليات متلاحقة في عيني حتى تحسنت حالتي بعض الشيء، ثم أجريت لي عملية في ركبتي لأتخلص من شدة الألم التي كانت توقظني طوال الليل فأجلس وأبكي لوحدي بصمت.
بعد أن تجاوزت كل الظروف الصحية الصعبة واستعدت شيئاً من عافيتي، حاولت أن أبحث عن عمل كي أساهم في مساعدة أسرتي، أمي وأخوتي، فقد وصلت الحالة إلى أسوأ وضع بسبب مصاريف علاجي الذي تم في مستشفيات خاصة نتيجة التطور الطبي في علاج العيون لديهم، وقد تعرضت أمي أيضاً لموقف صعب بسبب صدمة جديدة هي زواج زوجها من امرأة أخرى، وقد هجرها تقريباً، وصار يعطيها مصروف شهري ألف درهم فقط، وقد تخلى عن مسوؤلية أولاده ولم يعد يسأل عنهم.
كنت أتأثر لمعاناة أمي وأخوتي، أفكر بهم طوال الوقت، أتمنى أن أساعدهم ولكن قدراتي بسيطة وإمكانياتي ضعيفة، فأنا أحصل على مبلغ ثلاثة آلاف درهم من معاش والدي رحمه الله، ومع موجة الغلاء أصبحت الأمور صعبة للغاية، قدمت أوراقي للبحث عن عمل هنا وهناك ولكن لم أوفق، فمنطقتنا ضيقة ومحدودة، الوظائف فيها قليلة جداً.
أنا وحيواناتي
عندما أشعر بالإحباط وتضيق علي الحياة، أسرع إلى المزرعة، فاشعر بالراحة الكبيرة والأطمئنان، الغنم والبقر بالنسبة لي أصدقاء أحبهم ويحبونني، فبمجرد دخولي إلى المزرعة يتجهون نحوي، يتمسحون بي، أشعر بأنهم يفهمونني فأتحدث معهم عن همومي، وأنفس عن الضغوط الكبيرة التي أشعر بها.
(عبوسة) إنها إحدى بقراتنا، إنها ذكية جداً، وهي تنصت إلي باهتمام شديد، لقد وضعت أسماءً لكل البقرات المتميزات في مزرعتنا، وكذلك الغنم الذين ولدوا صغاراً واعتنيت بهم حتى كبروا أحبهم كثيراً وأناديهم بأسمائهم فيركضوا نحوي يرحبون بقدومي، أما (عبوسة) بقرتي المفضلة فهي تحب أن تنظر إلي بعينيها الواسعتين وتسمعني باهتمام كبير، فكلما تعرضت لموقف صعب، وكلما آذاني أحد، فلا استطيع أن أواجههم كي لا يزعلوا مني، فأني أذهب إلى (عبوسة) فأحكي لها حتى أتخفف من شعوري بالقهر وارتاح نفسياً فأعود لممارسة حياتي بشكل طبيعي، كل تلك الحيوانات الجميلة تأتي لتسلم علي عندما أدخل المزرعة ثم ينصرفون لشؤونهم بعد فترة بسيطة، أما (عبوسة) فهي تبقى معي لا تنصرف من أمامي حتى أتم كل حديثي معها وأسلم عليها ثم أنصرف فتنصرف هي الأخرى.
أحياناً أفكر بأن للحيوانات قدرة على الفهم، صحيح إنهم لا يتكلمون ولكنهم يحسون ويشعرون بكل ما حولهم.
دخلت آخر مرة إلى المزرعة، فتجمع حولي أكثر الموجودين، ومنهم لم يكترث لي فمسحت على ظهورهم وبدأوا بالعودة إلى ما كانوا عليه، إلا هي (عبوسة) الغالية ظلت معي متلهفة لسماع حكاياتي بصبر وأناة.
نظرت إليها ثم أطلقت حسرة شقت صدري ووجدت الدمع ينهمر من عيني بحرارة، ثم بعد صمت طويل سألتها: عبوسة!! هل تعتقدين بأن في حياتي أمل؟ أنا في السادسة والعشرين من عمري، أحلم بأن تكون لي أسرة وحياة مليئة بالأحداث الجميلة الصغيرة، كغيري من البنات، هل تعتقدين يا عبوسة بان هناك من يفكر بالارتباط بشابة تعاني من مرض السكري؟ صحيح إنه مرض يمكن التعايش معه، ولكن الرجال يخافون من تحمل المسؤولية، فهل لي أمل في أن أكون زوجة وأم؟ إنه حلم عزيز يا عبوسة، وكل شيء سهل يسير على إرادة الله سبحانه، وأنا أثق بأن ربي لن ينساني أبداً.
هل تريدين أن أخبرك عن أغلى أمنياتي يا عبوسة؟ أتمنى من كل قلبي أن أشاهد مركزاً من مراكز التسوق الكبرى التي أسمع عنها كثيراً، أتمنى أن أساعد أمي ببعض المال، أعرف بأنها تعيش ضائقة مالية صعبة، أتمنى أن أتمكن من إعطائها ما تريد من المال، أتمنى أن نعيش أنا وأمي وأخوتي في بيت جديد، نظيف ومصبوغ بألوان حلوة، ويكون لدينا أثاث جديد، أتمنى أن أساعد أخوتي وأشتري لأختي الكبرى عباءات مزركشة تلبسهن عندما تذهب إلى الأعراس، أتمنى أن أشتري لأخي هاتفا جديدا، وكنادير جديدة، ونعالا جيدا، أتمنى أن تكون لدينا سيارة نقضي فيها مشاويرنا الضرورية، أتمنى أن يتسع مخ أختي الصغيرة وتفهم الدروس بسرعة فلا تتعبني أثناء تدريسها، كما لدي أمنية كبرى يا عبوسة، وهي أن نذهب إلى العمرة، أنا وأمي وأخوتي فنقضي وقتاً طويلاً إلى جانب بيت الله العزيز، وقبر رسولنا الكريم.
وأخيراً يا عبوسة، حاولي أن تحفظي أسراري وأن تشاركيني الدعاء بتحقيق كل ما أتمناه، وتأكدي بأنني سأبقى على صحبتك ولن أتخلى عنها حتى لو تحقق لي كل ما أريد.
بعد ذلك الحديث الحميم تركت عبوسة وعدت إلى بيتي، فوجدت أمي منهمكة في عملها الذي تقوم به يومياً، إنها تقوم بعمل تشكيلات وخلطات مختلفة من (البزار) وهو أنواع من البهارات، تقوم بخلطها بعناية كي تبيعها، فتحصل على بعض المال، وأنا أيضاً أقوم بعمل الخبز والفلافل فأبيعها أيضاً كي أساهم في زيادة دخل العائلة، حياتنا تسير سيراً بطيئاً ولا أجد فسحة من الأمل فيها، لذلك قررت أن أكتب حكايتي وأتمنى من كل قلبي أن لا أجد في كتابتها إلا كل الخير، وأن تكون سبباً في سبيل تحقيق أحلامي وطموحاتي.
للمرة الأولى في حياتي أفكر بنشر بعض أفكاري، إنه أمر معقد وصعب، لم أتقبل الفكرة بسهولة، فما أخاف منه هو أن ينقلب الموقف ضدي بعد نشر القصة، على الرغم من عدم وجود أسماء وعناوين وأماكن، إلا إنني أتوهم بأن كل من سيقرأ القصة سيقول: إنها فلانة.. عندها سأشعر بتأثر شديد، وألوم نفسي: لماذا رضيت بأن تنشر حكايتي؟ أعذروني، فكما تعلمون بأنه يصعب على الإنسان أن يكشف أمور حياته أمام الآخرين، ولكني مضطرة لهذه المخاطرة، فقد وجدت بأنني أعيش في دائرة مغلقة، ولا يمكنني أن أحقق أي شيء من أحلامي وطموحاتي بسبب ضيق تلك الدائرة، أخيراً وبعد تردد طويل قررت أن أروي حكايتي مهما كانت الظروف.
أنا ومدينتي
أنا فتاة في السادسة والعشرين من عمري، أعيش في منطقة نائية شبه منقطعة عن أسباب الحضارة، ولكنها منطقة مميزة بطبيعة خلابة ساحرة، تجتمع فيها المرتفعات الجبلية المتوسطة الارتفاع، مع السهول الخضراء المنبسطة بشكل ساحر وخلاب، الجو فيها معتدل وخال من الرطوبة تقريباً، الطيور تلعب فيها بحرية فيشكل غناؤها مع حفيف الأشجار الصوت الوحيد الذي يمكن سماعه طوال اليوم، بالإضافة لأصوات الأغنام والماعز والبقر، وبعض السيارات التي تسير بهدوء وبغير ضجيج في تلك البقعة الساحرة، ماذا أقول؟ إنها بيئتي التي أعشقها، والتي تشكلت فيها ذكرياتي وأحلامي، المدرسة التي درست فيها، والمسجد الذي ينطلق منه الأذان بالدعوة للصلاة، وبعض الإضاءات البسيطة لأعمدة الإنارة والتي تضيء ليل مدينتنا الشاحب الذي تجتمع فيه البيوت بأهلها، فلا يخرج الناس ليلاً إلا في الضرورات الملحة، في هذا المكان ولدت، وفيه حدثت فصول حكايتي.
أنا وأهلي
والدي رحمه الله، رجل طيب بسيط، كان يعمل حارساً في المركز الصحي التابع لمنطقتنا، كنا عائلة سعيدة مستقرة، أنا وأبي وأمي وأخوتي الثلاثة، ثم تبدلت حياتنا، ورحلت السعادة وذهب الاستقرار مع رحيل الوالد، إنها إرادة الله، كان سليماً معافى لا يشكو من علة، ولكن قلبه توقف بشكل مفاجئ ولم يمهله الزمن فانتقل إلى رحمة الله، كنت وقتها بعمر السبعة أشهر، فأنا الأصغر بين أخوتي، كم تمنيت لو أتيحت لي فرصة مشاهدة أبي والتحدث معه، ولكنها إرادة ربي وأنا راضية ولله الحمد.
لم يكن سهلاً لامرأة شابة أن تبقى بلا زواج لفترة طويلة، كما هو الحال في معظم الأحيان، فقد تزوجت أمي من أحد أقربائها، وهي معتقدة بأنه الرجل الذي يستطيع أن يتحمل مسؤولية أسرتنا، فكما هو معروف في منطقتنا فإن المرأة لا تستطيع الاعتماد على نفسها والتحرك خارج البيت لتأمين احتياجات الأسرة، لذلك فإن الحل الوحيد كان في زواجها، ولكن للأسف فإن ذلك الرجل لم يكن أهلاً للمسؤولية، بل صار عبئاً جديداً، ومعاناة صعبة عاشتها أمي حتى تم طلاقها منه بعد سبعة أشهر من الزواج، وقد كانت حاملاً بأخي، الذي شكل مسؤولية جديدة على كاهلها، لأن والده إنسان سكير لا يريد أن ينفق على ولده ولا يكترث له.
هذه المرأة المسكينة وجدت صعوبات شديدة في الحياة بعد أن خسرت الجولة الثانية من حياتها الزوجية، فليس سهلاً على المرأة أن تكرر الزواج لأكثر من مرة في مجتمعنا، ولكنها الظروف هي التي تتحكم بالإنسان في مثل هذه المواضع، وقد شعرت وقتها بأنها لو كانت متعلمة وحاصلة على شهادة لكانت اعتمدت عليها في العمل والاعتماد على النفس، ولما صارت حياتها في مهب الريح، عرفت أمي بأن العلم هو الخير الحقيقي في حياة الإنسان العملية، لذلك صارت تحثنا على العلم وتحرص على تفوقنا وتبذل كل ما لديها لنحقق النجاح ونحصل على الشهادة.
على الرغم من محاولاتها المستميتة للاستمرار في الحياة بدون الحاجة للزواج مرة أخرى، إلا إن ذلك كان صعباً للغاية في ظل ظروف مجتمعنا المغلق والذي لا يعطي للمرأة الحق في التحرك خارج منزلها، لذلك قررت أمي قبول عرض الزواج الثالث الذي تقدم لها.
بعد أن تزوجت أمي للمرة الثالثة أنجبت أخوتي الثلاثة ابنتان وولد، فامتلأ البيت الصغير الذي تركه والدنا رحمه الله لنا حتى لم يعد يتسع للجميع أخوتي الثلاثة من أبي وأنا والأخ الذي ولدته من الزواج الثاني وهؤلاء الأخوة الثلاثة، فصار مجموعنا تسعة وأمنا العاشرة، ثم سهل الله أمور أخوتي الكبار فأنهوا دراستهم الجامعية ثم توظفوا وتزوجوا وانطلقوا في حياتهم الجديدة بعيداً عنا، بعد أن أصبح لكل منهم مسؤولياته وانشغالاته، فلم نعد نراهم إلا بشكل متباعد بحسب ظروفهم.
أنا وطموحاتي
أما بالنسبة لي فقد ظلت طموحاتي محبوسة ومختنقة بسبب الظروف التي مررت بها، ففي بداية المشوار تأكدت إصابتي بمرض السكري خلال فترات الدراسة، مما أعاق إمكانية استمراري وحصولي على الشهادة، لذلك بقيت في البيت بعد أن أنهيت دراستي الثانوية.
لم يكن لدينا خادمة فوقعت علي أعباء المنزل، حاولت أن أكون اليد اليمنى لأمي، حاولت أن أجعلها تعتمد علي لترتاح قليلاً، فكان الحمل أكبر من طاقتي، المنظفات أصابتني بحساسية شديدة في الجلد، وقد سقطت عدة مرات بعد أن تزحلقت بالصابون أثناء عملية التنظيف، فأصيبت ركبتي بالتلف، وكذلك ظهري، فصرت أتردد على العيادات بشكل مستمر، ثم ارتفعت نسبة السكري لدي فأصيبت شبكة عيني بتلف، مما أدى إلى خضوعي لعمليات متلاحقة في عيني حتى تحسنت حالتي بعض الشيء، ثم أجريت لي عملية في ركبتي لأتخلص من شدة الألم التي كانت توقظني طوال الليل فأجلس وأبكي لوحدي بصمت.
بعد أن تجاوزت كل الظروف الصحية الصعبة واستعدت شيئاً من عافيتي، حاولت أن أبحث عن عمل كي أساهم في مساعدة أسرتي، أمي وأخوتي، فقد وصلت الحالة إلى أسوأ وضع بسبب مصاريف علاجي الذي تم في مستشفيات خاصة نتيجة التطور الطبي في علاج العيون لديهم، وقد تعرضت أمي أيضاً لموقف صعب بسبب صدمة جديدة هي زواج زوجها من امرأة أخرى، وقد هجرها تقريباً، وصار يعطيها مصروف شهري ألف درهم فقط، وقد تخلى عن مسوؤلية أولاده ولم يعد يسأل عنهم.
كنت أتأثر لمعاناة أمي وأخوتي، أفكر بهم طوال الوقت، أتمنى أن أساعدهم ولكن قدراتي بسيطة وإمكانياتي ضعيفة، فأنا أحصل على مبلغ ثلاثة آلاف درهم من معاش والدي رحمه الله، ومع موجة الغلاء أصبحت الأمور صعبة للغاية، قدمت أوراقي للبحث عن عمل هنا وهناك ولكن لم أوفق، فمنطقتنا ضيقة ومحدودة، الوظائف فيها قليلة جداً.
أنا وحيواناتي
عندما أشعر بالإحباط وتضيق علي الحياة، أسرع إلى المزرعة، فاشعر بالراحة الكبيرة والأطمئنان، الغنم والبقر بالنسبة لي أصدقاء أحبهم ويحبونني، فبمجرد دخولي إلى المزرعة يتجهون نحوي، يتمسحون بي، أشعر بأنهم يفهمونني فأتحدث معهم عن همومي، وأنفس عن الضغوط الكبيرة التي أشعر بها.
(عبوسة) إنها إحدى بقراتنا، إنها ذكية جداً، وهي تنصت إلي باهتمام شديد، لقد وضعت أسماءً لكل البقرات المتميزات في مزرعتنا، وكذلك الغنم الذين ولدوا صغاراً واعتنيت بهم حتى كبروا أحبهم كثيراً وأناديهم بأسمائهم فيركضوا نحوي يرحبون بقدومي، أما (عبوسة) بقرتي المفضلة فهي تحب أن تنظر إلي بعينيها الواسعتين وتسمعني باهتمام كبير، فكلما تعرضت لموقف صعب، وكلما آذاني أحد، فلا استطيع أن أواجههم كي لا يزعلوا مني، فأني أذهب إلى (عبوسة) فأحكي لها حتى أتخفف من شعوري بالقهر وارتاح نفسياً فأعود لممارسة حياتي بشكل طبيعي، كل تلك الحيوانات الجميلة تأتي لتسلم علي عندما أدخل المزرعة ثم ينصرفون لشؤونهم بعد فترة بسيطة، أما (عبوسة) فهي تبقى معي لا تنصرف من أمامي حتى أتم كل حديثي معها وأسلم عليها ثم أنصرف فتنصرف هي الأخرى.
أحياناً أفكر بأن للحيوانات قدرة على الفهم، صحيح إنهم لا يتكلمون ولكنهم يحسون ويشعرون بكل ما حولهم.
دخلت آخر مرة إلى المزرعة، فتجمع حولي أكثر الموجودين، ومنهم لم يكترث لي فمسحت على ظهورهم وبدأوا بالعودة إلى ما كانوا عليه، إلا هي (عبوسة) الغالية ظلت معي متلهفة لسماع حكاياتي بصبر وأناة.
نظرت إليها ثم أطلقت حسرة شقت صدري ووجدت الدمع ينهمر من عيني بحرارة، ثم بعد صمت طويل سألتها: عبوسة!! هل تعتقدين بأن في حياتي أمل؟ أنا في السادسة والعشرين من عمري، أحلم بأن تكون لي أسرة وحياة مليئة بالأحداث الجميلة الصغيرة، كغيري من البنات، هل تعتقدين يا عبوسة بان هناك من يفكر بالارتباط بشابة تعاني من مرض السكري؟ صحيح إنه مرض يمكن التعايش معه، ولكن الرجال يخافون من تحمل المسؤولية، فهل لي أمل في أن أكون زوجة وأم؟ إنه حلم عزيز يا عبوسة، وكل شيء سهل يسير على إرادة الله سبحانه، وأنا أثق بأن ربي لن ينساني أبداً.
هل تريدين أن أخبرك عن أغلى أمنياتي يا عبوسة؟ أتمنى من كل قلبي أن أشاهد مركزاً من مراكز التسوق الكبرى التي أسمع عنها كثيراً، أتمنى أن أساعد أمي ببعض المال، أعرف بأنها تعيش ضائقة مالية صعبة، أتمنى أن أتمكن من إعطائها ما تريد من المال، أتمنى أن نعيش أنا وأمي وأخوتي في بيت جديد، نظيف ومصبوغ بألوان حلوة، ويكون لدينا أثاث جديد، أتمنى أن أساعد أخوتي وأشتري لأختي الكبرى عباءات مزركشة تلبسهن عندما تذهب إلى الأعراس، أتمنى أن أشتري لأخي هاتفا جديدا، وكنادير جديدة، ونعالا جيدا، أتمنى أن تكون لدينا سيارة نقضي فيها مشاويرنا الضرورية، أتمنى أن يتسع مخ أختي الصغيرة وتفهم الدروس بسرعة فلا تتعبني أثناء تدريسها، كما لدي أمنية كبرى يا عبوسة، وهي أن نذهب إلى العمرة، أنا وأمي وأخوتي فنقضي وقتاً طويلاً إلى جانب بيت الله العزيز، وقبر رسولنا الكريم.
وأخيراً يا عبوسة، حاولي أن تحفظي أسراري وأن تشاركيني الدعاء بتحقيق كل ما أتمناه، وتأكدي بأنني سأبقى على صحبتك ولن أتخلى عنها حتى لو تحقق لي كل ما أريد.
بعد ذلك الحديث الحميم تركت عبوسة وعدت إلى بيتي، فوجدت أمي منهمكة في عملها الذي تقوم به يومياً، إنها تقوم بعمل تشكيلات وخلطات مختلفة من (البزار) وهو أنواع من البهارات، تقوم بخلطها بعناية كي تبيعها، فتحصل على بعض المال، وأنا أيضاً أقوم بعمل الخبز والفلافل فأبيعها أيضاً كي أساهم في زيادة دخل العائلة، حياتنا تسير سيراً بطيئاً ولا أجد فسحة من الأمل فيها، لذلك قررت أن أكتب حكايتي وأتمنى من كل قلبي أن لا أجد في كتابتها إلا كل الخير، وأن تكون سبباً في سبيل تحقيق أحلامي وطموحاتي.
عثمان محمد يعقوب شاويش- مشرف منتدى شخصيات من ابى جبيهه
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى