عن الأنفاق والجدار والمسكوت عليه من الأسرار – فهمي هويدي
صفحة 1 من اصل 1
عن الأنفاق والجدار والمسكوت عليه من الأسرار – فهمي هويدي
عن الأنفاق والجدار والمسكوت عليه من الأسرار – فهمي هويدي
لا بأس من وقفة مع بعض مقولات «المصريين الجدد»، الذين استنفرهم ما كتبته عنهم في الأسبوع الماضي، فاستبسلوا في تلبيس الحق بالباطل، ولم تسعفهم أوراق التوت التي استخدموها لستر ما انكشف من عورات.
(1)
كنت قد تحدثت عن أولئك النفر من الناس الذين أفرزتهم أجواء الانحسار والانكسار التي سادت في السنوات الأخيرة، فتشوه إدراكهم حتى أصبحوا كارهين لمقومات انتمائنا وتطلعات أحلامنا.
ومن ثم تبنوا منظومة قيم مناقضة لما تعارفت عليه الجماعة الوطنية المصرية وبلورة خطابها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي،
لم أخف أن ما كتبته كان متأثرا بأصداء الهجوم على الانتماء العربي بسبب أزمة مباراة مصر والجزائر، والتجريح الذي أصاب الملف الفلسطيني، والمقاومة بشكل عام،
الأمر الذي سوغ الاشتراك في حصار غزة ثم السعي لإحكام ذلك الحصار من خلال إقامة الجدار الفولاذي العازل.
ولأن سياق المقال كان يتحدث عن أحداث وأجواء العام المنصرم، فإنني تطرقت إلى منظومة القيم السلبية الأخرى التي تجلت في خطاب اولئك «الجدد»، متصورا أن ذلك يسلط أضواء إضافية من زاوية مغايرة على صورة العام وحصيلته.
بعض الذين على رأسهم «بطحة» تطوعوا بالرد.
ولأن موضوع الجدار الفولاذي هو حديث الساعة في مصر على الأقل، فإنهم اتخذوا منه قاعدة ليس فقط لهدم الفكرة التي عرضتها، ولكن أيضا لهدم من قال بها أو أيدها.
ولجأوا في ذلك إلى التخويف والتكفير تارة،
وإلى الكذب والتدليس تارة أخرى،
وإلى تغطية ذلك بالعناوين الكبيرة، مثل السيادة والكرامة الوطنية والمصالح العليا والأمن القومي، تارة ثالثة،
ولأنهم لم يلجأوا إلى الإسفاف والبذاءات التي يستخدمها بعض البلطجية الذين انتسبوا إلى مهنة الصحافة،
وإنما استخدموا خفة اليد التي يلجأ إليها النشالون الأذكياء والظرفاء، فإن ذلك شجعني على الرد على أطروحاتهم وأخذها على محمل الجد، تقديرا لأدبهم وظرفهم.
(2)
قرأت لأحدهم كلاما اعتبره دفاعا عن مصر، في مدخل لا يخلو من تدليس، حيث افترض أن مصر هي السياسات الراهنة وأن الاختلاف حول هذه السياسات هو تجريح لمصر ونيل من مقامها.
ولأنه أحد الوكلاء «الحصريين» لمصر الراهنة، فقد وجد أن «الواجب» يفرض عليه أن ينبري للدفاع عنها، وفي نص المرافعة التي نشرت يوم السبت الماضى 9/1 ركز صاحبنا على النقاط التالية:
- إن مشكلة مصر دائما لم تكن مع أعدائها «التي كانت قادرة على التعامل معهم»، وإنما كانت مع أصدقائها وأشقائها (العرب؟)، الذين ظل التعامل معهم ملتبسا دائما وقائما على «المناورة والخداع» (!).
- إن الرئيس عبدالناصر أقدم بعد الغارة الإسرائيلية على غزة في عام 1955 على اعتقال سياسيين ومفكرين ومناضلين «حتى لا يستدرج أي منهم مصر إلى معركة لم تخترها ولم تحدد هي مكانها وتوقيتها» - في إشارة تفوح منها رائحة إما التلويح أو التحريض أو التخويف من إمكانية تكرار «السابقة» مع الناقدين الحاليين.
- النقطة الثالثة والأهم في المرافعة انها لجأت إلى الطعن في ولاء وانتماء الناقدين.
فوصفتهم تارة بأنهم لا يجدون بأسا في التفريط بالمصالح المصرية،
وبأن «أيديولوجيات مختلفة دفعتهم للتخلي عن مصر ومصالحها» تارة أخرى.
وفي موضع ثالث ذكر أنهم «يضعون مصر في مؤخرة اهتماماتهم، ويضعون كل ما عداها في المقدمة، من طهران إلى غزة، وهي أوصاف تخرج الناقدين لفكرة الجدار وشككوا في مراميه من الملة الوطنية.
عبر عن الفكرة ذاتها في برنامج تليفزيوني أحد الجهابذة الذين يستضافون كثيرا هذه الأيام، ويقدم بحسبانه من الخبراء الأمنيين، إذ سمعته يقول إن الذين انتقدوا الجدار «ليسوا مصريين» الأمر الذي لا يشكك فقط في وطنيتهم، ولكنه يعد أيضا من قبيل التكفير السياسي والإرهاب الفكري.
- بعد التبكيت والتخويف والتخوين أوردت المرافعة سبعة انتقادات لمشروع الجدار، كان الرد عليها طريفا للغاية، ذلك أن الرد لم يتجاوز حدود النفي، دون تقديم أي حجة مقابلة أو معلومة تؤيد وجهة النظر المضادة.
ففي مواجهة انتقادات رأت أن الجدار بمنزلة عقاب لحماس لرفضها الاستجابة للطلبات المصرية، أو أنه يعبر عن التجاوب مع السياسات الإسرائيلية، أو أنه ضمان للأمن الإسرائيلي أو تمهيد لضربة إسرائيلية جديدة، أو أنه جزء من صفقة توريث السلطة في مصر أو. أو..إلخ،
فإن هذه الادعاءات قوبلت بمجرد الاستنكار الذي لا يقنع أحدا، ويفتح الباب لاحتمال تأييد الادعاء وليس استبعاده.
(3)
الشيء المحدد الوحيد الذي جرى الإلحاح عليه أكثر من مرة وهو أن الأنفاق مثلت اختراقا للحدود المصرية واعتداء على سيادة البلد، وأنها استخدمت في تهريب السلاح وأدوات العنف، وتهريب وتدريب الإرهابيين، وإن إقامة الجدار استهدفت تأمين الحدود المصرية من التهديدات القادمة من غزة. من ثم فهي مجرد إنشاءات حدودية وتحصينات دفاعية وليست هجومية ارتأتها مصر استنادها إلى حقها المشروع في الدفاع عن سيادتها وأمنها القومي.
هذا الكلام يعد نموذجا للتدليس وابتذالا للمعاني الكبيرة المتمثلة في السيادة والأمن القومي والمصالح العليا.
ذلك أن الأنفاق لم تظهر كقضية إلا بعد فرض الحصار على غزة وارتفاع نبرة شكوى الإسرائيليين وانتقادهم، لسبب جوهري هو أنها كانت أحد أسلحة المقاومة التي ابتدعها الفلسطينيون وحفروها باظافرهم لتحدي الحصار وإفشاله. لذلك فإنها كانت مشكلة لإسرائيل وليس لمصر.
الكلام عن استخدام الأنفاق في تهريب السلاح وأدوات العنف أو تهريب الإرهابيين كذب وافتراء لا أساس له من الصحة.
هذا هو رأي الدكتور صلاح البردويل رئيس الدائرة الإعلامية في حركة حماس الذي قال إن ما بين 30 و%35 من الاحتياجات المعيشية للقطاع ظلت تأتي عبر الأنفاق.
فمن خلالها تدخل إلى القطاع بعض مواد البناء التي تمنعها إسرائيل مثل الزجاج والأخشاب والألومنيوم.
كما تتوفر الأقمشة والمواد البلاستيكية ومواد التنظيف،
وكل مستلزمات المدارس من كتب وكراريس وأدوات مدرسية،
كما أن كل ما يدخل القطاع من بنزين وسولار يأتي من مصر عبر الأنفاق.
ذلك غير قطع غيار السيارات والمواد الغذائية التي تشمل المعلبات والفواكه وحليب الأطفال.
(للعلم: قيمة البضائع التي تدخل سنويا عبر الانفاق تقدر بمليار دولار تنعش اسواق رفح والعريش).
ان سد الأنفاق يعني خنق القطاع وحرمانه من كل ما سبق. اذ ستتوقف الدراسة وحركة ترميم المباني وستصاب كل سيارات القطاع بالشلل، ولن يجد الناس احتياجاتهم من الألبسة والأحذية أو حليب الأطفال... إلخ.
وهذا هو «الإرهاب» الذي يتحدث البعض عن ضرورة إيقافه، ويصورونه بحسبانه مصدرا لتهديد الأمن القومي المصري.
هل هذا يبرر اختراق الحدود وانتهاك السيادة؟ قطعا لا،
ولكنه من الناحية الأخلاقية يعد من الضرورات التي تبيح المحظورات.
والتعامل الأمثل مع هذه الضرورة يكون برفع الحصار لتوفير احتياجات المحاصرين من خلال معبر رفح، الذي ينبغي أن يعامل كأي معبر آخر يخضع لإشراف مصر ورقابتها، في السلوم أو نويبع.
ولا محل للاحتجاج هنا باتفاقات لم تكن مصر طرفا فيها، كما لا ينبغي ألا يستخدم الحصار وسيلة للي ذراع حماس وإخضاعها لرئاسة السلطة في رام الله، لأن الشعب الفلسطيني في القطاع لا ينبغي أن يرتهن لكي يحل ذلك الخلاف المعقد بين أنصار التسوية والتفريط وبين دعاة الممانعة والمقاومة.
وفي القانون الدولي الإنساني واتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر تجويع المدنيين، سند قوي للحل الذي ندعو اليه، يعلو فوق أي اتفاق آخر، وهو مما يدعم موقف مصر إذا أرادت أن تحل مشكلة الأنفاق من جذورها، بحيث تسمح بتوفير احتياجات الناس بصورة إنسانية عادية ومنتظمة.
(4)
إن المرء ليستغرب أن تبتذل فكرة أمن مصر القومي، بحث تعد الأنفاق الفلسطينية تهديدا لذلك الأمن، في حين لا تعد كذلك 200 رأس ذرية تخزنها إسرائيل.
كما يستغرب ذلك الاحتجاج ضد الأنفاق بالسيادة واختراق الحدود المصرية، بينما يتم السكوت على الاعتداء شبه المنظم على السيادة المصرية من جانب إسرائيل التي لا تتوقف غاراتها على الحدود لتدمير الأنفاق.
وهي غارات تمثل أيضا انتهاكا لاتفاقية السلام التي نصت على اعتبار منطقة الحدود المشتركة منزوعة السلاح، في حين حولها الإسرائيليون إلى مسرح للعمليات العسكرية.
إن «وطنية» المصريين الجدد الذين تبلغ بهم الجرأة حد إعطائنا درسا في الغيرة على مصر والحدب على مصالحها العليا، لا ترى في طموحات إسرائيل خطرا على أمن البلد، ولا في جرائمها ما يستحق التنويه فضلا عن الاستنكار، لكنها لا ترى التهديد أو الخطر إلا في توفير كراريس المدارس وعلب الحليب وغيرها من الاحتياجات الأساسية إلى المحاصرين في غزة.
إن الصمت المريب عن كل اعتداءات وانتهاكات إسرائيل للحدود المصرية لا يعادله إلا التجاهل التام لقصة الجدار والمعلومات المثيرة التي تتناثر حوله،
ومن المفارقات أن هذا الموضوع الذي يثير الآن صخباً وجدلا شديدين في مصر، ظل سرا محاطا بالكتمان لعدة أشهر، إلى أن فضحته صحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية، حين تحدثت عن الأعمال الجارية على الحدود، وعن مواصفات ألواح الصلب التي تصنع في أمريكا لكي تدفن في الأرض على عمق ثلاثين مترا، وتشكل الحاجز الفولاذي المطلوب.
وعلى أهمية تلك المعلومات إلا أنها لم تشر إلى التفاصيل التي تسربت تباعا في وقت لاحق. من تلك المعلومات أن إقامة الجدار قرار أمريكي -إسرائيلي جاء تنفيذا لاتفاق كان آخر ما وقعته في نهاية العام الماضي وزيرتا الخارجية في الولايات المتحدة وإسرائيل (كونداليزا رايس وتسيبي ليفني).
وكان إنجاز ذلك الاتفاق أحد الشروط التي أملتها إسرائيل على واشنطن قبل انسحابها من غزة، فيما وصف بأنه «تنظيف للطاولة» قبل تسلم الإدارة الأمريكية الجديدة،
وقد أغضب ذلك مصر وقتذاك، التي احتجت على اتفاق الدولتين على إقامة السور الفولاذي على أراضيها، الأمر الذي يعد اعتداء صارخا على سيادتها. ولكن «التفاهمات» اللاحقة امتصت الغضب وأدت إلى تنفيذ الاتفاق كما أرادته اسرائيل واتفقت عليه الدولتان.
من المعلومات التي تسربت أيضا أن مركز الأبحاث الهندسية والتنموية التابع للجيش الأمريكي هو الذي أعد جميع المواصفات الفنية للمشروع، وقد تعاقد على تنفيذها مع شركة في ولاية مسيسبي، تخصصت في صناعة الألواح الفولاذية العازلة، سبق لها أن نفذت مشروعات مماثلة على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك.
ذلك كله مسكوت عليه وتجرى تغطيته بالحيل البلاغية والشعارات الرنانة التي تردد الهتاف لسيادة مصر ومصالحها العليا وأمنها القومي، في حين تهدد الناقدين وتطعن في وطنيتهم ومصريتهم.
لقد عددت فيما كتبت قبلا ما تصورته مواصفات للمصريين الجدد وموقفهم إزاء القيم السياسية للجماعة الوطنية في مصر،
لكن النموذج الذي بين ايدينا سلط الضوء على موقفهم من القيم الاخلاقية الذي بات يحتاج الى دراسة مستقلة، لأن الجرأة على الاحتيال والتدليس التي تكشفت ليست في مقدور كل أحد
لا بأس من وقفة مع بعض مقولات «المصريين الجدد»، الذين استنفرهم ما كتبته عنهم في الأسبوع الماضي، فاستبسلوا في تلبيس الحق بالباطل، ولم تسعفهم أوراق التوت التي استخدموها لستر ما انكشف من عورات.
(1)
كنت قد تحدثت عن أولئك النفر من الناس الذين أفرزتهم أجواء الانحسار والانكسار التي سادت في السنوات الأخيرة، فتشوه إدراكهم حتى أصبحوا كارهين لمقومات انتمائنا وتطلعات أحلامنا.
ومن ثم تبنوا منظومة قيم مناقضة لما تعارفت عليه الجماعة الوطنية المصرية وبلورة خطابها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي،
لم أخف أن ما كتبته كان متأثرا بأصداء الهجوم على الانتماء العربي بسبب أزمة مباراة مصر والجزائر، والتجريح الذي أصاب الملف الفلسطيني، والمقاومة بشكل عام،
الأمر الذي سوغ الاشتراك في حصار غزة ثم السعي لإحكام ذلك الحصار من خلال إقامة الجدار الفولاذي العازل.
ولأن سياق المقال كان يتحدث عن أحداث وأجواء العام المنصرم، فإنني تطرقت إلى منظومة القيم السلبية الأخرى التي تجلت في خطاب اولئك «الجدد»، متصورا أن ذلك يسلط أضواء إضافية من زاوية مغايرة على صورة العام وحصيلته.
بعض الذين على رأسهم «بطحة» تطوعوا بالرد.
ولأن موضوع الجدار الفولاذي هو حديث الساعة في مصر على الأقل، فإنهم اتخذوا منه قاعدة ليس فقط لهدم الفكرة التي عرضتها، ولكن أيضا لهدم من قال بها أو أيدها.
ولجأوا في ذلك إلى التخويف والتكفير تارة،
وإلى الكذب والتدليس تارة أخرى،
وإلى تغطية ذلك بالعناوين الكبيرة، مثل السيادة والكرامة الوطنية والمصالح العليا والأمن القومي، تارة ثالثة،
ولأنهم لم يلجأوا إلى الإسفاف والبذاءات التي يستخدمها بعض البلطجية الذين انتسبوا إلى مهنة الصحافة،
وإنما استخدموا خفة اليد التي يلجأ إليها النشالون الأذكياء والظرفاء، فإن ذلك شجعني على الرد على أطروحاتهم وأخذها على محمل الجد، تقديرا لأدبهم وظرفهم.
(2)
قرأت لأحدهم كلاما اعتبره دفاعا عن مصر، في مدخل لا يخلو من تدليس، حيث افترض أن مصر هي السياسات الراهنة وأن الاختلاف حول هذه السياسات هو تجريح لمصر ونيل من مقامها.
ولأنه أحد الوكلاء «الحصريين» لمصر الراهنة، فقد وجد أن «الواجب» يفرض عليه أن ينبري للدفاع عنها، وفي نص المرافعة التي نشرت يوم السبت الماضى 9/1 ركز صاحبنا على النقاط التالية:
- إن مشكلة مصر دائما لم تكن مع أعدائها «التي كانت قادرة على التعامل معهم»، وإنما كانت مع أصدقائها وأشقائها (العرب؟)، الذين ظل التعامل معهم ملتبسا دائما وقائما على «المناورة والخداع» (!).
- إن الرئيس عبدالناصر أقدم بعد الغارة الإسرائيلية على غزة في عام 1955 على اعتقال سياسيين ومفكرين ومناضلين «حتى لا يستدرج أي منهم مصر إلى معركة لم تخترها ولم تحدد هي مكانها وتوقيتها» - في إشارة تفوح منها رائحة إما التلويح أو التحريض أو التخويف من إمكانية تكرار «السابقة» مع الناقدين الحاليين.
- النقطة الثالثة والأهم في المرافعة انها لجأت إلى الطعن في ولاء وانتماء الناقدين.
فوصفتهم تارة بأنهم لا يجدون بأسا في التفريط بالمصالح المصرية،
وبأن «أيديولوجيات مختلفة دفعتهم للتخلي عن مصر ومصالحها» تارة أخرى.
وفي موضع ثالث ذكر أنهم «يضعون مصر في مؤخرة اهتماماتهم، ويضعون كل ما عداها في المقدمة، من طهران إلى غزة، وهي أوصاف تخرج الناقدين لفكرة الجدار وشككوا في مراميه من الملة الوطنية.
عبر عن الفكرة ذاتها في برنامج تليفزيوني أحد الجهابذة الذين يستضافون كثيرا هذه الأيام، ويقدم بحسبانه من الخبراء الأمنيين، إذ سمعته يقول إن الذين انتقدوا الجدار «ليسوا مصريين» الأمر الذي لا يشكك فقط في وطنيتهم، ولكنه يعد أيضا من قبيل التكفير السياسي والإرهاب الفكري.
- بعد التبكيت والتخويف والتخوين أوردت المرافعة سبعة انتقادات لمشروع الجدار، كان الرد عليها طريفا للغاية، ذلك أن الرد لم يتجاوز حدود النفي، دون تقديم أي حجة مقابلة أو معلومة تؤيد وجهة النظر المضادة.
ففي مواجهة انتقادات رأت أن الجدار بمنزلة عقاب لحماس لرفضها الاستجابة للطلبات المصرية، أو أنه يعبر عن التجاوب مع السياسات الإسرائيلية، أو أنه ضمان للأمن الإسرائيلي أو تمهيد لضربة إسرائيلية جديدة، أو أنه جزء من صفقة توريث السلطة في مصر أو. أو..إلخ،
فإن هذه الادعاءات قوبلت بمجرد الاستنكار الذي لا يقنع أحدا، ويفتح الباب لاحتمال تأييد الادعاء وليس استبعاده.
(3)
الشيء المحدد الوحيد الذي جرى الإلحاح عليه أكثر من مرة وهو أن الأنفاق مثلت اختراقا للحدود المصرية واعتداء على سيادة البلد، وأنها استخدمت في تهريب السلاح وأدوات العنف، وتهريب وتدريب الإرهابيين، وإن إقامة الجدار استهدفت تأمين الحدود المصرية من التهديدات القادمة من غزة. من ثم فهي مجرد إنشاءات حدودية وتحصينات دفاعية وليست هجومية ارتأتها مصر استنادها إلى حقها المشروع في الدفاع عن سيادتها وأمنها القومي.
هذا الكلام يعد نموذجا للتدليس وابتذالا للمعاني الكبيرة المتمثلة في السيادة والأمن القومي والمصالح العليا.
ذلك أن الأنفاق لم تظهر كقضية إلا بعد فرض الحصار على غزة وارتفاع نبرة شكوى الإسرائيليين وانتقادهم، لسبب جوهري هو أنها كانت أحد أسلحة المقاومة التي ابتدعها الفلسطينيون وحفروها باظافرهم لتحدي الحصار وإفشاله. لذلك فإنها كانت مشكلة لإسرائيل وليس لمصر.
الكلام عن استخدام الأنفاق في تهريب السلاح وأدوات العنف أو تهريب الإرهابيين كذب وافتراء لا أساس له من الصحة.
هذا هو رأي الدكتور صلاح البردويل رئيس الدائرة الإعلامية في حركة حماس الذي قال إن ما بين 30 و%35 من الاحتياجات المعيشية للقطاع ظلت تأتي عبر الأنفاق.
فمن خلالها تدخل إلى القطاع بعض مواد البناء التي تمنعها إسرائيل مثل الزجاج والأخشاب والألومنيوم.
كما تتوفر الأقمشة والمواد البلاستيكية ومواد التنظيف،
وكل مستلزمات المدارس من كتب وكراريس وأدوات مدرسية،
كما أن كل ما يدخل القطاع من بنزين وسولار يأتي من مصر عبر الأنفاق.
ذلك غير قطع غيار السيارات والمواد الغذائية التي تشمل المعلبات والفواكه وحليب الأطفال.
(للعلم: قيمة البضائع التي تدخل سنويا عبر الانفاق تقدر بمليار دولار تنعش اسواق رفح والعريش).
ان سد الأنفاق يعني خنق القطاع وحرمانه من كل ما سبق. اذ ستتوقف الدراسة وحركة ترميم المباني وستصاب كل سيارات القطاع بالشلل، ولن يجد الناس احتياجاتهم من الألبسة والأحذية أو حليب الأطفال... إلخ.
وهذا هو «الإرهاب» الذي يتحدث البعض عن ضرورة إيقافه، ويصورونه بحسبانه مصدرا لتهديد الأمن القومي المصري.
هل هذا يبرر اختراق الحدود وانتهاك السيادة؟ قطعا لا،
ولكنه من الناحية الأخلاقية يعد من الضرورات التي تبيح المحظورات.
والتعامل الأمثل مع هذه الضرورة يكون برفع الحصار لتوفير احتياجات المحاصرين من خلال معبر رفح، الذي ينبغي أن يعامل كأي معبر آخر يخضع لإشراف مصر ورقابتها، في السلوم أو نويبع.
ولا محل للاحتجاج هنا باتفاقات لم تكن مصر طرفا فيها، كما لا ينبغي ألا يستخدم الحصار وسيلة للي ذراع حماس وإخضاعها لرئاسة السلطة في رام الله، لأن الشعب الفلسطيني في القطاع لا ينبغي أن يرتهن لكي يحل ذلك الخلاف المعقد بين أنصار التسوية والتفريط وبين دعاة الممانعة والمقاومة.
وفي القانون الدولي الإنساني واتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر تجويع المدنيين، سند قوي للحل الذي ندعو اليه، يعلو فوق أي اتفاق آخر، وهو مما يدعم موقف مصر إذا أرادت أن تحل مشكلة الأنفاق من جذورها، بحيث تسمح بتوفير احتياجات الناس بصورة إنسانية عادية ومنتظمة.
(4)
إن المرء ليستغرب أن تبتذل فكرة أمن مصر القومي، بحث تعد الأنفاق الفلسطينية تهديدا لذلك الأمن، في حين لا تعد كذلك 200 رأس ذرية تخزنها إسرائيل.
كما يستغرب ذلك الاحتجاج ضد الأنفاق بالسيادة واختراق الحدود المصرية، بينما يتم السكوت على الاعتداء شبه المنظم على السيادة المصرية من جانب إسرائيل التي لا تتوقف غاراتها على الحدود لتدمير الأنفاق.
وهي غارات تمثل أيضا انتهاكا لاتفاقية السلام التي نصت على اعتبار منطقة الحدود المشتركة منزوعة السلاح، في حين حولها الإسرائيليون إلى مسرح للعمليات العسكرية.
إن «وطنية» المصريين الجدد الذين تبلغ بهم الجرأة حد إعطائنا درسا في الغيرة على مصر والحدب على مصالحها العليا، لا ترى في طموحات إسرائيل خطرا على أمن البلد، ولا في جرائمها ما يستحق التنويه فضلا عن الاستنكار، لكنها لا ترى التهديد أو الخطر إلا في توفير كراريس المدارس وعلب الحليب وغيرها من الاحتياجات الأساسية إلى المحاصرين في غزة.
إن الصمت المريب عن كل اعتداءات وانتهاكات إسرائيل للحدود المصرية لا يعادله إلا التجاهل التام لقصة الجدار والمعلومات المثيرة التي تتناثر حوله،
ومن المفارقات أن هذا الموضوع الذي يثير الآن صخباً وجدلا شديدين في مصر، ظل سرا محاطا بالكتمان لعدة أشهر، إلى أن فضحته صحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية، حين تحدثت عن الأعمال الجارية على الحدود، وعن مواصفات ألواح الصلب التي تصنع في أمريكا لكي تدفن في الأرض على عمق ثلاثين مترا، وتشكل الحاجز الفولاذي المطلوب.
وعلى أهمية تلك المعلومات إلا أنها لم تشر إلى التفاصيل التي تسربت تباعا في وقت لاحق. من تلك المعلومات أن إقامة الجدار قرار أمريكي -إسرائيلي جاء تنفيذا لاتفاق كان آخر ما وقعته في نهاية العام الماضي وزيرتا الخارجية في الولايات المتحدة وإسرائيل (كونداليزا رايس وتسيبي ليفني).
وكان إنجاز ذلك الاتفاق أحد الشروط التي أملتها إسرائيل على واشنطن قبل انسحابها من غزة، فيما وصف بأنه «تنظيف للطاولة» قبل تسلم الإدارة الأمريكية الجديدة،
وقد أغضب ذلك مصر وقتذاك، التي احتجت على اتفاق الدولتين على إقامة السور الفولاذي على أراضيها، الأمر الذي يعد اعتداء صارخا على سيادتها. ولكن «التفاهمات» اللاحقة امتصت الغضب وأدت إلى تنفيذ الاتفاق كما أرادته اسرائيل واتفقت عليه الدولتان.
من المعلومات التي تسربت أيضا أن مركز الأبحاث الهندسية والتنموية التابع للجيش الأمريكي هو الذي أعد جميع المواصفات الفنية للمشروع، وقد تعاقد على تنفيذها مع شركة في ولاية مسيسبي، تخصصت في صناعة الألواح الفولاذية العازلة، سبق لها أن نفذت مشروعات مماثلة على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك.
ذلك كله مسكوت عليه وتجرى تغطيته بالحيل البلاغية والشعارات الرنانة التي تردد الهتاف لسيادة مصر ومصالحها العليا وأمنها القومي، في حين تهدد الناقدين وتطعن في وطنيتهم ومصريتهم.
لقد عددت فيما كتبت قبلا ما تصورته مواصفات للمصريين الجدد وموقفهم إزاء القيم السياسية للجماعة الوطنية في مصر،
لكن النموذج الذي بين ايدينا سلط الضوء على موقفهم من القيم الاخلاقية الذي بات يحتاج الى دراسة مستقلة، لأن الجرأة على الاحتيال والتدليس التي تكشفت ليست في مقدور كل أحد
أزهرى الحاج البشير- مشرف عام
مواضيع مماثلة
» فهمي هويدي لـ الانتباهة
» مصر هي المشكلة والحل ... فهمي هويدي
» في اعوجاج الحال – فهمي هويدي
» مأزق من العيار الثقيل– فهمي هويدي
» أسئلة مقالة الرئيس مبارك ...... فهمي هويدي
» مصر هي المشكلة والحل ... فهمي هويدي
» في اعوجاج الحال – فهمي هويدي
» مأزق من العيار الثقيل– فهمي هويدي
» أسئلة مقالة الرئيس مبارك ...... فهمي هويدي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى