رائعة شوقي .... النيل الخالد
5 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
رائعة شوقي .... النيل الخالد
قصيدة " أيـّـهـــــا الـنـيـل "
لأمير الشعراء: أحمد شوقي
مِـنْ أَيِّ عَهـدٍ فـي القُـرَى تتَـدَفَّقُ؟ وبــأَيِّ كَـفٍّ فـي المـدائن تُغْـدِقُ؟
ومـن السـماءِ نـزلتَ أَم فُجِّـرتَ من علْيــا الجِنــان جَـداوِلاً تـتَرقرقُ؟
وبــأَيِّ عَيْــنٍ, أَم بأَيَّــة مُزْنَــةٍ أَم أَيِّ طُوفــانٍ تفيــض وتَفْهَــقُ؟
وبــأَىِّ نَــوْلٍ أَنـتَ ناسـجُ بُـرْدَةٍ للضفَّتيْـــن, جَديدُهــا لا يَخــلَقُ؟
تَسْـــوَدُّ دِيباجًـــا إِذا فارقتهـــا فـإِذا حـضرتَ اخْـضَوْضَرَ الإِسْتَبْرَقُ
فــي كــلِّ آونــةٍ تُبـدِّل صِبغـةً عجبًــا, وأَنــت الصـابغُ المُتَـأَنِّقُ
أَتَـت الدهـورُ عليـكَ, مَهْـدُكَ مُـتْرَعٌ وحِيــاضُكَ الشُّــرق الشـهيَّةُ دُفَّـقُ
تَسْــقِي وتُطْعِـمُ, لا إِنـاؤكَ ضـائِقٌ بـــالواردين, ولا خــوانُك يَنفُــقُ
والمــاءُ تَسْــكُبُه فيُسْـبَكُ عَسْـجَدًا والأَرضُ تُغْرِقهــا فيحيــا المُغْـرَقُ
تُعيــي مَنـابِعُك العقـولَ, ويسـتوي مُتخــبِّطٌ فــي علمِهــا ومُحــقِّقُ
أَخـلَقْتَ راووقَ الدهـورِ, ولـم تـزل بــكَ حَمْــأَةٌ كالمسـك, لا تَـتروَّقُ
حــمراءُ فـي الأَحـواض, إِلاّ أَنهـا بيضــاءُ فـي عُنُـق الـثرى تَتـأَلَّقُ
دِيــنُ الأَوائِـل فيـك دِيـنُ مُـروءَةٍ لِـمَ لا يُؤَلَّـه مَـنْ يَقُـوتُ ويَـرزُقُ؟
لــو أَن مخلوقًــا يُؤَلَّـه لـم تكـن لِســواكَ مَرْتبــةُ الأُلوهَــةِ تَخْـلُقُ
جـعلوا الهـوى لـك والوَقـارَ عبـادةً إِنَّ العبـــادةَ خَشـــيةٌ وتَعلُّـــقُ
دانــوا ببحــرٍ بالمكــارِم زاخـرٍ عَــذْبِ المشــارعِ, مَـدُّهُ لا يُلْحَـقُ
مُتقيِّــــد بعهـــودِه ووُعـــودِه يَجـري عـلى سَـنَنِ الوفـاءِ ويَصدُقُ
يَتقبَّــلُ الــوادي الحيــاةَ كريمـةً مــن راحَــتَيْكَ عَمِيمــةً تتــدفَّقُ
متقلِّــب الجــنبيْن فــي نَعْمائِــهِ يَعْـرَى ويُصْبَـغُ فـي نَـداك فيُـورِقُ
فيبيــتُ خِصْبًـا فـي ثَـراه ونِعْمـة ويعُمُّــه مــاءُ الحيــاةِ الموسِـقُ
وإِليـك - بَعْـدَ اللـهِ - يَرجِـع تحتـه مـا جَـفَّ, أَو مـا مـات, أَو ما يَنْفُقُ
أَيـن الفراعنـةُ الأُلـى اسـتذرى بهـم (عيسى), و(يوسف), و(الكَلِيمُ) المصْعَقُ؟
المُــورِدونَ النــاسَ مَنْهَـلَ حكمـةٍ أَفْضَــى إِليــه الأَنبيــاءُ ليَسـتقوا
الرافعــون إِلــى الضحـى آبـاءَهم فالشـمسُ أَصلُهـمُ الـوَضِيءُ المُعْرِقُ
وكأَنمــا بيــن البِــلى وقبــورِهم عهــدٌ عـلى أَنْ لا مِسـاسَ, ومَـوْثِقُ
فحجـابُهم تحـت الـثرى مـن هَيْبَـةٍ كحجــابهم فـوق الـثرى لا يُخـرَقُ
بلغــوا الحقيقـةَ مِـنْ حيـاة علمُهـا حُجُــبٌ مُكَثَّفَــةٌ, وسِــرٌّ مُغلَــقُ
وتبيَّنـوا معنـى الوجـودِ, فلـم يَـرَوْا دونَ الخـــلودِ ســـعادةً تَتحــقَّقُ
يَبنــون للدنيــا كمــا تَبنِـي لهـم خِرَبًــا, غـرابُ البَيْـن فيهـا يَنْعَـقُ
فقصــورُهم; كُــوخٌ, وبيـتُ بَـداوةٍ وقبــورُهم; صـرْحٌ أَشَـمُّ, وجَوْسَـقُ
رفعــوا لهـا مِـنْ جَـنْدَلٍ وصفـائحٍ عَمَــدًا, فكــانت حائطًـا لا يُنْتَـقُ
تتشــايعُ الــدَّاران فيـه: فمـا بـدا دُنْيـا, ومـا لـم يَبْـدُ أُخـرى تَصْدُقُ
للمــوتِ سِــرٌّ تحتَــه, وجِــدارُه سُـورٌ عـلى السـرِّ الخـفيِّ, وخَـنْدَقُ
وكــأَنَّ مــنزلهم بأَعمــاقِ الـثرى بيــن المحلَّــةِ والمحلَّــةِ" فُنْــدُقُ
مَوْفــورةٌ تحــت الـثرى أَزْوَادُهـم رَحْـب بهـم بيـن الكهـوف المُطْبِـقُ
ولِمَـنْ هيـاكلُ قـد عـلا البـاني بها بيــن الثريَّــا والــثَّرى تتنَسَّـقُ؟
منهــا المشـيَّدُ كـالبروجِ, وبعضُهـا كــالطَّوْدِ مُضطَّجِــعٌ أَشَـمُّ مُنَطَّـقُ
جُــدُدٌ كــأَوّلِ عهدهــا, وحِيالَهـا تتقــادَمُ الأَرضُ الفضــاءُ وتَعْتُـقُ
مِــنْ كـلِّ ثقْـلٍ كـاهلُ الدُّنيـا بـه تَعِـبٌ, ووَجْـهُ الأَرضِ عنـه ضَيِّـقُ
عـال عـلى بـاع البِـلى, لا يَهتـدِي مــا يَعتــلِي منــه ومـا يَتسـلَّقُ
مُتمكِّـنٌ كـالطودِ أَصـلاً فـي الـثرى والفـرعُ فـي حَـرمِ السـماءِ مُحـلِّقُ
هــي مــن بنـاءِ الظلـمِ, إِلا أَنـه يَبيَـضُّ وجـهُ الظلـمِ منـه ويُشْـرِقُ
لــم يُـرْهِق الأُمَـمَ الملـوكُ بمثلهـا فخــرًا لهــم يَبْقَـى وذكـرًا يَعْبَـقُ
فُتِنَــتْ بشـطَّيْكَ العِبَـادُ, فلـم يـزل قـــاصٍ يَحُجُّهُمَــا, ودانٍ يَــرْمُقُ
وتضــوَّعَتْ مِسْـكَ الدُّهـورِ, كأَنمـا فــي كــلِّ ناحيـة بَخـورٌ يُحْـرَقُ
وتقـابلتْ فيهـا عـلى السُّـرُرِ الـدُّمَى مُسْـــتَرْدِيات الـــذلّ لا تَتَفَنَّــقُ
عَطَلـتْ, وكـان مكـانُهنّ مـن العُلى (بِلْقِيسُ) تَقْبِسُ مــن حـلاهُ وتَسْـرقُ
وعَـلا عليهـن الـترابُ, ولـم يكـن يَزْكُــو بِهـنّ سـوى العبـير ويَلبَـقُ
حُجُراتُهــا مَوْطــوءَةٌ, وســتورُها مَهتوكــةٌ, بيــد البِــلى تَتخــرّقُ
أَوْدَى بزينتهــا الزمــانُ وحَلْيهــا والحســنُ بــاقٍ والشـبابُ الـرَّيِّقُ
لــو رُدَّ فِرعــونُ الغـداةَ; لراعـه أَنّ الغَـــرانيق العُــلَى لا تَنطــقُ
خــلع الزمـانُ عـلى الـورى أَيامَـه فـإِذا الضُّحـى لـكَ حِصَّـةٌ والرَّوْنَقُ
لــكَ مــن مواسـمِه ومـن أَعيـادِه مــا تَحْسِـرُ الأَبصـارُ فيـه وتَـبْرَقُ
لا (الفرسُ) أُوتــوا مثَلـه يومًـا, ولا (بغدادُ) فـي ظـلِّ (الرشيد) و(جِـلَّق)
فَتْــحُ الممـالك, أَو قيـامُ (العِجْلِ), أَو يـومُ القبـور, أَو الزفـافُ المُـونِقُ؟
كــم مــوكبٍ تَتخَـايلُ الدنيـا بـه يُجْـلَى كمـا تُجْـلَى النجـومُ ويُنْسـقُ!
(فرعونُ) فيــه مـن الكتـائبِ مُقبِـلٌ كالسُّـحْبِ, قَـرْنُ الشـمس منهـامُفتِقُ
تَعْنــو لعزَّتِــه الوجــوه, ووجهـهُ للشـمسِ فـي الآفـاقِ عـانٍ مُطـرِقُ
آبــتْ مــن السـفرِ البعيـدِ جـنودُه وأَتتْــه بــالفتحِ الســعيدِ الفَيْلَــقُ
ومَشـى الملـوكُ مُصفَّـدِين, خـدودُهم نعــلٌ لفرعــونَ العظِيـم ونُمْـرُقُ
مملوكــــةٌ أَعنـــاقُهم ليمينـــهِ يَــأْبَى فَيَضْــرِبُ, أَو يَمُـنُّ فَيُعتِـقُ
ونجيبــةٍ بيــن الطفولــةِ والصِّبـا عــذراءَ, تَشْـرَبُها القلـوبُ وتَعلَـقُ
كــان الزفـافُ إِليـكَ غايـةَ حَظِّهـا والحــظُّ إِن بلــغ النهايــةَ مُـوبِقُ
لافَيْــتَ أَعراسًــا, ولافَـتْ مَأْتَمًـا كالشــيخِ يَنْعَــمُ بالفتــاةِ وتُـزْهَقُ
فــي كــلِّ عــامٍ دُرَّةٌ تُلْقَـى بِـلا ثمــنٍ إِليــكَ, وحُــرَّةٌ لا تُصْـدَقُ
حَــوْلٌ تُســائِل فيـه كـلّ نجيبـةٍ سَـبقتْ إِليـكَ: متـى يحـولُ فتَلْحقُ؟
والمجــدُ عنــد الغانيــاتِ رَغيبـةٌ يُبْغَـى كمـا يُبْغَـى الجمـالُ ويُعْشَـقُ
إِن زوّجــوكَ بهــنّ فَهْـيَ عقيـدةٌ ومــن العقــائدِ مَـا يلَـبُّ ويَحْـمقُ
مــا أَجـملَ الإِيمـانَ!! لـولا ضَلَّـةٌ فــي كــلِّ دِيـنٍ بالهدايـةِ تُلْصَـقُ
زُفَّــتْ إِلـى ملـكِ الملـوكِ يَحُثُّهـا دِيــنٌ, ويَدْفعهــا هَــوًى وتَشَـوُّقُ
ولربَّمــا حَسَــدَتْ عليــكَ مَكانَهـا تِــربٌ تَمَسَّــحُ بـالعروس وتُحْـدِقُ
مَجْــلُوَّةٌ فــي الفُلْـكِ يَحـدو فُلْكَهـا بالشـــاطئيْن مُزَغْــرِدٌ ومُصفِّــقُ
فــي مِهْرِجَــانٍ هَـزَّتْ الدنيـا بـه أَعطافَهــا, واختــالَ فيـه المشْـرقُ
فرعــونُ تحــتَ لوائِــه, وبَناتُـه يَجـري بهـنّ عـلى السـفينِ الزَّوْرَقُ
حــتى إِذا بلغــتْ مواكبُهـا المَـدَى وجــرى لغايتــه القضـاءُ الأَسْـبقُ
وكســا ســماءَ المِهرِجـانِ جلالـةً ســيفُ المنيـة وهـو صَلْـتٌ يـبرقُ
وتَلفَّتــتْ فــي اليَــمِّ كـلُّ سـفينةٍ وانثــال بـالوادي الجـموعُ وحـدّقوا
أَلقــتْ إِليــكَ بنفســها ونفِيســها وأَتتـــكَ شــيِّقةً حواهــا شَــيِّقُ
خــلعَت عليــكَ حياءَهـا وحياتَهـا أَأَعــزُّ مـن هـذين شـيءٌ يُنفَـقُ?
وإِذا تَنــاهى الحــبُّ واتفـقَ الفِـدى فــالروحُ فـي بـابِ الضحيَّـة أَلْيَـقُ
مــا العَــالمُ السُّــفلِيُّ إِلاّ طِينَــةٌ أَزليَّــةٌ فيــه تُضــيءُ وتَغسِــقُ
هـي فيـه للخِـصْبِ العميـمِ خـميرةٌ يَنْــدَى بمــا حـملتْ إِليـه, ويَبثُـقُ
مــا كــان فيهـا للزيـادةِ مَـوْضِعٌ وإِلــى حماهــا النقـصُ لا يتطـرّقُ
مُنبثَّــةٌ فـي الأَرضِ, تَنتظـمُ الـثَّرى وتنــالُ مِمَّـا فـي السـماءِ, وتَعْلَـقُ
منهــا الحيـاةُ لنـا, ومنهـا ضِدُّهـا أَبــدًا نَعــودُ لهـا, ومنهـا نُخْـلَقُ
والــزَّرعُ سُــنْبُلُه يطيــبُ, وحَبُّـه منهــا, فيخــرج ذا, وهــذا يفلَـقُ
وتَشــدُّ بيـتَ النحـلِ, فهـو مُطنَّـبٌ وتمــدُّ بيـتَ النمـل, فهـو مـروَّقُ
وتظـلُّ بيـن قـوى الحيـاةِ, جـوائِلاً لا تســـتَقِرُّ, دوائِــلاً لا تُمْحَــقُ
هــي كِلْمَـةُ اللـه القديـرِ, ورُوحُـه فــي الكائنــات, وسـرُّه المسـتغلِقُ
فـي النجـم والقمـرين مظْهرُهـا, إِذا طلعَـتْ عـلى الدنيـا, وسـاعةَ تَخفُقُ
والــذَّرُّ والصَّخَـراتُ مِمَّـا كَـوَّرَتْ والفيــلُ ممـا صَـوَّرَتْ, والخِـرْنِقُ
فتنــتْ عقــولَ الأَوليــن, فـأَلَّهوا مـن كـلّ شـيءٍ مـا يَـرُوع ويَخرُقُ
ســجَدوا لمخــلوق, وظنُّـوا خالقًـا مَـنْ ذا يُمَـيِّزُ فـي الظـلام ويَفْـرُقُ؟
دانـــت (بآبيسَ) الرعيــةُ كلُّهــا مـن يسـتغلُّ الأَرضَ, أَو مـن يَعـزقُ
جـاءُوا مـن المـرعى به يمشي, كما تمشــى وتَلْتَفِــتُ المهـاةُ وترْشـقُ
داجٍ كجـــنح الليــل زان جبينــهُ وَضَــحٌ عليـه مـن الأَهلَّـة أَشْـرَقُ
العســجد الوهّــاجُ وشْــيُ جلالِـه والــوردُ مَــوْطِئُ خُفِّـه, والـزَّنْبَقُ
ومـن العجـائِب بَعْـدَ طـولِ عبـادةٍ يُـؤتَى بـه حـوضَ الخـلودِ فيُغْـرَقُ
يـا ليت شعري: هل أَضاعوا العهدَ, أَم حَـذِروا مـن الدنيـا عليـه وأَشفقوا؟
قــومٌ وقــارُ الـدّين فـي أَخـلاقهم والشــعبُ مــا يَعتــاد أَو يتخَـلَّقُ
يَدْعُــون خـلفَ السِّـتر آلهـةً لهـم مــلأُوا النَّــدِيَّ جلالــةً, وتَـأَبّقوا
واســتحجبوا الكُهّــانَ, هـذا مُبلـغٌ مــا يهتِفــون بـه, وذاك مُصـدِّقُ
لا يُســأَلون إِذا جــرت أَلفــاظُهم مِـنْ أَيـن للحجـر اللسـانُ الأَذلَـقُ؟
أَو كــيف تخـترق الغيـوبَ بهيمـةٌ فيمـا يَنـوب مـن الأُمـور ويَطْرُقُ؟
وإِذا همــو حَجُّـوا القبـورَ حسـبتهم وَفْــدَ (العتيقِ) بهـم تَـرَامَى الأَيْنُـقُ
يــأْتون (طيبةَ) بــالهَدِيِّ أَمــامَهم يغشــى المــدائنَ والقـرى ويُطَبِّـقُ
فــالبرُّ مشــدودُ الزَّواحـلِ مُحْـدَجٌ والبحــرُ ممــدودُ الشِّـرَاعِ مُوَسَّـقُ
حــتى إِذا ألْقَــوْا بهيكلهـا العصـا وَفَّــوا النـذورَ, وقَرَّبـوا, واصَّدَّقـوا
وجَــرَتْ زوارقُ بــالحجيج, كأَنهـا رُقْــطٌ تَــدافعُ, أَو ســهامٌ تَمْـرُقُ
مــن شـاطئ فيـه الحيـاةُ لشـاطئ هــو مُضْجَــعٌ للسـابقين ومِـرفقُ
غرَبـوا غـروبَ الشمِس فيه, واستوى شــاهٌ ورُخٌّ فــي الــترابِ وبَيْـدقُ
حـيثُ القبـورُ عـلى الفضـاءِ كأَنهـا قِطَـعُ السـحابِ, أَو السـرابُ الدَّيْسَـقُ
للحــقِّ فيــه جَوْلــةٌ, ولـه سَـنًا كــالصبحِ مــن جَنَبَاتِهــا يَتَفَلَّـقُ
نزلـوا بهـا فمشـى الملـوكُ كرامـةً وجثــا المُــدِلُّ بمالــه والمُمْلــقُ
ضــاقت بهــم عَرَصاتُهـا, فكأَنمـا رَدَّتْ ودائعَهـــا الفــلاةُ الفَيْهَــقُ
وتَنــادم الأَحيــاءُ والمــوتى بهـا فكــأَنهم فــي الدهـر لـم يتفرّقـوا
أَصـلُ الحضـارةِ فـي صَعيـدِكَ ثابتٌ ونَباتُهــا حَسَــنٌ عليــك مُخــلَّقُ
وُلِـدَتْ, فكـنتَ المهـدَ, ثـم ترعرعَتْ فأَظلَّهــا منــكَ الحَــفِيُّ المُشْـفِقُ
مــلأَتْ ديــارَك حكمـةً, مأْثورُهـا فـي الصخـر والـبَرْدِي الكـريمِ مُنَبَّقُ
وَبَنَـتْ بيـوتَ العلـم باذخـةَ الـذُّرَى يســعى لهــن مُغَــرِّبٌ ومُشَـرِّقُ
واســتحدثتْ دِينًـا, فكـان فضـائلاً وبِنــاءَ أَخــلاقٍ يطـول وَيشـهَقُ
مَهَــدَ الســبيلَ لكــلِّ دِيـنٍ بعـدَه كالمســك رَيَّــاه بــأُخرى تُفْتَـقُ
يدعــو إِلـى بِـرٍّ, ويـرفع صالِحًـا ويَعــاف مـا هـو للمـروءة مُخْـلِقُ
للنــاسِ مــن أَسـرارِه مـا عُلِّمـوا ولشُــعْبةِ الكَهَنـوت مـا هـو أَعْمـقُ
فيـــه محــلٍّ للأَقــانيم العُــلى ولجــامع التوحــيدِ فيــه تَعَلُّــقُ
تــابوتُ موســى; لا تـزال جلالـةٌ تبــدو عليــك لـه, ورَيَّـا تُنْشَـقُ
وجمــالُ يوسُــفَ; لا يـزال لـواؤُهُ حَــوْلَيك فـي أُفُـق الجـلال يُـرنَّقُ
ودمــوعُ إِخوتــه; رســائلُ توبـةٍ مَسْـــطُورُهُنّ بشــاطئيْك مُنمَّــقُ
وصـلاةُ مـريم; فـوقَ زرعك لم يزل يَزكــو لذكراهــا النبـات ويَسـمُقُ
وخُـطَى المسـيح عليـك روحًا طاهرًا بركــاتُ ربِّــك, والنعيـمُ الغَيْـدَقُ
وودائــعُ (الفاروقِ) عنــدك, دينـه ولـــواؤهُ, وبيانُـــه, والمنطِــقُ
بعـث الصحابـةَ يَحـملون مـن الهدى والحـقِّ مـا يُحْـيي العقـولَ ويَفتـقُ
فَتْــحُ الفتـوح, مـن الملائـك رَزْدَق فيــه, ومـن (أَصحاب بـدرٍ) رَزْدَقُ
يبنـــون للـــه الكنانــةَ بالقنــا واللــهُ مــن حـول البنـاءِ مُـوَفِّقُ
أَحــلاسُ خــيل, بَيْـدَ أَن حسـامَهم فـي السـلم مـن حـذرِ الحوادثِ مُقْلَقُ
تُطـوَى البـلادُ لهـم, ويُنْجِـدُ جيشَـهم جـيشٌ مـن الأَخـلاقِ غـازٍ مُـورِقُ
فـي الحـقِّ سُـلَّ وفيـه أُغْمِـد سيفُهم سـيفُ الكـريم مـن الجَهالـة يَفْـرَقُ
والفتــحُ بَغْــيٌ لا يُهَــوِّن وَقْعَـه إِلا العفيـــفُ حســامُه, المــترفِّقُ
مــا كــانت "الفسطاطُ" إِلا حائطًــا يــأْوي الضعيـفُ لركنـه والمُـرْهَقُ
وبـه تلـوذُ الطـيرُ فـي طلـبِ الكرَى ويبيــتُ "قيصرُ" وهْـو منـه مُـؤَرَّقُ
(عَمْرٌو) عـلى شطبِ الحصير مُعصَّبٌ بقـــلادةِ اللــه العَــلِيِّ مُطَــوَّقُ
يدعــو لـه "الحاخامُ" فـي صلواتـه (موسى), ويسـأَل فيه (عيسى) البَطْرَقُ
يـا نيـلُ, أَنـتَ بطيب ما نَعَتَ "الهدى" وبمدْحــةِ (التوراةِ) أَحْــرَى أَخْـلَقُ
وإِليـك يُهْـدِي الحـمدَ خَـلْقٌ حـازهم كــنَفٌ عـلى مَـرِّ الدهـورِ مُـرَهَّقُ
كَـــنَفٌ "كَمَعْنٍ", أَو كســاحة "حاتم" خَــلْقٌ يُوَدِّعُــه, وخَــلْقٌ يَطْـرُقُ
وعليـك تُجـلَى مـنَ مَصونـات النُّهَى خُــودٌ, عـرائسُ, خِـدْرُهنّ المُهـرَقُ
الـــدرُّ فـــي لَبــاتهنّ مُنَظَّــمٌ والطيــبُ فــي حَـبراتهنّ مُرَقْـرَقُ
لــي فيـكَ مـدْحٌ ليس فيـه تكـلُّفٌ أَمــلاه حُــبٌّ ليس فيــه تَمَلُّــقُ
ممــا يُحمِّلنــا الهـوى لـكَ أَفْـرُخٌ سـنَطير عنهـا, وهـي عنـدك تُرزَقُ
تَهْفُــو إِليهــم فـي الـتراب قلوبُنـا وتكــاد فيــه بغـير عِـرْقٍ تَخْـفُقُ
تُرْجَــى لهــم, واللـهُ جـلَّ جلالُـه منــا ومنــك بهــم أَبَـرُّ وأَرفـقُ
فــاحفظ ودائـعَك التـي اسـتُودِعتْهَا أَنــت الـوفيُّ إِذا اؤتمنـتَ الأَصـدقُ
لــلأَرض يــومٌ, والسـماءِ قيامـةٌ وقيامـــةُ "الوادي" غــداةَ تحــلّقُ
لأمير الشعراء: أحمد شوقي
مِـنْ أَيِّ عَهـدٍ فـي القُـرَى تتَـدَفَّقُ؟ وبــأَيِّ كَـفٍّ فـي المـدائن تُغْـدِقُ؟
ومـن السـماءِ نـزلتَ أَم فُجِّـرتَ من علْيــا الجِنــان جَـداوِلاً تـتَرقرقُ؟
وبــأَيِّ عَيْــنٍ, أَم بأَيَّــة مُزْنَــةٍ أَم أَيِّ طُوفــانٍ تفيــض وتَفْهَــقُ؟
وبــأَىِّ نَــوْلٍ أَنـتَ ناسـجُ بُـرْدَةٍ للضفَّتيْـــن, جَديدُهــا لا يَخــلَقُ؟
تَسْـــوَدُّ دِيباجًـــا إِذا فارقتهـــا فـإِذا حـضرتَ اخْـضَوْضَرَ الإِسْتَبْرَقُ
فــي كــلِّ آونــةٍ تُبـدِّل صِبغـةً عجبًــا, وأَنــت الصـابغُ المُتَـأَنِّقُ
أَتَـت الدهـورُ عليـكَ, مَهْـدُكَ مُـتْرَعٌ وحِيــاضُكَ الشُّــرق الشـهيَّةُ دُفَّـقُ
تَسْــقِي وتُطْعِـمُ, لا إِنـاؤكَ ضـائِقٌ بـــالواردين, ولا خــوانُك يَنفُــقُ
والمــاءُ تَسْــكُبُه فيُسْـبَكُ عَسْـجَدًا والأَرضُ تُغْرِقهــا فيحيــا المُغْـرَقُ
تُعيــي مَنـابِعُك العقـولَ, ويسـتوي مُتخــبِّطٌ فــي علمِهــا ومُحــقِّقُ
أَخـلَقْتَ راووقَ الدهـورِ, ولـم تـزل بــكَ حَمْــأَةٌ كالمسـك, لا تَـتروَّقُ
حــمراءُ فـي الأَحـواض, إِلاّ أَنهـا بيضــاءُ فـي عُنُـق الـثرى تَتـأَلَّقُ
دِيــنُ الأَوائِـل فيـك دِيـنُ مُـروءَةٍ لِـمَ لا يُؤَلَّـه مَـنْ يَقُـوتُ ويَـرزُقُ؟
لــو أَن مخلوقًــا يُؤَلَّـه لـم تكـن لِســواكَ مَرْتبــةُ الأُلوهَــةِ تَخْـلُقُ
جـعلوا الهـوى لـك والوَقـارَ عبـادةً إِنَّ العبـــادةَ خَشـــيةٌ وتَعلُّـــقُ
دانــوا ببحــرٍ بالمكــارِم زاخـرٍ عَــذْبِ المشــارعِ, مَـدُّهُ لا يُلْحَـقُ
مُتقيِّــــد بعهـــودِه ووُعـــودِه يَجـري عـلى سَـنَنِ الوفـاءِ ويَصدُقُ
يَتقبَّــلُ الــوادي الحيــاةَ كريمـةً مــن راحَــتَيْكَ عَمِيمــةً تتــدفَّقُ
متقلِّــب الجــنبيْن فــي نَعْمائِــهِ يَعْـرَى ويُصْبَـغُ فـي نَـداك فيُـورِقُ
فيبيــتُ خِصْبًـا فـي ثَـراه ونِعْمـة ويعُمُّــه مــاءُ الحيــاةِ الموسِـقُ
وإِليـك - بَعْـدَ اللـهِ - يَرجِـع تحتـه مـا جَـفَّ, أَو مـا مـات, أَو ما يَنْفُقُ
أَيـن الفراعنـةُ الأُلـى اسـتذرى بهـم (عيسى), و(يوسف), و(الكَلِيمُ) المصْعَقُ؟
المُــورِدونَ النــاسَ مَنْهَـلَ حكمـةٍ أَفْضَــى إِليــه الأَنبيــاءُ ليَسـتقوا
الرافعــون إِلــى الضحـى آبـاءَهم فالشـمسُ أَصلُهـمُ الـوَضِيءُ المُعْرِقُ
وكأَنمــا بيــن البِــلى وقبــورِهم عهــدٌ عـلى أَنْ لا مِسـاسَ, ومَـوْثِقُ
فحجـابُهم تحـت الـثرى مـن هَيْبَـةٍ كحجــابهم فـوق الـثرى لا يُخـرَقُ
بلغــوا الحقيقـةَ مِـنْ حيـاة علمُهـا حُجُــبٌ مُكَثَّفَــةٌ, وسِــرٌّ مُغلَــقُ
وتبيَّنـوا معنـى الوجـودِ, فلـم يَـرَوْا دونَ الخـــلودِ ســـعادةً تَتحــقَّقُ
يَبنــون للدنيــا كمــا تَبنِـي لهـم خِرَبًــا, غـرابُ البَيْـن فيهـا يَنْعَـقُ
فقصــورُهم; كُــوخٌ, وبيـتُ بَـداوةٍ وقبــورُهم; صـرْحٌ أَشَـمُّ, وجَوْسَـقُ
رفعــوا لهـا مِـنْ جَـنْدَلٍ وصفـائحٍ عَمَــدًا, فكــانت حائطًـا لا يُنْتَـقُ
تتشــايعُ الــدَّاران فيـه: فمـا بـدا دُنْيـا, ومـا لـم يَبْـدُ أُخـرى تَصْدُقُ
للمــوتِ سِــرٌّ تحتَــه, وجِــدارُه سُـورٌ عـلى السـرِّ الخـفيِّ, وخَـنْدَقُ
وكــأَنَّ مــنزلهم بأَعمــاقِ الـثرى بيــن المحلَّــةِ والمحلَّــةِ" فُنْــدُقُ
مَوْفــورةٌ تحــت الـثرى أَزْوَادُهـم رَحْـب بهـم بيـن الكهـوف المُطْبِـقُ
ولِمَـنْ هيـاكلُ قـد عـلا البـاني بها بيــن الثريَّــا والــثَّرى تتنَسَّـقُ؟
منهــا المشـيَّدُ كـالبروجِ, وبعضُهـا كــالطَّوْدِ مُضطَّجِــعٌ أَشَـمُّ مُنَطَّـقُ
جُــدُدٌ كــأَوّلِ عهدهــا, وحِيالَهـا تتقــادَمُ الأَرضُ الفضــاءُ وتَعْتُـقُ
مِــنْ كـلِّ ثقْـلٍ كـاهلُ الدُّنيـا بـه تَعِـبٌ, ووَجْـهُ الأَرضِ عنـه ضَيِّـقُ
عـال عـلى بـاع البِـلى, لا يَهتـدِي مــا يَعتــلِي منــه ومـا يَتسـلَّقُ
مُتمكِّـنٌ كـالطودِ أَصـلاً فـي الـثرى والفـرعُ فـي حَـرمِ السـماءِ مُحـلِّقُ
هــي مــن بنـاءِ الظلـمِ, إِلا أَنـه يَبيَـضُّ وجـهُ الظلـمِ منـه ويُشْـرِقُ
لــم يُـرْهِق الأُمَـمَ الملـوكُ بمثلهـا فخــرًا لهــم يَبْقَـى وذكـرًا يَعْبَـقُ
فُتِنَــتْ بشـطَّيْكَ العِبَـادُ, فلـم يـزل قـــاصٍ يَحُجُّهُمَــا, ودانٍ يَــرْمُقُ
وتضــوَّعَتْ مِسْـكَ الدُّهـورِ, كأَنمـا فــي كــلِّ ناحيـة بَخـورٌ يُحْـرَقُ
وتقـابلتْ فيهـا عـلى السُّـرُرِ الـدُّمَى مُسْـــتَرْدِيات الـــذلّ لا تَتَفَنَّــقُ
عَطَلـتْ, وكـان مكـانُهنّ مـن العُلى (بِلْقِيسُ) تَقْبِسُ مــن حـلاهُ وتَسْـرقُ
وعَـلا عليهـن الـترابُ, ولـم يكـن يَزْكُــو بِهـنّ سـوى العبـير ويَلبَـقُ
حُجُراتُهــا مَوْطــوءَةٌ, وســتورُها مَهتوكــةٌ, بيــد البِــلى تَتخــرّقُ
أَوْدَى بزينتهــا الزمــانُ وحَلْيهــا والحســنُ بــاقٍ والشـبابُ الـرَّيِّقُ
لــو رُدَّ فِرعــونُ الغـداةَ; لراعـه أَنّ الغَـــرانيق العُــلَى لا تَنطــقُ
خــلع الزمـانُ عـلى الـورى أَيامَـه فـإِذا الضُّحـى لـكَ حِصَّـةٌ والرَّوْنَقُ
لــكَ مــن مواسـمِه ومـن أَعيـادِه مــا تَحْسِـرُ الأَبصـارُ فيـه وتَـبْرَقُ
لا (الفرسُ) أُوتــوا مثَلـه يومًـا, ولا (بغدادُ) فـي ظـلِّ (الرشيد) و(جِـلَّق)
فَتْــحُ الممـالك, أَو قيـامُ (العِجْلِ), أَو يـومُ القبـور, أَو الزفـافُ المُـونِقُ؟
كــم مــوكبٍ تَتخَـايلُ الدنيـا بـه يُجْـلَى كمـا تُجْـلَى النجـومُ ويُنْسـقُ!
(فرعونُ) فيــه مـن الكتـائبِ مُقبِـلٌ كالسُّـحْبِ, قَـرْنُ الشـمس منهـامُفتِقُ
تَعْنــو لعزَّتِــه الوجــوه, ووجهـهُ للشـمسِ فـي الآفـاقِ عـانٍ مُطـرِقُ
آبــتْ مــن السـفرِ البعيـدِ جـنودُه وأَتتْــه بــالفتحِ الســعيدِ الفَيْلَــقُ
ومَشـى الملـوكُ مُصفَّـدِين, خـدودُهم نعــلٌ لفرعــونَ العظِيـم ونُمْـرُقُ
مملوكــــةٌ أَعنـــاقُهم ليمينـــهِ يَــأْبَى فَيَضْــرِبُ, أَو يَمُـنُّ فَيُعتِـقُ
ونجيبــةٍ بيــن الطفولــةِ والصِّبـا عــذراءَ, تَشْـرَبُها القلـوبُ وتَعلَـقُ
كــان الزفـافُ إِليـكَ غايـةَ حَظِّهـا والحــظُّ إِن بلــغ النهايــةَ مُـوبِقُ
لافَيْــتَ أَعراسًــا, ولافَـتْ مَأْتَمًـا كالشــيخِ يَنْعَــمُ بالفتــاةِ وتُـزْهَقُ
فــي كــلِّ عــامٍ دُرَّةٌ تُلْقَـى بِـلا ثمــنٍ إِليــكَ, وحُــرَّةٌ لا تُصْـدَقُ
حَــوْلٌ تُســائِل فيـه كـلّ نجيبـةٍ سَـبقتْ إِليـكَ: متـى يحـولُ فتَلْحقُ؟
والمجــدُ عنــد الغانيــاتِ رَغيبـةٌ يُبْغَـى كمـا يُبْغَـى الجمـالُ ويُعْشَـقُ
إِن زوّجــوكَ بهــنّ فَهْـيَ عقيـدةٌ ومــن العقــائدِ مَـا يلَـبُّ ويَحْـمقُ
مــا أَجـملَ الإِيمـانَ!! لـولا ضَلَّـةٌ فــي كــلِّ دِيـنٍ بالهدايـةِ تُلْصَـقُ
زُفَّــتْ إِلـى ملـكِ الملـوكِ يَحُثُّهـا دِيــنٌ, ويَدْفعهــا هَــوًى وتَشَـوُّقُ
ولربَّمــا حَسَــدَتْ عليــكَ مَكانَهـا تِــربٌ تَمَسَّــحُ بـالعروس وتُحْـدِقُ
مَجْــلُوَّةٌ فــي الفُلْـكِ يَحـدو فُلْكَهـا بالشـــاطئيْن مُزَغْــرِدٌ ومُصفِّــقُ
فــي مِهْرِجَــانٍ هَـزَّتْ الدنيـا بـه أَعطافَهــا, واختــالَ فيـه المشْـرقُ
فرعــونُ تحــتَ لوائِــه, وبَناتُـه يَجـري بهـنّ عـلى السـفينِ الزَّوْرَقُ
حــتى إِذا بلغــتْ مواكبُهـا المَـدَى وجــرى لغايتــه القضـاءُ الأَسْـبقُ
وكســا ســماءَ المِهرِجـانِ جلالـةً ســيفُ المنيـة وهـو صَلْـتٌ يـبرقُ
وتَلفَّتــتْ فــي اليَــمِّ كـلُّ سـفينةٍ وانثــال بـالوادي الجـموعُ وحـدّقوا
أَلقــتْ إِليــكَ بنفســها ونفِيســها وأَتتـــكَ شــيِّقةً حواهــا شَــيِّقُ
خــلعَت عليــكَ حياءَهـا وحياتَهـا أَأَعــزُّ مـن هـذين شـيءٌ يُنفَـقُ?
وإِذا تَنــاهى الحــبُّ واتفـقَ الفِـدى فــالروحُ فـي بـابِ الضحيَّـة أَلْيَـقُ
مــا العَــالمُ السُّــفلِيُّ إِلاّ طِينَــةٌ أَزليَّــةٌ فيــه تُضــيءُ وتَغسِــقُ
هـي فيـه للخِـصْبِ العميـمِ خـميرةٌ يَنْــدَى بمــا حـملتْ إِليـه, ويَبثُـقُ
مــا كــان فيهـا للزيـادةِ مَـوْضِعٌ وإِلــى حماهــا النقـصُ لا يتطـرّقُ
مُنبثَّــةٌ فـي الأَرضِ, تَنتظـمُ الـثَّرى وتنــالُ مِمَّـا فـي السـماءِ, وتَعْلَـقُ
منهــا الحيـاةُ لنـا, ومنهـا ضِدُّهـا أَبــدًا نَعــودُ لهـا, ومنهـا نُخْـلَقُ
والــزَّرعُ سُــنْبُلُه يطيــبُ, وحَبُّـه منهــا, فيخــرج ذا, وهــذا يفلَـقُ
وتَشــدُّ بيـتَ النحـلِ, فهـو مُطنَّـبٌ وتمــدُّ بيـتَ النمـل, فهـو مـروَّقُ
وتظـلُّ بيـن قـوى الحيـاةِ, جـوائِلاً لا تســـتَقِرُّ, دوائِــلاً لا تُمْحَــقُ
هــي كِلْمَـةُ اللـه القديـرِ, ورُوحُـه فــي الكائنــات, وسـرُّه المسـتغلِقُ
فـي النجـم والقمـرين مظْهرُهـا, إِذا طلعَـتْ عـلى الدنيـا, وسـاعةَ تَخفُقُ
والــذَّرُّ والصَّخَـراتُ مِمَّـا كَـوَّرَتْ والفيــلُ ممـا صَـوَّرَتْ, والخِـرْنِقُ
فتنــتْ عقــولَ الأَوليــن, فـأَلَّهوا مـن كـلّ شـيءٍ مـا يَـرُوع ويَخرُقُ
ســجَدوا لمخــلوق, وظنُّـوا خالقًـا مَـنْ ذا يُمَـيِّزُ فـي الظـلام ويَفْـرُقُ؟
دانـــت (بآبيسَ) الرعيــةُ كلُّهــا مـن يسـتغلُّ الأَرضَ, أَو مـن يَعـزقُ
جـاءُوا مـن المـرعى به يمشي, كما تمشــى وتَلْتَفِــتُ المهـاةُ وترْشـقُ
داجٍ كجـــنح الليــل زان جبينــهُ وَضَــحٌ عليـه مـن الأَهلَّـة أَشْـرَقُ
العســجد الوهّــاجُ وشْــيُ جلالِـه والــوردُ مَــوْطِئُ خُفِّـه, والـزَّنْبَقُ
ومـن العجـائِب بَعْـدَ طـولِ عبـادةٍ يُـؤتَى بـه حـوضَ الخـلودِ فيُغْـرَقُ
يـا ليت شعري: هل أَضاعوا العهدَ, أَم حَـذِروا مـن الدنيـا عليـه وأَشفقوا؟
قــومٌ وقــارُ الـدّين فـي أَخـلاقهم والشــعبُ مــا يَعتــاد أَو يتخَـلَّقُ
يَدْعُــون خـلفَ السِّـتر آلهـةً لهـم مــلأُوا النَّــدِيَّ جلالــةً, وتَـأَبّقوا
واســتحجبوا الكُهّــانَ, هـذا مُبلـغٌ مــا يهتِفــون بـه, وذاك مُصـدِّقُ
لا يُســأَلون إِذا جــرت أَلفــاظُهم مِـنْ أَيـن للحجـر اللسـانُ الأَذلَـقُ؟
أَو كــيف تخـترق الغيـوبَ بهيمـةٌ فيمـا يَنـوب مـن الأُمـور ويَطْرُقُ؟
وإِذا همــو حَجُّـوا القبـورَ حسـبتهم وَفْــدَ (العتيقِ) بهـم تَـرَامَى الأَيْنُـقُ
يــأْتون (طيبةَ) بــالهَدِيِّ أَمــامَهم يغشــى المــدائنَ والقـرى ويُطَبِّـقُ
فــالبرُّ مشــدودُ الزَّواحـلِ مُحْـدَجٌ والبحــرُ ممــدودُ الشِّـرَاعِ مُوَسَّـقُ
حــتى إِذا ألْقَــوْا بهيكلهـا العصـا وَفَّــوا النـذورَ, وقَرَّبـوا, واصَّدَّقـوا
وجَــرَتْ زوارقُ بــالحجيج, كأَنهـا رُقْــطٌ تَــدافعُ, أَو ســهامٌ تَمْـرُقُ
مــن شـاطئ فيـه الحيـاةُ لشـاطئ هــو مُضْجَــعٌ للسـابقين ومِـرفقُ
غرَبـوا غـروبَ الشمِس فيه, واستوى شــاهٌ ورُخٌّ فــي الــترابِ وبَيْـدقُ
حـيثُ القبـورُ عـلى الفضـاءِ كأَنهـا قِطَـعُ السـحابِ, أَو السـرابُ الدَّيْسَـقُ
للحــقِّ فيــه جَوْلــةٌ, ولـه سَـنًا كــالصبحِ مــن جَنَبَاتِهــا يَتَفَلَّـقُ
نزلـوا بهـا فمشـى الملـوكُ كرامـةً وجثــا المُــدِلُّ بمالــه والمُمْلــقُ
ضــاقت بهــم عَرَصاتُهـا, فكأَنمـا رَدَّتْ ودائعَهـــا الفــلاةُ الفَيْهَــقُ
وتَنــادم الأَحيــاءُ والمــوتى بهـا فكــأَنهم فــي الدهـر لـم يتفرّقـوا
أَصـلُ الحضـارةِ فـي صَعيـدِكَ ثابتٌ ونَباتُهــا حَسَــنٌ عليــك مُخــلَّقُ
وُلِـدَتْ, فكـنتَ المهـدَ, ثـم ترعرعَتْ فأَظلَّهــا منــكَ الحَــفِيُّ المُشْـفِقُ
مــلأَتْ ديــارَك حكمـةً, مأْثورُهـا فـي الصخـر والـبَرْدِي الكـريمِ مُنَبَّقُ
وَبَنَـتْ بيـوتَ العلـم باذخـةَ الـذُّرَى يســعى لهــن مُغَــرِّبٌ ومُشَـرِّقُ
واســتحدثتْ دِينًـا, فكـان فضـائلاً وبِنــاءَ أَخــلاقٍ يطـول وَيشـهَقُ
مَهَــدَ الســبيلَ لكــلِّ دِيـنٍ بعـدَه كالمســك رَيَّــاه بــأُخرى تُفْتَـقُ
يدعــو إِلـى بِـرٍّ, ويـرفع صالِحًـا ويَعــاف مـا هـو للمـروءة مُخْـلِقُ
للنــاسِ مــن أَسـرارِه مـا عُلِّمـوا ولشُــعْبةِ الكَهَنـوت مـا هـو أَعْمـقُ
فيـــه محــلٍّ للأَقــانيم العُــلى ولجــامع التوحــيدِ فيــه تَعَلُّــقُ
تــابوتُ موســى; لا تـزال جلالـةٌ تبــدو عليــك لـه, ورَيَّـا تُنْشَـقُ
وجمــالُ يوسُــفَ; لا يـزال لـواؤُهُ حَــوْلَيك فـي أُفُـق الجـلال يُـرنَّقُ
ودمــوعُ إِخوتــه; رســائلُ توبـةٍ مَسْـــطُورُهُنّ بشــاطئيْك مُنمَّــقُ
وصـلاةُ مـريم; فـوقَ زرعك لم يزل يَزكــو لذكراهــا النبـات ويَسـمُقُ
وخُـطَى المسـيح عليـك روحًا طاهرًا بركــاتُ ربِّــك, والنعيـمُ الغَيْـدَقُ
وودائــعُ (الفاروقِ) عنــدك, دينـه ولـــواؤهُ, وبيانُـــه, والمنطِــقُ
بعـث الصحابـةَ يَحـملون مـن الهدى والحـقِّ مـا يُحْـيي العقـولَ ويَفتـقُ
فَتْــحُ الفتـوح, مـن الملائـك رَزْدَق فيــه, ومـن (أَصحاب بـدرٍ) رَزْدَقُ
يبنـــون للـــه الكنانــةَ بالقنــا واللــهُ مــن حـول البنـاءِ مُـوَفِّقُ
أَحــلاسُ خــيل, بَيْـدَ أَن حسـامَهم فـي السـلم مـن حـذرِ الحوادثِ مُقْلَقُ
تُطـوَى البـلادُ لهـم, ويُنْجِـدُ جيشَـهم جـيشٌ مـن الأَخـلاقِ غـازٍ مُـورِقُ
فـي الحـقِّ سُـلَّ وفيـه أُغْمِـد سيفُهم سـيفُ الكـريم مـن الجَهالـة يَفْـرَقُ
والفتــحُ بَغْــيٌ لا يُهَــوِّن وَقْعَـه إِلا العفيـــفُ حســامُه, المــترفِّقُ
مــا كــانت "الفسطاطُ" إِلا حائطًــا يــأْوي الضعيـفُ لركنـه والمُـرْهَقُ
وبـه تلـوذُ الطـيرُ فـي طلـبِ الكرَى ويبيــتُ "قيصرُ" وهْـو منـه مُـؤَرَّقُ
(عَمْرٌو) عـلى شطبِ الحصير مُعصَّبٌ بقـــلادةِ اللــه العَــلِيِّ مُطَــوَّقُ
يدعــو لـه "الحاخامُ" فـي صلواتـه (موسى), ويسـأَل فيه (عيسى) البَطْرَقُ
يـا نيـلُ, أَنـتَ بطيب ما نَعَتَ "الهدى" وبمدْحــةِ (التوراةِ) أَحْــرَى أَخْـلَقُ
وإِليـك يُهْـدِي الحـمدَ خَـلْقٌ حـازهم كــنَفٌ عـلى مَـرِّ الدهـورِ مُـرَهَّقُ
كَـــنَفٌ "كَمَعْنٍ", أَو كســاحة "حاتم" خَــلْقٌ يُوَدِّعُــه, وخَــلْقٌ يَطْـرُقُ
وعليـك تُجـلَى مـنَ مَصونـات النُّهَى خُــودٌ, عـرائسُ, خِـدْرُهنّ المُهـرَقُ
الـــدرُّ فـــي لَبــاتهنّ مُنَظَّــمٌ والطيــبُ فــي حَـبراتهنّ مُرَقْـرَقُ
لــي فيـكَ مـدْحٌ ليس فيـه تكـلُّفٌ أَمــلاه حُــبٌّ ليس فيــه تَمَلُّــقُ
ممــا يُحمِّلنــا الهـوى لـكَ أَفْـرُخٌ سـنَطير عنهـا, وهـي عنـدك تُرزَقُ
تَهْفُــو إِليهــم فـي الـتراب قلوبُنـا وتكــاد فيــه بغـير عِـرْقٍ تَخْـفُقُ
تُرْجَــى لهــم, واللـهُ جـلَّ جلالُـه منــا ومنــك بهــم أَبَـرُّ وأَرفـقُ
فــاحفظ ودائـعَك التـي اسـتُودِعتْهَا أَنــت الـوفيُّ إِذا اؤتمنـتَ الأَصـدقُ
لــلأَرض يــومٌ, والسـماءِ قيامـةٌ وقيامـــةُ "الوادي" غــداةَ تحــلّقُ
أزهرى الحاج البشير- مشرف عام
رد: رائعة شوقي .... النيل الخالد
فــاحفظ ودائـعَك التـي اسـتُودِعتْهَا أَنــت الـوفيُّ إِذا اؤتمنـتَ الأَصـدقُ
قصيدة جميلة جدا
قصيدة جميلة جدا
nashi- مشرف المنتدى الرياضى
رد: رائعة شوقي .... النيل الخالد
حادينا المستنير ...... قصيدة ملهمــة
مــلأَتْ ديــارَك حكمـةً, مأْثورُهـا فـي الصخـر والـبَرْدِي الكـريمِ مُنَبَّقُ
وَبَنَـتْ بيـوتَ العلـم باذخـةَ الـذُّرَى يســعى لهــن مُغَــرِّبٌ ومُشَـرِّقُ
مــلأَتْ ديــارَك حكمـةً, مأْثورُهـا فـي الصخـر والـبَرْدِي الكـريمِ مُنَبَّقُ
وَبَنَـتْ بيـوتَ العلـم باذخـةَ الـذُّرَى يســعى لهــن مُغَــرِّبٌ ومُشَـرِّقُ
الفاتح محمد التوم- مشرف المنتدى السياسى
رد: رائعة شوقي .... النيل الخالد
من القصائد الخالده لشوقى شكرا يا ابو الزهور
غريق كمبال- مشرف المنتدى الاقتصادى
رد: رائعة شوقي .... النيل الخالد
منهــا الحيـاةُ لنـا, ومنهـا ضِدُّهـا أَبــدًا نَعــودُ لهـا, ومنهـا نُخْـلَقُ
والــزَّرعُ سُــنْبُلُه يطيــبُ, وحَبُّـه منهــا, فيخــرج ذا, وهــذا يفلَـقُ
وتَشــدُّ بيـتَ النحـلِ, فهـو مُطنَّـبٌ وتمــدُّ بيـتَ النمـل, فهـو مـروَّقُ
وتظـلُّ بيـن قـوى الحيـاةِ, جـوائِلاً لا تســـتَقِرُّ, دوائِــلاً لا تُمْحَــقُ
هــي كِلْمَـةُ اللـه القديـرِ, ورُوحُـه فــي الكائنــات, وسـرُّه المسـتغلِقُ
شوقي امير شعر مجنون
شكرا لك يا عمدة
والــزَّرعُ سُــنْبُلُه يطيــبُ, وحَبُّـه منهــا, فيخــرج ذا, وهــذا يفلَـقُ
وتَشــدُّ بيـتَ النحـلِ, فهـو مُطنَّـبٌ وتمــدُّ بيـتَ النمـل, فهـو مـروَّقُ
وتظـلُّ بيـن قـوى الحيـاةِ, جـوائِلاً لا تســـتَقِرُّ, دوائِــلاً لا تُمْحَــقُ
هــي كِلْمَـةُ اللـه القديـرِ, ورُوحُـه فــي الكائنــات, وسـرُّه المسـتغلِقُ
شوقي امير شعر مجنون
شكرا لك يا عمدة
طارق كمبال- مشرف إجتماعيات أبوجبيهة
مواضيع مماثلة
» مطارحه شعريه
» نص رهيب لفاروق جويده
» رائعة المهندس سيد عبدالعزيز...بت ملوك النيل
» بين النيل وحمد النيل 0000لهاشم صديق
» نهج البردة للشاعر أحمد شوقي إبراهيم
» نص رهيب لفاروق جويده
» رائعة المهندس سيد عبدالعزيز...بت ملوك النيل
» بين النيل وحمد النيل 0000لهاشم صديق
» نهج البردة للشاعر أحمد شوقي إبراهيم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى