نهر النيل بين الإستراتيجية و"الفهلوة"!!!
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
نهر النيل بين الإستراتيجية و"الفهلوة"!!!
نهر النيل بين الإستراتيجية و"الفهلوة"
فهمي هويدي
فشل المفاوضات مع دول حوض النيل درس جديد لمصر، يذكرها بأنها يجب أن تأخذ متطلبات أمنها القومي على محمل الجد، وأن "الفهلوة" لا يمكن أن تكون بديلا عن الإستراتيجية.
(1)
الأمر ليس هينا ولا يحتمل التراخي أو الهزل، فموضوعه مياه النيل التي تعتمد عليها مصر بنسبة 95% وحين يكون الأمر كذلك، فهو يعني أننا نتحدث عن مصدر الحياة في هذا البلد منذ دبت فيه الحياة. وقد جسدت الآثار المصرية هذه الحقيقة في لوحة صورت مركبا ضم الفرعون متحدا مع رمز النيل "حابي" مع رمز العدالة "ماعت"، واعتبر الباحثون أن هذه اللوحة تمثل خريطة مصر منذ فجر التاريخ، التي تقوم على الأضلاع الثلاثة الحاكم الفرعون وحابي النيل وماعت العدل.
"
ثمة قواعد عامة لإدارة مياه الأنهار العابرة للدول تنص على إقرار مبدأ الحقوق التاريخية المكتسبة في الموارد المائية، وتعتبر أن مياه الأنهار مورد طبيعي مشترك لا يخضع لسيادة دولة بذاتها. وهذه القواعد أقرها معهد القانون الدولي عام 1961
"
هذا الذي وعاه الفراعنة منذ آلاف السنين صرنا نناضل من أجل تثبيته والحفاظ عليه في القرن الواحد والعشرين. إذ في حين ظننا أن أمر الفرعون وقضية ماعت (العدل) يحتلان رأس شواغلنا الوطنية، فإننا فوجئنا بأن ضلع "حابي" في خطر، صحيح أن الخطر ليس حالا ولا داهما، ولكن مقدماته لا تخطئها عين. ذلك أن حصة مصر التاريخية من مياه النيل المستقرة منذ عام 1929 وبالاتفاق مع السودان عام 1959 (55 مليار متر مكعب) تتعرض الآن إلى النقد والمراجعة، وفي الوقت الذي أدركت فيه مصر أنها بحاجة إلى أن تضيف إلى حصتها 11 مليارا أخرى بسبب الزيادة الكبيرة في عدد السكان ومعدلات الاستهلاك، إذا بها تفاجأ بأن عليها أن تخوض معركة طويلة لكي تحافظ على حصتها الأصلية.
الموقف بدأ في التغير ابتداء من عام 1995، حين ارتفعت الأصوات في دول المنبع داعية إلى إعادة النظر في توزيع حصص مياه النيل استنادا إلى ثلاثة عوامل هي: أن دول المنبع اعتبرت أن تلك المياه ملك لها، ومن ثم فلها الحق ليس فقط في حجزها وراء السدود ولكن أيضا في بيعها لمصر والسودان، العامل الثاني أن بعض تلك الدول (كينيا وتنزانيا مثلا) ذكرت أن الحصص ينبغي أن يعاد النظر فيها بما يلبي تطور احتياجاتها التنموية خصوصا في التحول من الزراعة الموسمية إلى الزراعة الدائمة. العامل الثالث أن تلك الدول احتجت بأن اتفاقية عام 1929 وقعتها مصر مع سلطة الاحتلال البريطاني، التي لم تراع احتياجات "مستعمراتها"، وبعدما نالت تلك المستعمرات استقلالها فإن الأمر اختلف، بما يسوغ إعادة النظر في الاتفاقات التي عقدها البريطانيون.
هذه الحجج لم تكن بريئة تماما، فالدعوة إلى إعادة توزيع الحصص بصورة "أكثر عدالة" تثير الانتباه. إذ في حين تعتمد مصر في احتياجاتها المائية على مياه النيل بنسبة 95%، فإن نسبة اعتماد إثيوبيا التي تقود الحملة حوالي 1%، وكينيا 2% وتنزانيا 3% والكونغو 1% وبوروندي 5% والسودان 15%. ذلك أن كثافة هطول الأمطار على تلك البلدان تقلل من أهمية مياه النيل بالنسبة لها. الأمر الآخر المهم أن اتفاقات المرحلة الاستعمارية التي يراد إعادة النظر فيها، بما فيها اتفاق توزيع حصص المياه، هي ذاتها التي أنشأت تلك الدول، وإعادة النظر فيها من شأنها أن تطلق عنان الفوضى ليس في دول حوض النيل فحسب، وإنما في أفريقيا كلها.
يضاف إلى ما سبق أن ثمة قواعد عامة لإدارة مياه الأنهار العابرة للدول تنص على إقرار مبدأ الحقوق التاريخية المكتسبة في الموارد المائية، وتعتبر أن مياه الأنهار مورد طبيعي مشترك لا يخضع لسيادة دولة بذاتها. وهذه القواعد أقرها معهد القانون الدولي عام 1961.
(2)
في الجولة التفاوضية الأخيرة التي عقدت في شرم الشيخ وانتهت يوم الأربعاء الماضي (14/4) كان واضحا أن دول حوض النيل السبع (المنبع) تكتلت ضد مصر والسودان (وهما دولتا المصب). إذ رفضت المقترحات المصرية السودانية لاتفاقية التعاون فيما بينهما. خصوصا ثلاثة بنود أصر عليها البلدان تقضي بما يلي: ضرورة قيام دول منابع النيل بإخطار الدولتين مسبقا قبل تنفيذ مشروعات على أعالي النهر قد تؤثر على حصصهما في المياه. -استمرار العمل بالاتفاقيات السابقة التي توزع حصص المياه باعتبارها حقوقا تاريخية. -في حالة إنشاء مفوضية لدول حوض النيل، فإن التصويت فيها إما أن يتم بالإجماع وإما بالأغلبية التي يشترط فيها موافقة دولتي المصب.
"
لأول مرة تتحدى دول المنبع (السبع) مصر وتتصرف على نحو يفتح الباب لاحتمال المساس مستقبلا بحصتها في المياه، ومن ثم الإضرار بأمنها القومي، كما أن هذا الشقاق سوف يكرس المواجهة بين الدول العربية في القارة والدول الأفريقية غير العربية
"
مؤتمر شرم الشيخ كان بمثابة الجولة الثالثة للمناقشات مع دول حوض النيل، الأولى كانت في كينشاسا بالكونغو (مايو/أيار 2009) والثانية كانت في الإسكندرية (يوليو/تموز 2009)، وحسب البيان الذي أصدرته دول الحوض السبع منفردة فإن لقاء الإسكندرية هو آخر اجتماع لبحث الموضوع، وإذا سارت الأمور على النحو الذي حدده البيان ولم يتدخل الرؤساء لتغيير موقف الوزراء، فإن تلك الدول ستوقع الاتفاقية خلال عام، دون أن تشارك فيها مصر أو السودان، وهذه الخطوة إذا تمت فإنها ستكون بمثابة أول شقاق علني بين دول حوض النيل، منبعه ومصبه، والمرة الأولى التي تتحدى فيها تلك الدول مصر وتتصرف على نحو يفتح الباب لاحتمال المساس مستقبلا بحصتها في المياه، ومن ثم الإضرار بأمنها القومي، كما أن هذا الشقاق سوف يكرس المواجهة بين الدول العربية في القارة والدول الأفريقية غير العربية.
(3)
مصر تدفع الآن ثمن غيابها عن أفريقيا. هذه المقولة لم يختلف عليها أحد من الخبراء الذين حدثتهم في الموضوع. ذلك أن أفريقيا حين كانت إحدى دوائر الانتماء في المرحلة الناصرية، كان لها شأن مختلف تماما، فقد كان هناك مكتب يعنى بأمرها في رئاسة الجمهورية، تولى المسؤولية عنه السيد محمد فايق، إلى جانب المكاتب الأخرى التي خصصت لمتابعة الشؤون العربية والآسيوية والأوروبية، وكانت القاهرة مفتوحة الذراعين لحركات التحرر في مختلف الدول الأفريقية. في حين كانت شركة النصر للتصدير والاستيراد هي غطاء أنشطة المخابرات المصرية في دول القارة إلى جانب أنشطتها الأخرى. كما كانت مدينة البعوث الإسلامية والجامعات المصرية تستقبل باستمرار أعدادا كبيرة من أبناء تلك الدول.
وفي التركيز على دول منابع النيل فإن الرئيس عبد الناصر أقام علاقة خاصة مع الإمبراطور هيلاسلاسي وكان يحضر اجتماعاتهما في القاهرة الأنبا كيرلس بطريرك الأقباط الأرثوذكس، الذي كانت تتبعه كنيسة الحبشة. لكن هذه الصفحة طويت بمضي الوقت بعد رحيل عبد الناصر، وجرى تفكيك كل الجسور التي تم بناؤها مع مختلف دول القارة. حتى الكنيسة الإثيوبية انفصلت عن الكنيسة المصرية.
وتعزز وتعمق التباعد حين جرت محاولة اغتيال الرئيس مبارك أثناء توجهه للمشاركة في القمة الأفريقية بأديس أبابا عام 1995. وهو العام الذي لم تنتكس فيه علاقة مصر بالدول الأفريقية فحسب، ولكن بدا أيضا أن التراجع تحول إلى ما يشبه الخصومة التي سقطت بمقتضاها أفريقيا من أولويات أجندة السياسة الخارجية المصرية.
(4)
حين كانت مصر تخرج بصورة تدريجية من أفريقيا، كانت إسرائيل والولايات المتحدة وغيرهما من الدول صاحبة المصلحة تزحف على القارة وتثبت أقدامها في أرجائها. ومن المفارقات ذات الدلالة أن مطالبة دون المنبع بإعادة النظر في حصص مياه النيل بدأت في عام 1995، كما سبقت الإشارة. وهو ذات العام الذي وقعت فيه محاولة الاعتداء على الرئيس مبارك، وأحدثت ما يشبه القطيعة في العلاقات المصرية الأفريقية، وهو ما تجلى في غياب مصر عن مؤتمرات القمة الأفريقية، الأمر الذي هيأ الفرصة المواتية للآخرين ليس فقط لكي يتمددوا ويتمكنوا، ولكن أيضا لكي يكيدوا لمصر ويسمموا العلاقات معها.
"
الدول التي تزعمت الدعوة لإعادة النظر في توزيع حصص مياه النيل هي أكثر دول القارة ارتباطا بإسرائيل وانفتاحا عليها (إثيوبيا وكينيا وأوغندا)، وهو ما يعزز الشكوك في دوافع إطلاق ما سمي بالاتفاقية الإطارية
"
من الملاحظات المهمة في هذا السياق أن الدول التي تزعمت تلك الدعوة، هي أكثر دول القارة ارتباطا بإسرائيل وانفتاحا عليها (إثيوبيا وكينيا وأوغندا)، وهو ما يعزز الشكوك في دوافع إطلاق ما سمي بالاتفاقية الإطارية للتعاون بين دول حوض وادي النيل.
هذه الخلفية عبر عنها الدكتور محمد أبو زيد وزير الري والموارد المائية السابق، حين صرح في شهر فبراير/شباط من العام الماضي بأن ثمة مخططا إسرائيليا أميركيا للضغط على مصر، لإمداد تل أبيب بالمياه من خلال إثارة موضوع "تدويل الأنهار".
هذا الكلام صحيح مائة في المائة، كما أنه ليست فيه أية مفاجأة. فالوثائق الإسرائيلية المنشورة تجمع على أن إستراتيجية الدولة العبرية منذ أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات اتجهت إلى محاولة تطويق العالم العربي والانقضاض عليه من الخلف، من خلال ما أطلق عليه بن غوريون رئيس الوزراء آنذاك سياسة "شد الأطراف"، التي ركزت على اختراق ثلاث من دول الجوار هي إثيوبيا وتركيا وإيران.
وكان الدخول إلى القارة الأفريقية والتركيز على دول حوض نهر النيل، وعلى رأسها إثيوبيا للضغط على مصر جزءا من تلك الإستراتيجية، وقد فصلت في هذه القصة دراسة عميد الموساد المتقاعد موشيه فرجي "إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان" التي قدمت إلى مركز ديان للأبحاث في تل أبيب، (نشرت عام 2003 وسبق أن استشهدت بمضمونها المثير).
لا مفاجأة فيما حدث إذن، ذلك أن الوجود الإسرائيلي المدعوم بالسياسة الأميركية تم تحت أعين الجميع ولم يكن فيه سر. ودراسة العميد فرجي تحدثت عن انتشار خمسة آلاف خبير إسرائيلي في دول القارة في ذلك الوقت المبكر. وهؤلاء نشطوا في مختلف المجالات العسكرية والاقتصادية من تدريب للجيوش والشرطة إلى إقامة المزارع وتصدير الزهور، وما كانت تقوم به شركة النصر للتصدير والاستيراد المصرية في الستينيات والسبعينيات تصدت له وضاعفت من مجالاته الدولة العبرية بهمة لم تعرف الفتور أو الانقطاع.
إزاء ذلك، فبوسعنا أن نقول إن الإسرائيليين زرعوا وحصدوا، أما نحن فقد زرعنا حقا ولكننا إما أننا تركنا الزرع بلا رعاية فجف ومات، وإما أننا اقتلعناه بالإهمال واللامبالاة. صحيح أننا حاولنا أن نعوض الغياب بأشكال مختلفة من الحضور خلال السنوات الأخيرة، إلا أن ذلك كان من قبيل محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه في الوقت الإضافي أو بدل الضائع.
"
لو أننا وجهنا ميزانية التلفزيون التي يخصصها كل عام لمسلسلات رمضان وفوازيره، لتمويل مساعدات مصر ومشروعاتها في دول حوض النيل لتجنبنا المأزق الذي نواجهه الآن، ولخففنا الكثير من أحزان "حابي" وقلقه على المستقبل
"
لقد قام بعض المسؤولين المصريين -في مقدمتهم الدكتور أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء- بزيارات لإثيوبيا وبعض دول الحوض، كما بذلت مصر بعض الجهود التي استهدفت تحقيق التعاون الذي يقنع تلك الدول بأن لها مصلحة في التوافق مع مصر، ودُعي رجال الأعمال المصريون إلى الإسهام في تلك الجهود. وتلك محاولات لا بأس بها لكنها جاءت متأخرة كثيرا، ثم إنها كانت دون ما تحتاجه حقا تلك الدول. وأهم من ذلك أنها لم تكن تعبيرا عن إستراتيجية وإنما كانت من قبيل "الفهلوة المصرية" التي تعول على الصدف السعيدة أكثر مما تراهن على التخطيط البعيد المدى.
لقد قرأت تصريحا لوزير الري المصري تحدث فيه عن مضاعفة اعتماد بند التعاون مع دول حوض النيل في ميزانية العام الجديد لكي تصبح 150 مليون جنيه (حوالي 27 مليون دولار)، وقرأت في اليوم التالي أن النرويج قدمت معونة بقيمة 414.2 مليون دولار إلى إثيوبيا لكي تقيم سدا جديدا عند منابع النيل. ووجدت أن المقارنة تجسد المفارقة، لأنني لاحظت أن ما قدم إلى دولة واحدة يعادل 15 مرة ما تعتزم مصر تقديمه إلى دول حوض النيل كلها في الميزانية الجديدة.
لو أننا وجهنا ميزانية التلفزيون التي يخصصها كل عام لمسلسلات رمضان وفوازيره، لتمويل مساعدات مصر ومشروعاتها في دول حوض النيل لتجنبنا المأزق الذي نواجهه الآن، ولخففنا الكثير من أحزان "حابي" وقلقه على المستقبل.
المصدر: الجزيرة
فهمي هويدي
فشل المفاوضات مع دول حوض النيل درس جديد لمصر، يذكرها بأنها يجب أن تأخذ متطلبات أمنها القومي على محمل الجد، وأن "الفهلوة" لا يمكن أن تكون بديلا عن الإستراتيجية.
(1)
الأمر ليس هينا ولا يحتمل التراخي أو الهزل، فموضوعه مياه النيل التي تعتمد عليها مصر بنسبة 95% وحين يكون الأمر كذلك، فهو يعني أننا نتحدث عن مصدر الحياة في هذا البلد منذ دبت فيه الحياة. وقد جسدت الآثار المصرية هذه الحقيقة في لوحة صورت مركبا ضم الفرعون متحدا مع رمز النيل "حابي" مع رمز العدالة "ماعت"، واعتبر الباحثون أن هذه اللوحة تمثل خريطة مصر منذ فجر التاريخ، التي تقوم على الأضلاع الثلاثة الحاكم الفرعون وحابي النيل وماعت العدل.
"
ثمة قواعد عامة لإدارة مياه الأنهار العابرة للدول تنص على إقرار مبدأ الحقوق التاريخية المكتسبة في الموارد المائية، وتعتبر أن مياه الأنهار مورد طبيعي مشترك لا يخضع لسيادة دولة بذاتها. وهذه القواعد أقرها معهد القانون الدولي عام 1961
"
هذا الذي وعاه الفراعنة منذ آلاف السنين صرنا نناضل من أجل تثبيته والحفاظ عليه في القرن الواحد والعشرين. إذ في حين ظننا أن أمر الفرعون وقضية ماعت (العدل) يحتلان رأس شواغلنا الوطنية، فإننا فوجئنا بأن ضلع "حابي" في خطر، صحيح أن الخطر ليس حالا ولا داهما، ولكن مقدماته لا تخطئها عين. ذلك أن حصة مصر التاريخية من مياه النيل المستقرة منذ عام 1929 وبالاتفاق مع السودان عام 1959 (55 مليار متر مكعب) تتعرض الآن إلى النقد والمراجعة، وفي الوقت الذي أدركت فيه مصر أنها بحاجة إلى أن تضيف إلى حصتها 11 مليارا أخرى بسبب الزيادة الكبيرة في عدد السكان ومعدلات الاستهلاك، إذا بها تفاجأ بأن عليها أن تخوض معركة طويلة لكي تحافظ على حصتها الأصلية.
الموقف بدأ في التغير ابتداء من عام 1995، حين ارتفعت الأصوات في دول المنبع داعية إلى إعادة النظر في توزيع حصص مياه النيل استنادا إلى ثلاثة عوامل هي: أن دول المنبع اعتبرت أن تلك المياه ملك لها، ومن ثم فلها الحق ليس فقط في حجزها وراء السدود ولكن أيضا في بيعها لمصر والسودان، العامل الثاني أن بعض تلك الدول (كينيا وتنزانيا مثلا) ذكرت أن الحصص ينبغي أن يعاد النظر فيها بما يلبي تطور احتياجاتها التنموية خصوصا في التحول من الزراعة الموسمية إلى الزراعة الدائمة. العامل الثالث أن تلك الدول احتجت بأن اتفاقية عام 1929 وقعتها مصر مع سلطة الاحتلال البريطاني، التي لم تراع احتياجات "مستعمراتها"، وبعدما نالت تلك المستعمرات استقلالها فإن الأمر اختلف، بما يسوغ إعادة النظر في الاتفاقات التي عقدها البريطانيون.
هذه الحجج لم تكن بريئة تماما، فالدعوة إلى إعادة توزيع الحصص بصورة "أكثر عدالة" تثير الانتباه. إذ في حين تعتمد مصر في احتياجاتها المائية على مياه النيل بنسبة 95%، فإن نسبة اعتماد إثيوبيا التي تقود الحملة حوالي 1%، وكينيا 2% وتنزانيا 3% والكونغو 1% وبوروندي 5% والسودان 15%. ذلك أن كثافة هطول الأمطار على تلك البلدان تقلل من أهمية مياه النيل بالنسبة لها. الأمر الآخر المهم أن اتفاقات المرحلة الاستعمارية التي يراد إعادة النظر فيها، بما فيها اتفاق توزيع حصص المياه، هي ذاتها التي أنشأت تلك الدول، وإعادة النظر فيها من شأنها أن تطلق عنان الفوضى ليس في دول حوض النيل فحسب، وإنما في أفريقيا كلها.
يضاف إلى ما سبق أن ثمة قواعد عامة لإدارة مياه الأنهار العابرة للدول تنص على إقرار مبدأ الحقوق التاريخية المكتسبة في الموارد المائية، وتعتبر أن مياه الأنهار مورد طبيعي مشترك لا يخضع لسيادة دولة بذاتها. وهذه القواعد أقرها معهد القانون الدولي عام 1961.
(2)
في الجولة التفاوضية الأخيرة التي عقدت في شرم الشيخ وانتهت يوم الأربعاء الماضي (14/4) كان واضحا أن دول حوض النيل السبع (المنبع) تكتلت ضد مصر والسودان (وهما دولتا المصب). إذ رفضت المقترحات المصرية السودانية لاتفاقية التعاون فيما بينهما. خصوصا ثلاثة بنود أصر عليها البلدان تقضي بما يلي: ضرورة قيام دول منابع النيل بإخطار الدولتين مسبقا قبل تنفيذ مشروعات على أعالي النهر قد تؤثر على حصصهما في المياه. -استمرار العمل بالاتفاقيات السابقة التي توزع حصص المياه باعتبارها حقوقا تاريخية. -في حالة إنشاء مفوضية لدول حوض النيل، فإن التصويت فيها إما أن يتم بالإجماع وإما بالأغلبية التي يشترط فيها موافقة دولتي المصب.
"
لأول مرة تتحدى دول المنبع (السبع) مصر وتتصرف على نحو يفتح الباب لاحتمال المساس مستقبلا بحصتها في المياه، ومن ثم الإضرار بأمنها القومي، كما أن هذا الشقاق سوف يكرس المواجهة بين الدول العربية في القارة والدول الأفريقية غير العربية
"
مؤتمر شرم الشيخ كان بمثابة الجولة الثالثة للمناقشات مع دول حوض النيل، الأولى كانت في كينشاسا بالكونغو (مايو/أيار 2009) والثانية كانت في الإسكندرية (يوليو/تموز 2009)، وحسب البيان الذي أصدرته دول الحوض السبع منفردة فإن لقاء الإسكندرية هو آخر اجتماع لبحث الموضوع، وإذا سارت الأمور على النحو الذي حدده البيان ولم يتدخل الرؤساء لتغيير موقف الوزراء، فإن تلك الدول ستوقع الاتفاقية خلال عام، دون أن تشارك فيها مصر أو السودان، وهذه الخطوة إذا تمت فإنها ستكون بمثابة أول شقاق علني بين دول حوض النيل، منبعه ومصبه، والمرة الأولى التي تتحدى فيها تلك الدول مصر وتتصرف على نحو يفتح الباب لاحتمال المساس مستقبلا بحصتها في المياه، ومن ثم الإضرار بأمنها القومي، كما أن هذا الشقاق سوف يكرس المواجهة بين الدول العربية في القارة والدول الأفريقية غير العربية.
(3)
مصر تدفع الآن ثمن غيابها عن أفريقيا. هذه المقولة لم يختلف عليها أحد من الخبراء الذين حدثتهم في الموضوع. ذلك أن أفريقيا حين كانت إحدى دوائر الانتماء في المرحلة الناصرية، كان لها شأن مختلف تماما، فقد كان هناك مكتب يعنى بأمرها في رئاسة الجمهورية، تولى المسؤولية عنه السيد محمد فايق، إلى جانب المكاتب الأخرى التي خصصت لمتابعة الشؤون العربية والآسيوية والأوروبية، وكانت القاهرة مفتوحة الذراعين لحركات التحرر في مختلف الدول الأفريقية. في حين كانت شركة النصر للتصدير والاستيراد هي غطاء أنشطة المخابرات المصرية في دول القارة إلى جانب أنشطتها الأخرى. كما كانت مدينة البعوث الإسلامية والجامعات المصرية تستقبل باستمرار أعدادا كبيرة من أبناء تلك الدول.
وفي التركيز على دول منابع النيل فإن الرئيس عبد الناصر أقام علاقة خاصة مع الإمبراطور هيلاسلاسي وكان يحضر اجتماعاتهما في القاهرة الأنبا كيرلس بطريرك الأقباط الأرثوذكس، الذي كانت تتبعه كنيسة الحبشة. لكن هذه الصفحة طويت بمضي الوقت بعد رحيل عبد الناصر، وجرى تفكيك كل الجسور التي تم بناؤها مع مختلف دول القارة. حتى الكنيسة الإثيوبية انفصلت عن الكنيسة المصرية.
وتعزز وتعمق التباعد حين جرت محاولة اغتيال الرئيس مبارك أثناء توجهه للمشاركة في القمة الأفريقية بأديس أبابا عام 1995. وهو العام الذي لم تنتكس فيه علاقة مصر بالدول الأفريقية فحسب، ولكن بدا أيضا أن التراجع تحول إلى ما يشبه الخصومة التي سقطت بمقتضاها أفريقيا من أولويات أجندة السياسة الخارجية المصرية.
(4)
حين كانت مصر تخرج بصورة تدريجية من أفريقيا، كانت إسرائيل والولايات المتحدة وغيرهما من الدول صاحبة المصلحة تزحف على القارة وتثبت أقدامها في أرجائها. ومن المفارقات ذات الدلالة أن مطالبة دون المنبع بإعادة النظر في حصص مياه النيل بدأت في عام 1995، كما سبقت الإشارة. وهو ذات العام الذي وقعت فيه محاولة الاعتداء على الرئيس مبارك، وأحدثت ما يشبه القطيعة في العلاقات المصرية الأفريقية، وهو ما تجلى في غياب مصر عن مؤتمرات القمة الأفريقية، الأمر الذي هيأ الفرصة المواتية للآخرين ليس فقط لكي يتمددوا ويتمكنوا، ولكن أيضا لكي يكيدوا لمصر ويسمموا العلاقات معها.
"
الدول التي تزعمت الدعوة لإعادة النظر في توزيع حصص مياه النيل هي أكثر دول القارة ارتباطا بإسرائيل وانفتاحا عليها (إثيوبيا وكينيا وأوغندا)، وهو ما يعزز الشكوك في دوافع إطلاق ما سمي بالاتفاقية الإطارية
"
من الملاحظات المهمة في هذا السياق أن الدول التي تزعمت تلك الدعوة، هي أكثر دول القارة ارتباطا بإسرائيل وانفتاحا عليها (إثيوبيا وكينيا وأوغندا)، وهو ما يعزز الشكوك في دوافع إطلاق ما سمي بالاتفاقية الإطارية للتعاون بين دول حوض وادي النيل.
هذه الخلفية عبر عنها الدكتور محمد أبو زيد وزير الري والموارد المائية السابق، حين صرح في شهر فبراير/شباط من العام الماضي بأن ثمة مخططا إسرائيليا أميركيا للضغط على مصر، لإمداد تل أبيب بالمياه من خلال إثارة موضوع "تدويل الأنهار".
هذا الكلام صحيح مائة في المائة، كما أنه ليست فيه أية مفاجأة. فالوثائق الإسرائيلية المنشورة تجمع على أن إستراتيجية الدولة العبرية منذ أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات اتجهت إلى محاولة تطويق العالم العربي والانقضاض عليه من الخلف، من خلال ما أطلق عليه بن غوريون رئيس الوزراء آنذاك سياسة "شد الأطراف"، التي ركزت على اختراق ثلاث من دول الجوار هي إثيوبيا وتركيا وإيران.
وكان الدخول إلى القارة الأفريقية والتركيز على دول حوض نهر النيل، وعلى رأسها إثيوبيا للضغط على مصر جزءا من تلك الإستراتيجية، وقد فصلت في هذه القصة دراسة عميد الموساد المتقاعد موشيه فرجي "إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان" التي قدمت إلى مركز ديان للأبحاث في تل أبيب، (نشرت عام 2003 وسبق أن استشهدت بمضمونها المثير).
لا مفاجأة فيما حدث إذن، ذلك أن الوجود الإسرائيلي المدعوم بالسياسة الأميركية تم تحت أعين الجميع ولم يكن فيه سر. ودراسة العميد فرجي تحدثت عن انتشار خمسة آلاف خبير إسرائيلي في دول القارة في ذلك الوقت المبكر. وهؤلاء نشطوا في مختلف المجالات العسكرية والاقتصادية من تدريب للجيوش والشرطة إلى إقامة المزارع وتصدير الزهور، وما كانت تقوم به شركة النصر للتصدير والاستيراد المصرية في الستينيات والسبعينيات تصدت له وضاعفت من مجالاته الدولة العبرية بهمة لم تعرف الفتور أو الانقطاع.
إزاء ذلك، فبوسعنا أن نقول إن الإسرائيليين زرعوا وحصدوا، أما نحن فقد زرعنا حقا ولكننا إما أننا تركنا الزرع بلا رعاية فجف ومات، وإما أننا اقتلعناه بالإهمال واللامبالاة. صحيح أننا حاولنا أن نعوض الغياب بأشكال مختلفة من الحضور خلال السنوات الأخيرة، إلا أن ذلك كان من قبيل محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه في الوقت الإضافي أو بدل الضائع.
"
لو أننا وجهنا ميزانية التلفزيون التي يخصصها كل عام لمسلسلات رمضان وفوازيره، لتمويل مساعدات مصر ومشروعاتها في دول حوض النيل لتجنبنا المأزق الذي نواجهه الآن، ولخففنا الكثير من أحزان "حابي" وقلقه على المستقبل
"
لقد قام بعض المسؤولين المصريين -في مقدمتهم الدكتور أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء- بزيارات لإثيوبيا وبعض دول الحوض، كما بذلت مصر بعض الجهود التي استهدفت تحقيق التعاون الذي يقنع تلك الدول بأن لها مصلحة في التوافق مع مصر، ودُعي رجال الأعمال المصريون إلى الإسهام في تلك الجهود. وتلك محاولات لا بأس بها لكنها جاءت متأخرة كثيرا، ثم إنها كانت دون ما تحتاجه حقا تلك الدول. وأهم من ذلك أنها لم تكن تعبيرا عن إستراتيجية وإنما كانت من قبيل "الفهلوة المصرية" التي تعول على الصدف السعيدة أكثر مما تراهن على التخطيط البعيد المدى.
لقد قرأت تصريحا لوزير الري المصري تحدث فيه عن مضاعفة اعتماد بند التعاون مع دول حوض النيل في ميزانية العام الجديد لكي تصبح 150 مليون جنيه (حوالي 27 مليون دولار)، وقرأت في اليوم التالي أن النرويج قدمت معونة بقيمة 414.2 مليون دولار إلى إثيوبيا لكي تقيم سدا جديدا عند منابع النيل. ووجدت أن المقارنة تجسد المفارقة، لأنني لاحظت أن ما قدم إلى دولة واحدة يعادل 15 مرة ما تعتزم مصر تقديمه إلى دول حوض النيل كلها في الميزانية الجديدة.
لو أننا وجهنا ميزانية التلفزيون التي يخصصها كل عام لمسلسلات رمضان وفوازيره، لتمويل مساعدات مصر ومشروعاتها في دول حوض النيل لتجنبنا المأزق الذي نواجهه الآن، ولخففنا الكثير من أحزان "حابي" وقلقه على المستقبل.
المصدر: الجزيرة
nashi- مشرف المنتدى الرياضى
رد: نهر النيل بين الإستراتيجية و"الفهلوة"!!!
صر والحرب القادمة
حمدي عبد الرحمن
مصر ونيلها في خطر..ثنائية حدية في المواقف...السيناريوهات المتوقعة
تعد مقولة "مصر هبة النيل" أحد المبادئ الحاكمة لحركة الدولة المصرية من أجل تأمين حدودها الجنوبية. فإذا كانت النقوش الموجودة على جدران معبد الدير البحري تؤكد على عمق الروابط بين مصر الفرعونية ومنطقة أعالي النيل فإن محمد علي باشا مؤسس الدولة الحديثة حاول بذل ما في وسعه لضم مناطق النيل الأبيض بما في ذلك بحيرة فيكتوريا بحيث تصبح جزءا من حدود مصر الجنوبية.
وقد ازدادت حساسية وتعقد القضية المائية لمصر بعد تأسيس الدولة العبرية عام 1948 حيث إنها تبنت أيديولوجية الحركة الصهيونية الرامية إلى ضم كل من نهري النيل والفرات إلى حدودها. وأحسب أن مشروع "ترعة السلام" الذي اقترحه الرئيس أنور السادات لتوصيل مياه النيل إلى صحراء النقب يعكس هذا التوجه التوسعي لمفهوم "إسرائيل الكبرى".
"
تحولت موارد مثل النفط والمياه من كونها نعمة وهبها الخالق للإنسان ليساعده بها في إعمار الأرض لتصبح نقمة ووسيلة من وسائل نشر الصراعات العنيفة والفقر والتخلف في مناطق وجودها
"
على أن إسرائيل ما فتئت بعد فشل مشروع ترعة السلام تعمل من أجل استخدام قضية المياه للضغط على الإرادة المصرية وتقويض أهم مقومات الأمن القومي المصري. وقد حاولت في أواخر السبعينيات من القرن الماضي مساعدة إثيوبيا على إنشاء سد النيل الأزرق بهدف توفير المياه والكهرباء، وهو ما دفع بالرئيس السادات إلى وضع خطة طوارئ لمواجهة هذا الخطر المحدق بالأمن المائي المصري، لدرجة أنه هدد بالفعل للجوء إلى الخيار العسكري لتدمير مثل هذا النوع من السدود التي تؤثر على حصة مصر من مياه النيل.
أضحت قضية مياه النيل إذن موضوعا لتجاذبات السياسة وتعقيداتها، بل وتحدث البعض عن حروب المياه القادمة في المنطقة. وذهب نفر آخر من الكتاب يتحدث عن الصراع حول توزيع مياه نهر النيل في إطار مفهوم "لعنة" الموارد الطبيعية في أفريقيا.
فقد تحولت موارد مثل النفط والمياه من كونها نعمة وهبها الخالق للإنسان ليساعده بها في إعمار الأرض لتصبح نقمة ووسيلة من وسائل نشر الصراعات العنيفة والفقر والتخلف في مناطق وجودها. فأين نهر النيل من كل ذلك؟
مصر ونيلها في خطر
يلاحظ المتابع للتفكير الإستراتيجي المصري الحديث، رغم التطورات الفارقة التي شهدها على مدى العقود الثلاثة الماضية، أنه ينظر إلى مسألة المياه باعتبارها قضية مصيرية وترتبط بالأمن القومي المصري في صياغته المباشرة. وهكذا فإن عبارات مثل "النيل خط أحمر" وعدم التفريط في قطرة واحدة من مياه النيل لا تزال تهيمن على الخطاب المصري العام فيما يتعلق بنهر النيل.
ولعل ذلك الإدراك المصري يفسر لنا إخفاق اجتماع شرم الشيخ لوزراء مياه دول حوض النيل الذي عقد في 14/4/2010 في الوصول بمبادرة حوض النيل إلى غايتها. فقد فشل الاجتماع في التوقيع على اتفاقية التعاون الإطاري التي بدأ التفاوض على بنودها منذ العام 1999. لقد اصطدمت العملية التفاوضية منذ ذلك الحين بموقف مصري، وإلى حد ما سوداني، لا هوادة فيه يؤكد على الحقوق التاريخية لدولتي المصب.
ويمكن القول إجمالا إن السبب الرئيس لفشل اجتماع شرم الشيخ إنما يرجع إلى رفض مصر تخفيض حصتها المائية المقدرة عند أسوان بنحو (55.5) مليار متر مكعب سنويا. وقد تمترس المفاوض المصري دوما حول ثلاثة مبادئ حاكمة غير قابلة للتنازل، وهي: أولا التمسك بحقوق مصر المكتسبة في مياه النيل، وثانيا ضرورة موافقة مصر المسبقة على أي مشروعات مسبقة تقام في حوض النيل، وثالثا حصول مصر على حق الفيتو في أي تجمع مائي يضم دول حوض النهر العشر.
وعادة يستند الموقف المصري على النظام القانوني لنهر النيل والموروث عن العهد الاستعماري باعتباره لا يزال ساري المفعول والتأثير وفقا لقاعدة التوارث الدولي. وعليه فإن كلا من مصر والسودان يرفعان تلك القاعدة ويطالبان بضرورة التمسك باتفاقية عام 1929 التي وقعتها مصر مع بريطانيا العظمى واتفاقية العام 1959 بين مصر والسودان حيث إنهما يوفران الأساس القانوني لحصول مصر على النصيب الأوفر من مياه النيل فضلا عن اشتراط حصول أوغندا وبقية دول المنبع على موافقة مصر المسبقة على أي مشروعات خاصة باستخدام مياه النيل.
"
مكمن الخطورة في الأزمة الراهنة لنهر النيل تتمثل في أن مصر وبقية دول الحوض تتجه إلى مرحلة تتسم بشح المياه, فمصر تكاد تعتمد اعتمادا كليا على مياه النيل, كما أن بقية دول حوض النيل تواجه نفس التحديات المائية
"
ولعل مكمن الخطورة في الأزمة الراهنة لنهر النيل تتمثل في أن مصر وبقية دول الحوض تتجه إلى مرحلة تتسم بشح المياه، فمصر تكاد تعتمد اعتمادا كليا في الحصول على احتياجاتها من المياه العذبة على حصتها من مياه النيل. وتشير تقديرات مجلس الوزراء المصري إلى أن مصر مقبلة على عجز مائي، إذ من المتوقع أن ينخفض نصيب الفرد من المياه في مصر بحلول العام 2020 ليصل إلى نحو (500) متر مكعب سنويا، وهو أقل كثيرا من خط الفقر المائي.
ومن اللافت للانتباه حقا أن بقية دول حوض النيل تواجه نفس التحديات المائية التي تواجهها مصر وإن اختلفت الدرجة. فهي تعاني من نقص المياه وتدهور التربة وارتفاع معدلات التلوث. وكلما استمرت معدلات الزيادة السكانية في دول حوض النيل على ارتفاعها استمر الضغط على مياه النيل.
وعلى سبيل المثال، تواجه أوغندا التي شهدت انخفاض مستويات المياه في بحيرة فيكتوريا في السنوات الماضية معضلة كبرى في كيفية تحقيق الأمن المائي لملايين السكان الذين يعتمدون على مياه النيل.
ثنائية حدية في المواقف
ويلاحظ أن جهود التعاون المائي بين دول حوض النيل في مرحلة ما بعد الاستعمار قد اتسمت بالجزئية وعدم الشمول، وربما انطوت على رؤى سياسية واسعة مثل تجمع "الأندوجو" عام 1983 الذي ضم في عضويته جمهورية أفريقيا الوسطى وهى لا تنتمي إلى حوض النيل في حين قاطعته إثيوبيا.
وعليه مثل التوقيع على مبادرة حوض النيل عام 1999 نقطة تحول كبرى في تاريخ التعاون المشترك بين دول حوض النيل. إذ لأول مرة يحدث توافق عام بين الدول النهرية (باستثناء إريتريا) وهي إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندي والكونغو الديمقراطية إضافة لدولتي المصب مصر والسودان، وذلك من أجل الوصول إلى اتفاق جديد للتعاون الإطاري بين هذه الدول.
وقد أظهرت المفاوضات الخاصة بمبادرة حوض النيل على مدى السنوات العشر الماضية وجود ثنائية حادة بين دول النهر، بحيث أصبحنا أمام فريقين، أولهما يضم دول المنبع السبع والثاني يضم دولتي المصب مصر والسودان.
"
أظهرت المفاوضات الخاصة بمبادرة حوض النيل على مدى السنوات العشر الماضية وجود ثنائية حادة بين دول النهر بحيث أصبحنا أمام فريقين أولهما يضم دول المنبع السبع والثاني يضم دولتي المصب مصر والسودان
"
ففي اجتماع كينشاسا المنعقد يوم 22 /5/2009 اعترضت مصر على ثلاث مواد رئيسة في الاتفاق الإطاري المقترح، وهي: المادة (14 ب) الخاصة بالأمن المائي حيث تصر مصر على ضرورة النص صراحة على حقوقها المائية المكتسبة، والمادة ( التي ترى مصر ضرورة تضمينها مسألة الموافقة المصرية المسبقة على أي مشروعات مائية تقام في أعالي النيل وفقا لإجراءات البنك الدولي. وأخيرا تعديل المادة (34 أ وب) بحيث يكون الإجماع وليس الأغلبية هو المبدأ المعمول به لتعديل نصوص الاتفاق أو ملاحقه.
عندئذ واجهت مصر موقفا عصيبا يتمثل في تكتل دول حوض النيل السبع مجتمعة وراء موقف موحد يخالف الموقف المصري والسوداني، ولم تفلح الجهود التفاوضية في إحداث أي اختراق لموقف الطرفين، وهو ما أدى إلى فشل اجتماع الفرصة الأخيرة في شرم الشيخ.
السيناريوهات المتوقعة
أحسب أن الموقف الراهن بين دول حوض النيل ينذر بعواقب وخيمة على مسيرة التعاون المشترك بين الدول النهرية، وهو ما يؤثر يقينا على جهود تحقيق السلام والتنمية في المنطقة. ويمكن تصور سيناريوهات ثلاثة لمسارات الأزمة المائية الراهنة في حوض النيل:
السيناريو الأول: ويشير إلى استمرار حالة الثنائية والانقسام الراهنة بين دول المنبع من جهة ودولتي المصب من جهة أخرى، وعليه يمكن للدول السبع أن تبدأ منفردة في التوقيع على اتفاقية التعاون الإطاري ابتداء من 14/5/2010 لتدخل بعد ذلك في إجراءات التصديق عليها. ولا شك أن مثل هذا التطور إن تحقق سوف يخلق حالة فوضوية وكارثية تؤثر يقينا على الاستغلال المشترك لحوض النيل وتقلل من فرص التعاون والتنمية لموارد النهر.
السيناريو الثاني: ويتمثل في إمكانية العودة للوراء بحيث تضيع جهود التعاون المشترك، بما في ذلك خبرة عشر سنوات من التعاون في ظل مبادرة حوض النيل الحالية.
فمن الملاحظ أن هذه المبادرة شهدت تحولا واضحا في الموقفين المصري والإثيوبي، ولا سيما فيما يتعلق بالنظر إلي مياه النيل باعتبارها ملكية مشتركة تعود بالنفع على جميع الدول المشاطئة له. ولعل خطورة هذا السيناريو إن تحقق تتمثل في العودة بالأوضاع إلى المربع الأول بما يعنيه من ضياع الفرصة نحو دعم جهود التعاون والتنمية في حوض النيل.
"
أي حرب تختارها مصر في الدفاع عن أمنها المائي؟ أهي الحرب في ساحة النزال والوغى؟ أم تكون الحرب المقبلة لمصر في ساحة الدبلوماسية والتأكيد على عناصر قوتها الناعمة؟
"
السيناريو الثالث: ويشير إلى إمكانية تجاوز المسار الجماعي في التعاون لصالح إعطاء الأولوية لمسار التعاون الثنائي، وربما تلجا الدبلوماسية المصرية إلى هذا الخيار لمحاولة شق الموقف الموحد لدول أعالي النيل. ولا أظن أن مثل هذا البديل قادر على تحقيق الأمن المائي المصري أو حتى أمن الدول النيلية الأخرى التي باتت تعاني أزمة واضحة في المياه.
ما السبيل إذن؟ باعتقادي أن التفكير السائد الخاص بحرب المياه أو القول باستعداد مصر للدخول في حرب مقبلة إن تأثرت حصتها التاريخية من مياه النهر ولو قيد أنملة إنما هو أمر يتسم بعدم الحكمة وعدم الواقعية في آن واحد، بل إنه يسهم في تعقيد الأمور التي تعاني أصلا من التعقيد البالغ. وربما يكون من الملائم لمصر أن تستخدم أدوات قوتها الناعمة المتعددة لكسب عقول وقلوب أبناء النيل، ومن ثم تطرح لهم شيئا مقابل المياه.
كما أن التأكيد على المنظور التفاوضي السلمي والجماعي في حسم القضايا الخلافية يمثل خطوة في الاتجاه الصحيح. فأي حرب تختارها مصر في الدفاع عن أمنها المائي؟ أهي الحرب في ساحة النزال والوغى؟ أم تكون الحرب المقبلة لمصر في ساحة الدبلوماسية والتأكيد على عناصر قوتها الناعمة؟
المصدر: الجزيرة
حمدي عبد الرحمن
مصر ونيلها في خطر..ثنائية حدية في المواقف...السيناريوهات المتوقعة
تعد مقولة "مصر هبة النيل" أحد المبادئ الحاكمة لحركة الدولة المصرية من أجل تأمين حدودها الجنوبية. فإذا كانت النقوش الموجودة على جدران معبد الدير البحري تؤكد على عمق الروابط بين مصر الفرعونية ومنطقة أعالي النيل فإن محمد علي باشا مؤسس الدولة الحديثة حاول بذل ما في وسعه لضم مناطق النيل الأبيض بما في ذلك بحيرة فيكتوريا بحيث تصبح جزءا من حدود مصر الجنوبية.
وقد ازدادت حساسية وتعقد القضية المائية لمصر بعد تأسيس الدولة العبرية عام 1948 حيث إنها تبنت أيديولوجية الحركة الصهيونية الرامية إلى ضم كل من نهري النيل والفرات إلى حدودها. وأحسب أن مشروع "ترعة السلام" الذي اقترحه الرئيس أنور السادات لتوصيل مياه النيل إلى صحراء النقب يعكس هذا التوجه التوسعي لمفهوم "إسرائيل الكبرى".
"
تحولت موارد مثل النفط والمياه من كونها نعمة وهبها الخالق للإنسان ليساعده بها في إعمار الأرض لتصبح نقمة ووسيلة من وسائل نشر الصراعات العنيفة والفقر والتخلف في مناطق وجودها
"
على أن إسرائيل ما فتئت بعد فشل مشروع ترعة السلام تعمل من أجل استخدام قضية المياه للضغط على الإرادة المصرية وتقويض أهم مقومات الأمن القومي المصري. وقد حاولت في أواخر السبعينيات من القرن الماضي مساعدة إثيوبيا على إنشاء سد النيل الأزرق بهدف توفير المياه والكهرباء، وهو ما دفع بالرئيس السادات إلى وضع خطة طوارئ لمواجهة هذا الخطر المحدق بالأمن المائي المصري، لدرجة أنه هدد بالفعل للجوء إلى الخيار العسكري لتدمير مثل هذا النوع من السدود التي تؤثر على حصة مصر من مياه النيل.
أضحت قضية مياه النيل إذن موضوعا لتجاذبات السياسة وتعقيداتها، بل وتحدث البعض عن حروب المياه القادمة في المنطقة. وذهب نفر آخر من الكتاب يتحدث عن الصراع حول توزيع مياه نهر النيل في إطار مفهوم "لعنة" الموارد الطبيعية في أفريقيا.
فقد تحولت موارد مثل النفط والمياه من كونها نعمة وهبها الخالق للإنسان ليساعده بها في إعمار الأرض لتصبح نقمة ووسيلة من وسائل نشر الصراعات العنيفة والفقر والتخلف في مناطق وجودها. فأين نهر النيل من كل ذلك؟
مصر ونيلها في خطر
يلاحظ المتابع للتفكير الإستراتيجي المصري الحديث، رغم التطورات الفارقة التي شهدها على مدى العقود الثلاثة الماضية، أنه ينظر إلى مسألة المياه باعتبارها قضية مصيرية وترتبط بالأمن القومي المصري في صياغته المباشرة. وهكذا فإن عبارات مثل "النيل خط أحمر" وعدم التفريط في قطرة واحدة من مياه النيل لا تزال تهيمن على الخطاب المصري العام فيما يتعلق بنهر النيل.
ولعل ذلك الإدراك المصري يفسر لنا إخفاق اجتماع شرم الشيخ لوزراء مياه دول حوض النيل الذي عقد في 14/4/2010 في الوصول بمبادرة حوض النيل إلى غايتها. فقد فشل الاجتماع في التوقيع على اتفاقية التعاون الإطاري التي بدأ التفاوض على بنودها منذ العام 1999. لقد اصطدمت العملية التفاوضية منذ ذلك الحين بموقف مصري، وإلى حد ما سوداني، لا هوادة فيه يؤكد على الحقوق التاريخية لدولتي المصب.
ويمكن القول إجمالا إن السبب الرئيس لفشل اجتماع شرم الشيخ إنما يرجع إلى رفض مصر تخفيض حصتها المائية المقدرة عند أسوان بنحو (55.5) مليار متر مكعب سنويا. وقد تمترس المفاوض المصري دوما حول ثلاثة مبادئ حاكمة غير قابلة للتنازل، وهي: أولا التمسك بحقوق مصر المكتسبة في مياه النيل، وثانيا ضرورة موافقة مصر المسبقة على أي مشروعات مسبقة تقام في حوض النيل، وثالثا حصول مصر على حق الفيتو في أي تجمع مائي يضم دول حوض النهر العشر.
وعادة يستند الموقف المصري على النظام القانوني لنهر النيل والموروث عن العهد الاستعماري باعتباره لا يزال ساري المفعول والتأثير وفقا لقاعدة التوارث الدولي. وعليه فإن كلا من مصر والسودان يرفعان تلك القاعدة ويطالبان بضرورة التمسك باتفاقية عام 1929 التي وقعتها مصر مع بريطانيا العظمى واتفاقية العام 1959 بين مصر والسودان حيث إنهما يوفران الأساس القانوني لحصول مصر على النصيب الأوفر من مياه النيل فضلا عن اشتراط حصول أوغندا وبقية دول المنبع على موافقة مصر المسبقة على أي مشروعات خاصة باستخدام مياه النيل.
"
مكمن الخطورة في الأزمة الراهنة لنهر النيل تتمثل في أن مصر وبقية دول الحوض تتجه إلى مرحلة تتسم بشح المياه, فمصر تكاد تعتمد اعتمادا كليا على مياه النيل, كما أن بقية دول حوض النيل تواجه نفس التحديات المائية
"
ولعل مكمن الخطورة في الأزمة الراهنة لنهر النيل تتمثل في أن مصر وبقية دول الحوض تتجه إلى مرحلة تتسم بشح المياه، فمصر تكاد تعتمد اعتمادا كليا في الحصول على احتياجاتها من المياه العذبة على حصتها من مياه النيل. وتشير تقديرات مجلس الوزراء المصري إلى أن مصر مقبلة على عجز مائي، إذ من المتوقع أن ينخفض نصيب الفرد من المياه في مصر بحلول العام 2020 ليصل إلى نحو (500) متر مكعب سنويا، وهو أقل كثيرا من خط الفقر المائي.
ومن اللافت للانتباه حقا أن بقية دول حوض النيل تواجه نفس التحديات المائية التي تواجهها مصر وإن اختلفت الدرجة. فهي تعاني من نقص المياه وتدهور التربة وارتفاع معدلات التلوث. وكلما استمرت معدلات الزيادة السكانية في دول حوض النيل على ارتفاعها استمر الضغط على مياه النيل.
وعلى سبيل المثال، تواجه أوغندا التي شهدت انخفاض مستويات المياه في بحيرة فيكتوريا في السنوات الماضية معضلة كبرى في كيفية تحقيق الأمن المائي لملايين السكان الذين يعتمدون على مياه النيل.
ثنائية حدية في المواقف
ويلاحظ أن جهود التعاون المائي بين دول حوض النيل في مرحلة ما بعد الاستعمار قد اتسمت بالجزئية وعدم الشمول، وربما انطوت على رؤى سياسية واسعة مثل تجمع "الأندوجو" عام 1983 الذي ضم في عضويته جمهورية أفريقيا الوسطى وهى لا تنتمي إلى حوض النيل في حين قاطعته إثيوبيا.
وعليه مثل التوقيع على مبادرة حوض النيل عام 1999 نقطة تحول كبرى في تاريخ التعاون المشترك بين دول حوض النيل. إذ لأول مرة يحدث توافق عام بين الدول النهرية (باستثناء إريتريا) وهي إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندي والكونغو الديمقراطية إضافة لدولتي المصب مصر والسودان، وذلك من أجل الوصول إلى اتفاق جديد للتعاون الإطاري بين هذه الدول.
وقد أظهرت المفاوضات الخاصة بمبادرة حوض النيل على مدى السنوات العشر الماضية وجود ثنائية حادة بين دول النهر، بحيث أصبحنا أمام فريقين، أولهما يضم دول المنبع السبع والثاني يضم دولتي المصب مصر والسودان.
"
أظهرت المفاوضات الخاصة بمبادرة حوض النيل على مدى السنوات العشر الماضية وجود ثنائية حادة بين دول النهر بحيث أصبحنا أمام فريقين أولهما يضم دول المنبع السبع والثاني يضم دولتي المصب مصر والسودان
"
ففي اجتماع كينشاسا المنعقد يوم 22 /5/2009 اعترضت مصر على ثلاث مواد رئيسة في الاتفاق الإطاري المقترح، وهي: المادة (14 ب) الخاصة بالأمن المائي حيث تصر مصر على ضرورة النص صراحة على حقوقها المائية المكتسبة، والمادة ( التي ترى مصر ضرورة تضمينها مسألة الموافقة المصرية المسبقة على أي مشروعات مائية تقام في أعالي النيل وفقا لإجراءات البنك الدولي. وأخيرا تعديل المادة (34 أ وب) بحيث يكون الإجماع وليس الأغلبية هو المبدأ المعمول به لتعديل نصوص الاتفاق أو ملاحقه.
عندئذ واجهت مصر موقفا عصيبا يتمثل في تكتل دول حوض النيل السبع مجتمعة وراء موقف موحد يخالف الموقف المصري والسوداني، ولم تفلح الجهود التفاوضية في إحداث أي اختراق لموقف الطرفين، وهو ما أدى إلى فشل اجتماع الفرصة الأخيرة في شرم الشيخ.
السيناريوهات المتوقعة
أحسب أن الموقف الراهن بين دول حوض النيل ينذر بعواقب وخيمة على مسيرة التعاون المشترك بين الدول النهرية، وهو ما يؤثر يقينا على جهود تحقيق السلام والتنمية في المنطقة. ويمكن تصور سيناريوهات ثلاثة لمسارات الأزمة المائية الراهنة في حوض النيل:
السيناريو الأول: ويشير إلى استمرار حالة الثنائية والانقسام الراهنة بين دول المنبع من جهة ودولتي المصب من جهة أخرى، وعليه يمكن للدول السبع أن تبدأ منفردة في التوقيع على اتفاقية التعاون الإطاري ابتداء من 14/5/2010 لتدخل بعد ذلك في إجراءات التصديق عليها. ولا شك أن مثل هذا التطور إن تحقق سوف يخلق حالة فوضوية وكارثية تؤثر يقينا على الاستغلال المشترك لحوض النيل وتقلل من فرص التعاون والتنمية لموارد النهر.
السيناريو الثاني: ويتمثل في إمكانية العودة للوراء بحيث تضيع جهود التعاون المشترك، بما في ذلك خبرة عشر سنوات من التعاون في ظل مبادرة حوض النيل الحالية.
فمن الملاحظ أن هذه المبادرة شهدت تحولا واضحا في الموقفين المصري والإثيوبي، ولا سيما فيما يتعلق بالنظر إلي مياه النيل باعتبارها ملكية مشتركة تعود بالنفع على جميع الدول المشاطئة له. ولعل خطورة هذا السيناريو إن تحقق تتمثل في العودة بالأوضاع إلى المربع الأول بما يعنيه من ضياع الفرصة نحو دعم جهود التعاون والتنمية في حوض النيل.
"
أي حرب تختارها مصر في الدفاع عن أمنها المائي؟ أهي الحرب في ساحة النزال والوغى؟ أم تكون الحرب المقبلة لمصر في ساحة الدبلوماسية والتأكيد على عناصر قوتها الناعمة؟
"
السيناريو الثالث: ويشير إلى إمكانية تجاوز المسار الجماعي في التعاون لصالح إعطاء الأولوية لمسار التعاون الثنائي، وربما تلجا الدبلوماسية المصرية إلى هذا الخيار لمحاولة شق الموقف الموحد لدول أعالي النيل. ولا أظن أن مثل هذا البديل قادر على تحقيق الأمن المائي المصري أو حتى أمن الدول النيلية الأخرى التي باتت تعاني أزمة واضحة في المياه.
ما السبيل إذن؟ باعتقادي أن التفكير السائد الخاص بحرب المياه أو القول باستعداد مصر للدخول في حرب مقبلة إن تأثرت حصتها التاريخية من مياه النهر ولو قيد أنملة إنما هو أمر يتسم بعدم الحكمة وعدم الواقعية في آن واحد، بل إنه يسهم في تعقيد الأمور التي تعاني أصلا من التعقيد البالغ. وربما يكون من الملائم لمصر أن تستخدم أدوات قوتها الناعمة المتعددة لكسب عقول وقلوب أبناء النيل، ومن ثم تطرح لهم شيئا مقابل المياه.
كما أن التأكيد على المنظور التفاوضي السلمي والجماعي في حسم القضايا الخلافية يمثل خطوة في الاتجاه الصحيح. فأي حرب تختارها مصر في الدفاع عن أمنها المائي؟ أهي الحرب في ساحة النزال والوغى؟ أم تكون الحرب المقبلة لمصر في ساحة الدبلوماسية والتأكيد على عناصر قوتها الناعمة؟
المصدر: الجزيرة
nashi- مشرف المنتدى الرياضى
رد: نهر النيل بين الإستراتيجية و"الفهلوة"!!!
كل مانعرفه عن إتفاقية مياه النيل أو مبادرة حوض النيل ، هي إتفاقية أبرمتها الحكومة البريطانية -بصفتها الاستعمارية- نيابة عن عدد من دول حوض النيل (أوغندا وتنزانيا و كينيا)، في عام 1929 مع الحكومة المصرية يتضمن إقرار دول الحوض بحصة مصر المكتسبة من مياه النيل، وإن لمصر الحق في الاعتراض (الفيتو) في حالة إنشاء هذه الدول مشروعات جديدة على النهر وروافده، وتبع هذا اتفاقية مصرية سودانية عام 1959 تعطي لمصر حق استغلال 55 مليار متر مكعب من مياه النيل من أصل 83 مليار متر مكعب تصل إلى السودان ليتبقى للخرطوم 18 مليار متر مكعب من مياه النيل
يعني أخوتنا في شمال الوادي معتمدين تقسيم الإتفاقية القديمة ذي الحدود ولا احد يتعدى عليها............
يعني أخوتنا في شمال الوادي معتمدين تقسيم الإتفاقية القديمة ذي الحدود ولا احد يتعدى عليها............
الفاتح محمد التوم- مشرف المنتدى السياسى
رد: نهر النيل بين الإستراتيجية و"الفهلوة"!!!
اضافة مهمة وثرة اخي الفاتح ربنا يديك العافية
nashi- مشرف المنتدى الرياضى
رد: نهر النيل بين الإستراتيجية و"الفهلوة"!!!
اللاعبون والمتفرجون في حوض النيل
فهمي هويدي
التعامل مع ملف المياه يحتاج إلى تفكير من نوع مغاير، يعيد قراءة المشكلة بأبعادها المختلفة بعيدا عن لغة الانفعال والتهديد التي تحدث بها بعض المسؤولين المصريين.
(1)
ما دعاني للعودة إلى الموضوع مرة ثانية ليس فقط ما يمثله من أهمية حيوية بالنسبة لمصر، ولكن لأنني وقعت خلال الأسبوع الماضي على كم من المعلومات التي تسلط أضواء جديدة على جوانبه المختلفة, ووجدت أن النظر إليها من شأنه أن يسمح لنا بالتعامل مع الملف بصورة أكثر عمقا ومسؤولية، أدرى أننا نتحدث الآن بعدما حققت السياسة المصرية فشلا نسبيا في التوصل إلى اتفاق مع دول المصب، الأمر الذي يعد مقدمة لمواجهة لم تكن في الحسبان، يخشى أن تكون افتتاحا لحروب المياه في القرن الحادي والعشرين.
لقد وجدت مثلا أننا أصبحنا طرفا في مشكلة كبيرة متداولة في المحافل الدولية، التي لم تتوقف عن مناقشة «حق المياه»، وكان آخرها المنتدى العالمي للمياه الذي عقد في إسطنبول في شهر مارس/آذار من العام الماضي (2009)، ذلك أن في العالم 260 حوضا للمياه تتقاسمها دولتان وأكثر. ويعيش حولها 40٪ من سكان العالم، كما أن هناك مئات من الأحواض الجوفية المشتركة. ومن الأمثلة الصارخة على ذلك أن 14 دولة تتقاسم نهر الدانوب الأوروبي، و11 دولة تشترك في كل من نهري النيل والنيجر، و9 دول تشترك في الأمازون، وثلاث دول في نهري دجلة والفرات، ومثلها لنهر الأردن.
"
في العالم 260 حوضا للمياه تتقاسمها دولتان وأكثر, ويعيش حولها 40٪ من سكان العالم، كما أن هناك مئات من الأحواض الجوفية المشتركة, وفي أغلب الأحوال فإن أنصبة تلك الدول من المياه يتم التفاهم حولها بصورة ودية وسلمية، إلا أن الأمر لا يخلو من خلافات
"
وفي أغلب الأحوال فإن أنصبة تلك الدول من المياه يتم التفاهم حولها بصورة ودية وسلمية، إلا أن الأمر لا يخلو من خلافات تنشأ إما عن التوزيع غير العادل أو الخلافات السياسية. وهو الحاصل بين تركيا والعراق، وإسرائيل والمناطق المحتلة. وبين مصر والسودان من ناحية ودول منابع النيل من ناحية ثانية.
في الوقت ذاته، ثمة 145 معاهدة عالمية حول موضوع المياه، لم تحلّ الخلافات التي تثور بين أطرافها أو تحسمها تماما، ومع ذلك لم يحدث أن كانت المياه وحدها سببا مباشرا للحرب فيما بين الدول، كما يقول رئيس المجلس العالمي للمياه لويك فوشون. وفي حالة وقوع نزاعات مسلحة بين الدول المعنية فعادة ما تكون هناك عوامل أخرى تحرك تلك النزاعات، في مقدمتها طبيعة العلاقات السياسية وغياب التعاون بين تلك الدول، إضافة إلى المرارات والرواسب التاريخية، ولا ينسى في هذا الصدد أن موازين القوة بين الأطراف المختلفة تلعب دورها في توزيع حصص المياه، والحالة الأشهر في ذلك تتمثل في إسرائيل التي تحبس المياه وتنتفع بها على حساب الفلسطينيين أصحاب الأرض، وكانت النتيجة أن متوسط استهلاك الفلسطيني في الأرض المحتلة أصبح في حدود 75 لترا يوميا، في مقابل 300 لتر للإسرائيلي، علما بأن المتوسط العالمي الأدنى مائة لتر. بحسب منظمة الصحة العالمية.
(2)
لأن اللاعبين كثر فالحاصل في القارة الأفريقية أكثر تعقيدا مما نتصوره. هذه نقطة مركزية في دراسة تلقيتها من المدير السابق لمعهد الدراسات الأفريقية الدكتور السيد فليفل، اعتبر فيها الموقف المصري إزاء أفريقيا «مفتقدا الرؤية الإستراتيجية المتماسكة». وهو يرصد التحركات المناوئة التي يتعين الانتباه إليها، سجل الملاحظات التالية:
* تتبنى الولايات المتحدة مشروعات إستراتيجية مؤثرة على المصالح المصرية، أخطرها مشروع القرن الأفريقي الكبير. الذي يستهدف تدمير الدرع اليمنى لحوض النيل، وتمزيق السودان بغرض النفاذ منه إلى قلب القارة وأقاليمها المائية للهيمنة على أهم موارد القارة الطبيعية الكفيلة بتوليد طاقة مائية هائلة، وهذا المشروع يشكل قيدا على الحركة المصرية في مجاليْها الحيويين، العالم العربي والقارة الأفريقية.
* طرحت الولايات المتحدة كذلك فكرة بعث مشروع استعماري بريطاني قديم هو اتحاد شرق أفريقيا (كينيا وأوغندا وتنزانيا). وفي التصور الأميركي فإن ذلك الاتحاد يمكن أن يضم دولة مقترحة في جنوب السودان، وقد عقد عدة دورات في السنوات الثلاث الماضية على مستوى القمة. ومن شأن إقامته أن يتم شق تجمع «كوميسا» وإضعاف دور مصر فيه، وبصفة خاصة إذا انضمت إليه إثيوبيا، وفي حال انفصال جنوب السودان فإن ذلك الاتحاد، سيكون بمثابة شرخ محتمل في العلاقات العربية الأفريقية، لا يعلم إلا الله تداعياته ومآلاته.
"
تتبنى الولايات المتحدة مشروعات إستراتيجية مؤثرة على المصالح المصرية، أخطرها مشروع القرن الأفريقي الكبير, الذي يستهدف تدمير الدرع اليمنى لحوض النيل، وتمزيق السودان بغرض النفاذ منه إلى قلب القارة وأقاليمها المائية
"
وما لم تقم مصر باختراق كبير، فإن علاقة مصر والسودان مع الاتحاد الجديد ستشهد توترات عدة. وفي ظل احتمال انضمام إثيوبيا إليه، وإزاء غياب الدولة الصومالية، فإن أزمة مياه النيل والعلاقة مع دول الحوض ستصبح أزمة أفريقية/أفريقية وأفريقية/عربية في ذات الوقت.
* تبنت الولايات المتحدة كذلك مشروع خليج غينيا، وهو يرمي إلى حصد البترول المكتشف مؤخرا في دول غربي أفريقيا ووسطها، وتستهدف الولايات المتحدة من خلاله أن توفر في عام 2015 نحو ربع احتياجاتها من النفط من هذه المنطقة، خاصة نيجيريا وتشاد والسنغال وأنغولا، وهي لم تكتف بذلك، بل استخدمت تلك الدول ركيزة للتدخل في جوارها، وبعض تطورات أزمة دارفور تمكن قراءتها في إطار هذا المشروع.
* نتيجة لهذه المشروعات الأميركية صار السودان عرضة للاختطاف والتناوش والنهش من الشرق (في إطار مشروع الشرق الأوسط)، ومن الغرب (في إطار مشروع خليج غينيا)، ومن الجنوب (في إطار مشروع اتحاد شرق أفريقيا)، بل وصار عرضة للتقسيم الكامل في إطار مشروع القرن الأفريقي الكبير، وهو ما يهدد مصالح مصر الثابتة في مياه النيل بمخاطر شتى.
* إذا أضفنا لذلك كله ذلكم المشروع الوليد للقيادة العسكرية الأميركية لأفريقيا (أفريكوم) لأدركنا أن هذه المشاريع الأميركية ليست برامج تنموية طوباوية تحدث في فراغ إستراتيجي، بل يظاهرها تجييش للجيوش وحشد للقوى، وربما نشهد يوما تكون فيه جيوش الدول الأفريقية التي لا تتوقف زيارات المسؤولين الأميركيين لها (السنغال ونيجيريا وغانا في غربي القارة، وجنوب أفريقيا في جنوبيها، وكينيا وأوغندا وإثيوبيا في شرقيها) تدخل في إطار المشروعات الأميركية، على نحو ما حدث من تدخل إثيوبيا في الصومال، وقيادة أوغندا للقوات الأفريقية هناك، الأمر الذي يعني أننا بصدد برامج خطيرة تهدد أمن مصر القومي، لا تمس مصالحها فحسب، ولكنها تتجاهل أنها موجودة أصلا.
(3)
في الوقت الراهن، ومن الناحية العملية، لا مفر من الاعتراف بأن موقف مصر ضعيف، لا لأنها لا تملك أوراقا، ولكن لأنها لم تستخدم أوراقها وتجاهلتها طويلا، ولكي تدافع مصر عن حقوقها فمطلوب منها بذل جهد مضاعف، لسبب جوهري هو أن الساحة الأفريقية أصبحت تكتظ باللاعبين الوافدين إليها من كل صوب، فإلى جانب الولايات المتحدة وإسرائيل، ثمة حضور مشهود للصين وفرنسا وألمانيا واليابان والهند وإيران، وصولا إلى ماليزيا.
وفي حدود علمي فإن تركيا بدورها أصبحت تتطلع للنفاذ إلى الأسواق الأفريقية، حتى إنها قامت بتعيين أحد أهم رجال الأعمال سفيرا لها في نيروبي، ولابد أن يلفت نظرنا في هذا السياق أن المنظمات الأهلية التركية أصبحت تمارس نشاطا ثقافيا واسعا في مختلف دول القارة، بحيث لم تعد هناك دولة أفريقية إلا وأقيمت فيها مدرسة تركية على الأقل.
"
لكي تدافع مصر عن حقوقها فمطلوب منها بذل جهد مضاعف، لسبب جوهري هو أن الساحة الأفريقية أصبحت تكتظ باللاعبين الوافدين إليها من كل صوب، فإلى جانب الولايات المتحدة وإسرائيل، ثمة حضور مشهود للصين وفرنسا وألمانيا واليابان والهند وإيران، وصولا إلى ماليزيا
"
لقد تلقيت رسالة بخصوص إمكانيات الدور المصري من المدير السابق للجنة الإغاثة باتحاد الأطباء العرب الدكتور جمال عبد السلام طرح فيها سؤالين هما: لماذا لا تستحدث مصر وزارة لشؤون أفريقيا، كما سبق أن خصص الرئيس عبد الناصر وزارة للسد العالي (عين لها المهندس صدقي سليمان وزيرا)؟.
السؤال الثاني هو: لماذا لا تستعين الجهود الحكومية في ترميم ومد الجسور مع الدول الأفريقية بالمنظمات الأهلية ذات الخبرة العريضة في مختلف مجالات الخدمات، وفي مقدمة تلك المنظمات جمعية الهلال الأحمر ولجان الإغاثة بالجمعية الشرعية ونقابة الأطباء المصرية واتحاد الأطباء العرب.
يذكرنا الدكتور جمال عبد السلام بأن العالم العربي ومصر خاصة أقرب إلى أفريقيا من كل تلك البلدان التي تقاطرت عليها، وأن مدرسة واحدة أقامتها الكويت في جوبا، جعلت شعب جنوب السودان يخرج في مظاهرات صاخبة احتجاجا على غزو العراق للكويت، في حين أن الموقف في الشمال كان ملتبسا، كما أن إقامة مدرسة جمال عبد الناصر في مقديشو، والبعثة الأزهرية التي تم إيفادها إلى الصومال (كانت الأكبر في القارة الأفريقية) أحدثتا تغييرات جوهرية في أجواء البلاد، لمسها الوفد الإغاثي الذي أرسلته الجامعة العربية إلى هناك في بداية التسعينيات.
من ناحية أخرى فإن الأنشطة التي قامت بها القوافل الإغاثة العلاجية ولجان مكافحة العمى في بعض الدول الأفريقية كانت لها أصداؤها الإيجابية القوية، حين زارت جيبوتي والصومال وتشاد والنيجر.
(4)
حتى تأخذ المصارحة مداها، يتعين علينا في النهاية أن نسجل عدة أمور أحسبها ضرورية لانتقال مصر من موقف المتفرج إلى اللاعب في ساحة حوض النيل، هذه الأمور هي:
1- إن الفشل النسبي للمفاوضات مع دول الحوض وثيق الصلة بتراجع الدور المصري وغياب إستراتيجية واضحة للتعامل مع العالم الخارجي، فالعلاقة مع دول حوض النيل مثلا، لا تنفصل عن العلاقة مع دول منطقة القرن الأفريقي، بل مع محيط دول الاتحاد الأفريقي.
2- إن مصر لم تتصرف حتى الآن باعتبارها جزءا من أفريقيا، وأعطت انطباعا بأنها ضيف عليها ومضطر إليها، وذلك وضع يحتاج إلى تصحيح بحيث تنضم الهوية الأفريقية إلى مفردات الهوية الأخرى للإقليم، المصرية والعربية والإسلامية والمتوسطية.. إلخ. ورغم أن بعض المسؤولين المصريين دأبوا على الحديث عن تضحيات مصر من أجل أفريقيا (في أزمنة سابقة) فإن الأفارقة لم يجدوا ما يبرهن على ذلك في زماننا. ولك أن تقدر مشاعرهم مثلا عندما يجدون أن مصر أعادت الحياة إلى شبكة كهرباء لبنان مرة واثنتين إثر العدوان الإسرائيلي، في حين لا يجدون أثرا يذكر لدورها التنموي في بلادهم.
3- حين نتحدث عن دور العوامل أو الدسائس الخارجية التي باعدت بين مصر وبين دول الحوض، ينبغي ألا يمنعنا ذلك من تفهم مشاعر الأفارقة إزاء مصر. ذلك أن منهم من يلمس استعلاء مصريا غير مبرر في التعامل معهم.. ومنهم من لا يستطيع أن يتحلل من مشاعر الاستياء والحساسية حين يجدون أن مياه النهر تمر على بلدانهم التي تعانى التخلف والفقر والمرض، لتصل إلى حياضنا لنزرع بها ونروي. ومن حقهم في هذه الحالة أن يطالبوا بمردود يمتص مشاعرهم تلك ويرطب من جوانحهم.
"
الإسهام المصري في تنمية مجتمعات دول حوض النيل وتوفير ما يمكن توفيره من خدمات طبيعية وتعليمية لهم لا يبدد المشاعر المضادة فحسب ولكنه أيضا يوفر لمصر نفوذا ناعما يرجح من كفتها في مثل المواقف الخلافية
"
ولا شك أن الإسهام المصري في تنمية تلك المجتمعات وتوفير ما يمكن توفيره من خدمات طبيعية وتعليمية لهم لا يبدد تلك المشاعر فحسب ولكنه أيضا يوفر لمصر نفوذا ناعما يرجح من كفتها في مثل المواقف الخلافية التي نحن بصددها.
4- ثمة انطباع مغلوط يشيع بين بعض النخب في الدول الأفريقية خصوصا بعد توقيع اتفاقية كامب ديفد يدعي أن التنسيق قائم بين مصر والولايات المتحدة وإسرائيل في المشرق العربي والقرن الأفريقي، ولا أعرف علاقة هذه الشائعة بفكرة معسكر «الاعتدال» الذي يروج له في العالم العربي وتتصدره الدول الثلاث، لكن الذي لا أشك فيه أن هذه السمعة أفقدت الدور المصري «الغائب» رصيده الوطني والمستقبل في القارة.
ولأن التحدي كبير، فالجهد المطلوب أيضا كبير، وهو ما يتطلب قرارا سياسيا على أعلى مستوى، يستصحب عزيمة صادقة ونفسا طويلا. وتلك مشكلات عويصة لا أعرف هل سنحلها في الأجل المنظور أم لا.
المصدر: الجزيرة
فهمي هويدي
التعامل مع ملف المياه يحتاج إلى تفكير من نوع مغاير، يعيد قراءة المشكلة بأبعادها المختلفة بعيدا عن لغة الانفعال والتهديد التي تحدث بها بعض المسؤولين المصريين.
(1)
ما دعاني للعودة إلى الموضوع مرة ثانية ليس فقط ما يمثله من أهمية حيوية بالنسبة لمصر، ولكن لأنني وقعت خلال الأسبوع الماضي على كم من المعلومات التي تسلط أضواء جديدة على جوانبه المختلفة, ووجدت أن النظر إليها من شأنه أن يسمح لنا بالتعامل مع الملف بصورة أكثر عمقا ومسؤولية، أدرى أننا نتحدث الآن بعدما حققت السياسة المصرية فشلا نسبيا في التوصل إلى اتفاق مع دول المصب، الأمر الذي يعد مقدمة لمواجهة لم تكن في الحسبان، يخشى أن تكون افتتاحا لحروب المياه في القرن الحادي والعشرين.
لقد وجدت مثلا أننا أصبحنا طرفا في مشكلة كبيرة متداولة في المحافل الدولية، التي لم تتوقف عن مناقشة «حق المياه»، وكان آخرها المنتدى العالمي للمياه الذي عقد في إسطنبول في شهر مارس/آذار من العام الماضي (2009)، ذلك أن في العالم 260 حوضا للمياه تتقاسمها دولتان وأكثر. ويعيش حولها 40٪ من سكان العالم، كما أن هناك مئات من الأحواض الجوفية المشتركة. ومن الأمثلة الصارخة على ذلك أن 14 دولة تتقاسم نهر الدانوب الأوروبي، و11 دولة تشترك في كل من نهري النيل والنيجر، و9 دول تشترك في الأمازون، وثلاث دول في نهري دجلة والفرات، ومثلها لنهر الأردن.
"
في العالم 260 حوضا للمياه تتقاسمها دولتان وأكثر, ويعيش حولها 40٪ من سكان العالم، كما أن هناك مئات من الأحواض الجوفية المشتركة, وفي أغلب الأحوال فإن أنصبة تلك الدول من المياه يتم التفاهم حولها بصورة ودية وسلمية، إلا أن الأمر لا يخلو من خلافات
"
وفي أغلب الأحوال فإن أنصبة تلك الدول من المياه يتم التفاهم حولها بصورة ودية وسلمية، إلا أن الأمر لا يخلو من خلافات تنشأ إما عن التوزيع غير العادل أو الخلافات السياسية. وهو الحاصل بين تركيا والعراق، وإسرائيل والمناطق المحتلة. وبين مصر والسودان من ناحية ودول منابع النيل من ناحية ثانية.
في الوقت ذاته، ثمة 145 معاهدة عالمية حول موضوع المياه، لم تحلّ الخلافات التي تثور بين أطرافها أو تحسمها تماما، ومع ذلك لم يحدث أن كانت المياه وحدها سببا مباشرا للحرب فيما بين الدول، كما يقول رئيس المجلس العالمي للمياه لويك فوشون. وفي حالة وقوع نزاعات مسلحة بين الدول المعنية فعادة ما تكون هناك عوامل أخرى تحرك تلك النزاعات، في مقدمتها طبيعة العلاقات السياسية وغياب التعاون بين تلك الدول، إضافة إلى المرارات والرواسب التاريخية، ولا ينسى في هذا الصدد أن موازين القوة بين الأطراف المختلفة تلعب دورها في توزيع حصص المياه، والحالة الأشهر في ذلك تتمثل في إسرائيل التي تحبس المياه وتنتفع بها على حساب الفلسطينيين أصحاب الأرض، وكانت النتيجة أن متوسط استهلاك الفلسطيني في الأرض المحتلة أصبح في حدود 75 لترا يوميا، في مقابل 300 لتر للإسرائيلي، علما بأن المتوسط العالمي الأدنى مائة لتر. بحسب منظمة الصحة العالمية.
(2)
لأن اللاعبين كثر فالحاصل في القارة الأفريقية أكثر تعقيدا مما نتصوره. هذه نقطة مركزية في دراسة تلقيتها من المدير السابق لمعهد الدراسات الأفريقية الدكتور السيد فليفل، اعتبر فيها الموقف المصري إزاء أفريقيا «مفتقدا الرؤية الإستراتيجية المتماسكة». وهو يرصد التحركات المناوئة التي يتعين الانتباه إليها، سجل الملاحظات التالية:
* تتبنى الولايات المتحدة مشروعات إستراتيجية مؤثرة على المصالح المصرية، أخطرها مشروع القرن الأفريقي الكبير. الذي يستهدف تدمير الدرع اليمنى لحوض النيل، وتمزيق السودان بغرض النفاذ منه إلى قلب القارة وأقاليمها المائية للهيمنة على أهم موارد القارة الطبيعية الكفيلة بتوليد طاقة مائية هائلة، وهذا المشروع يشكل قيدا على الحركة المصرية في مجاليْها الحيويين، العالم العربي والقارة الأفريقية.
* طرحت الولايات المتحدة كذلك فكرة بعث مشروع استعماري بريطاني قديم هو اتحاد شرق أفريقيا (كينيا وأوغندا وتنزانيا). وفي التصور الأميركي فإن ذلك الاتحاد يمكن أن يضم دولة مقترحة في جنوب السودان، وقد عقد عدة دورات في السنوات الثلاث الماضية على مستوى القمة. ومن شأن إقامته أن يتم شق تجمع «كوميسا» وإضعاف دور مصر فيه، وبصفة خاصة إذا انضمت إليه إثيوبيا، وفي حال انفصال جنوب السودان فإن ذلك الاتحاد، سيكون بمثابة شرخ محتمل في العلاقات العربية الأفريقية، لا يعلم إلا الله تداعياته ومآلاته.
"
تتبنى الولايات المتحدة مشروعات إستراتيجية مؤثرة على المصالح المصرية، أخطرها مشروع القرن الأفريقي الكبير, الذي يستهدف تدمير الدرع اليمنى لحوض النيل، وتمزيق السودان بغرض النفاذ منه إلى قلب القارة وأقاليمها المائية
"
وما لم تقم مصر باختراق كبير، فإن علاقة مصر والسودان مع الاتحاد الجديد ستشهد توترات عدة. وفي ظل احتمال انضمام إثيوبيا إليه، وإزاء غياب الدولة الصومالية، فإن أزمة مياه النيل والعلاقة مع دول الحوض ستصبح أزمة أفريقية/أفريقية وأفريقية/عربية في ذات الوقت.
* تبنت الولايات المتحدة كذلك مشروع خليج غينيا، وهو يرمي إلى حصد البترول المكتشف مؤخرا في دول غربي أفريقيا ووسطها، وتستهدف الولايات المتحدة من خلاله أن توفر في عام 2015 نحو ربع احتياجاتها من النفط من هذه المنطقة، خاصة نيجيريا وتشاد والسنغال وأنغولا، وهي لم تكتف بذلك، بل استخدمت تلك الدول ركيزة للتدخل في جوارها، وبعض تطورات أزمة دارفور تمكن قراءتها في إطار هذا المشروع.
* نتيجة لهذه المشروعات الأميركية صار السودان عرضة للاختطاف والتناوش والنهش من الشرق (في إطار مشروع الشرق الأوسط)، ومن الغرب (في إطار مشروع خليج غينيا)، ومن الجنوب (في إطار مشروع اتحاد شرق أفريقيا)، بل وصار عرضة للتقسيم الكامل في إطار مشروع القرن الأفريقي الكبير، وهو ما يهدد مصالح مصر الثابتة في مياه النيل بمخاطر شتى.
* إذا أضفنا لذلك كله ذلكم المشروع الوليد للقيادة العسكرية الأميركية لأفريقيا (أفريكوم) لأدركنا أن هذه المشاريع الأميركية ليست برامج تنموية طوباوية تحدث في فراغ إستراتيجي، بل يظاهرها تجييش للجيوش وحشد للقوى، وربما نشهد يوما تكون فيه جيوش الدول الأفريقية التي لا تتوقف زيارات المسؤولين الأميركيين لها (السنغال ونيجيريا وغانا في غربي القارة، وجنوب أفريقيا في جنوبيها، وكينيا وأوغندا وإثيوبيا في شرقيها) تدخل في إطار المشروعات الأميركية، على نحو ما حدث من تدخل إثيوبيا في الصومال، وقيادة أوغندا للقوات الأفريقية هناك، الأمر الذي يعني أننا بصدد برامج خطيرة تهدد أمن مصر القومي، لا تمس مصالحها فحسب، ولكنها تتجاهل أنها موجودة أصلا.
(3)
في الوقت الراهن، ومن الناحية العملية، لا مفر من الاعتراف بأن موقف مصر ضعيف، لا لأنها لا تملك أوراقا، ولكن لأنها لم تستخدم أوراقها وتجاهلتها طويلا، ولكي تدافع مصر عن حقوقها فمطلوب منها بذل جهد مضاعف، لسبب جوهري هو أن الساحة الأفريقية أصبحت تكتظ باللاعبين الوافدين إليها من كل صوب، فإلى جانب الولايات المتحدة وإسرائيل، ثمة حضور مشهود للصين وفرنسا وألمانيا واليابان والهند وإيران، وصولا إلى ماليزيا.
وفي حدود علمي فإن تركيا بدورها أصبحت تتطلع للنفاذ إلى الأسواق الأفريقية، حتى إنها قامت بتعيين أحد أهم رجال الأعمال سفيرا لها في نيروبي، ولابد أن يلفت نظرنا في هذا السياق أن المنظمات الأهلية التركية أصبحت تمارس نشاطا ثقافيا واسعا في مختلف دول القارة، بحيث لم تعد هناك دولة أفريقية إلا وأقيمت فيها مدرسة تركية على الأقل.
"
لكي تدافع مصر عن حقوقها فمطلوب منها بذل جهد مضاعف، لسبب جوهري هو أن الساحة الأفريقية أصبحت تكتظ باللاعبين الوافدين إليها من كل صوب، فإلى جانب الولايات المتحدة وإسرائيل، ثمة حضور مشهود للصين وفرنسا وألمانيا واليابان والهند وإيران، وصولا إلى ماليزيا
"
لقد تلقيت رسالة بخصوص إمكانيات الدور المصري من المدير السابق للجنة الإغاثة باتحاد الأطباء العرب الدكتور جمال عبد السلام طرح فيها سؤالين هما: لماذا لا تستحدث مصر وزارة لشؤون أفريقيا، كما سبق أن خصص الرئيس عبد الناصر وزارة للسد العالي (عين لها المهندس صدقي سليمان وزيرا)؟.
السؤال الثاني هو: لماذا لا تستعين الجهود الحكومية في ترميم ومد الجسور مع الدول الأفريقية بالمنظمات الأهلية ذات الخبرة العريضة في مختلف مجالات الخدمات، وفي مقدمة تلك المنظمات جمعية الهلال الأحمر ولجان الإغاثة بالجمعية الشرعية ونقابة الأطباء المصرية واتحاد الأطباء العرب.
يذكرنا الدكتور جمال عبد السلام بأن العالم العربي ومصر خاصة أقرب إلى أفريقيا من كل تلك البلدان التي تقاطرت عليها، وأن مدرسة واحدة أقامتها الكويت في جوبا، جعلت شعب جنوب السودان يخرج في مظاهرات صاخبة احتجاجا على غزو العراق للكويت، في حين أن الموقف في الشمال كان ملتبسا، كما أن إقامة مدرسة جمال عبد الناصر في مقديشو، والبعثة الأزهرية التي تم إيفادها إلى الصومال (كانت الأكبر في القارة الأفريقية) أحدثتا تغييرات جوهرية في أجواء البلاد، لمسها الوفد الإغاثي الذي أرسلته الجامعة العربية إلى هناك في بداية التسعينيات.
من ناحية أخرى فإن الأنشطة التي قامت بها القوافل الإغاثة العلاجية ولجان مكافحة العمى في بعض الدول الأفريقية كانت لها أصداؤها الإيجابية القوية، حين زارت جيبوتي والصومال وتشاد والنيجر.
(4)
حتى تأخذ المصارحة مداها، يتعين علينا في النهاية أن نسجل عدة أمور أحسبها ضرورية لانتقال مصر من موقف المتفرج إلى اللاعب في ساحة حوض النيل، هذه الأمور هي:
1- إن الفشل النسبي للمفاوضات مع دول الحوض وثيق الصلة بتراجع الدور المصري وغياب إستراتيجية واضحة للتعامل مع العالم الخارجي، فالعلاقة مع دول حوض النيل مثلا، لا تنفصل عن العلاقة مع دول منطقة القرن الأفريقي، بل مع محيط دول الاتحاد الأفريقي.
2- إن مصر لم تتصرف حتى الآن باعتبارها جزءا من أفريقيا، وأعطت انطباعا بأنها ضيف عليها ومضطر إليها، وذلك وضع يحتاج إلى تصحيح بحيث تنضم الهوية الأفريقية إلى مفردات الهوية الأخرى للإقليم، المصرية والعربية والإسلامية والمتوسطية.. إلخ. ورغم أن بعض المسؤولين المصريين دأبوا على الحديث عن تضحيات مصر من أجل أفريقيا (في أزمنة سابقة) فإن الأفارقة لم يجدوا ما يبرهن على ذلك في زماننا. ولك أن تقدر مشاعرهم مثلا عندما يجدون أن مصر أعادت الحياة إلى شبكة كهرباء لبنان مرة واثنتين إثر العدوان الإسرائيلي، في حين لا يجدون أثرا يذكر لدورها التنموي في بلادهم.
3- حين نتحدث عن دور العوامل أو الدسائس الخارجية التي باعدت بين مصر وبين دول الحوض، ينبغي ألا يمنعنا ذلك من تفهم مشاعر الأفارقة إزاء مصر. ذلك أن منهم من يلمس استعلاء مصريا غير مبرر في التعامل معهم.. ومنهم من لا يستطيع أن يتحلل من مشاعر الاستياء والحساسية حين يجدون أن مياه النهر تمر على بلدانهم التي تعانى التخلف والفقر والمرض، لتصل إلى حياضنا لنزرع بها ونروي. ومن حقهم في هذه الحالة أن يطالبوا بمردود يمتص مشاعرهم تلك ويرطب من جوانحهم.
"
الإسهام المصري في تنمية مجتمعات دول حوض النيل وتوفير ما يمكن توفيره من خدمات طبيعية وتعليمية لهم لا يبدد المشاعر المضادة فحسب ولكنه أيضا يوفر لمصر نفوذا ناعما يرجح من كفتها في مثل المواقف الخلافية
"
ولا شك أن الإسهام المصري في تنمية تلك المجتمعات وتوفير ما يمكن توفيره من خدمات طبيعية وتعليمية لهم لا يبدد تلك المشاعر فحسب ولكنه أيضا يوفر لمصر نفوذا ناعما يرجح من كفتها في مثل المواقف الخلافية التي نحن بصددها.
4- ثمة انطباع مغلوط يشيع بين بعض النخب في الدول الأفريقية خصوصا بعد توقيع اتفاقية كامب ديفد يدعي أن التنسيق قائم بين مصر والولايات المتحدة وإسرائيل في المشرق العربي والقرن الأفريقي، ولا أعرف علاقة هذه الشائعة بفكرة معسكر «الاعتدال» الذي يروج له في العالم العربي وتتصدره الدول الثلاث، لكن الذي لا أشك فيه أن هذه السمعة أفقدت الدور المصري «الغائب» رصيده الوطني والمستقبل في القارة.
ولأن التحدي كبير، فالجهد المطلوب أيضا كبير، وهو ما يتطلب قرارا سياسيا على أعلى مستوى، يستصحب عزيمة صادقة ونفسا طويلا. وتلك مشكلات عويصة لا أعرف هل سنحلها في الأجل المنظور أم لا.
المصدر: الجزيرة
nashi- مشرف المنتدى الرياضى
مواضيع مماثلة
» بين النيل وحمد النيل 0000لهاشم صديق
» عندما تتوشح الملاعب "الخضراء"بـ "السواد"
» عد بي إلى النيل
» نص رهيب لفاروق جويده
» مظاهرات بشرق النيل..العليفون؛؛؛؛؛؛؛؛
» عندما تتوشح الملاعب "الخضراء"بـ "السواد"
» عد بي إلى النيل
» نص رهيب لفاروق جويده
» مظاهرات بشرق النيل..العليفون؛؛؛؛؛؛؛؛
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى