عبد الكريم الكابلي يكتب عن: حياة البادية وانعكاساتها على حياة الحضر في السودان
3 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
عبد الكريم الكابلي يكتب عن: حياة البادية وانعكاساتها على حياة الحضر في السودان
بسم الله الرحمن الرحيم
حياة البادية وانعكاساتها على حياة الحضر في السودان.
الإنسان والبادية:
ما استرجع الإنسان موقفا من مواقف الحياة إلا وذهبت به تداعيات الفكر والتذكار إلى الموقف المقابل له. فكلمة البرد تحمل الفكر إلى كلمة الحر والظلام إلى النور والضوضاء إلى الهدوء إلى آخر هذه التداعيات المتقابلة. أمّا كلمة البادية وهي مدار ندوتنا فإنّها تقفز بالتفكير إلى الكلمة المقابلة وهي كلمة الحضر وربما جاءت كلمة الريف كمدلول إنطباعي بين معنى الكلمتين. بل قد يذهب التذكار الوفي إلى أستاذنا المربي الكبير ، الصحافي والكاتب القدير الأستاذ/ حسن نجيلة رحمه الله وهو الذي ترك لنا تراثا معرفيا طيبا لحياة البادية عندما وثّق لنا ذكرياته في بادية أهلنا الكبابيش بغرب السودان في مطلع العقد الثالث من القرن الماضي. ثم يبدء العقل في المقارنة والتحليل ومحاولة التعرف على إيجابيات وسلبيات نمط كل من الحياتين – حياة البادية بحركتها الدائبة وترحالها الموسمي وحياة الحضر بمؤسساتها واستقرارها - وذلك من خلال المتغيرات الحياتية وما قد إستجد من ظروف الحياة في كل منهما. وهنا وداخل هذا الخضم من التساؤلات لابد لنا من تأمل تساؤل قد يعيننا فيما نحن فيه وهو : " أيهما الأقدم والأصل في حياة البشر جميعا ؟ هل هو نمط حياة البادية أم نمط حياة الحضر؟" إنّ الإجابة لا تحتاج إلى كبير عناء إذ أنّ حياة البادية على الرغم مما أصابت من تطور في نمط حياة الإنسان مقارنة بما سبقها من نمط حياوات متعاقبة إلا أنها تبقى الأقرب إلى طبيعة الحياة في هذه الأرض إذا ما قورنت بحياة الحضر، وما ذلك إلا لأنّ الحضر من التحضر وهي مرحلة لاحقة للمرحلة السابقة. فالإنسان قد عرف حياة البداوة والترحال قبل معرفته لحياة المكوث والإستقرار. ولا نود هنا الخوض في تعريف التحضر برؤية فلسفية تتصل بمعنى التحضر كقيمة حياتية سوف تبعدنا عما نحن فيه. ولكن هل قدرت وتمكنت حياة الحضر في سوداننا الحبيب من الفكاك والإفلات من قبضة مفاهيم وثقافات حياة البادية؟. سوف نرى.
شبه الجزيرة العربية والسودان:
حكى لنا التاريخ عن الصلة القديمة التي قامت بين سكان شبه جزيرة العرب والقرن الإفريقي بما في ذلك السودان ثم لاحقا شمال إفريقيا وغربها. وخير شاهد قصة سيدنا سليمان عليه السلام وبلقيس ملكة سبأ. هذا بالنسبة للقرن الإفريقي. وقد ذهب بعض المؤرخين إلى أنّ العرب قد عرفوا بلاد السودان منذ زمان سحيق قبل ظهور الإسلام. أمّا المدخل فهو البحر الأحمر وباب المندب. ثم جاء لاحقا دور المدخلين الشمالي والشمالي الغربي للسودان. والمرجح أنّ الذين هاجروا من شبه الجزيرة العربية إلى بلاد السودان في ذلك الزمان البعيد – إلى المنطقة الشرقية أولا ثم المناطق الأخرى - كانوا أهل بادية وترحال وجدوا في مناطق السودان الشرقية بيئة بداوة وترحال تفضل تلك التي تركوها خلفهم - فأقاموا. ولبناتنا وأبنائنا من سكان الحضر هذه الأيام أود أن أذكّر بأنّ هذه المنطقة الشرقية من سوداننا الحبيب وحتى منتصف القرن التاسع عشر كانت تعج بالغابات وصنوف الأشجار المختلفة والنباتات المتنوعة إلى جانب صنوف من الحيوانات المفترسة كالأسود والنمور والفيلة والقردة والغزلان إلى آخره وقد أورد ذلك السير صامويل بيكر في كتابه ( روافد النيل من الحبشة ) عندما حكى عن أحداث رحلته الأولى إلى تلك المنطقة في أوائل الخمسينات من القرن التاسع عشر الميلادي وعن أدلاّئه من قبيلة الحمران عبد القادر وإخوته وشهد لهم بالشجاعة والبراعة وهم يصطادون الفيل بالسيف والخيل فقط، واعترف لهم بأنّهم أشجع منه لأنّه يصطاد الفيل بالبندقية. إذن فهي منطقة صالحة بكل المقاييس لمتطلبات المرعى والترحال في طلبه. ثم، وبعد انتشار الإسلام شهدت مناطق متعددة من بلاد السودان تدفق قبائل وبطون من سكان جزيرة العرب. وما يعنينا فيما نحن فيه تلك المجموعات الرعوية التي وفدت إلى المناطق الرعوية بالسودان ومارست وما زالت تمارس حياة البداوة والترحال في غرب السودان وشرقه. عمل بعضهم بتربية الإبل والبعض الآخر بتربية الأبقار والمستأنس من الحيوان.
الإنسان والحيوان:
إنّها صلة موصولة تلك التي قامت بين الإنسان والحيوان منذ فجر التاريخ. إنّها صلة منفعة متبادلة وإن رجّحت فيها كفة منفعة الإنسان. فالإنسان كما هو معروف يتقوت بلحومها وألبانها ويفيد من كل ما يقدر على الإفادة به منها وبينها تسخيرها في النقل والترحال وقطع المسافات البعيدة إلى جانب إستعمالات أخر كالإفادة من جلودها ووبرها. أمّا الحيوان المستأنس فإنّه يحظى من الإنسان بتوفير الأمن والغذاء إلى جانب العاطفة الودودة إلقائمة على الإلفة وهل من مودة تتفوق على أن يوقف الإنسان نمط حياته لمقابلة متطلبات الحيوان. وبذكر عاطفة الوداد التي تقوم بين الإنسان والحيوان عادت بي الذاكرة إلى ما رواه لنا الأخ الحبيب سعادة السيد/كاتانا سفير دولة يوغندا بالخرطوم ونحن بيوغندا في زيارة صندوق الأمم المتحدة للسكان للوقوف على تجربتهم الناجحة في محاربة والتصدي لمرض فقدان المناعة وذلك في أول العام الحالي. قال بأنّ هنالك قبيلة في يوغندا تقوم حياتها على تربية الأبقار وبينها وبين الأبقار حميمية ترقى إلى درجة الحب العطوف المتبادل الذي جعل أفراد تلك القبيلة يعتقدون بأنّ الأبقار قد خلقت لهم وحدهم ولا وجود لها إلا بين ظهرانيهم. وقبل فترة زمنية ليست بالقصيرة أراد الله أن يسافر بعض زعماء تلك القبيلة إلى بلاد الهولندا تلبية لدعوة كريمة وجهت لهم من تلك البلاد. وعندما رأوا الأبقار هنالك كانت دهشتهم دهشة العمر فتوجهوا لا إراديا إليها وأخذوا يخاطبونها برقيق الحديث المشفق . .( وكيف حالكم . . إنتو بخير . . وكيف قطعتم يامساكين كل هذه المسافة للوصول إلى هذه البلاد ). فضحكنا من أعماقنا لتلك السذاجة الطيبة الحبيبة القريبة إلى نفس البراءة. والبقرة بصفة خاصة ومن دون كل الحيوانات قد وجدت من الإنسان من التقدير مالم تجده بقية الحيوانات. لقد عبدت بعض الشعوب البقرة في قديم العصور وما زلنا نسمع في زماننا هذا بأن فئة من أهل بلاد الهند تعبد الأبقار, وفي سوداننا الحبيب نجد أنّ القبائل النيلية التي تقوم بتربية الأبقار تحجم عن بيعها رغم الحاجة إلى المردود المالى بل تتجنب بقدر المستطاع ذبحها لأكل لحومها. وهو ما يحدث في بوادي أهلنا الآبالة في شرق وغرب السودان.
البادية والحضر:
كثيرا ما خاطبت شبابنا في لقاءآتي ومحاضراتي المتكررة بأهمية التعرف على حياة البادية لأن الذي يعتقد بأن حياة أهل السودان لا تعرف سوى حياة الريف وتقف عند حياة الحضر والمدن والعواصم يكون قد وقع في خطأ جسيم. لقد ذكرنا في بداية هذا اللقاء بأنّ حياة البادية هي الأسبق لأنّ حياة الحضر نمط حياتي لاحق استوجبته تطورات الحياة ومستلزمات الإستقرار. إذن من الطبيعي أن تتداخل معاني الحياة وممارساتها.
لقد جاء العرب إلى بوادي السودان منذ قديم الزمان. وجاء العرب إلى بلاد السودان وبواديه بكثافة أكبر عند انتشار الإسلام. وكما هو معلوم، عندما يترك المرء دياره إلى ديار أخرى ليقيم فيها فإنّه يأتي بكل مكوناته الوجدانية والمعرفية من فنون وعادات وتقاليد ومعتقدات. وفي صراعه مع ما يجد في استقباله من حياة فالبقاء للأصلح. وكم أعجبت بالتعبير الدقيق الذي أورده شاعرنا الحبيب الأستاذ/ صلاح أحمد ابراهيم رحمه الله عن العربي الوافد إلى بادية السودان بعد بزوغ شمس الإسلام. ( العربي حامل السوط المشل . . شكّال كل قارح . . ملاعب السيوف والحراب . . حلّ على بادية السودان كالخريف بالسّنة والكتاب . . يحمل في رحاله طموحه وتمرتين في جراب . . وشجر الأنساب ). وقد شهدت بادية السودان الشرقية العديد من الهجرات العربية وكان آخرها في أواسط القرن التاسع عشر هجرة قبيلة اهلنا الرشايدة الذين نطلق عليهم أحيانا اسم الزبيدية وهي القبيلة التي لم تختلط فيها الدماء بعد مع غيرها من الإثنيات. وكما هو معروف فإنّ هذه القبائل وأكبرها قبائل البجة التي احتفظت بألسنتها رغم اختلاط أنسابها بالعرب وانتشار الإسلام بينها، ثم الشكرية ثم البطاحين والرشايدة إلى آخره، تقوم جميعها بتربية الإبل وبعضا من الماشية. ولا بد من الإشارة إلى أنّ الصلة بين هذه المنطقة وبين شبه الجزيرة العربية كانت موصولة منذ زمان ليس بالقصير. وهاهو شاعر العرب الأكبر أبو الطيب المتنبيء يثبت لنا هذا في قصيدته التي تصلح لأن تكون خير مثال لمقتضى الحال إذ جاءت بهذه التفعيلة القصيرة القوية وهذا الإيقاع السريع اللذان حملا إلينا مشاعره وانفعالاته النفسية أثناء تأليفه لها وقد خرج مسرعا يطلب النجاة من متعقبيه الذين بعث بهم الإخشيدي في أثره بعد أن اطلع كافور على ذلك الهجاء المقذع، إنّه يقول:
ألا كـل ماشية الخيزلى فدي كل ماشيـة الهـيـذبى
وكل نجاة بجـــاوية خنوف وما بي حسن المـشى
وبالطبع كلمة بجاوية نسبة إلى منطقة البجا في شرق السودان وقد أشتهرت حتى الآن بأصالة وسرعة نوقها وجمالها وكل صنوف بعرانها. وقد علمت بأنّ البلاد العربية حتى اليوم لا تسمح لها بالمشاركة في سباقات الهجن الأخرى بل تفرد لها سباقات خاصة بها.
ومن المفارقات الطريفة أن تتشكل حياة البشر وتبنى على احتياجات المستأنس من الحيوان ثم يتحول الأمر إلى إلفة من جراء التعود لا يمكن الفكاك منها والإنسان إبن العادة والإنسان إبن البيئة كما يقولون. إنّ أهلنا في بادية السودان الشرقية وفي بادية السودان الغربية يرتحلون وينشقون ويظعنون حسب متطلبات إبلهم وأبقارهم وماشيتهم سعيا وراء الكلأ والمرعى ومضارب المياه. وبعيدا عن هذا الإرتباط الوثيق بين الإنسان والمستأنس من الحيوان يبدو أنّ لحياة الترحال في حد ذاته من الإغراء ما تصعب معه المقاومة وبالتالي التخلي ، والدليل على ذلك مجموعات الغجر في بلاد الأوروبا التي لم تتصل حياتها أساسا بالمستأنس من الحيوان ولكنها أدمنت التنقل والترحال بين ربوع أوروبا شرقا وغربا وشمالا وجنوبا في بحث دائم عن دفع الرتابة و معانقة التجديد. وفي سوداننا الحبيب قد أحب بل ربما أدمن بعض أساتذتنا الكبار حياة البادية والترحال، فما برقت لهم سانحة لممارسة حياة البادية إلا واستجابوا لها استباقا، نسوق منهم مثالين فقط هما الشاعران الكبيران الشيخ محمد سعيد العباسي الذي أحب بوادي غرب السودان والشيخ عبد الله البنّا الذي تعشّق بادية البطانة بشرق السودان، وقد تركا لنا أعذب الشعر الذي عبّرا به عن مشاعرهما تجاه البادية.
البادية :
تتسم حياة البادية في سوداننا الحبيب بالبساطة المشابهة لإنبساط الأرض في كثير من مناطق أهلنا الرحل. كل ملامحها تقوم على التنقل والترحال وعدم الإستقرار، وبين الشواهد عدم وجود القباب والمقابر المخصصة لدفن الموتى كما نجد في المدن والأرياف وأماكن الإستقرار. إنّ رفات أهلهم تتناثر عبر كل مناطق حلهم وترحالهم وربما قالت إمرأة في القافلة المتحركة لصديقتها وهي تشير إلى صخرة بأسفل هضبة صغيرة: " هنالك يرقد والدنا الصادق". وقد صوّر شاعرنا الرقيق الأستاذ/ الشريف زين العابدين بن الشريف الهندي هذا الموقف عندما تجلبب بجلباب شاعر شكري/بطحاني بقوله: ( يالمعزوزه بدمانا وعضام أبواتنا . . عارفنّك مقريفه لي شراب قهواتنا . . زغردي يأم شيوم خلّي أندق نحساتنا . . ونحاسب عقب في الجاتنا والماجاتنا . . . شوفي معزّتك كيفن عزيزه علينا . . شوفي عزمنا للحمل الوقف راجينا . . شوفينا أبنتر ولا أبنكف الشينا . . شوفينا أبندكدك ولا ما هامينا . . شوفينا أبنبشّر فيك طوال إيديتا . . ولا نغتي بالطين والعجين إضنينا". ومجتمع البادية إذا جاز لنا ذلك فهو مجتمع القبيلة الذي تتكور فيه حول نفسها وترى فيه الإنتماء والعزوة والمصير الواحد وأن لا طريق لها سوى طريق الحب التماسك. ولهذا التكوّر ولهذا التماسك الذي حمل روح العصبية ما يشفع له بل ويجعل منه ضرورة لا استغناء عنها. إنّ حياة البادية وحتّى زماننا هذا تحكي عن الإحتكاكات والحروب والغارات التي كانت وما زالت بين قبائل البوادي المختلفة لأسباب متعددة وبينها تلك التي تقوم بين الرحّل والمستقرين من أهل الزراعة من أجل الكلأ والمياه للأنعام. لذلك نجد القبيلة تسم بناتها وأبنائها بل وحيواناتها بميسم يميزها ويعرّف بها. وبنفس القدر نجد هذا الإحترام العميق من قبل أفراد القبيلة للمشرفين على أمر القبيلة من ناظر إلى عمدة إلى شيخ إلى كبار السن من حملة التجربة المبصرة. ولا بد من الإشارة إلى أنّ هذه المناصب لا يتم تبوؤها ضربة لازب كما يقولون أو بين عشية وضحاها. إنّه تمحيص وإثبات جدارة عبر السنين تتصل جميعها بمواصفات القيادة الحكيمة الرشيدة القائمة على معرفة الكريم من موروث العادات والتقاليد والأعراف وما يعود بالخير على القبيلة. وقد أشتهر عدد منهم على مستوى السودان عرفوا بسرعة البديهة والتدبير الحسن وسارت بذكرهم الركبان فتناقل الناس في البادية والحضر رؤاهم السديدة وتعليقاتهم اللاذعة المليئة بالمعرفة والتجاريب. وعندما نتحدث عن خصائص الحضر سوف نستصحب معنا هذه الملامح الخاصة بالبادية إذ من الضرورة بمكان أن يتعرف الحضر على خصائص البادية وهي الأصل والعكس صحيح. هذا ما تتطلبه بلاد التعددية والتنوع كالسودان. وعندها سوف نجد من المفارقات ما يستحق التأمل الجاد. وما زلت أذكر صبيحة ذلك اليوم الذي تحلقت فيه مجموعتنا بإدارة المحاكم حول بعضها البعض ونحن نسمع لواحد منا وهو يقرأ من صحيفة يومية قرار حل الإدارة الأهلية في كل أقاليم السودان وبينها إدارات البوادي والرحّل. أجمعنا وبصوت واحد على أنّه قرار ينم عن عدم معرفة لتراث وخصائص حياة أهل السودان المتعددة المتنوعة. وإن لم تخني الذاكرة قد ذكرت للمجموعة بأن الإدارة الأهلية في الأرياف وبعض المدن لا تلغى بقرار فوقي بل تذوب تلقائيا مع قيام المدارس والمعاهد والجامعات وإيجاد البدائل وضربت مثلا بعمدة الخرطوم سابقا الرجل الخيّر الكريم العمدة كرم الله طيّب الله ثراه. لقد ذابت العمودية في الخرطوم. أمّا بالنسبة للبادية وحياة الترحال فإنّ أمر الإلغاء لا يصدر بقرار فوقي يأتي من خارجها. إنّ الأمر يحتاج إلى وقت كبير ودراسات متأنية تتصل بمعرفة أسلوب حياة البادية. هذا ما قلته.
إنّ المتتبع لإبداع أهل البوادي في سوداننا الحبيب سوف يسعد أيما سعادة بالتعرف على الصور الجمالية التي تسيل رقة وعذوبة وصدقا والتي عبّروا بها عن عشقهم لحياة بواديهم. لقد طرقوا مداخل كل ملامح حياتهم في حلهم وترحالهم. كتبوا أعذب الشعر وغنوا للغزل والجمال بكل ألوانه. غنوا في الوصف والحماسة والحكمة والرثاء والكرم والشهامة ولم ينسوا حيواناتهم الحبيبة إلى نفوسهم فأسهبوا في تدليلها. إنّ باب الإبداع في بوادي السودان يحتاج إلى أكثر من بحث يتصل بالرصد والتحليل وإبراز مواطن الجمال فيه. ولا أعتقد أنّني أجانب الحقيقة إذا قلت بأنّ أصدق الغناء وأعذبه ما تغنى به أهلنا البقارة والكبابيش والحمر والمجانين والمسيرية والشلك والدينكا والنوير والزاندي والأمبررو والشكرية والبطاحين والبشاريون والبجا والعبابدة إلى آخر المجموعات البدوية. وهل من غناء عذب وصادق ومطبوع يفضل ما تغنت به تلك الفتاة الجميلة الرقيقة المشاعر عندما خفق قلبها بحب ذلك الشاب الوافد من منطقة النيل في شمال السودان والذي أقام لفترة وجيزة بين ظهراني أهلها وقبيلتها في غرب السودان. ( الكم الحننوكا . . بريه مال عدوكا . . إنت جافيت ولا الكبار حموكا . . القمر البضوي . . يا ضيفنا شن بتسوي . . إنت جافيت ولا القليب مقوي . . تهموني بيك بالباطل . . وكان صح ولا بنناكر . . يالمحنوك يا ضيفنا جيتنا خاتر ) إلى آخر الأغنية التي حملت نقاء وصفاء أهلنا في البادية والصدق الذي جعل تلك الفتاة البدوية تقول ( وكان صح ولا أبنناكر ). ولولا ضيق الوقت والمجال لأوردنا نماذج من هذا النسيب المتميز. وبين الذين أسرتهم البادية بسحرها شاعرنا الرقيق الذي لم تمهله الأيام فغادرنا إلى الدار الرحيبة وهو في الثانية والثلاثين من العمر، الأستاذ/ الناصر قريب الله رحمه الله رحمة واسعة. لقد أورد لنا هذه الصورة المتحركة النابضة بحيوية الصبا والجمال لتلك الفتاة الكاهلية التي تركت مضارب أهلها وأخذت تتأرجح على أغصان شجرة (السنط) على مقربة من خيام الفريق. كان شاعرنا في طريقه إلى قرية أم بادر عندما رآى هذا المشهد فسجّله لنا بكاميرا شعوره المبدع:
وفـتـاة لقـيـتها ثم تجنـي ثـمر السنط في انفراد الغزال
تمنـح الغصن أسفـلي قدميها ويـداهـا في صدر آخر عالي
فيظل النهدان في خفقان الموج والكـشح مفـرط في الهـزال
شاقني صوتها المديد تـنادي والعصـافـير ذاهـب الآمال
فجـزى الكاهلية الحب عني ما جـزتني عن جرأتي واتصالي
وتلتقي ملامح حياة البادية في سوداننا الحبيب مع العديد من ملامح حياة البادية في شبه الجزيرة العربية. فاللغة في أكثرية القبائل ذات الأصول العربية هي اللغة العربية القديمة التي لم تتأثر بالإختلاط. لقد نقل إليّ أحد الأصدقاء هذا المشهد المتمثل في زيارة شيخ عربي من الجزيرة العربية لبوادي السودان قبل حوالى الأربعة عقود وبينما هو في أرض أهلنا البقارة بغرب السودان يتحدث إلى أحد شيوخ القبيلة سمعه يطلب من إبنته داخل الخباء إسكات طفلها الصارخ الباكي بقوله: " أنطيه الديد ". أي أطعميه من صدرك. والديد بفتح الدال الأولى وتسكين الحرفين اللاحقين هو الثدي، فأنتفض ذلك الشيخ الزائر دهشة لأنهم يستعملون في باديتهم نفس الكلمات. كذلك التغني بالصيد والطراد والتشبيهات البليغة. وهاهو شيخ العرب الشيخ عوض الكريم أب سن في مسدار القضارف يشبه جمله في السرعة بالكلب السلوقي الوارد في طرديات النواسي وغيره من شعراء العرب القدامى. ( مسكة الدرب ونشته وقفّ شارد . . تقول كلبا سلوق لي صيدته طارد ). وإذا عاش عروة بن الورد والسليك والشنفرى وتأبط شرا على سلب بعران الآخرين في شبه جزيرتهم العربية وهم لا يرون بأسا في ذلك لأنهم يأخذون من الغني البخيل ليعطوا الفقير المحتاج كما قال شيخهم عرة بن الورد ( أفرّق جسمي في جسوم كثيرة . . وأحسو قراح الماء والماء بارد ) هاهو الطيب ود ضحوية يقول ( أنا من ناسا تسوي وما بتقول سوّيت . . ويشهد خالقي كان يوم السؤال قريت . . إن بردن نقود مال البخيل كشّيت . . وإن حرّن بكار ماهن صفائح زيت ). ولهذا المربع قصة لا تخلو من الطرافة. ثم أولاد فتر إثناء فترة حكم التركية السابقة ( فوق الكرت شلّقنا . . وكدي لا بيلا عرقنا . . جبنا حلال ما سرقنا . . شهودنا علينا درقنا). أمّا ذلك الشاعر المنتمي إلى أرض البطانة فإنّه يعبّر عن مشاعره تجاه أرضه ومرابع صباه والمحبوبة التي تشكلت معاني حسنها وجمالها من تلك الرؤى، بالقول: ( يالقلتولي ما عرفت الدهر فرّاق .. . غنوا وعاينوا سافل واوصفوا البرّاق . . على ليم الفريديغ المحاسنه دقاق . . شوقي وشوق جميع من شاف بطانة أم ساق ) ثم نجد هذا التشابه الكبير في مسميات منازل الخريف. فالذراع في الجزيرة العربية هو الضراع في السودان والنثرة هي النترة والطرف بكسر الطاء هي الطرفة البكّاية والجبهة هي الحبهة أمّا الزبرة بضم الزاي فعندنا الخرسان والصرف هي الصرفه والعواء . . تمام الوياك أو العواء وأخيرا السماك الأعزل . . السماك.
وقبل الإنتقال إلى الحضر لابد من أن نتعرض خطفا للمتغيرات التي طرأت على حباة البادية وأهلنا الرحّل. نعم . . لقد تغيرت طبيعة الأشياء عما كانت عليه إبّان زيارة المكتشف البريطاني سامويل بيكر. الغابة والحيوان البري ووسائل الإنتقال والإتصال . . كل شيء قد تغير. ومن المسؤول عن زوال الغابة وانقراض الحيوان البري؟ إنّه الإنسان السوداني الذي يقوم بقطع الأشجار وإزالة الخضرة وتعرية الأرض وكأني بنا لم ندرك بعد بأنّ الخالق العظيم يرسل السحاب مدرارا ليحيا به الزرع والنبت والإخضرار وهي من أسباب حياة الإنسان والحيوان. وكأني بالسحابة المثقلة بالمياه – سارية كانت أم غادية - عندما تطل على أرض أزيلت خضرتها، تنظر إلى زميلتها وتهمس في أذنها أن لا حوجة لهذا المكان بمياهنا وعلينا البحث عن الخضرة التي تحتاج لمياهنا لتحيا بها. لقد أدركت دول عديدة خطورة الإعتداء علي البيئة الطبيعية فأوجدت الحلول لوقف الإعتداء ثم سنت القوانين للحفاظ على النبات والحيوان البري. وبالطبع لا يقف أمر المتغيرات في حياة البادية وأهلنا الرحّل عند تعرية الأرض وانحسار أماكن الكلأ والمياه وانقراض الحيوان البري. هنالك مستجدات أساسية تتصل بالبادية السودانية ومستقبلها. مشاكل التعليم والصحة والعلاج ومحاربة العادات الضارة كختان الإناث والزواج المبكر الذي يعقبه حمل مبكر لم تتهيأ له الفتاة تكوينا طبيعيا تتسبب جميعها في زيادة نسبة الوفيات بين الفتيات والمواليد إلى جانب حالات مرض الناسور البولي في بيئة متحركة لا تعرف الإستقرار، هذا إلى جانب الإحتكاكات الأزلية بين القبائل المرتحلة وحيواناتهم المستأنسة وبين المزارعين في الأرياف وهم أهل استقرار. يضاف إلى ذلك كله تكاثر الطلب على المورد المحدود المتناقص.
الحضر:
والحضر هو الرئاسة وهو العواصم وهو مقر الحكومات وصنّاع القرار. نجد فيه كل ملامح الإستقرار والإستنفار. إنّه الدولة التي تكبر مسؤوليتها مع جسامة تنوع أهلها وتعددية أعراقها واختلاف سبل العيش فيها. وفي بداية هذا اللقاء ذكرت بأنّني كثيرا ما تحدثت إلى بناتنا وأبنائنا عن أهمية التعرف على حياة البادية وهل لها من انعكاسات على حياة المدينة والحضر؟. ثم أشرت إلى أهمية استصحاب تكوّر القبيلة حول نفسها في عصبية فرضتها عليها ظروف حياتها، وذلك عندما نتحدث عن الحضر، وهو تكوّر حميد لما فيه من بساطة مستمدة من بساطة حياة البادية ووجاهة الضرورات التي فرضته. وكما نعلم جميعا فإنّ الإنتقال الطبيعي للإنسان يكون من البادية والأرياف إلى الحضر وليس النقيض والدليل على ذلك اليسر والسهولة التي يمكن بها إرجاع أكثرية المقيمين بالحضر إلى أصولهم البدوية والقروية. وهنا لا نجانب الحقيقة إذا قلنا بأنّ سكان الحضر في أكثريتهم من البادية والريف وإن وفدوا وأقاموا منذ زمن بعيد وهم الذين ساقتهم الأقدار إلى إدارة دولاب الحياة لا في الحاضرة وحدها وإنّما في القطر كله. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: هذا الإنسان الحضري الذي لا يقدر على العودة إلى حياة البادية في حلّها وترحالها وهي من أصوله التي سمع عنها أو ربما حمل وسمها، هل ما زال يحمل ذلك التكوّر القبلي أم أنّه يدرك أهمية متغيرات الحياة في بلد كالسودان تقتضي تعدديته وتنوع عادات أهله الرؤية من خلال الحس القومي الذي تذوب عنده عصبية القبيلة؟.
الخاتمة:
مما لا شك فيه أنّ حياة البادية بالصورة التي نعايشها اليوم في سوداننا الحبيب مقارنة بالماضي قد إنحسرت وهي آخذة للأسف العميق في التراجع، الأمر الذي يحتم علينا النظرة الجادة لحياة البادية. هذا في الجانب المادي المتصل بالنبات والحيوان. ولكن هنالك جانب معنوي لا ينبغي إهماله وهو الجانب الوجداني في حياة البادية، وهو الجانب الذي إذا حسن استغلاله ربما عاد كذلك بثروات سياحية هائلة المردود المعنوي والمادي. فكم من مواطن عربي وغير عربي وأوروبي وغير أوروبي على استعداد لأن يبذل ماله طواعية في سبيل رحلة آمنة من مكان إلى مكان آخر في بوادي السودان وعلى ظهور الجمال والأبقار، خاصة عندما تلبس الأرض حلتها السندسية الخضراء ويعتدل ويرق الهواء بعد أن تستظل الأرض من وهج الشمس بمظلة الغيوم الحانية. إنّ رتابة الحياة والإحساس بالملل من جراء الممارسلت المتكررة المتشلبهة في الحياة يدفع بالكثيرين إلى ركوب المغامرة المحدودة المخاطر. هذا ما نشاهده عبر العديد من القنوات الفضائية هذه الأيام, وعلى الرغم من أنّ البرطانيين قد فعلوها من قبل كواجب حتّمه عملهم أثناء إدارتهم لشؤون السودان إلا أنّهم لم يفتهم تسجيل ما أحسوا به من استمتاع ظل يلازمهم حتّي بعد مغادرتهم للسودان. هذا ما جكاه لي بعضهم عندما شاركت في مؤتمر الدراسات السودانية بجامعة (درم) بإنجلترا في العام 1990م. فقط علينا أن نزيل عن البادية الأسباب التي دعتها إلى التكوّر المتوجس وذلك عن طريق توفير الطمأنينة وتيسير ممارستها لحياتها الفطرية البسيطة وعندها سوف نفخر بأننا قد أبقينا على تراث من حقه علينا أن يبقى. فإذا قدرنا على إزالة هذا الهاجس التكوري عن أهلنا بالبادية بتوفير الطمأنينة لحياتهم نكون قد قدرنا على قطع دابر هاجس عصبية القبيلة في الحضر وهو الهاجس الذي أرّق شاعرنا الكبير الأستاذ/ يوسف مصطفى التّني رحمه الله رحمة واسعة فتغنى – في الفؤاد ترعاه العناية بين ضلوعي الوطن الحبيب - مناوء لعصبية القبيلة.
ومن المفارقات الطريفة ايضا أنّ هذا التكور وهذه العصبية التي خلعنا عليها صفة المشروعية والأهمية نسبة لما أقتضته ظروف الحياة في البادية سوف تحتاجها الدولة التي أنكرنا عليها التكور والعصبية في بلد متعدد ومتنوع كالسودان. نعم . . سوف تحتاجها الدولة عندما يتحقق لها التوحد القائم على المؤسسية العدالة في الداخل وعندما تقتضي الضرورة البحث عن إنتماء حليف بالخارج يقف مصدا أمام عصبيات وتكتلات هذا الزمان.
ملحوظة: بتصرّف من كتابي ( فن وتأمل ).
عبد الكريم الكابلي – الخرطوم بحري
حياة البادية وانعكاساتها على حياة الحضر في السودان.
الإنسان والبادية:
ما استرجع الإنسان موقفا من مواقف الحياة إلا وذهبت به تداعيات الفكر والتذكار إلى الموقف المقابل له. فكلمة البرد تحمل الفكر إلى كلمة الحر والظلام إلى النور والضوضاء إلى الهدوء إلى آخر هذه التداعيات المتقابلة. أمّا كلمة البادية وهي مدار ندوتنا فإنّها تقفز بالتفكير إلى الكلمة المقابلة وهي كلمة الحضر وربما جاءت كلمة الريف كمدلول إنطباعي بين معنى الكلمتين. بل قد يذهب التذكار الوفي إلى أستاذنا المربي الكبير ، الصحافي والكاتب القدير الأستاذ/ حسن نجيلة رحمه الله وهو الذي ترك لنا تراثا معرفيا طيبا لحياة البادية عندما وثّق لنا ذكرياته في بادية أهلنا الكبابيش بغرب السودان في مطلع العقد الثالث من القرن الماضي. ثم يبدء العقل في المقارنة والتحليل ومحاولة التعرف على إيجابيات وسلبيات نمط كل من الحياتين – حياة البادية بحركتها الدائبة وترحالها الموسمي وحياة الحضر بمؤسساتها واستقرارها - وذلك من خلال المتغيرات الحياتية وما قد إستجد من ظروف الحياة في كل منهما. وهنا وداخل هذا الخضم من التساؤلات لابد لنا من تأمل تساؤل قد يعيننا فيما نحن فيه وهو : " أيهما الأقدم والأصل في حياة البشر جميعا ؟ هل هو نمط حياة البادية أم نمط حياة الحضر؟" إنّ الإجابة لا تحتاج إلى كبير عناء إذ أنّ حياة البادية على الرغم مما أصابت من تطور في نمط حياة الإنسان مقارنة بما سبقها من نمط حياوات متعاقبة إلا أنها تبقى الأقرب إلى طبيعة الحياة في هذه الأرض إذا ما قورنت بحياة الحضر، وما ذلك إلا لأنّ الحضر من التحضر وهي مرحلة لاحقة للمرحلة السابقة. فالإنسان قد عرف حياة البداوة والترحال قبل معرفته لحياة المكوث والإستقرار. ولا نود هنا الخوض في تعريف التحضر برؤية فلسفية تتصل بمعنى التحضر كقيمة حياتية سوف تبعدنا عما نحن فيه. ولكن هل قدرت وتمكنت حياة الحضر في سوداننا الحبيب من الفكاك والإفلات من قبضة مفاهيم وثقافات حياة البادية؟. سوف نرى.
شبه الجزيرة العربية والسودان:
حكى لنا التاريخ عن الصلة القديمة التي قامت بين سكان شبه جزيرة العرب والقرن الإفريقي بما في ذلك السودان ثم لاحقا شمال إفريقيا وغربها. وخير شاهد قصة سيدنا سليمان عليه السلام وبلقيس ملكة سبأ. هذا بالنسبة للقرن الإفريقي. وقد ذهب بعض المؤرخين إلى أنّ العرب قد عرفوا بلاد السودان منذ زمان سحيق قبل ظهور الإسلام. أمّا المدخل فهو البحر الأحمر وباب المندب. ثم جاء لاحقا دور المدخلين الشمالي والشمالي الغربي للسودان. والمرجح أنّ الذين هاجروا من شبه الجزيرة العربية إلى بلاد السودان في ذلك الزمان البعيد – إلى المنطقة الشرقية أولا ثم المناطق الأخرى - كانوا أهل بادية وترحال وجدوا في مناطق السودان الشرقية بيئة بداوة وترحال تفضل تلك التي تركوها خلفهم - فأقاموا. ولبناتنا وأبنائنا من سكان الحضر هذه الأيام أود أن أذكّر بأنّ هذه المنطقة الشرقية من سوداننا الحبيب وحتى منتصف القرن التاسع عشر كانت تعج بالغابات وصنوف الأشجار المختلفة والنباتات المتنوعة إلى جانب صنوف من الحيوانات المفترسة كالأسود والنمور والفيلة والقردة والغزلان إلى آخره وقد أورد ذلك السير صامويل بيكر في كتابه ( روافد النيل من الحبشة ) عندما حكى عن أحداث رحلته الأولى إلى تلك المنطقة في أوائل الخمسينات من القرن التاسع عشر الميلادي وعن أدلاّئه من قبيلة الحمران عبد القادر وإخوته وشهد لهم بالشجاعة والبراعة وهم يصطادون الفيل بالسيف والخيل فقط، واعترف لهم بأنّهم أشجع منه لأنّه يصطاد الفيل بالبندقية. إذن فهي منطقة صالحة بكل المقاييس لمتطلبات المرعى والترحال في طلبه. ثم، وبعد انتشار الإسلام شهدت مناطق متعددة من بلاد السودان تدفق قبائل وبطون من سكان جزيرة العرب. وما يعنينا فيما نحن فيه تلك المجموعات الرعوية التي وفدت إلى المناطق الرعوية بالسودان ومارست وما زالت تمارس حياة البداوة والترحال في غرب السودان وشرقه. عمل بعضهم بتربية الإبل والبعض الآخر بتربية الأبقار والمستأنس من الحيوان.
الإنسان والحيوان:
إنّها صلة موصولة تلك التي قامت بين الإنسان والحيوان منذ فجر التاريخ. إنّها صلة منفعة متبادلة وإن رجّحت فيها كفة منفعة الإنسان. فالإنسان كما هو معروف يتقوت بلحومها وألبانها ويفيد من كل ما يقدر على الإفادة به منها وبينها تسخيرها في النقل والترحال وقطع المسافات البعيدة إلى جانب إستعمالات أخر كالإفادة من جلودها ووبرها. أمّا الحيوان المستأنس فإنّه يحظى من الإنسان بتوفير الأمن والغذاء إلى جانب العاطفة الودودة إلقائمة على الإلفة وهل من مودة تتفوق على أن يوقف الإنسان نمط حياته لمقابلة متطلبات الحيوان. وبذكر عاطفة الوداد التي تقوم بين الإنسان والحيوان عادت بي الذاكرة إلى ما رواه لنا الأخ الحبيب سعادة السيد/كاتانا سفير دولة يوغندا بالخرطوم ونحن بيوغندا في زيارة صندوق الأمم المتحدة للسكان للوقوف على تجربتهم الناجحة في محاربة والتصدي لمرض فقدان المناعة وذلك في أول العام الحالي. قال بأنّ هنالك قبيلة في يوغندا تقوم حياتها على تربية الأبقار وبينها وبين الأبقار حميمية ترقى إلى درجة الحب العطوف المتبادل الذي جعل أفراد تلك القبيلة يعتقدون بأنّ الأبقار قد خلقت لهم وحدهم ولا وجود لها إلا بين ظهرانيهم. وقبل فترة زمنية ليست بالقصيرة أراد الله أن يسافر بعض زعماء تلك القبيلة إلى بلاد الهولندا تلبية لدعوة كريمة وجهت لهم من تلك البلاد. وعندما رأوا الأبقار هنالك كانت دهشتهم دهشة العمر فتوجهوا لا إراديا إليها وأخذوا يخاطبونها برقيق الحديث المشفق . .( وكيف حالكم . . إنتو بخير . . وكيف قطعتم يامساكين كل هذه المسافة للوصول إلى هذه البلاد ). فضحكنا من أعماقنا لتلك السذاجة الطيبة الحبيبة القريبة إلى نفس البراءة. والبقرة بصفة خاصة ومن دون كل الحيوانات قد وجدت من الإنسان من التقدير مالم تجده بقية الحيوانات. لقد عبدت بعض الشعوب البقرة في قديم العصور وما زلنا نسمع في زماننا هذا بأن فئة من أهل بلاد الهند تعبد الأبقار, وفي سوداننا الحبيب نجد أنّ القبائل النيلية التي تقوم بتربية الأبقار تحجم عن بيعها رغم الحاجة إلى المردود المالى بل تتجنب بقدر المستطاع ذبحها لأكل لحومها. وهو ما يحدث في بوادي أهلنا الآبالة في شرق وغرب السودان.
البادية والحضر:
كثيرا ما خاطبت شبابنا في لقاءآتي ومحاضراتي المتكررة بأهمية التعرف على حياة البادية لأن الذي يعتقد بأن حياة أهل السودان لا تعرف سوى حياة الريف وتقف عند حياة الحضر والمدن والعواصم يكون قد وقع في خطأ جسيم. لقد ذكرنا في بداية هذا اللقاء بأنّ حياة البادية هي الأسبق لأنّ حياة الحضر نمط حياتي لاحق استوجبته تطورات الحياة ومستلزمات الإستقرار. إذن من الطبيعي أن تتداخل معاني الحياة وممارساتها.
لقد جاء العرب إلى بوادي السودان منذ قديم الزمان. وجاء العرب إلى بلاد السودان وبواديه بكثافة أكبر عند انتشار الإسلام. وكما هو معلوم، عندما يترك المرء دياره إلى ديار أخرى ليقيم فيها فإنّه يأتي بكل مكوناته الوجدانية والمعرفية من فنون وعادات وتقاليد ومعتقدات. وفي صراعه مع ما يجد في استقباله من حياة فالبقاء للأصلح. وكم أعجبت بالتعبير الدقيق الذي أورده شاعرنا الحبيب الأستاذ/ صلاح أحمد ابراهيم رحمه الله عن العربي الوافد إلى بادية السودان بعد بزوغ شمس الإسلام. ( العربي حامل السوط المشل . . شكّال كل قارح . . ملاعب السيوف والحراب . . حلّ على بادية السودان كالخريف بالسّنة والكتاب . . يحمل في رحاله طموحه وتمرتين في جراب . . وشجر الأنساب ). وقد شهدت بادية السودان الشرقية العديد من الهجرات العربية وكان آخرها في أواسط القرن التاسع عشر هجرة قبيلة اهلنا الرشايدة الذين نطلق عليهم أحيانا اسم الزبيدية وهي القبيلة التي لم تختلط فيها الدماء بعد مع غيرها من الإثنيات. وكما هو معروف فإنّ هذه القبائل وأكبرها قبائل البجة التي احتفظت بألسنتها رغم اختلاط أنسابها بالعرب وانتشار الإسلام بينها، ثم الشكرية ثم البطاحين والرشايدة إلى آخره، تقوم جميعها بتربية الإبل وبعضا من الماشية. ولا بد من الإشارة إلى أنّ الصلة بين هذه المنطقة وبين شبه الجزيرة العربية كانت موصولة منذ زمان ليس بالقصير. وهاهو شاعر العرب الأكبر أبو الطيب المتنبيء يثبت لنا هذا في قصيدته التي تصلح لأن تكون خير مثال لمقتضى الحال إذ جاءت بهذه التفعيلة القصيرة القوية وهذا الإيقاع السريع اللذان حملا إلينا مشاعره وانفعالاته النفسية أثناء تأليفه لها وقد خرج مسرعا يطلب النجاة من متعقبيه الذين بعث بهم الإخشيدي في أثره بعد أن اطلع كافور على ذلك الهجاء المقذع، إنّه يقول:
ألا كـل ماشية الخيزلى فدي كل ماشيـة الهـيـذبى
وكل نجاة بجـــاوية خنوف وما بي حسن المـشى
وبالطبع كلمة بجاوية نسبة إلى منطقة البجا في شرق السودان وقد أشتهرت حتى الآن بأصالة وسرعة نوقها وجمالها وكل صنوف بعرانها. وقد علمت بأنّ البلاد العربية حتى اليوم لا تسمح لها بالمشاركة في سباقات الهجن الأخرى بل تفرد لها سباقات خاصة بها.
ومن المفارقات الطريفة أن تتشكل حياة البشر وتبنى على احتياجات المستأنس من الحيوان ثم يتحول الأمر إلى إلفة من جراء التعود لا يمكن الفكاك منها والإنسان إبن العادة والإنسان إبن البيئة كما يقولون. إنّ أهلنا في بادية السودان الشرقية وفي بادية السودان الغربية يرتحلون وينشقون ويظعنون حسب متطلبات إبلهم وأبقارهم وماشيتهم سعيا وراء الكلأ والمرعى ومضارب المياه. وبعيدا عن هذا الإرتباط الوثيق بين الإنسان والمستأنس من الحيوان يبدو أنّ لحياة الترحال في حد ذاته من الإغراء ما تصعب معه المقاومة وبالتالي التخلي ، والدليل على ذلك مجموعات الغجر في بلاد الأوروبا التي لم تتصل حياتها أساسا بالمستأنس من الحيوان ولكنها أدمنت التنقل والترحال بين ربوع أوروبا شرقا وغربا وشمالا وجنوبا في بحث دائم عن دفع الرتابة و معانقة التجديد. وفي سوداننا الحبيب قد أحب بل ربما أدمن بعض أساتذتنا الكبار حياة البادية والترحال، فما برقت لهم سانحة لممارسة حياة البادية إلا واستجابوا لها استباقا، نسوق منهم مثالين فقط هما الشاعران الكبيران الشيخ محمد سعيد العباسي الذي أحب بوادي غرب السودان والشيخ عبد الله البنّا الذي تعشّق بادية البطانة بشرق السودان، وقد تركا لنا أعذب الشعر الذي عبّرا به عن مشاعرهما تجاه البادية.
البادية :
تتسم حياة البادية في سوداننا الحبيب بالبساطة المشابهة لإنبساط الأرض في كثير من مناطق أهلنا الرحل. كل ملامحها تقوم على التنقل والترحال وعدم الإستقرار، وبين الشواهد عدم وجود القباب والمقابر المخصصة لدفن الموتى كما نجد في المدن والأرياف وأماكن الإستقرار. إنّ رفات أهلهم تتناثر عبر كل مناطق حلهم وترحالهم وربما قالت إمرأة في القافلة المتحركة لصديقتها وهي تشير إلى صخرة بأسفل هضبة صغيرة: " هنالك يرقد والدنا الصادق". وقد صوّر شاعرنا الرقيق الأستاذ/ الشريف زين العابدين بن الشريف الهندي هذا الموقف عندما تجلبب بجلباب شاعر شكري/بطحاني بقوله: ( يالمعزوزه بدمانا وعضام أبواتنا . . عارفنّك مقريفه لي شراب قهواتنا . . زغردي يأم شيوم خلّي أندق نحساتنا . . ونحاسب عقب في الجاتنا والماجاتنا . . . شوفي معزّتك كيفن عزيزه علينا . . شوفي عزمنا للحمل الوقف راجينا . . شوفينا أبنتر ولا أبنكف الشينا . . شوفينا أبندكدك ولا ما هامينا . . شوفينا أبنبشّر فيك طوال إيديتا . . ولا نغتي بالطين والعجين إضنينا". ومجتمع البادية إذا جاز لنا ذلك فهو مجتمع القبيلة الذي تتكور فيه حول نفسها وترى فيه الإنتماء والعزوة والمصير الواحد وأن لا طريق لها سوى طريق الحب التماسك. ولهذا التكوّر ولهذا التماسك الذي حمل روح العصبية ما يشفع له بل ويجعل منه ضرورة لا استغناء عنها. إنّ حياة البادية وحتّى زماننا هذا تحكي عن الإحتكاكات والحروب والغارات التي كانت وما زالت بين قبائل البوادي المختلفة لأسباب متعددة وبينها تلك التي تقوم بين الرحّل والمستقرين من أهل الزراعة من أجل الكلأ والمياه للأنعام. لذلك نجد القبيلة تسم بناتها وأبنائها بل وحيواناتها بميسم يميزها ويعرّف بها. وبنفس القدر نجد هذا الإحترام العميق من قبل أفراد القبيلة للمشرفين على أمر القبيلة من ناظر إلى عمدة إلى شيخ إلى كبار السن من حملة التجربة المبصرة. ولا بد من الإشارة إلى أنّ هذه المناصب لا يتم تبوؤها ضربة لازب كما يقولون أو بين عشية وضحاها. إنّه تمحيص وإثبات جدارة عبر السنين تتصل جميعها بمواصفات القيادة الحكيمة الرشيدة القائمة على معرفة الكريم من موروث العادات والتقاليد والأعراف وما يعود بالخير على القبيلة. وقد أشتهر عدد منهم على مستوى السودان عرفوا بسرعة البديهة والتدبير الحسن وسارت بذكرهم الركبان فتناقل الناس في البادية والحضر رؤاهم السديدة وتعليقاتهم اللاذعة المليئة بالمعرفة والتجاريب. وعندما نتحدث عن خصائص الحضر سوف نستصحب معنا هذه الملامح الخاصة بالبادية إذ من الضرورة بمكان أن يتعرف الحضر على خصائص البادية وهي الأصل والعكس صحيح. هذا ما تتطلبه بلاد التعددية والتنوع كالسودان. وعندها سوف نجد من المفارقات ما يستحق التأمل الجاد. وما زلت أذكر صبيحة ذلك اليوم الذي تحلقت فيه مجموعتنا بإدارة المحاكم حول بعضها البعض ونحن نسمع لواحد منا وهو يقرأ من صحيفة يومية قرار حل الإدارة الأهلية في كل أقاليم السودان وبينها إدارات البوادي والرحّل. أجمعنا وبصوت واحد على أنّه قرار ينم عن عدم معرفة لتراث وخصائص حياة أهل السودان المتعددة المتنوعة. وإن لم تخني الذاكرة قد ذكرت للمجموعة بأن الإدارة الأهلية في الأرياف وبعض المدن لا تلغى بقرار فوقي بل تذوب تلقائيا مع قيام المدارس والمعاهد والجامعات وإيجاد البدائل وضربت مثلا بعمدة الخرطوم سابقا الرجل الخيّر الكريم العمدة كرم الله طيّب الله ثراه. لقد ذابت العمودية في الخرطوم. أمّا بالنسبة للبادية وحياة الترحال فإنّ أمر الإلغاء لا يصدر بقرار فوقي يأتي من خارجها. إنّ الأمر يحتاج إلى وقت كبير ودراسات متأنية تتصل بمعرفة أسلوب حياة البادية. هذا ما قلته.
إنّ المتتبع لإبداع أهل البوادي في سوداننا الحبيب سوف يسعد أيما سعادة بالتعرف على الصور الجمالية التي تسيل رقة وعذوبة وصدقا والتي عبّروا بها عن عشقهم لحياة بواديهم. لقد طرقوا مداخل كل ملامح حياتهم في حلهم وترحالهم. كتبوا أعذب الشعر وغنوا للغزل والجمال بكل ألوانه. غنوا في الوصف والحماسة والحكمة والرثاء والكرم والشهامة ولم ينسوا حيواناتهم الحبيبة إلى نفوسهم فأسهبوا في تدليلها. إنّ باب الإبداع في بوادي السودان يحتاج إلى أكثر من بحث يتصل بالرصد والتحليل وإبراز مواطن الجمال فيه. ولا أعتقد أنّني أجانب الحقيقة إذا قلت بأنّ أصدق الغناء وأعذبه ما تغنى به أهلنا البقارة والكبابيش والحمر والمجانين والمسيرية والشلك والدينكا والنوير والزاندي والأمبررو والشكرية والبطاحين والبشاريون والبجا والعبابدة إلى آخر المجموعات البدوية. وهل من غناء عذب وصادق ومطبوع يفضل ما تغنت به تلك الفتاة الجميلة الرقيقة المشاعر عندما خفق قلبها بحب ذلك الشاب الوافد من منطقة النيل في شمال السودان والذي أقام لفترة وجيزة بين ظهراني أهلها وقبيلتها في غرب السودان. ( الكم الحننوكا . . بريه مال عدوكا . . إنت جافيت ولا الكبار حموكا . . القمر البضوي . . يا ضيفنا شن بتسوي . . إنت جافيت ولا القليب مقوي . . تهموني بيك بالباطل . . وكان صح ولا بنناكر . . يالمحنوك يا ضيفنا جيتنا خاتر ) إلى آخر الأغنية التي حملت نقاء وصفاء أهلنا في البادية والصدق الذي جعل تلك الفتاة البدوية تقول ( وكان صح ولا أبنناكر ). ولولا ضيق الوقت والمجال لأوردنا نماذج من هذا النسيب المتميز. وبين الذين أسرتهم البادية بسحرها شاعرنا الرقيق الذي لم تمهله الأيام فغادرنا إلى الدار الرحيبة وهو في الثانية والثلاثين من العمر، الأستاذ/ الناصر قريب الله رحمه الله رحمة واسعة. لقد أورد لنا هذه الصورة المتحركة النابضة بحيوية الصبا والجمال لتلك الفتاة الكاهلية التي تركت مضارب أهلها وأخذت تتأرجح على أغصان شجرة (السنط) على مقربة من خيام الفريق. كان شاعرنا في طريقه إلى قرية أم بادر عندما رآى هذا المشهد فسجّله لنا بكاميرا شعوره المبدع:
وفـتـاة لقـيـتها ثم تجنـي ثـمر السنط في انفراد الغزال
تمنـح الغصن أسفـلي قدميها ويـداهـا في صدر آخر عالي
فيظل النهدان في خفقان الموج والكـشح مفـرط في الهـزال
شاقني صوتها المديد تـنادي والعصـافـير ذاهـب الآمال
فجـزى الكاهلية الحب عني ما جـزتني عن جرأتي واتصالي
وتلتقي ملامح حياة البادية في سوداننا الحبيب مع العديد من ملامح حياة البادية في شبه الجزيرة العربية. فاللغة في أكثرية القبائل ذات الأصول العربية هي اللغة العربية القديمة التي لم تتأثر بالإختلاط. لقد نقل إليّ أحد الأصدقاء هذا المشهد المتمثل في زيارة شيخ عربي من الجزيرة العربية لبوادي السودان قبل حوالى الأربعة عقود وبينما هو في أرض أهلنا البقارة بغرب السودان يتحدث إلى أحد شيوخ القبيلة سمعه يطلب من إبنته داخل الخباء إسكات طفلها الصارخ الباكي بقوله: " أنطيه الديد ". أي أطعميه من صدرك. والديد بفتح الدال الأولى وتسكين الحرفين اللاحقين هو الثدي، فأنتفض ذلك الشيخ الزائر دهشة لأنهم يستعملون في باديتهم نفس الكلمات. كذلك التغني بالصيد والطراد والتشبيهات البليغة. وهاهو شيخ العرب الشيخ عوض الكريم أب سن في مسدار القضارف يشبه جمله في السرعة بالكلب السلوقي الوارد في طرديات النواسي وغيره من شعراء العرب القدامى. ( مسكة الدرب ونشته وقفّ شارد . . تقول كلبا سلوق لي صيدته طارد ). وإذا عاش عروة بن الورد والسليك والشنفرى وتأبط شرا على سلب بعران الآخرين في شبه جزيرتهم العربية وهم لا يرون بأسا في ذلك لأنهم يأخذون من الغني البخيل ليعطوا الفقير المحتاج كما قال شيخهم عرة بن الورد ( أفرّق جسمي في جسوم كثيرة . . وأحسو قراح الماء والماء بارد ) هاهو الطيب ود ضحوية يقول ( أنا من ناسا تسوي وما بتقول سوّيت . . ويشهد خالقي كان يوم السؤال قريت . . إن بردن نقود مال البخيل كشّيت . . وإن حرّن بكار ماهن صفائح زيت ). ولهذا المربع قصة لا تخلو من الطرافة. ثم أولاد فتر إثناء فترة حكم التركية السابقة ( فوق الكرت شلّقنا . . وكدي لا بيلا عرقنا . . جبنا حلال ما سرقنا . . شهودنا علينا درقنا). أمّا ذلك الشاعر المنتمي إلى أرض البطانة فإنّه يعبّر عن مشاعره تجاه أرضه ومرابع صباه والمحبوبة التي تشكلت معاني حسنها وجمالها من تلك الرؤى، بالقول: ( يالقلتولي ما عرفت الدهر فرّاق .. . غنوا وعاينوا سافل واوصفوا البرّاق . . على ليم الفريديغ المحاسنه دقاق . . شوقي وشوق جميع من شاف بطانة أم ساق ) ثم نجد هذا التشابه الكبير في مسميات منازل الخريف. فالذراع في الجزيرة العربية هو الضراع في السودان والنثرة هي النترة والطرف بكسر الطاء هي الطرفة البكّاية والجبهة هي الحبهة أمّا الزبرة بضم الزاي فعندنا الخرسان والصرف هي الصرفه والعواء . . تمام الوياك أو العواء وأخيرا السماك الأعزل . . السماك.
وقبل الإنتقال إلى الحضر لابد من أن نتعرض خطفا للمتغيرات التي طرأت على حباة البادية وأهلنا الرحّل. نعم . . لقد تغيرت طبيعة الأشياء عما كانت عليه إبّان زيارة المكتشف البريطاني سامويل بيكر. الغابة والحيوان البري ووسائل الإنتقال والإتصال . . كل شيء قد تغير. ومن المسؤول عن زوال الغابة وانقراض الحيوان البري؟ إنّه الإنسان السوداني الذي يقوم بقطع الأشجار وإزالة الخضرة وتعرية الأرض وكأني بنا لم ندرك بعد بأنّ الخالق العظيم يرسل السحاب مدرارا ليحيا به الزرع والنبت والإخضرار وهي من أسباب حياة الإنسان والحيوان. وكأني بالسحابة المثقلة بالمياه – سارية كانت أم غادية - عندما تطل على أرض أزيلت خضرتها، تنظر إلى زميلتها وتهمس في أذنها أن لا حوجة لهذا المكان بمياهنا وعلينا البحث عن الخضرة التي تحتاج لمياهنا لتحيا بها. لقد أدركت دول عديدة خطورة الإعتداء علي البيئة الطبيعية فأوجدت الحلول لوقف الإعتداء ثم سنت القوانين للحفاظ على النبات والحيوان البري. وبالطبع لا يقف أمر المتغيرات في حياة البادية وأهلنا الرحّل عند تعرية الأرض وانحسار أماكن الكلأ والمياه وانقراض الحيوان البري. هنالك مستجدات أساسية تتصل بالبادية السودانية ومستقبلها. مشاكل التعليم والصحة والعلاج ومحاربة العادات الضارة كختان الإناث والزواج المبكر الذي يعقبه حمل مبكر لم تتهيأ له الفتاة تكوينا طبيعيا تتسبب جميعها في زيادة نسبة الوفيات بين الفتيات والمواليد إلى جانب حالات مرض الناسور البولي في بيئة متحركة لا تعرف الإستقرار، هذا إلى جانب الإحتكاكات الأزلية بين القبائل المرتحلة وحيواناتهم المستأنسة وبين المزارعين في الأرياف وهم أهل استقرار. يضاف إلى ذلك كله تكاثر الطلب على المورد المحدود المتناقص.
الحضر:
والحضر هو الرئاسة وهو العواصم وهو مقر الحكومات وصنّاع القرار. نجد فيه كل ملامح الإستقرار والإستنفار. إنّه الدولة التي تكبر مسؤوليتها مع جسامة تنوع أهلها وتعددية أعراقها واختلاف سبل العيش فيها. وفي بداية هذا اللقاء ذكرت بأنّني كثيرا ما تحدثت إلى بناتنا وأبنائنا عن أهمية التعرف على حياة البادية وهل لها من انعكاسات على حياة المدينة والحضر؟. ثم أشرت إلى أهمية استصحاب تكوّر القبيلة حول نفسها في عصبية فرضتها عليها ظروف حياتها، وذلك عندما نتحدث عن الحضر، وهو تكوّر حميد لما فيه من بساطة مستمدة من بساطة حياة البادية ووجاهة الضرورات التي فرضته. وكما نعلم جميعا فإنّ الإنتقال الطبيعي للإنسان يكون من البادية والأرياف إلى الحضر وليس النقيض والدليل على ذلك اليسر والسهولة التي يمكن بها إرجاع أكثرية المقيمين بالحضر إلى أصولهم البدوية والقروية. وهنا لا نجانب الحقيقة إذا قلنا بأنّ سكان الحضر في أكثريتهم من البادية والريف وإن وفدوا وأقاموا منذ زمن بعيد وهم الذين ساقتهم الأقدار إلى إدارة دولاب الحياة لا في الحاضرة وحدها وإنّما في القطر كله. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: هذا الإنسان الحضري الذي لا يقدر على العودة إلى حياة البادية في حلّها وترحالها وهي من أصوله التي سمع عنها أو ربما حمل وسمها، هل ما زال يحمل ذلك التكوّر القبلي أم أنّه يدرك أهمية متغيرات الحياة في بلد كالسودان تقتضي تعدديته وتنوع عادات أهله الرؤية من خلال الحس القومي الذي تذوب عنده عصبية القبيلة؟.
الخاتمة:
مما لا شك فيه أنّ حياة البادية بالصورة التي نعايشها اليوم في سوداننا الحبيب مقارنة بالماضي قد إنحسرت وهي آخذة للأسف العميق في التراجع، الأمر الذي يحتم علينا النظرة الجادة لحياة البادية. هذا في الجانب المادي المتصل بالنبات والحيوان. ولكن هنالك جانب معنوي لا ينبغي إهماله وهو الجانب الوجداني في حياة البادية، وهو الجانب الذي إذا حسن استغلاله ربما عاد كذلك بثروات سياحية هائلة المردود المعنوي والمادي. فكم من مواطن عربي وغير عربي وأوروبي وغير أوروبي على استعداد لأن يبذل ماله طواعية في سبيل رحلة آمنة من مكان إلى مكان آخر في بوادي السودان وعلى ظهور الجمال والأبقار، خاصة عندما تلبس الأرض حلتها السندسية الخضراء ويعتدل ويرق الهواء بعد أن تستظل الأرض من وهج الشمس بمظلة الغيوم الحانية. إنّ رتابة الحياة والإحساس بالملل من جراء الممارسلت المتكررة المتشلبهة في الحياة يدفع بالكثيرين إلى ركوب المغامرة المحدودة المخاطر. هذا ما نشاهده عبر العديد من القنوات الفضائية هذه الأيام, وعلى الرغم من أنّ البرطانيين قد فعلوها من قبل كواجب حتّمه عملهم أثناء إدارتهم لشؤون السودان إلا أنّهم لم يفتهم تسجيل ما أحسوا به من استمتاع ظل يلازمهم حتّي بعد مغادرتهم للسودان. هذا ما جكاه لي بعضهم عندما شاركت في مؤتمر الدراسات السودانية بجامعة (درم) بإنجلترا في العام 1990م. فقط علينا أن نزيل عن البادية الأسباب التي دعتها إلى التكوّر المتوجس وذلك عن طريق توفير الطمأنينة وتيسير ممارستها لحياتها الفطرية البسيطة وعندها سوف نفخر بأننا قد أبقينا على تراث من حقه علينا أن يبقى. فإذا قدرنا على إزالة هذا الهاجس التكوري عن أهلنا بالبادية بتوفير الطمأنينة لحياتهم نكون قد قدرنا على قطع دابر هاجس عصبية القبيلة في الحضر وهو الهاجس الذي أرّق شاعرنا الكبير الأستاذ/ يوسف مصطفى التّني رحمه الله رحمة واسعة فتغنى – في الفؤاد ترعاه العناية بين ضلوعي الوطن الحبيب - مناوء لعصبية القبيلة.
ومن المفارقات الطريفة ايضا أنّ هذا التكور وهذه العصبية التي خلعنا عليها صفة المشروعية والأهمية نسبة لما أقتضته ظروف الحياة في البادية سوف تحتاجها الدولة التي أنكرنا عليها التكور والعصبية في بلد متعدد ومتنوع كالسودان. نعم . . سوف تحتاجها الدولة عندما يتحقق لها التوحد القائم على المؤسسية العدالة في الداخل وعندما تقتضي الضرورة البحث عن إنتماء حليف بالخارج يقف مصدا أمام عصبيات وتكتلات هذا الزمان.
ملحوظة: بتصرّف من كتابي ( فن وتأمل ).
عبد الكريم الكابلي – الخرطوم بحري
أزهرى الحاج البشير- مشرف عام
رد: عبد الكريم الكابلي يكتب عن: حياة البادية وانعكاساتها على حياة الحضر في السودان
بارك الله فيك استاذي أزهري....
أعتقد أن الأستاذ كابــلي قد وفق في جمع المعلومات والمقــارنه ..
" إن حياة البادية هي الأسبق لأنّ حياة الحضر نمط حياتي لاحق استوجبته تطورات الحياة ومستلزمات الإستقرار. إذن من الطبيعي أن تتداخل معاني الحياة وممارساتها "...
أعتقد أن الأستاذ كابــلي قد وفق في جمع المعلومات والمقــارنه ..
" إن حياة البادية هي الأسبق لأنّ حياة الحضر نمط حياتي لاحق استوجبته تطورات الحياة ومستلزمات الإستقرار. إذن من الطبيعي أن تتداخل معاني الحياة وممارساتها "...
الفاتح محمد التوم- مشرف المنتدى السياسى
رد: عبد الكريم الكابلي يكتب عن: حياة البادية وانعكاساتها على حياة الحضر في السودان
لك الشكر استاذنا ازهرى
والشكر لفنان العظيم الكابلى
الذى حلق بنا ما بين الباديه والحضر
ويا له من سرد ممتع
التحيه لكم
والشكر لفنان العظيم الكابلى
الذى حلق بنا ما بين الباديه والحضر
ويا له من سرد ممتع
التحيه لكم
Suhad Abduelgfaar- مشرف حكاوي المهجر
مواضيع مماثلة
» عهد جيرون لشاعر السودان العباسي ..... من روائع الكابلي
» مجلس الامن يتبنى بالاجماع قرارا يطالب السودان وجنوب السودان بوقف الاعمال العدائية في خلال ثمان واربعين ساعة ويهدد بفرض عقوبات على السودان وجنوب السودان
» ذكريات من البادية
» الفناني عبدالكريم الكابلي
» صورة الفنان الكابلي ووردي
» مجلس الامن يتبنى بالاجماع قرارا يطالب السودان وجنوب السودان بوقف الاعمال العدائية في خلال ثمان واربعين ساعة ويهدد بفرض عقوبات على السودان وجنوب السودان
» ذكريات من البادية
» الفناني عبدالكريم الكابلي
» صورة الفنان الكابلي ووردي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى