المسيح المصلوب فى لوح المحبوب: الحركة الاسلامية، دائرة الضوء وخيوط الظلام
+2
الفاتح محمد التوم
nashi
6 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
المسيح المصلوب فى لوح المحبوب: الحركة الاسلامية، دائرة الضوء وخيوط الظلام
غربا باتجاه الشرق
المسيح المصلوب فى لوح المحبوب: الحركة الاسلامية، دائرة الضوء وخيوط الظلام
(١-٣)
مصطفى عبد العزيز البطل
mustafabatal@man.com
(1)
رفدت دار مدارك بالقاهرة، قبيل أسابيع معدودات، المكتبة السياسية السودانية بكتابٍ ثمينٍ دهين، دفع به الى سوح الفكر والسياسة في السودان، وفي العالمين العربي والإسلامي القيادي الرفيع ذي السهم المقدّر والكسب المذكّر في مسارات الإسلام السياسي الحركي المنظم في السودان، الأستاذ المحبوب عبد السلام. يحمل الكتاب العنوان الرئيس: (الحركة الإسلامية السودانية، دائرة الضوء - خيوط الظلام)، والعنوان الفرعي: (تأملات في العشرية الأولى لعهد الإنقاذ).
وإطلالة المحبوب، بعد طول احتجاب، وخروجه الى الهواء الطلق ليوافي عشيرته الأقربين من البجدة الإسلاموية، وأقوامه الأبعدين من جماع أهل السودان على اختلاف مللهم الفكرية ونحلهم السياسية بشهادته على أحداثٍ جسيمةٍ قارعة، ووقائع عظيمةٍ فارعة، وسمت بميسمها عشرية الإنقاذ الأولى، هي مما يُحمد لهذا الفتى من فتيان الجيل الإسلاموى الثالث حمداً كثيراً، ويستمطر على اسمه الوديع الطيب ثناءً وفيراً. ولئن كان عميد الأدب العربي طه حسين قد أفادنا بأن (حاجة من عاش لا تنقضي)، فقد علمنا حال بلدنا الكئيب الممحون، الذي يختلط فيه حابل التاريخ بنابله، حتى وإن ظلت وقائعه شاخصة وشواهده ماثلة لم يرثّ ثوبها بعد، أن حاجتنا تظل شديدة الى شهادات الشهود العدول ممن عجنوا دقيق ذلك التاريخ وخبزوه، والمطلعين على دقائقه وخفاياه ممن عاشوا بمقربة من صناعه المباشرين وهم يقودون خطى السودان من أفقٍ الى أفق، أو قل من نفقٍ الى نفق، كيفما اتفقت رؤاك ومواقفك.
(2)
أول ما لفت نظرى وشدّ انتباهي وأنا أعبر الفقرات في مقدمة الكتاب توسل المحبوب الى تقعيد خاطراته وتثبيت تداعياته باستدعاء مفكرين وأدباء وشعراء ومغنيين من قبائل ماركسية وعلمانية وليبرالية، أوغل في الاستشهاد بآثارها الإبداعية على نحو لا تخطئه العين. وافتني لفوري الحكمة الشعبية (تعيش كتير تشوف كتير) فقلت لنفسي: من يعش من تجربة الإسلامويين داخل مقطورة الحكم وخارجها عشرين رجباً، يرى من التحولات الذهنية الجذرية عند الكيزان، من أمثال المحبوب، عجباً. من يا ترى كان يصدق أنه سيظلنا زمان يكتب فيه عتاة الإسلامويين، أهل السيخ والعصي والشعارات المجلجلة المزلزلة، التي لا تقبل القسمة على اثنين، كتباً وأسفاراً فلا يجدون من بين كل مبدعي المعمورة من يستأنسون بعطاءاتهم غير لينين وميشيل عفلق ومنصور خالد وبدر شاكر السياب ومحمود درويش ومحجوب شريف وهاشم صديق وأبوعركي البخيت وفرقة عقد الجلاد، كما استأنس المحبوب في مقدمته الجزلة؟! هل كنت تصدق – أعزك الله - لو انه قيل لك، قبل نيفٍ وعشرين عاماً، أن رجلاً يوصف بأنه يد الشيخ الترابي اليُمنى سيكتب كتاباً تجد بين دفتيه شعراً يمجد شهداء الشيوعيين في يوليو ١٩٧١م: (جابوا معاوية يشهد/ شوف معاوية وغدرو/ لوّح خنجرو وطعن الشفيع في صدرو)؟! أو أنه يستعذب فينتخب في مقدمته أبياتاً من شاكلة: (منو العمّق جذور العزّة جوّة الطين/ وما همّاهو ساعة الرحلة للمجهول/ منو السلّم صغارو الغُول/ وكان اتغشّة لم يتأمل العيش الملا القندول). ووجه المفارقة الداعية للتأمل هنا هي أن شاعر الأبيات المختارة المُستشهد بها، ومغنيها، استقرت عقيدتهما معاً، كما استقرت عقيدة لفيفٌ كثيف في طول الوطن وعرضه، على أن "الغول" المعني، آكل الأطفال، إنما هو في الأصل إسلاموي المولد والمنشأ والهوية، ذو نسب في الإسلاموية عريق. قرأت وتأملت وتعجبت، ثم لم أجد بين شفتي ما أهتف به في وجه المحبوب غير قول الفرنجة: Welcome to the club !!
(3)
يختلط عليك الأمر أحياناً، وأنت تُمعن النظر في لوح المحبوب، هل كتب اللوح بعماره حقاً قيادي إسلاموي ممن قام نظام الإنقاذ على أكتافهم فشادوا بنيانه، مدماكاً مدماكاً، ومكّنوا لحكمه في البر والبحر، وأمحضوه بذلهم في المشهد والمغيب؟ ولعلك تعلم يا رعاك الله أن صاحبنا كان قد قطع غداة الانقلاب بعثته للدراسات العليا بفرنسا، ونحر بيده اللقب الدالي الرفيع، الذي تتقطع دونه الأعناق، وضحَّى به بنفسٍ مطمئنة وروحٍ طيبة رضية، وتركه وراءه معلقاً على أعمدة برج إيفل في قلب باريس، ثم قفل راجعاً الى دار الجهاد الأكبر ليقف غداة الانقلاب على ثغرة من أجلِّ الثغور: أميناً للإعلام الخارجي لحكومة الثورة المنقذة. نقول يختلط عليك الأمر فما تدري هل الكاتب هو المحبوب عينه، أم واحدٌ من عتاة المعارضين الذين جبهوا الإنقاذ عند بزوغ فجرها باللسان، ثم لاقوها عند ضحى يومها بالسنان. ويُحيّرنا أن المحبوب لا يستبرئ لنفسه من معرَّة التآمر للإجهاز على الديمقراطية الوليدة والإطاحة بالشرعية المنتخبة في العام ١٩٨٩م، بل يصدر في كل مواقفه من ذات المنطلق الوصائي الحركي الإسلاموي التقليدي الذي يفرض رعايته الأبوية على المجتمع كله (إنما الخير أردت والإصلاح قصدت)، وعين المنطق الاستعلائى الفرعوني القرآني التالد: (وما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد). وسنأتيك – أيها الأعز الأكرم – فنفصل لك تفصيلاً ما بدا لنا من جوانب الخلاف مع مواقف وأسانيد صاحبنا المحبوب كما بسطها عبر صفحات الكتاب.
(4)
لم يكن مستغرباً عندي مسعى المؤلف لتجلية وتلطيف صورة شيخه الدكتور حسن الترابي ومواقفه السياسية خلال فترة وجوده في مواقع السلطة خلال العهد المايوي الى جانب الرئيس الراحل جعفر نميري. وكان الشيخ نفسه، بمعونةٍ من الآلة الإعلامية الإسلاموية الضاربة خلال ربع القرن الماضي، قد سعى لتثبيت بعض الخزعبلات والأوهام في أذهان العامة حول مواقف معارضة يزعمها ضد الرئيس نميري. وحقيقة الأمر أن جميع الادعاءات التي جرى ترويجها ترويجاً مكثفاً برعاية الآلة الإسلاموية خلال ربع القرن الماضي لا سند لها من الواقع ولا حظّ لها من الصدقية. ليس صحيحاً قط أن الشيخ الترابي درج على انتقاد النميري والهجوم عليه وعلى سياساته وممارساته في ندوات مختلفة وأن الأجهزة الأمنية كانت تترصده وتبلغ الرئيس بذلك، كما جرت المزاعم وكما كرّس المحبوب في لوحه. في مرة وحيدة خلال العام 1982 كان الشيخ الترابي، الذي شَغَل وقتها منصب النائب العام، قد تحدث في ندوة مفتوحة للطلاب بجامعة الخرطوم ودعاهم علانيةً للالتحاق بتنظيم الاتحاد الاشتراكي والتعبير عن مواقفهم الناقدة للنظام من داخله. وقد حملت صحيفة (آخر لحظة) الحائطية الناطقة بلسان الاتجاه الإسلامي في صبيحة اليوم الثاني المانشيت العريض: (الترابي للطلاب: باسم النظام أدعوكم لممارسة النقد البناء). وبعد حوالى خمسة أسابيع من تلك الندوة ذهب الترابي الى الجامعة مرة أخرى حيث خاطب الطلاب منتقداً حملات تفريغ العاصمة التي كانت قد بلغت ذروتها في النصف الأول من الثمانينات، وعُرفت في اللسان الشعبي باسم (الكشات). وقد كانت جل ملاحظات الترابي الناقدة تدور حول فذلكات واستشكالات قانونية محضة، حيث استخدم الرجل كلمات وعبارات محسوبة وحذرة للغاية في وصف الإجراءات الشرطية لتفريغ العاصمة، ومن ذلك أنه وصف الحملات بأنها (سخيفة). ولكن المصطلحات ذات الفاعلية السياسية والحقوقية الأصيلة في مثل هذه المواقف مثل (حقوق الإنسان) و(الحقوق الدستورية) لم ترد قط على لسان الترابي. والغريب أنه عندما نُقلت هذه الواقعة وأبلغت الى الرئيس الذي واجه بها الدكتور حسن الترابي علناً فإن الأخير دافع عن نفسه دفاعاً مستميتاً في اجتماع مهيب بقاعة الصداقة ونفى الكلام المنسوب اليه، واتهم بعض المسئولين بالتآمر ضده والاساءة اليه وترويج الذائعات المغرضة عنه! والغريب أن حاكم إقليم دارفور أثناء العهد المايوي أحمد إبراهيم دريج الذي كان غاضباً على حملات تفريغ العاصمة أثار ذات القضية أثناء جلسة لمجلس الوزراء في وقت لاحق، بحضور الرئيس نميري، واتهم حملات تفريغ العاصمة بأنها تعبر عن سياسة عنصرية من قبل الحكومة تجاه أبناء أقاليم بعينها مما أغضب الرئيس. ولم يفتح الله على النائب العام الدكتور حسن الترابي الذي كان حاضراً بكلمة واحدة عند مناقشة حاكم دارفور لذلك الموضوع، رغم أن الحاكم تعرض لتقريع شديد من الرئيس بسبب جرأته وتجاوزه للخطوط الحمراء.
والواقع أن المرة الوحيدة التي طرح فيها الدكتور الترابي رأياً يمكن أن يوصف بأنه مخالف لموقف معلن للرئيس نميري خلال سنوات مشاركته في الحكومة الممتدة من ١٩٨٠م وحتى ١٩٨٥م، جرت عندما طرح النميري على مجلس الوزراء قراره بإرسال قوات سودانية الى العراق لدعم الرئيس السابق صدام حسين في حربه القائمة آنذاك مع إيران، وفتح الباب للمتطوعين السودانيين بالتسجيل للسفر الى مواقع القتال. وكان من رأي الترابي أن المعلومات المتوفرة حول الموقف العسكري بين البلدين المتحاربين في أغلبها معلومات مضللة تروجها مصادر غربية تحاول أن توحي بأن إيران على مشارف النصر وأن جيشها ربما اكتسح أجزاءً من العراق في المستقبل المنظور. وأشار الترابي على الرئيس أن يجنح الى شئ من التأنى حتى يتأتى له التثبت من الحقائق على أرض الواقع قبل إنفاذ القرار بإرسال قوات سودانية للمشاركة في القتال. وغنيٌّ عن البيان أن النميري لم يحفل بنُصح وزيره وأمضى قراره وأنفذه في ذات يومه بغير تردد.
(5)
وإذ يثبّت لنا المحبوب، ما أبانه قبله آخرون من أهل الذكر أن قرار الانقلاب الانقاذوي وخطته اجتمعت عليهما جماعة الجبهة الإسلامية القومية، شيخاً وأتباعاً، وتواثقت يداً واحدة وقلباً واحدا؛ وأن العناصر المنوط بها قيادة الانقلاب أدت القسم وبايعت بيعة الرضوان تحت شجرة شيخها الترابى أن تراعي أمانتها وتحفظ عهدها، فإنه لا يتركنا منذ الوهلة الاولى دون أن يلقي في أذهاننا بجرثومة الخيانة. وخيانة العهد والميثاق تبدأ منذ صياغة البيان رقم واحد الذي تلاه على الشعب صبيحة الثلاثين من يونيو العميد عمر حسن أحمد البشير. وقد عرفت للمرة الأولى من لوح المحبوب أن كاتب ذلك البيان هو الأستاذ علي عثمان محمد طه. وأنه تم الإتفاق على الأفكار والخطوط الأساسية للبيان الأول ليطرق القضايا المتعارف عليها في سنن الانقلابات، وبحسب صاحبنا فإنه كان من جوانب الاتفاق حول مضمون البيان أن يصاغ بحيث (يبشر بالإنقاذ وتسليم السلطة للشعب ريثما تستقر الأوضاع). المعنى المراد هو أن يتضمن البيان الأول فقرة تشير الى نية المنقذين الاستيلاء على السلطة لفترة زمنية مقدرة بقدرها تؤمن خلالها أحوال البلاد فتثوب الى شئ من الاستقرار، ثم تتم بعد ذلك إعادة السلطة للشعب، تماماً كما كان الحال مع انقلاب الفريق عبد الرحمن سوار الذهب في أبريل ١٩٨٦م. ثم يضيف المحبوب، وأريدك هنا أن تعيرني كامل انتباهك أيها الأعز الأكرم: (ولكن هذه النقطة بالتحديد لم ترد في البيان الذي تلاه رئيس الثورة فجر الإنقلاب، كما لم يناقش المكتب القائد سقوطها عن النص الأول، فضلاً عن أن يحاسب على غيابها). إذن فقد كانت لكاتب البيان أجندته الخاصة التي لا تخفى، ولذلك فقد التوى على جماعته، برغم القسم والعهد، وتنصَّل من إضافة الفقرة التي تنص على تسليم السلطة للشعب في أعقابِ الفترة الانتقالية المتفق عليها، فكان ذلك البيان الأول المبتور، المنزوع الدسم، الذى تلاه على شعبه، فى فاتحة الانقلاب، العميد (آنذاك) عمر البشير. يا ألطاف الله! كدة يا شيخ علي.. تبدا الخيانات من قولة تيت؟! والله إنى لأكاد أرى بعينىّ رأسى داهية المسلمين عمرو بن العاص يجلس عند قدميك متأدباً متتلمذاً ينشد العلم! ولكن السؤال مع ذلك ما يلبث ان يطرح نفسه على وجه العجلة: ما الذى حال بين المكتب القائد وبين مناقشة سقوط (او بالاحرى اسقاط) الفقرة من صلب البيان، ولماذا لم يُحاسب المُسقط على تغييبها؟!
(6)
تنقسم الشخصيات من قيادة الحركة الإسلاموية فوق صفحات الكتاب انقسامات مفصلية بين محاور متقابلة تقع عليها تصنيفات قطعية: أبيض وأسود، ضحايا ومتآمرين، أبطال وخونة، أهل وفاء وأهل غدر، خبثاء أشقياء وأصفياء أنقياء، متشبثون بأعنة الحكم وأرائكه وطنافسه، وزُهّاد عُبّاد لا يرون في السلطة إلا الابتلاء والفتنة. وفي إبحاره المتصل بين الجماعتين المصنّفتين لم يبخل المحبوب علينا بآراء حسمية مُفلقة وأحكام قيمية مطلقة في شأن غالب برامج الإنقاذ ومشروعاتها وأعمالها الكبرى التي انكبت عليها منذ فواتح أسابيعها الأولى في السلطة المنتزعة وحتى خواتم العشرية الاولى.
أدان صاحبنا بكلماتٍ متينةٍ صلدة تشريد عشرات الآلاف من العاملين بأجهزة الدولة تحت شعار الصالح العام، كما استنكر قرارات تصفية كبار ضباط القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى بغرض فسح المجال أمام (عربدة صغار الضباط) الإسلامويين. ووصف فصل العاملين بالدولة مدنيين وعسكريين بأنها (مجزرة عشوائية). وأكد أن فصل الكثير من هؤلاء لم يكن له علاقة بالعمل أو تأمين الثورة، وإنما كان دافعه الموجدة الشخصية والدوافع الذاتية من لدن بعض عناصر التنظيم، وآخرين من الوصوليين الذين رغبوا في التخلص من زملائهم في الأجهزة والوزارات الحكومية. كما أدان على ذات الصراط تمدد الاعتقالات العشوائية في المراكز التي عرفت باسم بيوت الأشباح، حيث جرى أخذ الناس بالشبهات بلا تحقيق أو محاكمة. وأفاد أن سدنة بيوت الأشباح حصلوا على فتاوى دينية تجيز التعذيب في سابقةٍ دمغها بأنها (مأساة فكرية تضاف للمأساة الأخلاقية)، وقرر المحبوب أن التعذيب في بيوت الأشباح مارسته عناصر من فرع الاستخبارات العسكرية بمشاركة عناصر من عضوية التنظيم، وأن بعض ممارساته جرت أمام أعين بعض قادة الحركة.
استبشع صاحبنا (المجزرة المتعجلة التي ارتكبتها قيادة الثورة وقيادة الحركة، المتمثلة في نائب الأمين العام، في ثمانية وعشرين من الضباط، وأضعاف العدد من ضباط الصف، بعد محاولة انقلابية فاشلة). لم يلفت نظري كثيراً أن المؤلف ترحَّم على الضحايا أجمعين وعبَّر عن أسفه لفقدانهم، فالمحبوب إنسان رفيع ومسلم أصيل، بيد أن الذي شدّ انتباهي حقاً هو أنه أسبغ عليهم صفة (الشهداء)، وكونه شدد النكير على رجال الإنقاذ ووضع المسؤولية فوق أعناقهم فكتب: (وبقيت المسؤولية في عنق الإنقاذ الى اليوم، أن تخطر ذوي الشهداء كيف تمت المحاكمة، وبأي قانون، وأين دفنوا وماذا تركوا من وصايا ومتعلقات شخصية).
استهجن المحبوب ما وصفه بـ (الجرأة البالغة) التي تجلَّت في حماسة بعض قادة التنظيم لإعدام كبار الأطباء الذين ائتمروا على الإضراب في أيام الإنقلاب الأولى، كما استنكر إعدام رجل الأعمال المرحوم مجدي محجوب محمد أحمد الذي نفذ فيه حكم الإعدام برغم الشبهة الشرعية المتمثلة في ثبوت حصوله على المال موضوع المحاكمة ورثاً لا تصرفاً وبيعاً. وأضاف الى ذلك إعدام (أبناء لرموز في الديانة المسيحية كانت الثورة تحتاج أن تحفظ معهم عهداً ودوداً ينفعها في عمرها الوليد).
ثم أدان المحبوب بعبارات ساطعة برنامج تطوير وتثوير الخدمة العامة والإصلاح الإدارى، الذي وقف عليه منذ الاسبوع الأول للانقلاب وعلى مدى سنتين الوزير المتألق الطيب إبراهيم محمد خير (سيخة)، المولع الى حد الوله بأضواء كاميرات التلفزيون، كما سخر من ممارسات الوزير الاستعراضية التي ما قطعت أرضاً ولا أبقت ظهراً. وسخّف المحبوب السياسات الإعلامية التي صادرت الحريات منذ اليوم الأول لعهد الإنقاذ وأنتجت صحافة هزيلة، وأحالت الإذاعة والتلفزيون الى أجهزة عجفاء عديمة القيمة لم تزد شعبها إلا خبالاً، مشيراً الى تسابق كادرات التنظيم الإعلامية المؤهلة نحو وزارة الخارجية، وقد سُحرت وانخلب لبّها ببريق الوظائف الدبلوماسية والياقات المنشاه وربطات العنق، تاركة ساحات العمل الإعلامي القومى لأنصاف الموهوبين.
(7)
وسلسلة الإدانات الفورية الجزمية التي تُطرِّز لوح المحبوب تتعدد وتتصل وتستطرد، فما من سوأة من سوءات الإنقاذ إلا وأماط عنها خمارها وهتك سترها ففضحها فى العالمين بغير مناورةٍ او مداورة. غير أنه تبقى من ذلك كله معضلة واحدة، أرجو أن نتواثق، أيها الأعز الأكرم، أنا وأنت، على أن نبذل كل ما فى مقدورنا من جهد لتذليلها والقفز من فوقها ألا وهي: كيف يمكن أن نوفق بين منهج الشجب والاستنكار وفضح الستور وحرق الجسور من ناحية، وبين الحقيقة الشاملة التى تُغرق دنيانا بنورها لكأنها القمر فى كبد السماء، ومؤداها أن الوقائع المشمولة بسيل الإدانة جرى معظمها في سني الاستهلال من صدر العشرية الاولى، بل ان بعضها وقع في أيامها وأسابيعها وشهورها الفواتح، والحركة الإسلاموية حينئذٍ هيكلٌ متسقٌ وكيانٌ متحدّ كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضه بعضاً، ويرمى عن قوسٍ واحدة. والمحبوب عهدئذٍ فارس من فرسان التنظيم ورائد من رواد الإنقاذ، عهدت إليه الثورة بحراسة بوابة الإعلام الخارجي، فنهض الى عهده في بسالةٍ وحماسةٍ وتجردٍ وإيثار؛ فأدى أمانته كأفضل ما تؤدى الأمانات، يميط الأذى عن سكة الانقاذ ويمسح العرق عن جبينها، ويجمّل وجهها المُستنصب المستكرب بمستحضرات المكياج الحديث، ثم يبيع صورها البهيجة الملونة للميديا العالمية. كما خرج شيخه الترابي نفسه الى قارعة الطريق شاهراً سيف البلاغة، يردّ عن الانقاذ الغوائل في الداخل، ثم ينزلق الى بطون الطائرات فيصدُّ عنها العاديات في الخارج. قيل ان رجلاً من بنى وطننا اذاقته العصبة المنقذة، مع آخرين من اصحابه، فى بيوت الاشباح سيئة السمعة ألواناً من العذاب - المُجاز شرعاً عند بعض فقهائها - حتى تلفت قدمه اليمنى تلفاً لا رجاء بعده، مما اضطر الاطباء لبترها، قيل أنه وقف على قدم واحدة، فى قلب مؤتمر صحفى عقده الشيخ بلندن، ليُشهد الناس على ظلم الانسان لاخيه الانسان، ولكن الشيخ رسم على فمه ابتسامته الثعلبيه الشهيرة وقال للحاضرين من كادرات الصحافة والاعلام العالمى بلغةٍ انجليزيةٍ رصينة: (الرجل كاذب، فليس عندنا بيوت أشباح ولا من يعذب الناس، وانما هى الدعاية المغرضة. بل قطع الاطباء قدمه لأنه مُعتل بداء السكر)!
ويبدو لي أننا لو رجعنا الى ألواح التسعينات الأولى، لنتقصَّى ورق الشيخ الملهم وألواح الحُوار المستلهم لوجدنا فوقها عَمَاراً كثيفاً لا يشبه العمار الذي كتب به المحبوب لوحه الجديد. مع أن الثابت الذى عليه جمهور المؤرخين أنه عند كتابة التاريخ وتوثيقه لا يجوز إعادة تحرير نفس الوقائع فوق الواح جديدة باستخدام عمار جديد. تماماً مثلما لا يجوز إعادة تسويق التاريخ القديم المستند الى تراث حسن البنا وسيد قطب وعبد الرحمن السندي، بتدوين روايات جديدة تمجِّد صفحاتها شعر محمود درويش وتحتفى بأبيات محجوب شريف وتفتح قلبها لقصائد هاشم صديق، وترقص طرباً مع غناء أبوعركي البخيت، وتتمايل وجداً مع موسيقى عقد الجلاد. أما إذا ركب المحبوب رأسه وأصرّ على السير قدماً في نهجه هذا، فليس أمامه غير طريقٍ واحد وهو أن يحْلِق لحيته تماماً، على الأقل من قبيل اظهار الاحترام الواجب للحكمة الشعبية السودانية التى تقرر بغير مواربة أن الرقص وإطلاق اللحى لا يجتمعان!
عن صحيفة "الأحداث
المسيح المصلوب فى لوح المحبوب: الحركة الاسلامية، دائرة الضوء وخيوط الظلام
(١-٣)
مصطفى عبد العزيز البطل
mustafabatal@man.com
(1)
رفدت دار مدارك بالقاهرة، قبيل أسابيع معدودات، المكتبة السياسية السودانية بكتابٍ ثمينٍ دهين، دفع به الى سوح الفكر والسياسة في السودان، وفي العالمين العربي والإسلامي القيادي الرفيع ذي السهم المقدّر والكسب المذكّر في مسارات الإسلام السياسي الحركي المنظم في السودان، الأستاذ المحبوب عبد السلام. يحمل الكتاب العنوان الرئيس: (الحركة الإسلامية السودانية، دائرة الضوء - خيوط الظلام)، والعنوان الفرعي: (تأملات في العشرية الأولى لعهد الإنقاذ).
وإطلالة المحبوب، بعد طول احتجاب، وخروجه الى الهواء الطلق ليوافي عشيرته الأقربين من البجدة الإسلاموية، وأقوامه الأبعدين من جماع أهل السودان على اختلاف مللهم الفكرية ونحلهم السياسية بشهادته على أحداثٍ جسيمةٍ قارعة، ووقائع عظيمةٍ فارعة، وسمت بميسمها عشرية الإنقاذ الأولى، هي مما يُحمد لهذا الفتى من فتيان الجيل الإسلاموى الثالث حمداً كثيراً، ويستمطر على اسمه الوديع الطيب ثناءً وفيراً. ولئن كان عميد الأدب العربي طه حسين قد أفادنا بأن (حاجة من عاش لا تنقضي)، فقد علمنا حال بلدنا الكئيب الممحون، الذي يختلط فيه حابل التاريخ بنابله، حتى وإن ظلت وقائعه شاخصة وشواهده ماثلة لم يرثّ ثوبها بعد، أن حاجتنا تظل شديدة الى شهادات الشهود العدول ممن عجنوا دقيق ذلك التاريخ وخبزوه، والمطلعين على دقائقه وخفاياه ممن عاشوا بمقربة من صناعه المباشرين وهم يقودون خطى السودان من أفقٍ الى أفق، أو قل من نفقٍ الى نفق، كيفما اتفقت رؤاك ومواقفك.
(2)
أول ما لفت نظرى وشدّ انتباهي وأنا أعبر الفقرات في مقدمة الكتاب توسل المحبوب الى تقعيد خاطراته وتثبيت تداعياته باستدعاء مفكرين وأدباء وشعراء ومغنيين من قبائل ماركسية وعلمانية وليبرالية، أوغل في الاستشهاد بآثارها الإبداعية على نحو لا تخطئه العين. وافتني لفوري الحكمة الشعبية (تعيش كتير تشوف كتير) فقلت لنفسي: من يعش من تجربة الإسلامويين داخل مقطورة الحكم وخارجها عشرين رجباً، يرى من التحولات الذهنية الجذرية عند الكيزان، من أمثال المحبوب، عجباً. من يا ترى كان يصدق أنه سيظلنا زمان يكتب فيه عتاة الإسلامويين، أهل السيخ والعصي والشعارات المجلجلة المزلزلة، التي لا تقبل القسمة على اثنين، كتباً وأسفاراً فلا يجدون من بين كل مبدعي المعمورة من يستأنسون بعطاءاتهم غير لينين وميشيل عفلق ومنصور خالد وبدر شاكر السياب ومحمود درويش ومحجوب شريف وهاشم صديق وأبوعركي البخيت وفرقة عقد الجلاد، كما استأنس المحبوب في مقدمته الجزلة؟! هل كنت تصدق – أعزك الله - لو انه قيل لك، قبل نيفٍ وعشرين عاماً، أن رجلاً يوصف بأنه يد الشيخ الترابي اليُمنى سيكتب كتاباً تجد بين دفتيه شعراً يمجد شهداء الشيوعيين في يوليو ١٩٧١م: (جابوا معاوية يشهد/ شوف معاوية وغدرو/ لوّح خنجرو وطعن الشفيع في صدرو)؟! أو أنه يستعذب فينتخب في مقدمته أبياتاً من شاكلة: (منو العمّق جذور العزّة جوّة الطين/ وما همّاهو ساعة الرحلة للمجهول/ منو السلّم صغارو الغُول/ وكان اتغشّة لم يتأمل العيش الملا القندول). ووجه المفارقة الداعية للتأمل هنا هي أن شاعر الأبيات المختارة المُستشهد بها، ومغنيها، استقرت عقيدتهما معاً، كما استقرت عقيدة لفيفٌ كثيف في طول الوطن وعرضه، على أن "الغول" المعني، آكل الأطفال، إنما هو في الأصل إسلاموي المولد والمنشأ والهوية، ذو نسب في الإسلاموية عريق. قرأت وتأملت وتعجبت، ثم لم أجد بين شفتي ما أهتف به في وجه المحبوب غير قول الفرنجة: Welcome to the club !!
(3)
يختلط عليك الأمر أحياناً، وأنت تُمعن النظر في لوح المحبوب، هل كتب اللوح بعماره حقاً قيادي إسلاموي ممن قام نظام الإنقاذ على أكتافهم فشادوا بنيانه، مدماكاً مدماكاً، ومكّنوا لحكمه في البر والبحر، وأمحضوه بذلهم في المشهد والمغيب؟ ولعلك تعلم يا رعاك الله أن صاحبنا كان قد قطع غداة الانقلاب بعثته للدراسات العليا بفرنسا، ونحر بيده اللقب الدالي الرفيع، الذي تتقطع دونه الأعناق، وضحَّى به بنفسٍ مطمئنة وروحٍ طيبة رضية، وتركه وراءه معلقاً على أعمدة برج إيفل في قلب باريس، ثم قفل راجعاً الى دار الجهاد الأكبر ليقف غداة الانقلاب على ثغرة من أجلِّ الثغور: أميناً للإعلام الخارجي لحكومة الثورة المنقذة. نقول يختلط عليك الأمر فما تدري هل الكاتب هو المحبوب عينه، أم واحدٌ من عتاة المعارضين الذين جبهوا الإنقاذ عند بزوغ فجرها باللسان، ثم لاقوها عند ضحى يومها بالسنان. ويُحيّرنا أن المحبوب لا يستبرئ لنفسه من معرَّة التآمر للإجهاز على الديمقراطية الوليدة والإطاحة بالشرعية المنتخبة في العام ١٩٨٩م، بل يصدر في كل مواقفه من ذات المنطلق الوصائي الحركي الإسلاموي التقليدي الذي يفرض رعايته الأبوية على المجتمع كله (إنما الخير أردت والإصلاح قصدت)، وعين المنطق الاستعلائى الفرعوني القرآني التالد: (وما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد). وسنأتيك – أيها الأعز الأكرم – فنفصل لك تفصيلاً ما بدا لنا من جوانب الخلاف مع مواقف وأسانيد صاحبنا المحبوب كما بسطها عبر صفحات الكتاب.
(4)
لم يكن مستغرباً عندي مسعى المؤلف لتجلية وتلطيف صورة شيخه الدكتور حسن الترابي ومواقفه السياسية خلال فترة وجوده في مواقع السلطة خلال العهد المايوي الى جانب الرئيس الراحل جعفر نميري. وكان الشيخ نفسه، بمعونةٍ من الآلة الإعلامية الإسلاموية الضاربة خلال ربع القرن الماضي، قد سعى لتثبيت بعض الخزعبلات والأوهام في أذهان العامة حول مواقف معارضة يزعمها ضد الرئيس نميري. وحقيقة الأمر أن جميع الادعاءات التي جرى ترويجها ترويجاً مكثفاً برعاية الآلة الإسلاموية خلال ربع القرن الماضي لا سند لها من الواقع ولا حظّ لها من الصدقية. ليس صحيحاً قط أن الشيخ الترابي درج على انتقاد النميري والهجوم عليه وعلى سياساته وممارساته في ندوات مختلفة وأن الأجهزة الأمنية كانت تترصده وتبلغ الرئيس بذلك، كما جرت المزاعم وكما كرّس المحبوب في لوحه. في مرة وحيدة خلال العام 1982 كان الشيخ الترابي، الذي شَغَل وقتها منصب النائب العام، قد تحدث في ندوة مفتوحة للطلاب بجامعة الخرطوم ودعاهم علانيةً للالتحاق بتنظيم الاتحاد الاشتراكي والتعبير عن مواقفهم الناقدة للنظام من داخله. وقد حملت صحيفة (آخر لحظة) الحائطية الناطقة بلسان الاتجاه الإسلامي في صبيحة اليوم الثاني المانشيت العريض: (الترابي للطلاب: باسم النظام أدعوكم لممارسة النقد البناء). وبعد حوالى خمسة أسابيع من تلك الندوة ذهب الترابي الى الجامعة مرة أخرى حيث خاطب الطلاب منتقداً حملات تفريغ العاصمة التي كانت قد بلغت ذروتها في النصف الأول من الثمانينات، وعُرفت في اللسان الشعبي باسم (الكشات). وقد كانت جل ملاحظات الترابي الناقدة تدور حول فذلكات واستشكالات قانونية محضة، حيث استخدم الرجل كلمات وعبارات محسوبة وحذرة للغاية في وصف الإجراءات الشرطية لتفريغ العاصمة، ومن ذلك أنه وصف الحملات بأنها (سخيفة). ولكن المصطلحات ذات الفاعلية السياسية والحقوقية الأصيلة في مثل هذه المواقف مثل (حقوق الإنسان) و(الحقوق الدستورية) لم ترد قط على لسان الترابي. والغريب أنه عندما نُقلت هذه الواقعة وأبلغت الى الرئيس الذي واجه بها الدكتور حسن الترابي علناً فإن الأخير دافع عن نفسه دفاعاً مستميتاً في اجتماع مهيب بقاعة الصداقة ونفى الكلام المنسوب اليه، واتهم بعض المسئولين بالتآمر ضده والاساءة اليه وترويج الذائعات المغرضة عنه! والغريب أن حاكم إقليم دارفور أثناء العهد المايوي أحمد إبراهيم دريج الذي كان غاضباً على حملات تفريغ العاصمة أثار ذات القضية أثناء جلسة لمجلس الوزراء في وقت لاحق، بحضور الرئيس نميري، واتهم حملات تفريغ العاصمة بأنها تعبر عن سياسة عنصرية من قبل الحكومة تجاه أبناء أقاليم بعينها مما أغضب الرئيس. ولم يفتح الله على النائب العام الدكتور حسن الترابي الذي كان حاضراً بكلمة واحدة عند مناقشة حاكم دارفور لذلك الموضوع، رغم أن الحاكم تعرض لتقريع شديد من الرئيس بسبب جرأته وتجاوزه للخطوط الحمراء.
والواقع أن المرة الوحيدة التي طرح فيها الدكتور الترابي رأياً يمكن أن يوصف بأنه مخالف لموقف معلن للرئيس نميري خلال سنوات مشاركته في الحكومة الممتدة من ١٩٨٠م وحتى ١٩٨٥م، جرت عندما طرح النميري على مجلس الوزراء قراره بإرسال قوات سودانية الى العراق لدعم الرئيس السابق صدام حسين في حربه القائمة آنذاك مع إيران، وفتح الباب للمتطوعين السودانيين بالتسجيل للسفر الى مواقع القتال. وكان من رأي الترابي أن المعلومات المتوفرة حول الموقف العسكري بين البلدين المتحاربين في أغلبها معلومات مضللة تروجها مصادر غربية تحاول أن توحي بأن إيران على مشارف النصر وأن جيشها ربما اكتسح أجزاءً من العراق في المستقبل المنظور. وأشار الترابي على الرئيس أن يجنح الى شئ من التأنى حتى يتأتى له التثبت من الحقائق على أرض الواقع قبل إنفاذ القرار بإرسال قوات سودانية للمشاركة في القتال. وغنيٌّ عن البيان أن النميري لم يحفل بنُصح وزيره وأمضى قراره وأنفذه في ذات يومه بغير تردد.
(5)
وإذ يثبّت لنا المحبوب، ما أبانه قبله آخرون من أهل الذكر أن قرار الانقلاب الانقاذوي وخطته اجتمعت عليهما جماعة الجبهة الإسلامية القومية، شيخاً وأتباعاً، وتواثقت يداً واحدة وقلباً واحدا؛ وأن العناصر المنوط بها قيادة الانقلاب أدت القسم وبايعت بيعة الرضوان تحت شجرة شيخها الترابى أن تراعي أمانتها وتحفظ عهدها، فإنه لا يتركنا منذ الوهلة الاولى دون أن يلقي في أذهاننا بجرثومة الخيانة. وخيانة العهد والميثاق تبدأ منذ صياغة البيان رقم واحد الذي تلاه على الشعب صبيحة الثلاثين من يونيو العميد عمر حسن أحمد البشير. وقد عرفت للمرة الأولى من لوح المحبوب أن كاتب ذلك البيان هو الأستاذ علي عثمان محمد طه. وأنه تم الإتفاق على الأفكار والخطوط الأساسية للبيان الأول ليطرق القضايا المتعارف عليها في سنن الانقلابات، وبحسب صاحبنا فإنه كان من جوانب الاتفاق حول مضمون البيان أن يصاغ بحيث (يبشر بالإنقاذ وتسليم السلطة للشعب ريثما تستقر الأوضاع). المعنى المراد هو أن يتضمن البيان الأول فقرة تشير الى نية المنقذين الاستيلاء على السلطة لفترة زمنية مقدرة بقدرها تؤمن خلالها أحوال البلاد فتثوب الى شئ من الاستقرار، ثم تتم بعد ذلك إعادة السلطة للشعب، تماماً كما كان الحال مع انقلاب الفريق عبد الرحمن سوار الذهب في أبريل ١٩٨٦م. ثم يضيف المحبوب، وأريدك هنا أن تعيرني كامل انتباهك أيها الأعز الأكرم: (ولكن هذه النقطة بالتحديد لم ترد في البيان الذي تلاه رئيس الثورة فجر الإنقلاب، كما لم يناقش المكتب القائد سقوطها عن النص الأول، فضلاً عن أن يحاسب على غيابها). إذن فقد كانت لكاتب البيان أجندته الخاصة التي لا تخفى، ولذلك فقد التوى على جماعته، برغم القسم والعهد، وتنصَّل من إضافة الفقرة التي تنص على تسليم السلطة للشعب في أعقابِ الفترة الانتقالية المتفق عليها، فكان ذلك البيان الأول المبتور، المنزوع الدسم، الذى تلاه على شعبه، فى فاتحة الانقلاب، العميد (آنذاك) عمر البشير. يا ألطاف الله! كدة يا شيخ علي.. تبدا الخيانات من قولة تيت؟! والله إنى لأكاد أرى بعينىّ رأسى داهية المسلمين عمرو بن العاص يجلس عند قدميك متأدباً متتلمذاً ينشد العلم! ولكن السؤال مع ذلك ما يلبث ان يطرح نفسه على وجه العجلة: ما الذى حال بين المكتب القائد وبين مناقشة سقوط (او بالاحرى اسقاط) الفقرة من صلب البيان، ولماذا لم يُحاسب المُسقط على تغييبها؟!
(6)
تنقسم الشخصيات من قيادة الحركة الإسلاموية فوق صفحات الكتاب انقسامات مفصلية بين محاور متقابلة تقع عليها تصنيفات قطعية: أبيض وأسود، ضحايا ومتآمرين، أبطال وخونة، أهل وفاء وأهل غدر، خبثاء أشقياء وأصفياء أنقياء، متشبثون بأعنة الحكم وأرائكه وطنافسه، وزُهّاد عُبّاد لا يرون في السلطة إلا الابتلاء والفتنة. وفي إبحاره المتصل بين الجماعتين المصنّفتين لم يبخل المحبوب علينا بآراء حسمية مُفلقة وأحكام قيمية مطلقة في شأن غالب برامج الإنقاذ ومشروعاتها وأعمالها الكبرى التي انكبت عليها منذ فواتح أسابيعها الأولى في السلطة المنتزعة وحتى خواتم العشرية الاولى.
أدان صاحبنا بكلماتٍ متينةٍ صلدة تشريد عشرات الآلاف من العاملين بأجهزة الدولة تحت شعار الصالح العام، كما استنكر قرارات تصفية كبار ضباط القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى بغرض فسح المجال أمام (عربدة صغار الضباط) الإسلامويين. ووصف فصل العاملين بالدولة مدنيين وعسكريين بأنها (مجزرة عشوائية). وأكد أن فصل الكثير من هؤلاء لم يكن له علاقة بالعمل أو تأمين الثورة، وإنما كان دافعه الموجدة الشخصية والدوافع الذاتية من لدن بعض عناصر التنظيم، وآخرين من الوصوليين الذين رغبوا في التخلص من زملائهم في الأجهزة والوزارات الحكومية. كما أدان على ذات الصراط تمدد الاعتقالات العشوائية في المراكز التي عرفت باسم بيوت الأشباح، حيث جرى أخذ الناس بالشبهات بلا تحقيق أو محاكمة. وأفاد أن سدنة بيوت الأشباح حصلوا على فتاوى دينية تجيز التعذيب في سابقةٍ دمغها بأنها (مأساة فكرية تضاف للمأساة الأخلاقية)، وقرر المحبوب أن التعذيب في بيوت الأشباح مارسته عناصر من فرع الاستخبارات العسكرية بمشاركة عناصر من عضوية التنظيم، وأن بعض ممارساته جرت أمام أعين بعض قادة الحركة.
استبشع صاحبنا (المجزرة المتعجلة التي ارتكبتها قيادة الثورة وقيادة الحركة، المتمثلة في نائب الأمين العام، في ثمانية وعشرين من الضباط، وأضعاف العدد من ضباط الصف، بعد محاولة انقلابية فاشلة). لم يلفت نظري كثيراً أن المؤلف ترحَّم على الضحايا أجمعين وعبَّر عن أسفه لفقدانهم، فالمحبوب إنسان رفيع ومسلم أصيل، بيد أن الذي شدّ انتباهي حقاً هو أنه أسبغ عليهم صفة (الشهداء)، وكونه شدد النكير على رجال الإنقاذ ووضع المسؤولية فوق أعناقهم فكتب: (وبقيت المسؤولية في عنق الإنقاذ الى اليوم، أن تخطر ذوي الشهداء كيف تمت المحاكمة، وبأي قانون، وأين دفنوا وماذا تركوا من وصايا ومتعلقات شخصية).
استهجن المحبوب ما وصفه بـ (الجرأة البالغة) التي تجلَّت في حماسة بعض قادة التنظيم لإعدام كبار الأطباء الذين ائتمروا على الإضراب في أيام الإنقلاب الأولى، كما استنكر إعدام رجل الأعمال المرحوم مجدي محجوب محمد أحمد الذي نفذ فيه حكم الإعدام برغم الشبهة الشرعية المتمثلة في ثبوت حصوله على المال موضوع المحاكمة ورثاً لا تصرفاً وبيعاً. وأضاف الى ذلك إعدام (أبناء لرموز في الديانة المسيحية كانت الثورة تحتاج أن تحفظ معهم عهداً ودوداً ينفعها في عمرها الوليد).
ثم أدان المحبوب بعبارات ساطعة برنامج تطوير وتثوير الخدمة العامة والإصلاح الإدارى، الذي وقف عليه منذ الاسبوع الأول للانقلاب وعلى مدى سنتين الوزير المتألق الطيب إبراهيم محمد خير (سيخة)، المولع الى حد الوله بأضواء كاميرات التلفزيون، كما سخر من ممارسات الوزير الاستعراضية التي ما قطعت أرضاً ولا أبقت ظهراً. وسخّف المحبوب السياسات الإعلامية التي صادرت الحريات منذ اليوم الأول لعهد الإنقاذ وأنتجت صحافة هزيلة، وأحالت الإذاعة والتلفزيون الى أجهزة عجفاء عديمة القيمة لم تزد شعبها إلا خبالاً، مشيراً الى تسابق كادرات التنظيم الإعلامية المؤهلة نحو وزارة الخارجية، وقد سُحرت وانخلب لبّها ببريق الوظائف الدبلوماسية والياقات المنشاه وربطات العنق، تاركة ساحات العمل الإعلامي القومى لأنصاف الموهوبين.
(7)
وسلسلة الإدانات الفورية الجزمية التي تُطرِّز لوح المحبوب تتعدد وتتصل وتستطرد، فما من سوأة من سوءات الإنقاذ إلا وأماط عنها خمارها وهتك سترها ففضحها فى العالمين بغير مناورةٍ او مداورة. غير أنه تبقى من ذلك كله معضلة واحدة، أرجو أن نتواثق، أيها الأعز الأكرم، أنا وأنت، على أن نبذل كل ما فى مقدورنا من جهد لتذليلها والقفز من فوقها ألا وهي: كيف يمكن أن نوفق بين منهج الشجب والاستنكار وفضح الستور وحرق الجسور من ناحية، وبين الحقيقة الشاملة التى تُغرق دنيانا بنورها لكأنها القمر فى كبد السماء، ومؤداها أن الوقائع المشمولة بسيل الإدانة جرى معظمها في سني الاستهلال من صدر العشرية الاولى، بل ان بعضها وقع في أيامها وأسابيعها وشهورها الفواتح، والحركة الإسلاموية حينئذٍ هيكلٌ متسقٌ وكيانٌ متحدّ كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضه بعضاً، ويرمى عن قوسٍ واحدة. والمحبوب عهدئذٍ فارس من فرسان التنظيم ورائد من رواد الإنقاذ، عهدت إليه الثورة بحراسة بوابة الإعلام الخارجي، فنهض الى عهده في بسالةٍ وحماسةٍ وتجردٍ وإيثار؛ فأدى أمانته كأفضل ما تؤدى الأمانات، يميط الأذى عن سكة الانقاذ ويمسح العرق عن جبينها، ويجمّل وجهها المُستنصب المستكرب بمستحضرات المكياج الحديث، ثم يبيع صورها البهيجة الملونة للميديا العالمية. كما خرج شيخه الترابي نفسه الى قارعة الطريق شاهراً سيف البلاغة، يردّ عن الانقاذ الغوائل في الداخل، ثم ينزلق الى بطون الطائرات فيصدُّ عنها العاديات في الخارج. قيل ان رجلاً من بنى وطننا اذاقته العصبة المنقذة، مع آخرين من اصحابه، فى بيوت الاشباح سيئة السمعة ألواناً من العذاب - المُجاز شرعاً عند بعض فقهائها - حتى تلفت قدمه اليمنى تلفاً لا رجاء بعده، مما اضطر الاطباء لبترها، قيل أنه وقف على قدم واحدة، فى قلب مؤتمر صحفى عقده الشيخ بلندن، ليُشهد الناس على ظلم الانسان لاخيه الانسان، ولكن الشيخ رسم على فمه ابتسامته الثعلبيه الشهيرة وقال للحاضرين من كادرات الصحافة والاعلام العالمى بلغةٍ انجليزيةٍ رصينة: (الرجل كاذب، فليس عندنا بيوت أشباح ولا من يعذب الناس، وانما هى الدعاية المغرضة. بل قطع الاطباء قدمه لأنه مُعتل بداء السكر)!
ويبدو لي أننا لو رجعنا الى ألواح التسعينات الأولى، لنتقصَّى ورق الشيخ الملهم وألواح الحُوار المستلهم لوجدنا فوقها عَمَاراً كثيفاً لا يشبه العمار الذي كتب به المحبوب لوحه الجديد. مع أن الثابت الذى عليه جمهور المؤرخين أنه عند كتابة التاريخ وتوثيقه لا يجوز إعادة تحرير نفس الوقائع فوق الواح جديدة باستخدام عمار جديد. تماماً مثلما لا يجوز إعادة تسويق التاريخ القديم المستند الى تراث حسن البنا وسيد قطب وعبد الرحمن السندي، بتدوين روايات جديدة تمجِّد صفحاتها شعر محمود درويش وتحتفى بأبيات محجوب شريف وتفتح قلبها لقصائد هاشم صديق، وترقص طرباً مع غناء أبوعركي البخيت، وتتمايل وجداً مع موسيقى عقد الجلاد. أما إذا ركب المحبوب رأسه وأصرّ على السير قدماً في نهجه هذا، فليس أمامه غير طريقٍ واحد وهو أن يحْلِق لحيته تماماً، على الأقل من قبيل اظهار الاحترام الواجب للحكمة الشعبية السودانية التى تقرر بغير مواربة أن الرقص وإطلاق اللحى لا يجتمعان!
عن صحيفة "الأحداث
nashi- مشرف المنتدى الرياضى
رد: المسيح المصلوب فى لوح المحبوب: الحركة الاسلامية، دائرة الضوء وخيوط الظلام
غربا باتجاه الشرق
لوح المحبوب: غسيل الأموال وغسيل الأحوال (2-3) ...
مصطفى عبد العزيز البطل
mustafabatal@man.com
(1)
ما نزال مع لوح الاستاذ المحبوب عبد السلام (الحركة الإسلامية السودانية، دائرة الضوء- خيوط الظلام: تأملات في العشرية الأولى لعهد الإنقاذ)، الذى رأينا فيه – مثلما رأى غيرنا - طاقةً تنويريةً دافقة تسهم بقدرٍ مقدّر فى تعبيد سككٍ للوعى ظلت مستغلقة، وتسليك مساراتٍ اسلاموية تداخلت شعابها خلال الحقبة التسعينية الموّارة الفوارة. والمحبوب مأجورٌ باذن الله وهو يثبّت للسابلة عند قواطع الطرق الأسهم التى تحدد الاتجاهات، ويدقُّ العلامات التى تبين المداخل والمخارج، ويرفع على الجدران اللافتات التى تحمل أسماء الأحياء والشوارع والأزقة، بحيث يصبح التعرف على معالم مدينة الانقاذ الاسلاموية أقل رهقاً للزائرين المستطلعين وأكثر يُسراً.
وقد ذكرنا فى الحلقة الاولى أن اللاعبين الأساسيين فى مباراة المحبوب العشرية ينقسمون فوق صفحات الكتاب انقسامات مفصلية الى فريقين تقع عليهما تصنيفات قطعية: أهل دين وأهل دنيا؛ رجال مبادئ ورجال هوى؛ ملتزمون أوفياء ومتآمرون خونة؛ متشبثون بأعنة الحكم وأرائكه وطنافسه، وزُهّاد عُبّاد لا يرون في السلطة إلا البلاء والابتلاء. ولا غرابة من حيث المبدأ، ولا حرج، فى مثل هذا الضرب من التصانيف، فالحركة الاسلاموية السودانية لم تكن الشاة السوداء وسط القطيع، كما يقول الفرنجة. لا هى بالاستثناء المفرد من سنن الانسانية الجامعة، ولا هى بالطائر الشارد عن نواميس الكون. فالحركة – فى المبتدأ والمنتهى - قوامها الناس، وفى مضربهم الملائكة، وفى نقعهم الوسواس الخناس. والبشر هم البشر، منذ وضع آدم قدميه على أديم الأرض. وفى الزمن القديم قال ميكافيللى: "المال والسلطة هما محور التاريخ الانسانى". فإذا افتتن بهما اخوة الامس، وتمايزت منهم الصفوف، فارتدوا مفتونين يضرب بعضهم رقاب بعض، فحدّق، يا هداك الله، فى أُفق الدنيا العريض وتأمل عبرة التاريخ: هل كذب ميكافيللى؟! كلا. ولكن الحقيقة أحياناً تؤذى النفس وتثقل الفؤاد!
(2)
غير أن الذى يبدّد ريشنا وينغّص عيشنا ونحن نعاظل لوح المحبوب هو ان بعض حجاجه لا يستقيم لنا، حتى اذا أعدنا البصر كرتين حسبناه لجاجاً. مع اننا نستقيم لحجاجه ونهش له، ونفرش له المطارف والحشايا، لا لشئ الا لأنه إن قام على سوقه ونهض وافق هوانا. وهوانا غلاب، كما أن هوى المحبوب غلاب. وعلى ذات المنوال كان حال بعض روايات الكتاب، على دقةٍ ظاهرة فيها وبيانٍ مستفيض وتفصيلٍ مستعمق. وهى رواياتٌ أريد لها ان تقيم الحجة على أهل الصف الخؤون الوالغ فى الفتنة، ولكنها بدلاً عن ذلك أثارت فى ربعنا من شواظ الأسئلة بأكثر مما أرسلت من نسائم الاجوبة.
غير أن الأدهى من ذلك كله هو أننى عندما فرغت من مطالعة اللوح ركبنى همٌّ وهيط وانتابنى احساسٌ طاغٍ بأننى وقفت لتوى على مشروعٍ يشبه ذلك الذى يعرف فى الفضاء العام بالاسم الذائع فى مضامير القانون والجريمة المنظمة ب (مشروعات غسيل الأموال). الذى خيّل الىّ، مع اننى، علم الله، أحسن الظن بالمحبوب إحساناً يجاوز المدى، هو ان لوحه يترجم مشروعاً متكاملاً لغسيل "الأحوال". واذا لم يكن لمصطلح "غسيل الأحوال" هذا وجودٌ فى الحقول المعرفية المعاصرة فها أنا ذا أُبادر فأخترعه اختراعاً، وأفترعه افتراعاً. وغسيل الأحوال كممارسة احترافية يتم فى صورته المثالية عندما يقوم مشارك أساسى فى قضية خلافية برصد ومتابعة الاحوال والتطورات والوقائع، كما كرت سبحتها وانفرطت حبيباتها، عبر المسار الزمنى الذى تمددت خلاله القضية، تماماً كما يفعل رجال التحرى فى الدفاتر الشرطية التى تعرف باسم دفاتر الاحوال. ثم يعمد من بعد الى إعادة تدوين المجريات بدقة متناهية، على ان يتلازم ذلك كله مع خطوة موازية وهى غسيل جميع المعلومات والبيانات، محل الرصد والتحليل، فى مغسلة الكترونية اوتوماتيكية، بالماء الساخن مضافاً اليه صابون "تايد" المعطر، ومادة الكلوريكس المطهرة. ولا تختلف عمليات "غسيل الاحوال" هذه الى حد كبير عن عمليات غسيل الملابس العادية، حيث يقوم الغاسل فى نهاية المطاف بالحصول على ملابس نظيفة تماماً، وقد أزيلت عنها كل البقع المتسخة والتشوهات والعوالق والروائح غير المستحسنة، فيبدو الانسان وهو يرتديها فى أبهى حال وأزهى مآل من الوجهتين الحسية والنفسية!
هل نحتاج فى مقام الشرح والإبانة الى تقديم امثلة لعمليات غسيل الأحوال فى كتاب المحبوب؟ حسناً. خذ هذا المثال: عندما تقف الحركة الاسلاموية بكل خيلها ورجلها، صفاً واحداً، الى جانب الرئيس المخلوع الراحل جعفر نميرى فتهلل وتكبّر لمأساة اعدام مفكر مثل الاستاذ محمود محمد طه، ويعتبر قادتها وعلى رأسهم الشيخ حسن الترابى الاعدام فتحاً للاسلام ونصراً للمسلمين، وينعتون الشهيد محمود بأنه رجل فاسد العقيدة؛ عندما يقع ذلك كله تحت أسماع وابصار أبناء السودان اجمعين، ثم يعود المحبوب بعد ربع قرن من ذلك التاريخ ليصف فى لوحه اعدام الاستاذ محمود بأنه "انتكاسة" فيكتب: (ولكن الانتكاسات لم تلبث أن توالت حيث اقدم النميرى على اعدام رئيس الحزب الجمهوري الاستاذ محمود محمد طه..)، فإن ذلك يعد مثالاً ناطقاً لعمليات "غسيل الأحوال". التاريخ يقرر أن الحركة الاسلاموية شاركت ومهدت لاعدام الاستاذ محمود قبل التنفيذ، ثم باركت واحتفت وأبدت عرفانها للنميرى بعد التنفيذ. أن يوصف محمود بأنه مرتد، وأن اعدامه نصر للاسلام فى العام ١٩٨٥، ثم تُزال صفة الردة بأثر رجعى وتسحب من الاوراق سراً وبدون اعلان، وتُسبغ على الرجل صفة (استاذ) وتعاد تسجيل واقعة اعدامه فى دفاتر المسجل العام تحت عنوان "انتكاسة" فى العام ٢٠١٠م، فذلك ولا ريب غسيلٌ للاحوال، يعيد انتاج تاريخ مازالت الشرايين فى قلبه حيةً تنبض. وغسيل الاحوال باعادة انتاج التاريخ غير جائز وغير مقبول!
(3)
يذكر المحبوب ان الشيخ الترابى الذى دخل السجن حبيساً غداة الانقلاب، بادر من فوره بلقاء السيدين الصادق المهدى ومحمد عثمان الميرغنى ودعاهم الى التوافق على اجماع يرسم ملامح مرحلة جديدة فى تاريخ السودان، ويحقق الاتفاق حول كلمةٍ سواء تصل الى من اختاروا الاشتراكية والقومية من أبناء الوطن فيتوافقوا معهم على عدالة الاسلام والوصال مع الجوار العربى والاقليمى. ثم ان السيدين لم يتجانفا العرض من حيث المبدأ، بل ربما استحسناه، ثم طلبا ان يُحمل المقترح الى الشيوعييين والبعثيين والافريقيين باتجاه مزيد من الاجماع الوطنى. غير ان المحور المضاد للترابى، اى محور الاستاذ على عثمان محمد طه، الذى يرد اسمه فى الكتاب بصفة نائب الامين العام، سعى وعلى الفور لقطع الطريق على مسعى الشيخ الترابى لرأب الصف الوطنى واستعادة الديمقراطية، فأوعز النائب وجماعته الى رجال الأمن فأخذوا السيد الصادق المهدى من محبسه ليلاً والحقوا به إساءات جسيمة. وكان المراد من هذه الخطوة المستقبحة افساد خطط الشيخ الهادفة لتكريس الوفاق الوطنى واستعادة الحياة الديمقراطية، وان تكون– بحسب المحبوب- رسالة بالغة للشيخ الترابى نفسه مفادها أن الثورة لن تصطلح مع الأحزاب! نفهم من هذا ان العداء بين الشيخ الترابى ونائبه كان قد استعر لظاه واتّقدت جمرته منذ الايام والاسابيع الاولى للانقلاب، بحيث شرع النائب فى تفتيش نوايا الشيخ تفتيشاً تعسفياً ونهض الى افشال خططه وتدابيره من خلال آليات الدولة التنفيذية والأمنية. ولكننى أجد صعوبة بالغة فى تمثّل هكذا سيناريو للاحداث والاعتداد به، كون منطق الأشياء لا يسعه. لا سيما وان المحبوب يبذل جهدا خارقاً لرسم صورة طوباوية للشيخ الترابى تظهره وكأنه كان يتحرق شوقاً منذ صبيحة الانقلاب لاستعادة الديمقراطية، فى مواجهة شغف مدمر عند نائبه لاحتكار السلطة وفرض نظام تسيطرى مطلق.
كتب صاحبنا حول موقف شيخه من الانتقادات المريرة لسجل النظام فى مجال حقوق الانسان فى شهور الثورة الاولىاستطاع الامين العام ان يواجه الانتقاد بروح تغلّب الأمل فى المستقبل والرجاء فى التغيير القريب). وكتب فى صدد تبيان أسس الخلاف بين الشيخ ونائبه ان جوهر النزاع يتمثل فى (حديث الشيخ الدائم عن تأصيل معنى الحرية فى الحياة العامة والتعبير عن ذلك فى وثائق الحركة، ثم نظمها وقراراتها وعملها، ثم عزمه تقديم مقترح قرار لهيئة الشورى الخاصة يبيح حرية التعبير للصحف وحرية التنظيم للاحزاب). وفى مواجهة ذلك الموقف العدالى الديمقراطى المتعلق بالحريات يتقاطع موقف الاستاذ على عثمان وجماعته، التى ترتعد من سيرة الديمقراطية وبسط الحريات العامة وتخشى ان تُعيد تلك الحريات الى السلطة القوى الموتورة التى اطاحها الانقلاب فتنصب المشانق لأهل الانقاذ. وتقرأ الى ذلك كلاما كثيفاً عن ايمان الشيخ وتمسكه بمبدأ سيادة المجتمع وهيمنته على الدولة، فى حين كانت قوامة الدولة على المجتمع هو النهج الايمانى السائد عند النائب ومحوره.
بيد أننا نعلم – ويعضدنا المحبوب بلا ريب - ان الشيخ الترابى كان هو نفسه من الدعاة الاصلاء للانقلاب على الديمقراطية عند بسط الامر والتباحث حوله فى القنوات الحزبية داخل تنظيم الجبهة الاسلامية القومية، حيث قدم اطروحات فاعلة تعضد الفكرة وهى بعد حلمٌ يهّوم فى عالم الخيال، وتعزز الخطة اذ هبطت من علياء الحلم الى مدارك التطبيق. ثم نهض الشيخ بهمة عالية وحماسة منقطعة النظير بدور قيادى مؤثر فى صدد التهيئة للتغيير العسكرى واحكام تدابيره، لدرجة أنه قام قبل شهرين من الانقلاب بزيارات الى بعض الدول الاجنبية للالتقاء ببعض عناصر الحركة بالخارج والتبشير بالانقلاب وتأمين مزيد من التأييد له فى اوساط اسلامويي الخارج. بل ان غلاف كتاب المحبوب نفسه يشتمل على فقرة مركزية يرد فيها وصف الشيخ الترابى بأنه ( الصانع الأكبر لما جرى)! وكل هذا يجعلنا نهباً للحيرة ونحن نصيخ السمع الى مزاعم تحاول ان تشى بأن الشيخ سعى بُعيد الانقلاب بأيام واسابيع معدودات بنيةٍ صادقة صافية للوصول الى تدبير تراضوى مع قادة الاحزاب يمهد الطريق لعودة الديمقراطية بأعجل ما يتيسر، وان اهتمامه بتأصيل معانى الحريات العامة وفرض مضامينها كان هو جوهر خلافه مع نائبه منذ مشرق شمس الانقلاب.
(4)
ثم ان لوح المحبوب يتركنا فى حاجة الى تفسيرات كثيرة تلقى لنا بضوءٍ كاشف على بعض التناقضات التى تكتنف تسلسل الاحداث وتداعيها عبر عشرية الانقاذ الاولى. كانت الخيانة والتآمر والرغبة فى الاستئثار بالسلطة قد بلغت مبلغاً سعد معه النائب واعوانه بهدية القدر اليهم حين تعرض الشيخ الى واقعة الاعتداء التى عرفت ب "حادثة اوتاوا" فى العام ١٩٩٢، فسعوا الى احكام الحصار حول الشيخ وتحييده واضعاف وجوده ومحو اثره. جاء فى اللوحاستقبلت الدائرة الاضيق بقيادة نائب الامين العام أنباء الحادث بصمت مطبق، وفيما تحركت دوائر فى السياسة والاعلام من أبناء الحركة، يحفزهم النبأ المريع، صدرت توجيهات واضحة من النائب تمنع خروج اى بيان من جهة رسمية يدين الحادث). ثم وفيما انفعلت وتفاعلت جهات كثيرة فى الحركة مع الحادث، ظلت جهة واحدة فى الحركة ساكنة، كأن شيئاً لم يكن، هى دائرة نائب الامين العام). حسناً، لو كان الحال قد ساء بين الزعيمين الى هذا الحد المؤسف، وتبينت للشيخ ومشايعيه خفايا شخصية نائبه وحقيقة نواياه منذ الاشهر والسنوات الاولى لانقلاب الانقاذ، فما هو المنطق وما هو الدافع وراء مبادرة الشيخ، وفقاً لرواية المحبوب، باختيار نائبه المتآمر لشغل منصب وزير التخطيط الاجتماعى فى العام ١٩٩٢، لا سيما وانه يقول عن تلك الوزارةوهى وزارة كان الامين العام يقدر لها شأناً عظيماً لحركة اسلامية غايتها تجديد المجتمع وتبديله على نحو شامل وفق اصول ومبادئ الاسلام). غير ان الحيرة تصل غايتها حقاً عندما تقرأ عن اختيار الشيخ الترابى للاستاذ على عثمان لتولى أعباء وزارة الخارجية فى العام السادس للثورة، فقد جاء فى الصفحة ١٤٩ تولى الاستاذ على عثمان وزارة الخارجية ضمن رؤية للأمين العام اقتضت تقلبه بين الوزارات لتمام الخبرة، وهو يُهيأ لتولى مقعد الامين العام للحركة الاسلامية فى المستقبل المنظور).
سبحان الله. لماذا وعلى أى أساس يريد الشيخ الترابى بعد ست سنوات من حكم الانقاذ رأى فيها رأى العين الواناً من تآمر نائبه واجندته السرية وميوله الشيطانية، ومجافاته سراً وعلناً لخطة الشيخ لاستعادة الديمقراطية وبسط الحريات وتأكيد قوامة المجتمع على الدولة، لماذا – والحال كذلك - يريد ان يجعل من هكذا نائب خليفةً له على قيادة الحركة الاسلامية فى المستقبل المنظور، فينعم عليه اختياراً وبمحض ارادته بمزيد من ريش السلطة، ويُنبت القوادم فى جناحه، ويعده ويحسن تدريبه وتأهيله على النحو الذى اطلعنا عليه المحبوب؟! أرأيت يا رعاك الله كيف اننا نستقيم لصاحبنا ولكن طروحاته لا تستقيم لنا؟!
(5)
أشار الاستاذ كمال الجزولى فى روزنامته قبيل أسابيع قلائل الى ما كشف عنه المحبوب فى لوحه بشأن اباحة الحركة الاسلاموية للتزوير فى الانتخابات على اطلاقها، والتوسع فى ممارسته بغير روادع من دين او كوابح من خلق، فى منافسات الحركة عبر الحقب مع خصومها فى اتحادات الطلاب والنقابات المهنية وغيرها من المحافل والمواقع. جاء فى اللوح عن التزوير.. برعت فيه الاجهزة الخاصة للمعلومات والأمن، وظلت تتحالف لإنفاذه وتمام نجاعته عضوية الحركة فى الأجهزة الشعبية والرسمية لتكسب به مقاعد الاتحادات والنقابات). ونذكر أن صديقنا الحركى الاسلاموى السابق الدكتور عبد الوهاب الافندى كان قد المح فى مقال له، قبل حوالى العام، الى نموذج من نماذج التدابير التى يُعتقد ان الحركة كانت قد لجأت اليها للتأثير على نتائج الانتخابات على منصب رئاسة الحركة الاسلامية، التى كان قد جرى التنافس عليها فى زمن مضى بين الاستاذين على عثمان وغازى صلاح الدين. وكان الافندى قد أشار الى ان الجهة المنظمة للعملية الانتخابية نصبت كاميرات خاصة داخل غرف التصويت، بحيث يمكن مراقبة الاعضاء وهم يمارسون عملية الاقتراع، والتعرف فى ذات الوقت على الصندوق الذى القى فيه كل مقترع بطاقته الانتخابية.
ولكن دعنا من ذلك كله فليست الشكوى من ضلوع الاسلامويين فى التزوير على اطلاقه هو مبتغانا. انما نريد ان نتوقف أمام واقعة بعينها: حكى المحبوب ان قيادة الحركة، والمقصود هو الشيخ الترابى، كانت قد قررت فى العام ١٩٩٧ اثناء انعقاد المؤتمر القومى العام للحزب الحاكم ترشيح الدكتور غازى صلاح الدين لمنصب الأمين العام بدلاً عن الاستاذ الشفيع احمد محمد الذى كان يشغل ذلك المنصب. ولكن كتلة دارفور (ومن حالفها)، التى تشكل اغلبية مقدرة، رفضت ترشيح الدكتور غازى وأصرت على استمرار الشفيع فى موقعه، وان ذلك الموقف شكل مفاجأة لقيادة الحركة. لماذا؟ لأن الحركة – فى عقيدة المحبوب- لم تعتد على مثل هذه المواقف الاعتراضية الصارخة من عضويتها، اذ كانت مثل هذه الامور تدبر تدبيرا داخلياً ثم تخرج للعلن. وكانت فى كل الاحوال تمضى، كما خطط لها، من الباطن الى الظاهر فى سهولة ويسر. ثم جاء فى اللوحالقيادة ظلت تختار وتقرر والقاعدة ظلت توافق وتُقرْ). أقرأ ذلك فلا اكاد اقاوم الاغراء بأن اذكّرك – أعزك الله – بأن ذلك كان حال الحركة التى كانت عبر السنوات والحقب تفاخر بأنها تجتذب القطاع الاكبر من عضويتها من اوساط المتعلمين، وتعرض فى لوحات كبيرة عند كل مناسبة انتخابية عدد وأسماء الحاصلين على درجات الدكتوراه والماجستير والبكالوريوس من بين مرشحيها. وهى ذات الحركة التى كان قادتها يعايرون قادة الاحزاب التقليدية بعار "الاغلبيات الميكانيكية"!
ما علينا. فليس ذلك، مرة اخرى، هو اكبر همنا. الذى نريد ان نثبت قواعده هنا هو ما اشتمل عليه اللوح من بيان واضح الى ان قيادة الحزب الحاكم لجأت الى التزوير المباشر لضمان فوز مرشح القيادة الدكتور غازى صلاح الدين، الذى اعلنت لجنة الانتخاب فوزه دون اشارة الى عدد الاصوات التى حصل عليها!! كل ذلك مفهوم. الذى لا نفهمه هو ان التزوير الذى استهل به المؤتمر الوطنى عهده كتنظيم سياسى للحركة الاسلامية فى العام ١٩٩٧ تم بحسب المحبوب ( بتواطوء تام من قيادة فى المؤتمر مع لجان الانتخاب). ولولا حرف الجر "فى" لكان المقصود هو الشيخ الترابى شخصيا، فقد كان هو حتى ذلك التاريخ وبعده بقليل فى موقع القيادة الفعلية المطلقة بلا منازع. ولكن حرف الجر يعفى الشيخ وينقل التهمة الى "قيادة فى المؤتمر" دون تسمية. ولكنك لو قرأت اللوح من اوله الى آخره لما اعوزتك التسمية، فالمعنى هو النائب على عثمان. عظيم. وها نحن نسعى هنا مرة اخرى الى ان نقبل حجاج المحبوب بذهنٍ مفتوح وقلبٍ سليم، لولا العقبات التى تنهض فى طريقنا فتسد علينا الطرق كلها. أول هذه العقبات اننا نقرأ فى ذات المكان من اللوح ان النائب على عثمان لم يكن فى الاصل راضياً عن مرشح القيادة للمنصب، بل كان يهمس همساً برأى معارض. ثم انه اقترح اختيار شخص آخر للمنصب، وهو العقيد (م) محمد الامين خليفة. ولما لم يجد النائب وسيلة لازاحة الدكتور غازى آثر الصمت على مضض. لماذا؟ يجيب صاحبنااذ ظل نائب الامين العام يزهد فى المجادلة والمواجهة مؤثراً المسايرة الصامتة لآراء وقرارات الامين العام). هل اختلط عليك الأمر مثلما اختلط علىّ؟! اذا لم يكن الامر كذلك فأعنّى يا هداك الله على استيعاب هذه الصورة: الأمين العام الشيخ الترابى يختار الدكتور غازى صلاح الدين للمنصب، ثم يفرضه فرضاً على غالبية عضوية التنظيم التى لم تكن تحبذ الترشيح. وسلطة الامين العام هنا مطلقة بدليل ان النائب الذى لا يقر الترشيح ويعارضه يؤثر الصمت والانزواء زهداً فى المواجهة برغم رأيه المخالف. ثم يتطور الامر الى حد تزوير الانتخابات كلها امضاءً لارادة القيادة وانفاذاً لحكمها. ومع ذلك كله فإن المتهم بتزوير الانتخابات واعلان فوز الدكتور غازى على نحوٍ مرتبك (دون تحديد لعدد الاصوات التى فاز بها) هو النائب على عثمان وشيعته ليس الشيخ الترابى ورهطه! وهنا لا نجد عندنا ما نقول سوى: قاتل الله غسيل الأحوال!
(5)
بسطنا الاسبوع الماضى روايةً وردت فى اللوح بشأن المسئولية عن صياغة البيان الاول لانقلاب الانقاذ الذى تلاه العميد عمر البشير صبيحة الثلاثين من يونيو ١٩٨٩. ومقتضى الرواية – كما وردت فى لوح المحبوب- ان البيان قام بصياغته نائب الامين العام على عثمان، وأنه برغم وجود اتفاق مسبق بأن يتم تضمين البيان فقرة تؤكد استعادة الحريات وتسليم الحكم للشعب ريثما تستقر الاحوال السياسية والعسكرية فى البلاد، فإن من قام بصياغة البيان أغفل اضافة تلك الفقرة. الا أنّ الصحافى النابه عبد الوهاب همت الذى قام مؤخراً بإجراء حوار مطول مع القيادى الاسلاموى الرفيع الدكتور على الحاج محمد، نشرته صحيفة (اجراس الحرية) على مدى اربعة حلقات، اورد جانباً من الحوار جاء فيه على لسان الدكتور على الحاج، الذى يُعرف عنه انه كان واحداً من مجموعة السبعة التى اوكلت اليها الجبهة الاسلامية تنفيذ الانقلاب، رواية مختلفة لقصة البيان الاول. وفقاً للدكتور على الحاج فإن البيان قامت بصياغته لجنة مكونة من مجموعة من الأشخاص، وعند فراغ اللجنة من الصياغة، تم عرض مسودة البيان على الامين العام الشيخ حسن الترابى الذى اطلع عليه. ويفهم من صياغة الحوار ان الشيخ أجاز البيان على النحو الذى عرض عليه. وقد وجدت من الاهمية بمكان ان اشير الى هذا التباين بين الروايتين. وأنا اذ انقل هنا رواية الدكتور على الحاج، كما رصدتها الصحيفة، فاننى لا اعضّدها او اتبناها بأى حال من الاحوال. فقد قرأت فى إفاداته هو أيضاً خلال حلقات الحوار الطويل بعض مظاهر "غسيل الاحوال"، وفى نيتى ان اعود اليها فى وقتٍ لاحق. غير اننى أفضل ان افرغ اولاً من غسيل المحبوب، قبل ان انهض الى غسيل على الحاج!
عن صحيفة "الأحداث
لوح المحبوب: غسيل الأموال وغسيل الأحوال (2-3) ...
مصطفى عبد العزيز البطل
mustafabatal@man.com
(1)
ما نزال مع لوح الاستاذ المحبوب عبد السلام (الحركة الإسلامية السودانية، دائرة الضوء- خيوط الظلام: تأملات في العشرية الأولى لعهد الإنقاذ)، الذى رأينا فيه – مثلما رأى غيرنا - طاقةً تنويريةً دافقة تسهم بقدرٍ مقدّر فى تعبيد سككٍ للوعى ظلت مستغلقة، وتسليك مساراتٍ اسلاموية تداخلت شعابها خلال الحقبة التسعينية الموّارة الفوارة. والمحبوب مأجورٌ باذن الله وهو يثبّت للسابلة عند قواطع الطرق الأسهم التى تحدد الاتجاهات، ويدقُّ العلامات التى تبين المداخل والمخارج، ويرفع على الجدران اللافتات التى تحمل أسماء الأحياء والشوارع والأزقة، بحيث يصبح التعرف على معالم مدينة الانقاذ الاسلاموية أقل رهقاً للزائرين المستطلعين وأكثر يُسراً.
وقد ذكرنا فى الحلقة الاولى أن اللاعبين الأساسيين فى مباراة المحبوب العشرية ينقسمون فوق صفحات الكتاب انقسامات مفصلية الى فريقين تقع عليهما تصنيفات قطعية: أهل دين وأهل دنيا؛ رجال مبادئ ورجال هوى؛ ملتزمون أوفياء ومتآمرون خونة؛ متشبثون بأعنة الحكم وأرائكه وطنافسه، وزُهّاد عُبّاد لا يرون في السلطة إلا البلاء والابتلاء. ولا غرابة من حيث المبدأ، ولا حرج، فى مثل هذا الضرب من التصانيف، فالحركة الاسلاموية السودانية لم تكن الشاة السوداء وسط القطيع، كما يقول الفرنجة. لا هى بالاستثناء المفرد من سنن الانسانية الجامعة، ولا هى بالطائر الشارد عن نواميس الكون. فالحركة – فى المبتدأ والمنتهى - قوامها الناس، وفى مضربهم الملائكة، وفى نقعهم الوسواس الخناس. والبشر هم البشر، منذ وضع آدم قدميه على أديم الأرض. وفى الزمن القديم قال ميكافيللى: "المال والسلطة هما محور التاريخ الانسانى". فإذا افتتن بهما اخوة الامس، وتمايزت منهم الصفوف، فارتدوا مفتونين يضرب بعضهم رقاب بعض، فحدّق، يا هداك الله، فى أُفق الدنيا العريض وتأمل عبرة التاريخ: هل كذب ميكافيللى؟! كلا. ولكن الحقيقة أحياناً تؤذى النفس وتثقل الفؤاد!
(2)
غير أن الذى يبدّد ريشنا وينغّص عيشنا ونحن نعاظل لوح المحبوب هو ان بعض حجاجه لا يستقيم لنا، حتى اذا أعدنا البصر كرتين حسبناه لجاجاً. مع اننا نستقيم لحجاجه ونهش له، ونفرش له المطارف والحشايا، لا لشئ الا لأنه إن قام على سوقه ونهض وافق هوانا. وهوانا غلاب، كما أن هوى المحبوب غلاب. وعلى ذات المنوال كان حال بعض روايات الكتاب، على دقةٍ ظاهرة فيها وبيانٍ مستفيض وتفصيلٍ مستعمق. وهى رواياتٌ أريد لها ان تقيم الحجة على أهل الصف الخؤون الوالغ فى الفتنة، ولكنها بدلاً عن ذلك أثارت فى ربعنا من شواظ الأسئلة بأكثر مما أرسلت من نسائم الاجوبة.
غير أن الأدهى من ذلك كله هو أننى عندما فرغت من مطالعة اللوح ركبنى همٌّ وهيط وانتابنى احساسٌ طاغٍ بأننى وقفت لتوى على مشروعٍ يشبه ذلك الذى يعرف فى الفضاء العام بالاسم الذائع فى مضامير القانون والجريمة المنظمة ب (مشروعات غسيل الأموال). الذى خيّل الىّ، مع اننى، علم الله، أحسن الظن بالمحبوب إحساناً يجاوز المدى، هو ان لوحه يترجم مشروعاً متكاملاً لغسيل "الأحوال". واذا لم يكن لمصطلح "غسيل الأحوال" هذا وجودٌ فى الحقول المعرفية المعاصرة فها أنا ذا أُبادر فأخترعه اختراعاً، وأفترعه افتراعاً. وغسيل الأحوال كممارسة احترافية يتم فى صورته المثالية عندما يقوم مشارك أساسى فى قضية خلافية برصد ومتابعة الاحوال والتطورات والوقائع، كما كرت سبحتها وانفرطت حبيباتها، عبر المسار الزمنى الذى تمددت خلاله القضية، تماماً كما يفعل رجال التحرى فى الدفاتر الشرطية التى تعرف باسم دفاتر الاحوال. ثم يعمد من بعد الى إعادة تدوين المجريات بدقة متناهية، على ان يتلازم ذلك كله مع خطوة موازية وهى غسيل جميع المعلومات والبيانات، محل الرصد والتحليل، فى مغسلة الكترونية اوتوماتيكية، بالماء الساخن مضافاً اليه صابون "تايد" المعطر، ومادة الكلوريكس المطهرة. ولا تختلف عمليات "غسيل الاحوال" هذه الى حد كبير عن عمليات غسيل الملابس العادية، حيث يقوم الغاسل فى نهاية المطاف بالحصول على ملابس نظيفة تماماً، وقد أزيلت عنها كل البقع المتسخة والتشوهات والعوالق والروائح غير المستحسنة، فيبدو الانسان وهو يرتديها فى أبهى حال وأزهى مآل من الوجهتين الحسية والنفسية!
هل نحتاج فى مقام الشرح والإبانة الى تقديم امثلة لعمليات غسيل الأحوال فى كتاب المحبوب؟ حسناً. خذ هذا المثال: عندما تقف الحركة الاسلاموية بكل خيلها ورجلها، صفاً واحداً، الى جانب الرئيس المخلوع الراحل جعفر نميرى فتهلل وتكبّر لمأساة اعدام مفكر مثل الاستاذ محمود محمد طه، ويعتبر قادتها وعلى رأسهم الشيخ حسن الترابى الاعدام فتحاً للاسلام ونصراً للمسلمين، وينعتون الشهيد محمود بأنه رجل فاسد العقيدة؛ عندما يقع ذلك كله تحت أسماع وابصار أبناء السودان اجمعين، ثم يعود المحبوب بعد ربع قرن من ذلك التاريخ ليصف فى لوحه اعدام الاستاذ محمود بأنه "انتكاسة" فيكتب: (ولكن الانتكاسات لم تلبث أن توالت حيث اقدم النميرى على اعدام رئيس الحزب الجمهوري الاستاذ محمود محمد طه..)، فإن ذلك يعد مثالاً ناطقاً لعمليات "غسيل الأحوال". التاريخ يقرر أن الحركة الاسلاموية شاركت ومهدت لاعدام الاستاذ محمود قبل التنفيذ، ثم باركت واحتفت وأبدت عرفانها للنميرى بعد التنفيذ. أن يوصف محمود بأنه مرتد، وأن اعدامه نصر للاسلام فى العام ١٩٨٥، ثم تُزال صفة الردة بأثر رجعى وتسحب من الاوراق سراً وبدون اعلان، وتُسبغ على الرجل صفة (استاذ) وتعاد تسجيل واقعة اعدامه فى دفاتر المسجل العام تحت عنوان "انتكاسة" فى العام ٢٠١٠م، فذلك ولا ريب غسيلٌ للاحوال، يعيد انتاج تاريخ مازالت الشرايين فى قلبه حيةً تنبض. وغسيل الاحوال باعادة انتاج التاريخ غير جائز وغير مقبول!
(3)
يذكر المحبوب ان الشيخ الترابى الذى دخل السجن حبيساً غداة الانقلاب، بادر من فوره بلقاء السيدين الصادق المهدى ومحمد عثمان الميرغنى ودعاهم الى التوافق على اجماع يرسم ملامح مرحلة جديدة فى تاريخ السودان، ويحقق الاتفاق حول كلمةٍ سواء تصل الى من اختاروا الاشتراكية والقومية من أبناء الوطن فيتوافقوا معهم على عدالة الاسلام والوصال مع الجوار العربى والاقليمى. ثم ان السيدين لم يتجانفا العرض من حيث المبدأ، بل ربما استحسناه، ثم طلبا ان يُحمل المقترح الى الشيوعييين والبعثيين والافريقيين باتجاه مزيد من الاجماع الوطنى. غير ان المحور المضاد للترابى، اى محور الاستاذ على عثمان محمد طه، الذى يرد اسمه فى الكتاب بصفة نائب الامين العام، سعى وعلى الفور لقطع الطريق على مسعى الشيخ الترابى لرأب الصف الوطنى واستعادة الديمقراطية، فأوعز النائب وجماعته الى رجال الأمن فأخذوا السيد الصادق المهدى من محبسه ليلاً والحقوا به إساءات جسيمة. وكان المراد من هذه الخطوة المستقبحة افساد خطط الشيخ الهادفة لتكريس الوفاق الوطنى واستعادة الحياة الديمقراطية، وان تكون– بحسب المحبوب- رسالة بالغة للشيخ الترابى نفسه مفادها أن الثورة لن تصطلح مع الأحزاب! نفهم من هذا ان العداء بين الشيخ الترابى ونائبه كان قد استعر لظاه واتّقدت جمرته منذ الايام والاسابيع الاولى للانقلاب، بحيث شرع النائب فى تفتيش نوايا الشيخ تفتيشاً تعسفياً ونهض الى افشال خططه وتدابيره من خلال آليات الدولة التنفيذية والأمنية. ولكننى أجد صعوبة بالغة فى تمثّل هكذا سيناريو للاحداث والاعتداد به، كون منطق الأشياء لا يسعه. لا سيما وان المحبوب يبذل جهدا خارقاً لرسم صورة طوباوية للشيخ الترابى تظهره وكأنه كان يتحرق شوقاً منذ صبيحة الانقلاب لاستعادة الديمقراطية، فى مواجهة شغف مدمر عند نائبه لاحتكار السلطة وفرض نظام تسيطرى مطلق.
كتب صاحبنا حول موقف شيخه من الانتقادات المريرة لسجل النظام فى مجال حقوق الانسان فى شهور الثورة الاولىاستطاع الامين العام ان يواجه الانتقاد بروح تغلّب الأمل فى المستقبل والرجاء فى التغيير القريب). وكتب فى صدد تبيان أسس الخلاف بين الشيخ ونائبه ان جوهر النزاع يتمثل فى (حديث الشيخ الدائم عن تأصيل معنى الحرية فى الحياة العامة والتعبير عن ذلك فى وثائق الحركة، ثم نظمها وقراراتها وعملها، ثم عزمه تقديم مقترح قرار لهيئة الشورى الخاصة يبيح حرية التعبير للصحف وحرية التنظيم للاحزاب). وفى مواجهة ذلك الموقف العدالى الديمقراطى المتعلق بالحريات يتقاطع موقف الاستاذ على عثمان وجماعته، التى ترتعد من سيرة الديمقراطية وبسط الحريات العامة وتخشى ان تُعيد تلك الحريات الى السلطة القوى الموتورة التى اطاحها الانقلاب فتنصب المشانق لأهل الانقاذ. وتقرأ الى ذلك كلاما كثيفاً عن ايمان الشيخ وتمسكه بمبدأ سيادة المجتمع وهيمنته على الدولة، فى حين كانت قوامة الدولة على المجتمع هو النهج الايمانى السائد عند النائب ومحوره.
بيد أننا نعلم – ويعضدنا المحبوب بلا ريب - ان الشيخ الترابى كان هو نفسه من الدعاة الاصلاء للانقلاب على الديمقراطية عند بسط الامر والتباحث حوله فى القنوات الحزبية داخل تنظيم الجبهة الاسلامية القومية، حيث قدم اطروحات فاعلة تعضد الفكرة وهى بعد حلمٌ يهّوم فى عالم الخيال، وتعزز الخطة اذ هبطت من علياء الحلم الى مدارك التطبيق. ثم نهض الشيخ بهمة عالية وحماسة منقطعة النظير بدور قيادى مؤثر فى صدد التهيئة للتغيير العسكرى واحكام تدابيره، لدرجة أنه قام قبل شهرين من الانقلاب بزيارات الى بعض الدول الاجنبية للالتقاء ببعض عناصر الحركة بالخارج والتبشير بالانقلاب وتأمين مزيد من التأييد له فى اوساط اسلامويي الخارج. بل ان غلاف كتاب المحبوب نفسه يشتمل على فقرة مركزية يرد فيها وصف الشيخ الترابى بأنه ( الصانع الأكبر لما جرى)! وكل هذا يجعلنا نهباً للحيرة ونحن نصيخ السمع الى مزاعم تحاول ان تشى بأن الشيخ سعى بُعيد الانقلاب بأيام واسابيع معدودات بنيةٍ صادقة صافية للوصول الى تدبير تراضوى مع قادة الاحزاب يمهد الطريق لعودة الديمقراطية بأعجل ما يتيسر، وان اهتمامه بتأصيل معانى الحريات العامة وفرض مضامينها كان هو جوهر خلافه مع نائبه منذ مشرق شمس الانقلاب.
(4)
ثم ان لوح المحبوب يتركنا فى حاجة الى تفسيرات كثيرة تلقى لنا بضوءٍ كاشف على بعض التناقضات التى تكتنف تسلسل الاحداث وتداعيها عبر عشرية الانقاذ الاولى. كانت الخيانة والتآمر والرغبة فى الاستئثار بالسلطة قد بلغت مبلغاً سعد معه النائب واعوانه بهدية القدر اليهم حين تعرض الشيخ الى واقعة الاعتداء التى عرفت ب "حادثة اوتاوا" فى العام ١٩٩٢، فسعوا الى احكام الحصار حول الشيخ وتحييده واضعاف وجوده ومحو اثره. جاء فى اللوحاستقبلت الدائرة الاضيق بقيادة نائب الامين العام أنباء الحادث بصمت مطبق، وفيما تحركت دوائر فى السياسة والاعلام من أبناء الحركة، يحفزهم النبأ المريع، صدرت توجيهات واضحة من النائب تمنع خروج اى بيان من جهة رسمية يدين الحادث). ثم وفيما انفعلت وتفاعلت جهات كثيرة فى الحركة مع الحادث، ظلت جهة واحدة فى الحركة ساكنة، كأن شيئاً لم يكن، هى دائرة نائب الامين العام). حسناً، لو كان الحال قد ساء بين الزعيمين الى هذا الحد المؤسف، وتبينت للشيخ ومشايعيه خفايا شخصية نائبه وحقيقة نواياه منذ الاشهر والسنوات الاولى لانقلاب الانقاذ، فما هو المنطق وما هو الدافع وراء مبادرة الشيخ، وفقاً لرواية المحبوب، باختيار نائبه المتآمر لشغل منصب وزير التخطيط الاجتماعى فى العام ١٩٩٢، لا سيما وانه يقول عن تلك الوزارةوهى وزارة كان الامين العام يقدر لها شأناً عظيماً لحركة اسلامية غايتها تجديد المجتمع وتبديله على نحو شامل وفق اصول ومبادئ الاسلام). غير ان الحيرة تصل غايتها حقاً عندما تقرأ عن اختيار الشيخ الترابى للاستاذ على عثمان لتولى أعباء وزارة الخارجية فى العام السادس للثورة، فقد جاء فى الصفحة ١٤٩ تولى الاستاذ على عثمان وزارة الخارجية ضمن رؤية للأمين العام اقتضت تقلبه بين الوزارات لتمام الخبرة، وهو يُهيأ لتولى مقعد الامين العام للحركة الاسلامية فى المستقبل المنظور).
سبحان الله. لماذا وعلى أى أساس يريد الشيخ الترابى بعد ست سنوات من حكم الانقاذ رأى فيها رأى العين الواناً من تآمر نائبه واجندته السرية وميوله الشيطانية، ومجافاته سراً وعلناً لخطة الشيخ لاستعادة الديمقراطية وبسط الحريات وتأكيد قوامة المجتمع على الدولة، لماذا – والحال كذلك - يريد ان يجعل من هكذا نائب خليفةً له على قيادة الحركة الاسلامية فى المستقبل المنظور، فينعم عليه اختياراً وبمحض ارادته بمزيد من ريش السلطة، ويُنبت القوادم فى جناحه، ويعده ويحسن تدريبه وتأهيله على النحو الذى اطلعنا عليه المحبوب؟! أرأيت يا رعاك الله كيف اننا نستقيم لصاحبنا ولكن طروحاته لا تستقيم لنا؟!
(5)
أشار الاستاذ كمال الجزولى فى روزنامته قبيل أسابيع قلائل الى ما كشف عنه المحبوب فى لوحه بشأن اباحة الحركة الاسلاموية للتزوير فى الانتخابات على اطلاقها، والتوسع فى ممارسته بغير روادع من دين او كوابح من خلق، فى منافسات الحركة عبر الحقب مع خصومها فى اتحادات الطلاب والنقابات المهنية وغيرها من المحافل والمواقع. جاء فى اللوح عن التزوير.. برعت فيه الاجهزة الخاصة للمعلومات والأمن، وظلت تتحالف لإنفاذه وتمام نجاعته عضوية الحركة فى الأجهزة الشعبية والرسمية لتكسب به مقاعد الاتحادات والنقابات). ونذكر أن صديقنا الحركى الاسلاموى السابق الدكتور عبد الوهاب الافندى كان قد المح فى مقال له، قبل حوالى العام، الى نموذج من نماذج التدابير التى يُعتقد ان الحركة كانت قد لجأت اليها للتأثير على نتائج الانتخابات على منصب رئاسة الحركة الاسلامية، التى كان قد جرى التنافس عليها فى زمن مضى بين الاستاذين على عثمان وغازى صلاح الدين. وكان الافندى قد أشار الى ان الجهة المنظمة للعملية الانتخابية نصبت كاميرات خاصة داخل غرف التصويت، بحيث يمكن مراقبة الاعضاء وهم يمارسون عملية الاقتراع، والتعرف فى ذات الوقت على الصندوق الذى القى فيه كل مقترع بطاقته الانتخابية.
ولكن دعنا من ذلك كله فليست الشكوى من ضلوع الاسلامويين فى التزوير على اطلاقه هو مبتغانا. انما نريد ان نتوقف أمام واقعة بعينها: حكى المحبوب ان قيادة الحركة، والمقصود هو الشيخ الترابى، كانت قد قررت فى العام ١٩٩٧ اثناء انعقاد المؤتمر القومى العام للحزب الحاكم ترشيح الدكتور غازى صلاح الدين لمنصب الأمين العام بدلاً عن الاستاذ الشفيع احمد محمد الذى كان يشغل ذلك المنصب. ولكن كتلة دارفور (ومن حالفها)، التى تشكل اغلبية مقدرة، رفضت ترشيح الدكتور غازى وأصرت على استمرار الشفيع فى موقعه، وان ذلك الموقف شكل مفاجأة لقيادة الحركة. لماذا؟ لأن الحركة – فى عقيدة المحبوب- لم تعتد على مثل هذه المواقف الاعتراضية الصارخة من عضويتها، اذ كانت مثل هذه الامور تدبر تدبيرا داخلياً ثم تخرج للعلن. وكانت فى كل الاحوال تمضى، كما خطط لها، من الباطن الى الظاهر فى سهولة ويسر. ثم جاء فى اللوحالقيادة ظلت تختار وتقرر والقاعدة ظلت توافق وتُقرْ). أقرأ ذلك فلا اكاد اقاوم الاغراء بأن اذكّرك – أعزك الله – بأن ذلك كان حال الحركة التى كانت عبر السنوات والحقب تفاخر بأنها تجتذب القطاع الاكبر من عضويتها من اوساط المتعلمين، وتعرض فى لوحات كبيرة عند كل مناسبة انتخابية عدد وأسماء الحاصلين على درجات الدكتوراه والماجستير والبكالوريوس من بين مرشحيها. وهى ذات الحركة التى كان قادتها يعايرون قادة الاحزاب التقليدية بعار "الاغلبيات الميكانيكية"!
ما علينا. فليس ذلك، مرة اخرى، هو اكبر همنا. الذى نريد ان نثبت قواعده هنا هو ما اشتمل عليه اللوح من بيان واضح الى ان قيادة الحزب الحاكم لجأت الى التزوير المباشر لضمان فوز مرشح القيادة الدكتور غازى صلاح الدين، الذى اعلنت لجنة الانتخاب فوزه دون اشارة الى عدد الاصوات التى حصل عليها!! كل ذلك مفهوم. الذى لا نفهمه هو ان التزوير الذى استهل به المؤتمر الوطنى عهده كتنظيم سياسى للحركة الاسلامية فى العام ١٩٩٧ تم بحسب المحبوب ( بتواطوء تام من قيادة فى المؤتمر مع لجان الانتخاب). ولولا حرف الجر "فى" لكان المقصود هو الشيخ الترابى شخصيا، فقد كان هو حتى ذلك التاريخ وبعده بقليل فى موقع القيادة الفعلية المطلقة بلا منازع. ولكن حرف الجر يعفى الشيخ وينقل التهمة الى "قيادة فى المؤتمر" دون تسمية. ولكنك لو قرأت اللوح من اوله الى آخره لما اعوزتك التسمية، فالمعنى هو النائب على عثمان. عظيم. وها نحن نسعى هنا مرة اخرى الى ان نقبل حجاج المحبوب بذهنٍ مفتوح وقلبٍ سليم، لولا العقبات التى تنهض فى طريقنا فتسد علينا الطرق كلها. أول هذه العقبات اننا نقرأ فى ذات المكان من اللوح ان النائب على عثمان لم يكن فى الاصل راضياً عن مرشح القيادة للمنصب، بل كان يهمس همساً برأى معارض. ثم انه اقترح اختيار شخص آخر للمنصب، وهو العقيد (م) محمد الامين خليفة. ولما لم يجد النائب وسيلة لازاحة الدكتور غازى آثر الصمت على مضض. لماذا؟ يجيب صاحبنااذ ظل نائب الامين العام يزهد فى المجادلة والمواجهة مؤثراً المسايرة الصامتة لآراء وقرارات الامين العام). هل اختلط عليك الأمر مثلما اختلط علىّ؟! اذا لم يكن الامر كذلك فأعنّى يا هداك الله على استيعاب هذه الصورة: الأمين العام الشيخ الترابى يختار الدكتور غازى صلاح الدين للمنصب، ثم يفرضه فرضاً على غالبية عضوية التنظيم التى لم تكن تحبذ الترشيح. وسلطة الامين العام هنا مطلقة بدليل ان النائب الذى لا يقر الترشيح ويعارضه يؤثر الصمت والانزواء زهداً فى المواجهة برغم رأيه المخالف. ثم يتطور الامر الى حد تزوير الانتخابات كلها امضاءً لارادة القيادة وانفاذاً لحكمها. ومع ذلك كله فإن المتهم بتزوير الانتخابات واعلان فوز الدكتور غازى على نحوٍ مرتبك (دون تحديد لعدد الاصوات التى فاز بها) هو النائب على عثمان وشيعته ليس الشيخ الترابى ورهطه! وهنا لا نجد عندنا ما نقول سوى: قاتل الله غسيل الأحوال!
(5)
بسطنا الاسبوع الماضى روايةً وردت فى اللوح بشأن المسئولية عن صياغة البيان الاول لانقلاب الانقاذ الذى تلاه العميد عمر البشير صبيحة الثلاثين من يونيو ١٩٨٩. ومقتضى الرواية – كما وردت فى لوح المحبوب- ان البيان قام بصياغته نائب الامين العام على عثمان، وأنه برغم وجود اتفاق مسبق بأن يتم تضمين البيان فقرة تؤكد استعادة الحريات وتسليم الحكم للشعب ريثما تستقر الاحوال السياسية والعسكرية فى البلاد، فإن من قام بصياغة البيان أغفل اضافة تلك الفقرة. الا أنّ الصحافى النابه عبد الوهاب همت الذى قام مؤخراً بإجراء حوار مطول مع القيادى الاسلاموى الرفيع الدكتور على الحاج محمد، نشرته صحيفة (اجراس الحرية) على مدى اربعة حلقات، اورد جانباً من الحوار جاء فيه على لسان الدكتور على الحاج، الذى يُعرف عنه انه كان واحداً من مجموعة السبعة التى اوكلت اليها الجبهة الاسلامية تنفيذ الانقلاب، رواية مختلفة لقصة البيان الاول. وفقاً للدكتور على الحاج فإن البيان قامت بصياغته لجنة مكونة من مجموعة من الأشخاص، وعند فراغ اللجنة من الصياغة، تم عرض مسودة البيان على الامين العام الشيخ حسن الترابى الذى اطلع عليه. ويفهم من صياغة الحوار ان الشيخ أجاز البيان على النحو الذى عرض عليه. وقد وجدت من الاهمية بمكان ان اشير الى هذا التباين بين الروايتين. وأنا اذ انقل هنا رواية الدكتور على الحاج، كما رصدتها الصحيفة، فاننى لا اعضّدها او اتبناها بأى حال من الاحوال. فقد قرأت فى إفاداته هو أيضاً خلال حلقات الحوار الطويل بعض مظاهر "غسيل الاحوال"، وفى نيتى ان اعود اليها فى وقتٍ لاحق. غير اننى أفضل ان افرغ اولاً من غسيل المحبوب، قبل ان انهض الى غسيل على الحاج!
عن صحيفة "الأحداث
nashi- مشرف المنتدى الرياضى
رد: المسيح المصلوب فى لوح المحبوب: الحركة الاسلامية، دائرة الضوء وخيوط الظلام
مصطفى عبد العزيز البطل
لوح المحبوب: عتمة على الذات وضوء على الآخر (3-3)
غربا باتجاه الشرق
لوح المحبوب: عتمة على الذات وضوء على الآخر (3-3)
مصطفى عبد العزيز البطل
mustafabatal@man.com
الى القارئ داخل الوطن
يظهر هذا المقال فى النسخة الورقية لصحيفة "الاحداث" بعد حذف أجزاء يرد فيها اسم السيد رئيس الجمهورية. وأنا اقدر كل التقدير ان الصحيفة، برغم رفع الرقابة الرسمية على الصحافة فى السودان، تمارس قسطاً محدوداً ومحموداً من الرقابة الذاتية التى تفرضها الأعراف المستقرة والمواثيق المتواضع عليها، والتى تلزم كل الصحف بتوخى روح المسئولية عند تناول رئيس الجمهورية، اسماً ومؤسسة، بما يحافظ على هيبة المنصب وكرامته. وكمستخدم سابق فى مؤسسة سيادية من مؤسسات الدولة تجدنى من اكثر الناس حرصاً على ذات المبدأ. غير انه يلزمنى ان اوضح للقارئ الكريم داخل الوطن أننى فى الواقع لم اتعرض للمشير عمر البشير فى هذا المقال بصفته الرسمية كرئيس للدولة، بل بصفته لاعباً أساسياً فى حلقات الصراع المحتدم حول السلطة، الذى اعقب سفور الوجه الحقيقى لمدبرى انقلاب الثلاثين من يونيو ١٩٨٩ خلال العشرية الاولى لعمر الانقاذ. كما ان الاجزاء المشار اليها وردت أصلاً فى كتاب الاستاذ المحبوب عبد السلام الذى يتناوله المقال بالعرض والتحليل. وعلى حد علمى فإن الكتاب نفسه متاح لطالبيه فى مكتبات الخرطوم.
◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊
(1)
نعود لنكمل مسارنا مع لوح الاستاذ المحبوب عبد السلام (الحركة الإسلامية السودانية، دائرة الضوء- خيوط الظلام: تأملات في العشرية الأولى لعهد الإنقاذ). ونجهد فى هذا الجزء الخاتم لاستحلاب بعض المفاهيم الكلية، أو لعلنا نتواضع فنقول أننا نأمل فى استنتاج بعض الفرضيات التفسيرية، من ركام المعلومات الغزيرة المثيرة التى قدمها هذا السِفر لقرائه فوق طروسٍ مذهبة. نعنى بذلك أن نمعن النظر فى بعضٍ من جوانب الأخبار والأسرار التى زودنا بها المؤلف، وهى بضاعةٌ نعتد بها غاية الاعتداد، كونها ترد جميعها موثقةً بشهودها وشواهدها، معززةً بقرائنها وبيناتها الظرفية. ثم أنها تنطق بلسان محررها الذى ترعرع فى محاضن الحركة الاسلاموية ونشأ فى طاعتها. فهو هنا لا ينقل الاخبار كمصدر ثانوى، بل كسلطةٍ أصيلة داخل مدارات الحكم واروقته، بحسبانه معاملاً أساسياً فى ميادين تخصيب السياسات ومراكز صناعة الاحداث. ولا غرو اذ كتب ناشر اللوح يعرّف الناس بالمؤلف وسلطتهالمحبوب عبد السلام أقرب الرجال الى قائده الصانع الأكبر لما جرى الشيخ حسن الترابى).
نقول بأننا نهدف الى اجالة النظر فى مجمل ما بين ايدينا من وقائع وحادثات، ثم نحاول ان نستنبت، ونحن نتدبّر معانيها ونتحرى مغازيها، أحكاماً عامة ربما تفسر لنا الحالة الذهنية التى تملّكت القيادات الحركية الاسلاموية وهى تنقضُّ على مقاليد السلطة بليلٍ دامس فى صيف العام 1989. ثم وهى تنزلق، بعد ذلك، الى الفتنة القارعة التى فضحت السوءات وكشفت العورات، وأبانت للقريب والبعيد كيف ان التسربل برداء الدين لم يمنح اسلامويي السودان حصانةً تصدُّ عن ذواتهم الاهواء والفتن، وتردُّ عن مشروعهم الفرعونى الاستعلائى الطموح الأنواء والمحن. وهل كان الذين افتتنوا وكادوا يشهرون السيوف يوم السقيفة، وجثمان نبى المسلمين (ص) مسجّىً بداره لم يوار الثرى بعد من اتباع بوذا؟ وهل كان الذين قتلوا ذا النورين عثمان والقوا بجثمانه فى مقابر اليهود، ثم تنازعوا على الملك بعده من عبدة النار؟!
(2)
قلنا أن من أروع وأبدع صنيع لوح المحبوب أنه لم يلو على شئ، فأماط الحُجب والغلالات عن الخبايا والأسرار، ورمى بكل أوراق العشرية الاسلاموية على المنضدة أمام الجميع عاريةً الا من رسومها وشروحها. لا عاصم لها من أعين النظّارة، فاذا هم بين حادبين مشفقين، وشامتين شانئين. واذا سُئلنا عن خويصة انفسنا قلنا: انما نحن باحثون دارسون، وان شئت فضوليون، ضالتنا الحقيقة. لا ندعى حدباً واشفاقاً على الحركة الاسلاموية، وفيم الحدب والإشفاق، وبيننا وبين فكرها الأصفر الأزعر ما صنع الحداد، ولم نر من عهود التمكين والأثرة على مدار سنواتها الغُبر المتواليات غير الهمّ والحزن والكدر والضجر؟ ولكننا – مع ذلك - نربأ بأنفسنا ونستنكف ان نكون فى زمرة الشامتين الشانئين، وفى وعينا حديث نبينا الكريم عليه افضل التسليملا تُظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله عزّ وجل ويبتليك). ولو رحم الله العصبة المنقذة وابتلانا نحن، بعد كل هذ الهوان، لكانت مصيبتنا هى أمّ المصائب وجدّتها وخالاتها مجتمعين.
ونحن ننظر الى الورقة من الاوراق، وهى ملقاة على الطاولة، ثم نشدُّ، فى كل مرة الى اعماق الرئتين نفساً طويلاً عميقاً، اذ يستغرقنا ذلك الاحساس الطيب الغامر الذى ينتاب المرء عندما يصادف على حين غرة تفسيراً جامعاً مانعاً للغزٍ مستحكم طالما سكن منه تلافيف الدماغ دون ان يجد عليه سلطاناً يفك طلسمه. وبعض هذه الاوراق يصح ان يطلق عليها ذلك التعبير المتداول فى أدب الخطاب السياسى العربى المعاصر: الغسيل القذر!
تظهر لنا من ثنايا اللوح الكيفية التى كانت تدار بها الدولة على عهد الانقاذ الاول فنتعرف على شكل المسرح الداخلى والمسرح الخارجى واللاعبين الحقيقيين الذين كانوا يديرون الخيوط من وراء السّتُر. ويتبين لنا أن كثيراً من شاغلى المناصب الرسمية، بما فيها منصب رأس الدولة، ما كانوا يملكون لانفسهم ضراً ولا نفعاً، بل خيالات مآتة لا تهش ولا تنش. ما كان أمر السلطة الباطنة الخفية غائباً عنى وعن كثيرين غيرى. فقد كنا نعلم ان للانقلاب من يوجه حركته من وراء الكواليس. وقد سُئل واحد من القادة التاريخيين للحركة الاسلاموية، هو الاستاذ أحمد عبد الرحمن محمد، بعيد الانقلاب بفترة وجيزة، عن صحة ما كان يتردد عن وجود مجلس أربعينى يدير الأمور من خلف هيئات الحكم الرسمية الظاهرة ، فأجاب على السؤال من فوره اجابةً مباشرة لا إبهام فيها ولا غموض، وقد نشرت الاجابة فى وقتها صحيفة "ظلال" الاسبوعية، قال هذا سؤال ساذج. فمن الطبيعى ان يكون هناك كيانٌ فاعل وراء الانقلاب، سواء اكان مجلساً اربعينيا او غيره. أى انقلاب فى الدنيا لا بد ان يكون وراءه تنظيم له اهداف ورؤى، يُخطط وينفذ ويتابع. والا فكيف يكون الانقلاب انقلاباً)؟ لم يكن ذلك كله للحق غائباً عن مداركنا. الذى كان غائباً هو مدى ونطاق الفاعلية السلطوية المتفاحشة للقيادات المستترة التى كانت تقبض فعلياً على زمام كل شئ، كما كشف لوح المحبوب، ومدى ضعف وهامشية بل وعدمية الممثلين الذين كانوا يجلسون فى المقاعد الأمامية فى مواجهة النظارة، بحيث ما كان الواحد منهم يملك ان يختار ما يشرب فى صباحه، شاى ام قهوة، الا ان يأذن له من هم فى الكواليس!
ثم تستبين لنا جذور الصراع، بين اخوة التنظيم والعقيدة، ومراحله المتدرجةً، وكيف بدأ الأمر يرقةً فى طورها المائى، ثم تنامى واستفحل خطره واستشرت علله حتى استحالت طاعوناً فاتكاً استعصى على الطبابة. وقد نشرّق فى بحثنا وقد نغرّب، ولكننا نخلص الى عبرةٍ واحدة، كنا قد خلصنا اليها من قبل، وهى ان أصل الصراع وجوهره، بين اهل الظاهر وأهل الباطن، ثم بين اهل الباطن فيما بينهم، انما هو طموح الشخوص ورغائب النفوس وأهواء البشر وحب الاستئثار بالسلطة والولع بالعروش والصولجان.
قفز من أعماق ذاكرتى على الفور، وانا اطالع جانباً من سفر المحبوب، حوارٌ دار بينى وبين العميد فيصل مدنى مختار، عضو مجلس قيادة ثورة الانقاذ الوطنى وحاكم كردفان الأسبق، بعد اسابيع قليلة من اعفائه، او بالاحرى استقالته من عضوية المجلس فى النصف الاول من التسعينات، وذلك بمنزله بشارع الجمهورية بالخرطوم. وكان حاضراً بجانبى فى ذلك اللقاء من الأحياء الوزير الاقليمى السابق العميد (شرطة) محمد عبد الملك الطاش، ومن الراحلين الصديق العزيز المرحوم الصحافى الاسلاموى محمد طه محمد أحمد. وكنت قد سألت العميد فيصل عن سبب الخلاف بينه وبين القيادة الذى ادى الى مغادرته لمنصبه السامى، فذكر لى أسباباً أثارت فى وجهى ملامح الاستغراب، وهو استغراب لم يظهر منه شئ على وجه الراحل محمد طه الذى كان فيما بدا لى واقفاً على كثير من خفايا المرحلة. مما ذكر العميد فيصل، ضمن اجابته على سؤالى، انه عندما استفحل أمر المجاعة فى كردفان وكان هو حاكماً عليها، وعجزت امكانيات الدولة عن مواجهة الكارثة، وجد من الضرورة بمكان اعلان حالة المجاعة وطلب العون الدولى، لا سيما وان كثيراً من المنظمات الدولية ذات الموارد الضاربة كانت تتهيأ للتدخل وتقديم المساعدات. غير ان الحكومة المركزية ظلت وباستمرار ترفض طلبه، فاضطر للحضور الى العاصمة ومقابلة رئيس مجلس قيادة الثورة بمكتبه بالقصر الجمهوري حيث عرض عليه وقائع الاحوال المتفاقمة فى كردفان، وطرح عليه وجهة نظره بشأن اصدار الاعلان الذى يصرح بوجود مجاعة فى الاقليم، بما يعين على اطلاق آليات العون الدولى باتجاه التصدى للكارثة وتخفيف معاناة الضحايا، طالما ان امكانيات الدولة وقفت دون ذلك. ونبه الحاكم الرئيس الى المسئولية الشرعية التى تقع على عاتقيهما معاً ان هما تقاصرا عن واجبهما تجاه ارواح عشرات الآلاف من الفقراء الابرياء الذين يتهددهم شبح الموت جوعاً. وهنا ردّ رئيس مجلس قيادة الثورة والله يا فيصل انا مقتنع بكلامك ده تماماً، لكين البقنع الديك منو)؟! والذى اتضح بعد ذلك هو ان (الديك) كان يؤمن وقتها بأن الاقرار بوجود حالة مجاعة فى البلاد بينما شعارات (نأكل مما نزرع) تغطى سموات المدن وتملأ اجهزة الاعلام يسئ الى سمعة كل ديوك السودان ودجاجه ويلحق بكبريائها أفدح الأضرار!
(3)
يذكر المحبوب من وجوه التآمر ومظاهر الصراع والتبذّل حول حطام الدنيا بين قادة الحركة الاسلاموية وكادراتها ما يزيح الخُمُر عن رموز طالما استعصمت وراء اقنعة الزهد، وأظهرت الوصل والتماهى مع قيم السماء، ورسمت على الوجوه الوضيئة ملامح الوجد وهى تصيخ السمع لأناشيد المنشدين: (لا لدنيا قد عملنا / نحن للدين فداء). ها هو نجم الانقاذ المنير وبدرها الوضّاح الدكتور مصطفى عثمان اسماعيل مرسوماً على اللوح، يختطف منصب وزير الخارجية اختطافاً من بين يدى من هو أهل له، ثم يحتكر المنصب احتكاراً لا لفضلٍ اتسم به، ولا لعلم اكتسبه، ولا لسابقة عرفت له، بل لأنه يجيد الرياء وتملق السلاطين ومداهنة أصحاب الحول والطول. اسمع يا صاحأثبت الدكتور مصطفى عثمان نجاعة منهج سُعاة العلاقات العامة الذين يؤدون صلاة المغرب مع الرئيس، ويغشون نائبه الاول لشاى المساء، ثم يتناولون طعام العشاء مع الأمين العام). ثم ها هم العسكريون من قادة الانقلاب، وقد انكشفوا بعد قرار حل مجلس قيادة الثورة، بلا مهارات ولا قدرات ولا مؤهلات، وقد مالت عنهم الأضواء وتحاسرت، واستشعروا انهم ما عادوا يصلحون للقيادة فى ظل دستور ١٩٩٨، فطار بهم الهلع واستبد بهم الجزع فتفرغوا لتغذية هواجس الرئيس، وتأليف الروايات، واذاعة الذائعات، والشحن الموتور ضد إمام الحركة الاسلاموية، يتوسلون الى الرئيس ان يتغدى به قبل يدور عليهم الامام فيتعشى بهم جميعاً.
أما عن الرئيس نفسه، وخوفه على سلطته، وحرصه على كرسيه، حين حزب الأمر وزاغت العيون فحدث ولا حرج، اذ بلغت الوساوس به - هكذا نقرأ - أنه ظل ولفترةٍ طويلة يحتفظ فى مكتبه بالقصر الجمهورى برسم كاريكاتورى نشرته صحيفة (الخرطوم) إبان صدورها بالقاهرة، يتناول خبر استقالة الشيخ الترابى من منصب رئيس المجلس الوطنى. يصوّر الرسم الكاريكاتورى الترابى وقد ركل كرسى رئاسة المجلس الوطنى وهو يصعد الى كرسى رئاسة الجمهورية! ويلمح اللوح تلميحاً الى اسماء الثلة من الخبثاء الذين نقلوا نسخة الصحيفة ورسمها الكاريكاتورى الى الرئيس، وينقل عنهم عبارات افرغوها فى اذنه، من ضمنهاان الترابى لا يشرب جهد الشخصيات ويضعها باحترام كما يفعل مع زجاجة البيبسى كولا، ولكنه يطبق عليه عفصاً ويلقى به الى سلة المهملات كما يفعل مع علبة البيبسى). و: (ان الترابى متخصص فى الاغتيال المعنوى للشخصيات من لدن المرحوم الرشيد الطاهر الى الرئيس عمر البشير)!
واذ تبلورت قضايا الخلاف وتفاحشت بين يدى الدعوة الى نظام التوالى السياسى، ثم تصاعد دور البرلمان الذى كان يقوده الشيخ الترابى، وحزم الرئيس ونائبه على عثمان أمرهما، فبعثا الى الشيخ من يطلب اليه التنحى وترك الأمر برمته كان رد الشيخ، وننقل عن اللوحأنه لم يباشر مطلقاً تدخلاً فى العمل التنفيذى اليومى ولم يسمّ وزيراً لمنصبه، ولم يزر أحداً فى مكتبه أو يحادثه فى الهاتف.. بل فوض غالب سلطاته لنائبه وللأجهزة ...). لم تدهشنى المعلومة، حتى وانا اقف عليها للمرة الاولى، وهى ان هناك من ذهب الى الامين العام باسم الرئيس ونائبه وطلبا اليه التنحى مع انه (الصانع الأكبر لما جرى)، ولكن ادهشتنى كلالة الدفاع وعوار المنطق وتهافت الحجج وهى تأتى من تلقاء الشيخ! ثم لننظر بعد ذلك الى أسس الاتفاق على تجاوز الازمة عقب مذكرة العشرة وتداعياتها المدمرة، وذلك بعد ان دعا النائب على عثمان مائة وخمسين من القيادات من بينهم رئيس الجمهورية والشيخ الترابى ليشهدوا عهداً جديداً للحركة يصفو فيه المناخ وتطيب فيه النفوس. ثم نقرأكان الأساس للعهد الجديد هو ان يطمئن الرئيس منذ الآن الى انه مرشح المؤتمر الوطنى لرئاسة الجمهورية، فى مقابل تثبيت الشيخ منذ الآن أميناً عاماً للهيئة القيادية). ألم نقل أن الأمر فى المبتدأ والمنتهى لم يجاوز كونه صراعٌ على السلطة وأرائكها، واقتتالٌ على مراكز الحكم وطنافسه؟ ولكن صاحبنا اكثر ذكاءً وأوعر طبعاً فلا يتركنا هنا دون ان يضيف انه (تمت تهيئة الرئيس الذى لا ينشد اكثر مما قدم له)، أما الشيخ الترابى فقد تحفظ على الخطة ومشروع الاتفاق. لماذا؟ (لأنها تصور الخلاف صراعاً بين الكبيرين، وان كليهما قد اهديت له الهدية التى كان يتوخاها). ولا عجب، فالمحبوب فى يده القلم، والذى في يده القلم لا يكتب شيخه شقياً.
(4)
وبمثلما فتشنا فألفينا حب الرئاسة وعشق المناصب رابضاً عند قدمى الاخوة المتصارعين، كذلك وجدنا التكالب المسعور نحو الدينار والدرهم. واللوح لا يبخل علينا بأحوال التعدى الفاضح على المال العام من قبل عضوية الحركة الاسلاموية، وتردد شبهاته فى المركز والأقاليم، لا سيما مع بدايات الجنوح الفوضوى نحو انشاء الشركات العامة الموصولة بأجهزة الدولة. ولا يجد المحبوب حرجاً فى اطلاعنا على حقيقة العدد الكبير من شركات الاستثمار التى استغلت الاموال العامة، على أساس ان يعود بعض ريعها بالفائدة والنفع العام على الحركة الاسلامية. كما لا يستنكف ان يدلنا على التآكل السريع لرؤوس أموال بعض هذه الشركات العامة، واتهامات الفساد التى طفحت داخل التنظيم بعد ان فاحت روائح الفساد وزكمت الانوف، وكيف ان ذلك كله انتهى الى فتح أبواب من أزمات الثقة بين عضوية الحركة. ثم يرفدنا اللوح على حين غرة بهذه العبارة المثيرة الخطرة: (وقد ينجو الجانى بغير عقوبة، ولكن تبقى ثابتةً الريب والجراح التى علقت بالوشائج التى تصله بتنظيمه واخوانه). ويالها من عقوبة قاسية ينالها من تمتد أياديهم الى المال العام فتطالهم تهم النهب والسرقة واللصوصية من صفوف الاسلامويين. ففى هذا التنظيم العقدى الفذ اذا سرق الآخرون أقيمت عليهم حدود الله، أما اذا سرق العضو فكفاه عقوبة ان "تعلق الريب بالوشائج التى تربطه باخوانه من الاعضاء"!
ولكن هناك عاملاً رئيساً يبدو للناظر المحايد وكأنه يتعمد التخفى وراء العديد من مظاهر الصراع وتجلياته. ذلك هو العامل العنصرى العرقى. والذى لا خلاف عليه هو ان حقبة الانقاذ فى السودان تظل من اكثر الحقب إثارة للنعرات العنصرية والاحتقانات العرقية على مستوى الوطن كله. وانت تصيخ السمع فتسمع همهمات، فى شهور الانقلاب وسنيه الاولى، تأتيك من جنبات اللوح، تظهر ضيق بعض الاسلامويين من الانفاق المتزايد على التنمية والخدمات بالاقليم الشمالى ومن الرعاية التى خص بها اللواء الزبير محمد صالح ذلك الاقليم دوناً عن الأقاليم الاخرى، أو كما قيل. وتلحظ بوضوحٍ تام ردة الولاءات فى صفوف أعضاء التنظيم وتراجعها حثيثاً من تخوم العقيدة والمُثل والمبادئ الكلية الى سهول العصبيات القبلية والجهوية، حتى إذا جاءت قسمة المناصب الاتحادية والولائية، كان المنطلق الأساس والسؤال المحورى: أين مكان قبيلتى واين موقع عشيرتى؟! وتقف – أعزك الله - على الاصول العرقية لصراعات السلطة حين ترى فوق اللوح تمترس المستعربين خلف الرئيس البشير ونائبه، لا لشئ الا لأنه تسرّب نبأ فحواه أن الشيخ يزمع ان يقدم لمنصب الرئاسة شخصاً من الغرب الأقصى، من خارج المثلت الشهير! ومالنا والتسريبات والكلام المغطى وبين يدينا جانب من محضر إجتماع عاصف عقد بوزارة الخارجية، تبدّت فيه الوساوس العرقية فى أسوأ تجلياتها، واستعرت الكوابيس الجهوية فى اشنع صورها. وكان القلق قد استبد ببعض المستعربين من بين قادة الانقاذ، بسبب مسارعة المفاوضين المكلفين بملف الحوار مع فصائل الحركة الشعبية الى الموافقة على منح الجنوب حق تقرير المصير، فتناول الكلمة الدكتور الطيب ابراهيم محمد خير، وزير الرئاسة وحاكم دارفور الكبرى لاحقاً، ثم قال بلسان عربى مبين لا عوج فيه "أن وضع ملف الجنوب، كما هو الحال فى الوقت الحاضر، فى يد اثنين من أبناء دارفور، هما العقيد محمد الامين خليفة والدكتور على الحاج محمد ينذر بخطر التضحية بعروبة السودان"! والمعنى فوق جبين الشاعر لا فى بطنه، وهو ان الدكتور على الحاج وصاحبه العقيد محمد الأمين خليفة ليسوا عرباً، بل هما من "الزرقة" الأفارقة الذين لا يجوز ان يستأمنا على عروبة السودان. أرأيت يا هداك الله كيف ضاقت جبة الاسلام بهؤلاء، رغم الشعارات السمحاء، التى تذوب لها المشاعر، والروايات المؤثرة التى تخضل لها اللحى عن الاخوّة فى العقيدة، فلم تسعهم فى نهاية المطاف غير سراويل اللون والعرق والقبيلة؟!
(5)
جزى الله المحبوب كل خير اذ سطّر هذا اللوح المائز وقدمه لبنى وطنه، ينظرون فيه ويتفكرون ويلتمسون من بين سطوره الحكمة والعبرة. ولكننا نأخذ عليه – والصديق من صدق - انه أخفى نفسه كلياً بين ثنايا الاحرف والكلمات، ووارها بين كثيب السطور والفقرات، فما تجد له فى صفحات الكتاب ظلاً ولا ملمحاً. وكأنه لم يكن هناك، يشارك ويعارك، ويخطُّ مع شيخه الخطط ويدبّر التدابير. والاصل فى هذا النوع من الالواح أن تأتى الطروحات فى مسار نقد ذاتى شفاف ينفتح على الداخل بمقدار الانفتاح على الخارج. ثم تُبرز الوقائع والحادثات عاريةً من الحُلل والثياب فيتغشاها التقويم الموضوعى المنفلت عن رغائب النفس. وينبغى ان يطال التقويم شخصية كاتب اللوح نفسه بعد ذلك – حيثما كان موقعه من الأحوال والحادثات- تقويماً يستقيم على جادة التقوى ويتجرد للمساءلة، فيبين مواقفه ويعيّن خطواته ويبرز نتائجها، ثم يرفع للناس حسابه: اين أحسن وأصاب، وأين تنكب الطريق فأخفق فى التعبير عن مبادئه وغاياته. وصاحبى لا يفعل أيا من ذلك، لا فى حالته هو ولا فى حالة شيخه. اذ يقدمه لنا فى صورة مثالية خارقة للعادة لفقيه عابد وقائد وطنى، متجرد من مزالق الهوى، متجانف عن سفاسف السياسة، يسكن قلبه عزة الاسلام وحب السودان. ومثل ميداس فى الاسطورة الاغريقية، الذى كان يلمس الشئ فيستحيل من فوره ذهباً، كان كل ما يمسه الشيخ الترابى بيده من تشريع او قانون او ميثاق او نهج عام او خطة سياسية يستحيل فى لمح البصر الى مناراتٍ سوامق يقتدى بها الناس، فتهديهم الى دروب الحريات والعدالة والديمقراطية وحقوق الانسان. وكل ذلك مما لا يطابق طبائع البشر كما خلقهم الله فى فطرتهم الأولى، ولا يوافق حقائق الأشياء كما انبسطت جزيئاتها امام الكافة.
الحركة الاسلاموية السودانية عند المحبوب مدرسةٌ كبرى، تحيفت دورها كمؤسسة للعلم ووسيط للتربية، وتضعضعت قواعدها، وتحللت ضوابطها، وطاش عيارها، وتفلّت طلابها، وانسخط اساتذتها، فما يقومون الا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس. والمسئولية عن ذلك الانحدار المريع والسقوط الشنيع تقع على عواتق كثيرين. ولكن ناظر المدرسة ومرشدها– فى عقيدة المحبوب - ليس من بين اولئك الذين يُرجى منهم ان يتحملوا نصيبا من المسئولية.
انتهى المحبوب الى كتابين: كتابٌ أبيض، هو كتاب الفرقة الناجية، التى استعصمت بقبة المنشية الخضراء، وكتابٌ أسود هو كتاب الفرقة الباغية التى خرجت على شيخها، ثم تمترست فى قبة غردون البيضاء. وما هكذا تورد إبل النقد الذاتى. النقد الذاتى شئ، و(المانيفستو) السياسى شئ آخر. ولكننا نشهد بأن المحبوب قد أفرغ وسعه وأكمل لوحه، بنيةٍ صادقة وقلبٍ سليم، فسدّد ورمى، وأصاب وأخطأ. فنال الاجرين حيثما أصاب، ونال الأجر الواحد أينما أخطأ. والله نسأل أن يثيبه أجزل المثوبة وهو يرفع حسابه الى عشيرته الاسلاموية والى شعبه الطيب.
متابعات ومراجعات
وردت ضمن الحلقة الاولى من هذا العرض لكتاب الاستاذ المحبوب عبد السلام اشارة لحديث زعمت أن الدكتور حسن الترابى ادلى به أمام الحشد بمقر القاعة الملكية للآداب والفنون بلندن، بتاريخ السابع والعشرين من ابريل ١٩٩٢، رداً على المحامى الاستاذ عبد الباقى الريح، الذى كان قد وقد واجه الدكتور الترابى، ثم نزع أمام الحاضرين ساقة الاصطناعية، بعد بتر ساقه نتيجة لعمليات التعذيب التى تعرض لها اثناء فترة اعتقاله فى مبنى حكومى بالخرطوم شرق كان يقطنه فى السابق اللواء خالد حسن عباس. والعبارة التى أوردتها على لسان الشيخ الترابى هى: (الرجل كاذب، فليس عندنا بيوت أشباح ولا من يعذب الناس، وانما هى الدعاية المغرضة. بل قطع الاطباء قدمه لأنه مُعتل بداء السكر). الحقيقة هى ان هذه العبارة لم ترد على لسان الدكتور الترابى ضمن رده المباشر على المحامى عبدالباقى الريح فى مقر الجمعية الملكية، بل ادلى بها الشيخ امام جمع من الصحافيين أثناء حفل عشاء عقب اللقاء الحاشد. كما أعاد الشيخ تكرار ذات العبارة فى شكل تصريح صحفى لمندوبى صحيفتين هما الفاينانيشال تايمز الامريكية والغارديان البريطانية، وقد نشرتهما الصحيفتان بذات النص اعلاه فى اليوم التالى مباشرةً. كما اعادت نشر تصريح الدكتور الترابى المشار اليه كل من نشرة "سودان أبديت" ونشرة "آفريكا كونفيدينشيال" اللندنية فى نفس الاسبوع. أما نص رد الترابى على المحامى عبد الباقى الريح بمقر القاعة الملكية فقد كان كالآتى: ( ان صح ما ذكره هذا الشخص فهذا ليس من الاسلام).
نصوص خارج السياق
"سيكون التاريخ رؤوفاً بي لأنني أنا الذي سيكتبه"
(ونستون تشرشل)
الراكوبة
لوح المحبوب: عتمة على الذات وضوء على الآخر (3-3)
غربا باتجاه الشرق
لوح المحبوب: عتمة على الذات وضوء على الآخر (3-3)
مصطفى عبد العزيز البطل
mustafabatal@man.com
الى القارئ داخل الوطن
يظهر هذا المقال فى النسخة الورقية لصحيفة "الاحداث" بعد حذف أجزاء يرد فيها اسم السيد رئيس الجمهورية. وأنا اقدر كل التقدير ان الصحيفة، برغم رفع الرقابة الرسمية على الصحافة فى السودان، تمارس قسطاً محدوداً ومحموداً من الرقابة الذاتية التى تفرضها الأعراف المستقرة والمواثيق المتواضع عليها، والتى تلزم كل الصحف بتوخى روح المسئولية عند تناول رئيس الجمهورية، اسماً ومؤسسة، بما يحافظ على هيبة المنصب وكرامته. وكمستخدم سابق فى مؤسسة سيادية من مؤسسات الدولة تجدنى من اكثر الناس حرصاً على ذات المبدأ. غير انه يلزمنى ان اوضح للقارئ الكريم داخل الوطن أننى فى الواقع لم اتعرض للمشير عمر البشير فى هذا المقال بصفته الرسمية كرئيس للدولة، بل بصفته لاعباً أساسياً فى حلقات الصراع المحتدم حول السلطة، الذى اعقب سفور الوجه الحقيقى لمدبرى انقلاب الثلاثين من يونيو ١٩٨٩ خلال العشرية الاولى لعمر الانقاذ. كما ان الاجزاء المشار اليها وردت أصلاً فى كتاب الاستاذ المحبوب عبد السلام الذى يتناوله المقال بالعرض والتحليل. وعلى حد علمى فإن الكتاب نفسه متاح لطالبيه فى مكتبات الخرطوم.
◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊◊
(1)
نعود لنكمل مسارنا مع لوح الاستاذ المحبوب عبد السلام (الحركة الإسلامية السودانية، دائرة الضوء- خيوط الظلام: تأملات في العشرية الأولى لعهد الإنقاذ). ونجهد فى هذا الجزء الخاتم لاستحلاب بعض المفاهيم الكلية، أو لعلنا نتواضع فنقول أننا نأمل فى استنتاج بعض الفرضيات التفسيرية، من ركام المعلومات الغزيرة المثيرة التى قدمها هذا السِفر لقرائه فوق طروسٍ مذهبة. نعنى بذلك أن نمعن النظر فى بعضٍ من جوانب الأخبار والأسرار التى زودنا بها المؤلف، وهى بضاعةٌ نعتد بها غاية الاعتداد، كونها ترد جميعها موثقةً بشهودها وشواهدها، معززةً بقرائنها وبيناتها الظرفية. ثم أنها تنطق بلسان محررها الذى ترعرع فى محاضن الحركة الاسلاموية ونشأ فى طاعتها. فهو هنا لا ينقل الاخبار كمصدر ثانوى، بل كسلطةٍ أصيلة داخل مدارات الحكم واروقته، بحسبانه معاملاً أساسياً فى ميادين تخصيب السياسات ومراكز صناعة الاحداث. ولا غرو اذ كتب ناشر اللوح يعرّف الناس بالمؤلف وسلطتهالمحبوب عبد السلام أقرب الرجال الى قائده الصانع الأكبر لما جرى الشيخ حسن الترابى).
نقول بأننا نهدف الى اجالة النظر فى مجمل ما بين ايدينا من وقائع وحادثات، ثم نحاول ان نستنبت، ونحن نتدبّر معانيها ونتحرى مغازيها، أحكاماً عامة ربما تفسر لنا الحالة الذهنية التى تملّكت القيادات الحركية الاسلاموية وهى تنقضُّ على مقاليد السلطة بليلٍ دامس فى صيف العام 1989. ثم وهى تنزلق، بعد ذلك، الى الفتنة القارعة التى فضحت السوءات وكشفت العورات، وأبانت للقريب والبعيد كيف ان التسربل برداء الدين لم يمنح اسلامويي السودان حصانةً تصدُّ عن ذواتهم الاهواء والفتن، وتردُّ عن مشروعهم الفرعونى الاستعلائى الطموح الأنواء والمحن. وهل كان الذين افتتنوا وكادوا يشهرون السيوف يوم السقيفة، وجثمان نبى المسلمين (ص) مسجّىً بداره لم يوار الثرى بعد من اتباع بوذا؟ وهل كان الذين قتلوا ذا النورين عثمان والقوا بجثمانه فى مقابر اليهود، ثم تنازعوا على الملك بعده من عبدة النار؟!
(2)
قلنا أن من أروع وأبدع صنيع لوح المحبوب أنه لم يلو على شئ، فأماط الحُجب والغلالات عن الخبايا والأسرار، ورمى بكل أوراق العشرية الاسلاموية على المنضدة أمام الجميع عاريةً الا من رسومها وشروحها. لا عاصم لها من أعين النظّارة، فاذا هم بين حادبين مشفقين، وشامتين شانئين. واذا سُئلنا عن خويصة انفسنا قلنا: انما نحن باحثون دارسون، وان شئت فضوليون، ضالتنا الحقيقة. لا ندعى حدباً واشفاقاً على الحركة الاسلاموية، وفيم الحدب والإشفاق، وبيننا وبين فكرها الأصفر الأزعر ما صنع الحداد، ولم نر من عهود التمكين والأثرة على مدار سنواتها الغُبر المتواليات غير الهمّ والحزن والكدر والضجر؟ ولكننا – مع ذلك - نربأ بأنفسنا ونستنكف ان نكون فى زمرة الشامتين الشانئين، وفى وعينا حديث نبينا الكريم عليه افضل التسليملا تُظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله عزّ وجل ويبتليك). ولو رحم الله العصبة المنقذة وابتلانا نحن، بعد كل هذ الهوان، لكانت مصيبتنا هى أمّ المصائب وجدّتها وخالاتها مجتمعين.
ونحن ننظر الى الورقة من الاوراق، وهى ملقاة على الطاولة، ثم نشدُّ، فى كل مرة الى اعماق الرئتين نفساً طويلاً عميقاً، اذ يستغرقنا ذلك الاحساس الطيب الغامر الذى ينتاب المرء عندما يصادف على حين غرة تفسيراً جامعاً مانعاً للغزٍ مستحكم طالما سكن منه تلافيف الدماغ دون ان يجد عليه سلطاناً يفك طلسمه. وبعض هذه الاوراق يصح ان يطلق عليها ذلك التعبير المتداول فى أدب الخطاب السياسى العربى المعاصر: الغسيل القذر!
تظهر لنا من ثنايا اللوح الكيفية التى كانت تدار بها الدولة على عهد الانقاذ الاول فنتعرف على شكل المسرح الداخلى والمسرح الخارجى واللاعبين الحقيقيين الذين كانوا يديرون الخيوط من وراء السّتُر. ويتبين لنا أن كثيراً من شاغلى المناصب الرسمية، بما فيها منصب رأس الدولة، ما كانوا يملكون لانفسهم ضراً ولا نفعاً، بل خيالات مآتة لا تهش ولا تنش. ما كان أمر السلطة الباطنة الخفية غائباً عنى وعن كثيرين غيرى. فقد كنا نعلم ان للانقلاب من يوجه حركته من وراء الكواليس. وقد سُئل واحد من القادة التاريخيين للحركة الاسلاموية، هو الاستاذ أحمد عبد الرحمن محمد، بعيد الانقلاب بفترة وجيزة، عن صحة ما كان يتردد عن وجود مجلس أربعينى يدير الأمور من خلف هيئات الحكم الرسمية الظاهرة ، فأجاب على السؤال من فوره اجابةً مباشرة لا إبهام فيها ولا غموض، وقد نشرت الاجابة فى وقتها صحيفة "ظلال" الاسبوعية، قال هذا سؤال ساذج. فمن الطبيعى ان يكون هناك كيانٌ فاعل وراء الانقلاب، سواء اكان مجلساً اربعينيا او غيره. أى انقلاب فى الدنيا لا بد ان يكون وراءه تنظيم له اهداف ورؤى، يُخطط وينفذ ويتابع. والا فكيف يكون الانقلاب انقلاباً)؟ لم يكن ذلك كله للحق غائباً عن مداركنا. الذى كان غائباً هو مدى ونطاق الفاعلية السلطوية المتفاحشة للقيادات المستترة التى كانت تقبض فعلياً على زمام كل شئ، كما كشف لوح المحبوب، ومدى ضعف وهامشية بل وعدمية الممثلين الذين كانوا يجلسون فى المقاعد الأمامية فى مواجهة النظارة، بحيث ما كان الواحد منهم يملك ان يختار ما يشرب فى صباحه، شاى ام قهوة، الا ان يأذن له من هم فى الكواليس!
ثم تستبين لنا جذور الصراع، بين اخوة التنظيم والعقيدة، ومراحله المتدرجةً، وكيف بدأ الأمر يرقةً فى طورها المائى، ثم تنامى واستفحل خطره واستشرت علله حتى استحالت طاعوناً فاتكاً استعصى على الطبابة. وقد نشرّق فى بحثنا وقد نغرّب، ولكننا نخلص الى عبرةٍ واحدة، كنا قد خلصنا اليها من قبل، وهى ان أصل الصراع وجوهره، بين اهل الظاهر وأهل الباطن، ثم بين اهل الباطن فيما بينهم، انما هو طموح الشخوص ورغائب النفوس وأهواء البشر وحب الاستئثار بالسلطة والولع بالعروش والصولجان.
قفز من أعماق ذاكرتى على الفور، وانا اطالع جانباً من سفر المحبوب، حوارٌ دار بينى وبين العميد فيصل مدنى مختار، عضو مجلس قيادة ثورة الانقاذ الوطنى وحاكم كردفان الأسبق، بعد اسابيع قليلة من اعفائه، او بالاحرى استقالته من عضوية المجلس فى النصف الاول من التسعينات، وذلك بمنزله بشارع الجمهورية بالخرطوم. وكان حاضراً بجانبى فى ذلك اللقاء من الأحياء الوزير الاقليمى السابق العميد (شرطة) محمد عبد الملك الطاش، ومن الراحلين الصديق العزيز المرحوم الصحافى الاسلاموى محمد طه محمد أحمد. وكنت قد سألت العميد فيصل عن سبب الخلاف بينه وبين القيادة الذى ادى الى مغادرته لمنصبه السامى، فذكر لى أسباباً أثارت فى وجهى ملامح الاستغراب، وهو استغراب لم يظهر منه شئ على وجه الراحل محمد طه الذى كان فيما بدا لى واقفاً على كثير من خفايا المرحلة. مما ذكر العميد فيصل، ضمن اجابته على سؤالى، انه عندما استفحل أمر المجاعة فى كردفان وكان هو حاكماً عليها، وعجزت امكانيات الدولة عن مواجهة الكارثة، وجد من الضرورة بمكان اعلان حالة المجاعة وطلب العون الدولى، لا سيما وان كثيراً من المنظمات الدولية ذات الموارد الضاربة كانت تتهيأ للتدخل وتقديم المساعدات. غير ان الحكومة المركزية ظلت وباستمرار ترفض طلبه، فاضطر للحضور الى العاصمة ومقابلة رئيس مجلس قيادة الثورة بمكتبه بالقصر الجمهوري حيث عرض عليه وقائع الاحوال المتفاقمة فى كردفان، وطرح عليه وجهة نظره بشأن اصدار الاعلان الذى يصرح بوجود مجاعة فى الاقليم، بما يعين على اطلاق آليات العون الدولى باتجاه التصدى للكارثة وتخفيف معاناة الضحايا، طالما ان امكانيات الدولة وقفت دون ذلك. ونبه الحاكم الرئيس الى المسئولية الشرعية التى تقع على عاتقيهما معاً ان هما تقاصرا عن واجبهما تجاه ارواح عشرات الآلاف من الفقراء الابرياء الذين يتهددهم شبح الموت جوعاً. وهنا ردّ رئيس مجلس قيادة الثورة والله يا فيصل انا مقتنع بكلامك ده تماماً، لكين البقنع الديك منو)؟! والذى اتضح بعد ذلك هو ان (الديك) كان يؤمن وقتها بأن الاقرار بوجود حالة مجاعة فى البلاد بينما شعارات (نأكل مما نزرع) تغطى سموات المدن وتملأ اجهزة الاعلام يسئ الى سمعة كل ديوك السودان ودجاجه ويلحق بكبريائها أفدح الأضرار!
(3)
يذكر المحبوب من وجوه التآمر ومظاهر الصراع والتبذّل حول حطام الدنيا بين قادة الحركة الاسلاموية وكادراتها ما يزيح الخُمُر عن رموز طالما استعصمت وراء اقنعة الزهد، وأظهرت الوصل والتماهى مع قيم السماء، ورسمت على الوجوه الوضيئة ملامح الوجد وهى تصيخ السمع لأناشيد المنشدين: (لا لدنيا قد عملنا / نحن للدين فداء). ها هو نجم الانقاذ المنير وبدرها الوضّاح الدكتور مصطفى عثمان اسماعيل مرسوماً على اللوح، يختطف منصب وزير الخارجية اختطافاً من بين يدى من هو أهل له، ثم يحتكر المنصب احتكاراً لا لفضلٍ اتسم به، ولا لعلم اكتسبه، ولا لسابقة عرفت له، بل لأنه يجيد الرياء وتملق السلاطين ومداهنة أصحاب الحول والطول. اسمع يا صاحأثبت الدكتور مصطفى عثمان نجاعة منهج سُعاة العلاقات العامة الذين يؤدون صلاة المغرب مع الرئيس، ويغشون نائبه الاول لشاى المساء، ثم يتناولون طعام العشاء مع الأمين العام). ثم ها هم العسكريون من قادة الانقلاب، وقد انكشفوا بعد قرار حل مجلس قيادة الثورة، بلا مهارات ولا قدرات ولا مؤهلات، وقد مالت عنهم الأضواء وتحاسرت، واستشعروا انهم ما عادوا يصلحون للقيادة فى ظل دستور ١٩٩٨، فطار بهم الهلع واستبد بهم الجزع فتفرغوا لتغذية هواجس الرئيس، وتأليف الروايات، واذاعة الذائعات، والشحن الموتور ضد إمام الحركة الاسلاموية، يتوسلون الى الرئيس ان يتغدى به قبل يدور عليهم الامام فيتعشى بهم جميعاً.
أما عن الرئيس نفسه، وخوفه على سلطته، وحرصه على كرسيه، حين حزب الأمر وزاغت العيون فحدث ولا حرج، اذ بلغت الوساوس به - هكذا نقرأ - أنه ظل ولفترةٍ طويلة يحتفظ فى مكتبه بالقصر الجمهورى برسم كاريكاتورى نشرته صحيفة (الخرطوم) إبان صدورها بالقاهرة، يتناول خبر استقالة الشيخ الترابى من منصب رئيس المجلس الوطنى. يصوّر الرسم الكاريكاتورى الترابى وقد ركل كرسى رئاسة المجلس الوطنى وهو يصعد الى كرسى رئاسة الجمهورية! ويلمح اللوح تلميحاً الى اسماء الثلة من الخبثاء الذين نقلوا نسخة الصحيفة ورسمها الكاريكاتورى الى الرئيس، وينقل عنهم عبارات افرغوها فى اذنه، من ضمنهاان الترابى لا يشرب جهد الشخصيات ويضعها باحترام كما يفعل مع زجاجة البيبسى كولا، ولكنه يطبق عليه عفصاً ويلقى به الى سلة المهملات كما يفعل مع علبة البيبسى). و: (ان الترابى متخصص فى الاغتيال المعنوى للشخصيات من لدن المرحوم الرشيد الطاهر الى الرئيس عمر البشير)!
واذ تبلورت قضايا الخلاف وتفاحشت بين يدى الدعوة الى نظام التوالى السياسى، ثم تصاعد دور البرلمان الذى كان يقوده الشيخ الترابى، وحزم الرئيس ونائبه على عثمان أمرهما، فبعثا الى الشيخ من يطلب اليه التنحى وترك الأمر برمته كان رد الشيخ، وننقل عن اللوحأنه لم يباشر مطلقاً تدخلاً فى العمل التنفيذى اليومى ولم يسمّ وزيراً لمنصبه، ولم يزر أحداً فى مكتبه أو يحادثه فى الهاتف.. بل فوض غالب سلطاته لنائبه وللأجهزة ...). لم تدهشنى المعلومة، حتى وانا اقف عليها للمرة الاولى، وهى ان هناك من ذهب الى الامين العام باسم الرئيس ونائبه وطلبا اليه التنحى مع انه (الصانع الأكبر لما جرى)، ولكن ادهشتنى كلالة الدفاع وعوار المنطق وتهافت الحجج وهى تأتى من تلقاء الشيخ! ثم لننظر بعد ذلك الى أسس الاتفاق على تجاوز الازمة عقب مذكرة العشرة وتداعياتها المدمرة، وذلك بعد ان دعا النائب على عثمان مائة وخمسين من القيادات من بينهم رئيس الجمهورية والشيخ الترابى ليشهدوا عهداً جديداً للحركة يصفو فيه المناخ وتطيب فيه النفوس. ثم نقرأكان الأساس للعهد الجديد هو ان يطمئن الرئيس منذ الآن الى انه مرشح المؤتمر الوطنى لرئاسة الجمهورية، فى مقابل تثبيت الشيخ منذ الآن أميناً عاماً للهيئة القيادية). ألم نقل أن الأمر فى المبتدأ والمنتهى لم يجاوز كونه صراعٌ على السلطة وأرائكها، واقتتالٌ على مراكز الحكم وطنافسه؟ ولكن صاحبنا اكثر ذكاءً وأوعر طبعاً فلا يتركنا هنا دون ان يضيف انه (تمت تهيئة الرئيس الذى لا ينشد اكثر مما قدم له)، أما الشيخ الترابى فقد تحفظ على الخطة ومشروع الاتفاق. لماذا؟ (لأنها تصور الخلاف صراعاً بين الكبيرين، وان كليهما قد اهديت له الهدية التى كان يتوخاها). ولا عجب، فالمحبوب فى يده القلم، والذى في يده القلم لا يكتب شيخه شقياً.
(4)
وبمثلما فتشنا فألفينا حب الرئاسة وعشق المناصب رابضاً عند قدمى الاخوة المتصارعين، كذلك وجدنا التكالب المسعور نحو الدينار والدرهم. واللوح لا يبخل علينا بأحوال التعدى الفاضح على المال العام من قبل عضوية الحركة الاسلاموية، وتردد شبهاته فى المركز والأقاليم، لا سيما مع بدايات الجنوح الفوضوى نحو انشاء الشركات العامة الموصولة بأجهزة الدولة. ولا يجد المحبوب حرجاً فى اطلاعنا على حقيقة العدد الكبير من شركات الاستثمار التى استغلت الاموال العامة، على أساس ان يعود بعض ريعها بالفائدة والنفع العام على الحركة الاسلامية. كما لا يستنكف ان يدلنا على التآكل السريع لرؤوس أموال بعض هذه الشركات العامة، واتهامات الفساد التى طفحت داخل التنظيم بعد ان فاحت روائح الفساد وزكمت الانوف، وكيف ان ذلك كله انتهى الى فتح أبواب من أزمات الثقة بين عضوية الحركة. ثم يرفدنا اللوح على حين غرة بهذه العبارة المثيرة الخطرة: (وقد ينجو الجانى بغير عقوبة، ولكن تبقى ثابتةً الريب والجراح التى علقت بالوشائج التى تصله بتنظيمه واخوانه). ويالها من عقوبة قاسية ينالها من تمتد أياديهم الى المال العام فتطالهم تهم النهب والسرقة واللصوصية من صفوف الاسلامويين. ففى هذا التنظيم العقدى الفذ اذا سرق الآخرون أقيمت عليهم حدود الله، أما اذا سرق العضو فكفاه عقوبة ان "تعلق الريب بالوشائج التى تربطه باخوانه من الاعضاء"!
ولكن هناك عاملاً رئيساً يبدو للناظر المحايد وكأنه يتعمد التخفى وراء العديد من مظاهر الصراع وتجلياته. ذلك هو العامل العنصرى العرقى. والذى لا خلاف عليه هو ان حقبة الانقاذ فى السودان تظل من اكثر الحقب إثارة للنعرات العنصرية والاحتقانات العرقية على مستوى الوطن كله. وانت تصيخ السمع فتسمع همهمات، فى شهور الانقلاب وسنيه الاولى، تأتيك من جنبات اللوح، تظهر ضيق بعض الاسلامويين من الانفاق المتزايد على التنمية والخدمات بالاقليم الشمالى ومن الرعاية التى خص بها اللواء الزبير محمد صالح ذلك الاقليم دوناً عن الأقاليم الاخرى، أو كما قيل. وتلحظ بوضوحٍ تام ردة الولاءات فى صفوف أعضاء التنظيم وتراجعها حثيثاً من تخوم العقيدة والمُثل والمبادئ الكلية الى سهول العصبيات القبلية والجهوية، حتى إذا جاءت قسمة المناصب الاتحادية والولائية، كان المنطلق الأساس والسؤال المحورى: أين مكان قبيلتى واين موقع عشيرتى؟! وتقف – أعزك الله - على الاصول العرقية لصراعات السلطة حين ترى فوق اللوح تمترس المستعربين خلف الرئيس البشير ونائبه، لا لشئ الا لأنه تسرّب نبأ فحواه أن الشيخ يزمع ان يقدم لمنصب الرئاسة شخصاً من الغرب الأقصى، من خارج المثلت الشهير! ومالنا والتسريبات والكلام المغطى وبين يدينا جانب من محضر إجتماع عاصف عقد بوزارة الخارجية، تبدّت فيه الوساوس العرقية فى أسوأ تجلياتها، واستعرت الكوابيس الجهوية فى اشنع صورها. وكان القلق قد استبد ببعض المستعربين من بين قادة الانقاذ، بسبب مسارعة المفاوضين المكلفين بملف الحوار مع فصائل الحركة الشعبية الى الموافقة على منح الجنوب حق تقرير المصير، فتناول الكلمة الدكتور الطيب ابراهيم محمد خير، وزير الرئاسة وحاكم دارفور الكبرى لاحقاً، ثم قال بلسان عربى مبين لا عوج فيه "أن وضع ملف الجنوب، كما هو الحال فى الوقت الحاضر، فى يد اثنين من أبناء دارفور، هما العقيد محمد الامين خليفة والدكتور على الحاج محمد ينذر بخطر التضحية بعروبة السودان"! والمعنى فوق جبين الشاعر لا فى بطنه، وهو ان الدكتور على الحاج وصاحبه العقيد محمد الأمين خليفة ليسوا عرباً، بل هما من "الزرقة" الأفارقة الذين لا يجوز ان يستأمنا على عروبة السودان. أرأيت يا هداك الله كيف ضاقت جبة الاسلام بهؤلاء، رغم الشعارات السمحاء، التى تذوب لها المشاعر، والروايات المؤثرة التى تخضل لها اللحى عن الاخوّة فى العقيدة، فلم تسعهم فى نهاية المطاف غير سراويل اللون والعرق والقبيلة؟!
(5)
جزى الله المحبوب كل خير اذ سطّر هذا اللوح المائز وقدمه لبنى وطنه، ينظرون فيه ويتفكرون ويلتمسون من بين سطوره الحكمة والعبرة. ولكننا نأخذ عليه – والصديق من صدق - انه أخفى نفسه كلياً بين ثنايا الاحرف والكلمات، ووارها بين كثيب السطور والفقرات، فما تجد له فى صفحات الكتاب ظلاً ولا ملمحاً. وكأنه لم يكن هناك، يشارك ويعارك، ويخطُّ مع شيخه الخطط ويدبّر التدابير. والاصل فى هذا النوع من الالواح أن تأتى الطروحات فى مسار نقد ذاتى شفاف ينفتح على الداخل بمقدار الانفتاح على الخارج. ثم تُبرز الوقائع والحادثات عاريةً من الحُلل والثياب فيتغشاها التقويم الموضوعى المنفلت عن رغائب النفس. وينبغى ان يطال التقويم شخصية كاتب اللوح نفسه بعد ذلك – حيثما كان موقعه من الأحوال والحادثات- تقويماً يستقيم على جادة التقوى ويتجرد للمساءلة، فيبين مواقفه ويعيّن خطواته ويبرز نتائجها، ثم يرفع للناس حسابه: اين أحسن وأصاب، وأين تنكب الطريق فأخفق فى التعبير عن مبادئه وغاياته. وصاحبى لا يفعل أيا من ذلك، لا فى حالته هو ولا فى حالة شيخه. اذ يقدمه لنا فى صورة مثالية خارقة للعادة لفقيه عابد وقائد وطنى، متجرد من مزالق الهوى، متجانف عن سفاسف السياسة، يسكن قلبه عزة الاسلام وحب السودان. ومثل ميداس فى الاسطورة الاغريقية، الذى كان يلمس الشئ فيستحيل من فوره ذهباً، كان كل ما يمسه الشيخ الترابى بيده من تشريع او قانون او ميثاق او نهج عام او خطة سياسية يستحيل فى لمح البصر الى مناراتٍ سوامق يقتدى بها الناس، فتهديهم الى دروب الحريات والعدالة والديمقراطية وحقوق الانسان. وكل ذلك مما لا يطابق طبائع البشر كما خلقهم الله فى فطرتهم الأولى، ولا يوافق حقائق الأشياء كما انبسطت جزيئاتها امام الكافة.
الحركة الاسلاموية السودانية عند المحبوب مدرسةٌ كبرى، تحيفت دورها كمؤسسة للعلم ووسيط للتربية، وتضعضعت قواعدها، وتحللت ضوابطها، وطاش عيارها، وتفلّت طلابها، وانسخط اساتذتها، فما يقومون الا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس. والمسئولية عن ذلك الانحدار المريع والسقوط الشنيع تقع على عواتق كثيرين. ولكن ناظر المدرسة ومرشدها– فى عقيدة المحبوب - ليس من بين اولئك الذين يُرجى منهم ان يتحملوا نصيبا من المسئولية.
انتهى المحبوب الى كتابين: كتابٌ أبيض، هو كتاب الفرقة الناجية، التى استعصمت بقبة المنشية الخضراء، وكتابٌ أسود هو كتاب الفرقة الباغية التى خرجت على شيخها، ثم تمترست فى قبة غردون البيضاء. وما هكذا تورد إبل النقد الذاتى. النقد الذاتى شئ، و(المانيفستو) السياسى شئ آخر. ولكننا نشهد بأن المحبوب قد أفرغ وسعه وأكمل لوحه، بنيةٍ صادقة وقلبٍ سليم، فسدّد ورمى، وأصاب وأخطأ. فنال الاجرين حيثما أصاب، ونال الأجر الواحد أينما أخطأ. والله نسأل أن يثيبه أجزل المثوبة وهو يرفع حسابه الى عشيرته الاسلاموية والى شعبه الطيب.
متابعات ومراجعات
وردت ضمن الحلقة الاولى من هذا العرض لكتاب الاستاذ المحبوب عبد السلام اشارة لحديث زعمت أن الدكتور حسن الترابى ادلى به أمام الحشد بمقر القاعة الملكية للآداب والفنون بلندن، بتاريخ السابع والعشرين من ابريل ١٩٩٢، رداً على المحامى الاستاذ عبد الباقى الريح، الذى كان قد وقد واجه الدكتور الترابى، ثم نزع أمام الحاضرين ساقة الاصطناعية، بعد بتر ساقه نتيجة لعمليات التعذيب التى تعرض لها اثناء فترة اعتقاله فى مبنى حكومى بالخرطوم شرق كان يقطنه فى السابق اللواء خالد حسن عباس. والعبارة التى أوردتها على لسان الشيخ الترابى هى: (الرجل كاذب، فليس عندنا بيوت أشباح ولا من يعذب الناس، وانما هى الدعاية المغرضة. بل قطع الاطباء قدمه لأنه مُعتل بداء السكر). الحقيقة هى ان هذه العبارة لم ترد على لسان الدكتور الترابى ضمن رده المباشر على المحامى عبدالباقى الريح فى مقر الجمعية الملكية، بل ادلى بها الشيخ امام جمع من الصحافيين أثناء حفل عشاء عقب اللقاء الحاشد. كما أعاد الشيخ تكرار ذات العبارة فى شكل تصريح صحفى لمندوبى صحيفتين هما الفاينانيشال تايمز الامريكية والغارديان البريطانية، وقد نشرتهما الصحيفتان بذات النص اعلاه فى اليوم التالى مباشرةً. كما اعادت نشر تصريح الدكتور الترابى المشار اليه كل من نشرة "سودان أبديت" ونشرة "آفريكا كونفيدينشيال" اللندنية فى نفس الاسبوع. أما نص رد الترابى على المحامى عبد الباقى الريح بمقر القاعة الملكية فقد كان كالآتى: ( ان صح ما ذكره هذا الشخص فهذا ليس من الاسلام).
نصوص خارج السياق
"سيكون التاريخ رؤوفاً بي لأنني أنا الذي سيكتبه"
(ونستون تشرشل)
الراكوبة
nashi- مشرف المنتدى الرياضى
رد: المسيح المصلوب فى لوح المحبوب: الحركة الاسلامية، دائرة الضوء وخيوط الظلام
دكتورة ما شاء الله عليك ,,, والله ما انتهينا من اللوح الأول للمحبوب عبد السلام تجينا باللوح التاني ..لكن صراحة الحركة الإسلامية السودانية لها" فلسفة أخطبوطية كما ورد في اللوح الأول " وذلك في التعامل مع أعضاءها فالعقديون لهم راي في غيرهم من حكماء المبادئ .......أنا حأطبع الكل واكيد سنستوعب الألواح ولن نرميها ...وحتماً سنستفيد......
الفاتح محمد التوم- مشرف المنتدى السياسى
رد: المسيح المصلوب فى لوح المحبوب: الحركة الاسلامية، دائرة الضوء وخيوط الظلام
الشكر الجزيل لك يادكتورة نرجوا المواصلة لان الكتاب محظور دخوله للسودان.
الفاتح- نشط ثلاثة نجوم
رد: المسيح المصلوب فى لوح المحبوب: الحركة الاسلامية، دائرة الضوء وخيوط الظلام
سلام اخي الفاتح
ان شاء الله
ان شاء الله
nashi- مشرف المنتدى الرياضى
رد: المسيح المصلوب فى لوح المحبوب: الحركة الاسلامية، دائرة الضوء وخيوط الظلام
أهلاً أختي ...
قريت كتير بس ما خلصت من اللوحين...
قريت كتير بس ما خلصت من اللوحين...
الفاتح محمد التوم- مشرف المنتدى السياسى
من أجمل ما قرأت في حياتي
ابنتي إحسان هذا الموضوع لم يذكرني إلا كتابات صلاح أحمد إبراهيم عن النمرود جعفر النميري... وهنالك جوانب كثيرة لم يتطرق إليها الكاتب لأنه يبدو أن المحبوب لم يتطرق لها تمس المال العام وتصفية الآخرين ولكن الأيام ستكشف كل فعايل حسن الترابي وابنه عصام ومن استنفعوا بالتزلف إليه... انظري كيف يملك كاتب المقال ناصية المنطق وجمال ورصانة اللغة.. رفعوا أيديهم عن قتل محمود ومجدي وجرجس وداوود يحي وحتى شهداء الجنوب قال الشيخ أنهم فطايس انظري على التعتيم... لقد فند الكاتب ما كتبه المحبوب كما يفند المعلم موضوع إنشاء لتلميذ ونال المحبوب شهادة راسب بجدارة أو على الأقل أعد كتابة الموضوع مثلما يعيد تلميذ درس الاملاء حينما تصبح الأخطاء أكثر من العلامة الكاملة للإملاء وإن كانت أخطاء المحبوب متعمدة وليس للجهل بقواعد وأخلاق مهنة كتابة التاريخ حينما حاد عن الحقيقة ..إنها النفس البشرية الأمارة بالسوء حينما تعرو من الصدق والمروءة وتتنصل عن الإيمان وتتبع الهوى فتهوي كالذي تهوي به الريح في مكان سحيق..أمثال المحبوب عبدالسلام لن يرقوا لأن يكونوا كتبة في التاريخ فضلاً عن أن يكونوا كتاباً للتاريخ
شكراً إحسان.
شكراً إحسان.
عدل سابقا من قبل خدورة أم بشق في 4th مارس 2010, 08:44 عدل 1 مرات
خدورة أم بشق- مشرف منتدى الشعر
رد: المسيح المصلوب فى لوح المحبوب: الحركة الاسلامية، دائرة الضوء وخيوط الظلام
إلحاقاً لتعليقي أمثال المحبوب لا يرقوا أن يكونوا كتبة في التاريخ فضلاً عن أن يكونوا كتاباً للتاريخ!!!
خدورة أم بشق- مشرف منتدى الشعر
رد: المسيح المصلوب فى لوح المحبوب: الحركة الاسلامية، دائرة الضوء وخيوط الظلام
النقر .. ما تخاف , النوبة مقدودة و دقاقها عود نيم ...." حيمضغو ناشف"
الفاتح محمد التوم- مشرف المنتدى السياسى
رد: المسيح المصلوب فى لوح المحبوب: الحركة الاسلامية، دائرة الضوء وخيوط الظلام
مشكورين للمرور زالتشريف
عمو فضل - الاخ/ الفاتح- النقر
---------------------------------
توقعت تفاعل اكبر مع البوست!
عمو فضل - الاخ/ الفاتح- النقر
---------------------------------
توقعت تفاعل اكبر مع البوست!
nashi- مشرف المنتدى الرياضى
رد: المسيح المصلوب فى لوح المحبوب: الحركة الاسلامية، دائرة الضوء وخيوط الظلام
في تأملات المحبوب في كسب الحركة الإسلامية في السودان ..
تاريخ رسمي أم "نعي أليم"؟
د. عبدالوهاب الأفندي
قال لي الشيخ حسن الترابي مرة وهو يذكر الأخ المحبوب عبدالسلام فيما يشبه الإشادة –ونادراً ما يجود الشيخ بالإشادة في حق شخص- أن المحبوب أقدر الناس على التعبير عن أفكاره. وأضاف إنه كثيراً ما يعهد إلى المحبوب بتناول بعض الأمور كتابةً نيابة عنه، حتى إذا سطر نص الخطاب أو الموضوعة ونظر فيه فنادراً ما يحتاج إلى تغيير كلمة أو جملة فيما سطر. ولا شك أن من يطالع كتاب المحبوب الذي صدر مطلع هذا العام عن دار مدارك السودانية بعنوان "الحركة الإسلامية السودانية: دائرة الضوء- خيوط الظلام" يصعب عليه أن يحدد أي الرجلين سطر حروف هذا الكتاب. وليس هذا فقط لأن المحبوب قدم رواية لتاريخ الحركة من منظور شيخه، بل كذلك لاستخدامه اللغة العربية الجزلة التي تميزت بها كتابات الشيخ الترابي.
كثيرون ممن تابعوا انتاج الترابي الفكري يغيب عنهم أن الرجل ليس مناضلاً فقط في المجال السياسي أو مفكراً في أمور الدين، بل هو كذلك مناضل شرس عن اللغة العربية، وداعية إلى تجديدها وإثرائها. ولهذا فإنه يحاول أن يجسد هذا النهج في كتاباته وخطابه السياسي والديني. ويتعمد الترابي أن يكتب باللغة العربية كما لو أنه لم يتعلم أو يقرأ غيرها، ويجتهد في اشتقاق مصطلحات جديدة تكتسب معانيها مباشرة من المعاني المتعارفة تراثياً، رافضاً في ذلك (باحتقار) بعض المصطلحات التي تأتي بمثابة ترجمة مباشرة لمصطلحات غربية بدون أن يكون لها عمق تراثي. فهو على سبيل المثال يستخدم مصطلح "الكسب" بديلاً ل "الإنجاز"، و "التوكل" بدل "المغامرة"، و "التوالي السياسي" عوضاً عن "التنظيم السياسي"، وقس على ذلك. وقد اقتفى المحبوب آثار شيخه في هذا السفر فأبدع وأمتع في غالب الأحيان، وأثار الضيق في بعضها حين لامس التنطع.
ولكن اللغة ليست موضوعنا اليوم، وإنما مضمون ما سطره المحبوب، وهو يعتبر بحق إضافة حقيقية إلى ما كتب عن الحركة الإسلامية، ولعله أول تاريخ شبه رسمي لعشرية الإنقاذ الأولى يأتي من شخص كان في قلب الحدث، وعلى متابعة لصيقة بكل القرارات الهامة التي صدرت، وملابساتها ومبرراتها. ولا بد أن أعترف هنا بأنني، رغم أنني كنت أرى نفسي من المتابعين عن قرب لما كان يجري، استقيت من الكتاب معلومات جديدة في أكثر من باب. وإن كان يؤخذ على صاحبنا أنه يغفل تحديد التواريخ الدقيقة للأحداث، ويخطئ في بعضها (اتفاقية فرانكفورت وقعت في مطلع عام 1992 وليس الذي يليه، ومذكرة العشرة لم تقدم في ديسمبر 1999).
وفوق أن الكتاب يقدم المعلومات، فإنه كذلك يقدم المبررات. فالكتاب يسطر تاريخ الإنقاذ من وجهة نظر صناعها، ولهذا فإن كل قرارات الإنقاذ تطرح ومعها مبرراتها التي ساقها صناع تلك القرارات، بحيث يتعدى الأمر تقرير الحقائق والوقائع إلى دفاع مبطن أو ظاهر عن كل خطوة اتخذتها قيادة الحركة الإسلامية. فالمصالحة مع الرئيس النميري قرار حكيم (وإن كان فرض على الحركة من الصادق المهدي) كانت له بركاته على الحركة والبلاد، أما انقلاب يونيو 1989 جاء لإنقاذ البلاد من تدهور مريع وضعها على حافة الكارثة. وإذا دلفنا إلى مؤتمرات الحوار التي عقدتها الحكومة فقد كانت منابر لا مثيل للحوار الحر والتواصل بين النخبة في المجتمع بدون أدني تدخل من الحكومة. أما نظام المؤتمرات الذي أعلنته الإنقاذ وعاءً وحيداً للتوالي السياسي فقد استقبلته "كل ولايات السودان بحماس وتفاعل". ولا ينسى أن وجود هذه الولايات ونظام الحكم المحلي والفدرالي فقد كان فتحاً مبيناً في نقل السلطة إلى الجماهير، سوى بعض تعقيدات مثل دور المحافظين الملتبس إدارياً. وقس على ذلك.
ولكن هناك أيضاً رواية موازية، تقسم اللاعبين وأبطال القصة ضمناً (كما أشار عدد من المعلقين) إلى فسطاطين: أحدهما معسكر الأشرار بقيادة نائب الأمين العام (علي عثمان محمد طه) وبدعم من رئاسة الجمهورية، والآخر معسكر الأخيار، بقيادة الأمين العام (الشيخ الترابي) ومعاونيه المقربين. ويكاد الكتاب يعيد تفسير تاريخ الإنقاذ بحيث تصبح كل تصرفات نائب العام موضع شبهة وخاضعة لأسوأ التأويلات، حتى قبل أن يظهر الخلاف، كما أن كل ما أتاه معسكر الشيخ خلا من كل شبهة خطأ. أما الصراع بين الطرفين فقد كان محوره إصرار معسكر الشيخ على بسط الديمقراطية وإعادة السلطة للشعب، وتمسك الأمين العام وشيعته باحتكار السلطة بعد أن أغواهم بريقها.
وهناك أكثر من قراءة ممكنة لسفر المحبوب، كلها تبعث في نفس القارئ الحادب على الإسلام ونهجه نوعاً مختلفاً من الأسى. فمن الممكن أن يقرأ قارئ الكتاب تماماً كما أراد له المحبوب أن يقرأ، فيرى أن الحركة الإسلامية السودانية بقيادة شيخها قد حققت إنجازات عظيمة للبلاد، بداية بتطوير نفسها من حركة صفوية صغيرة إلى حركة جماهيرية فاعلة، ثم وثبتها إلى السلطة في لحظة حرجة لإنقاذ البلاد من الفوضى والانهيار، والتحرك وفق نهج مدروس نحو تحقيق السلام وإبداع نظام سياسي فريد يناسب أوضاع البلاد، مخالفاً للحزبية النازعة نحو الفوضى والدكتاتورية القابضة، وإصلاح الاقتصاد جذرياً عبر التحرير والأسلمة ثم استخراج النفط، وأخيراً تطبيق النظام الفدرالي وإقرار دستور لا سابقة له في شموله ومناسبته لأوضاع البلاد. ولكن مسيرة الإنقاذ القاصدة (وهذا مصطلح آخر من إبداع الشيخ) تعثرت لأن قلة من القيادات، هم ثلة من العسكريين وقليل من المدنيين، تمردوا على نهجها القويم، وانقلبوا عليها بعد أن ملكتهم غواية السلطة. وقد انحاز إلى هؤلاء غالبية أعضاء الحركة الإسلامية وأنصار الإنقاذ، لأنهم مثلهم غرتهم الحياة الدنيا، فاختاروا المصالح على المبادئ والفانية على الباقية.
هذه قراءة مؤلمة، تخبرنا أن الحركة الإسلامية السودانية سقطت عند أول امتحان، وفتنت غالبية عضويتها بالدنيا، وكان تمسكها بالدين والمبادئ هشاً لا يرقى لالتزام بعض الأحزاب العلمانية وحتى اللادينية، التي تمسك أعضاؤها بمبادئهم، ولم تلن قناتهم لإغراءت السلطة ولم يخوفهم إرهابها. وهذه بلا شك إدانة شاملة للحركة الإسلامية ولقياداتها التي عجزت عن تلافي هذه الكارثة.
هناك قراءة أخرى قد ترى في الكتاب منشوراً حزبياً يعيد كتابة التاريخ من وجهة نظر فريق واحد، فيبرئ هذا الفريق من كل إثم، ويدمغ مخالفيه بكل نقيصة، ويشكك في كل تصرف قاموا به، ولا يعترف بأن الخصوم قد يكونوا اجتهدوا كما اجتهد، فلهم أجرهم إن أخطأوا أو أصابوا. وهذه أيضاً قراءة مؤلمة وباعثة على أسف كثير.
هناك قراءة ثالثة، تعترف للكاتب وفريقه بالصدق والاجتهاد، وترى في الرواية تعبيراً جاداً عن رؤية وقناعات هذا الفريق، وأنه ظل، رغم كل ما حدث والشواهد الكثيرة، مقتنعاً بصواب موقفه، مؤيداً لسابق تصرفاته بحيث يرى أنه لو استقبل ما استدبر فإنه لن يغير شيئاً في أفعاله وأقواله، سوى أنه كان سيتخلص مبكراً من قادة الفريق المفارق المكابر. ولعل هذه تكون أكثر القراءات مأساوية، لأنها إن صحت تؤكد أن الكاتب ومن معه كانوا ولا يزالون يعيشون في كوكب آخر غير الذي يسكنه بقية البشر.
هناك إشارتان في الكتاب قد تدعمان هذه القراءة، أولاهما إشارة عابرة في موضعين لقضية النازحين من سكان أكواخ الصفيح في العاصمة السودانية. في الإشارة الأولى، يتحدث الكاتب عن تكثيف العمل الطوعي في أول عهد الثورة "برعاية مباشرة من نائب رئيس الثورة" باتجاه "تأهيل النازحين واستيعابهم في الأحزمة المحيطة بالمدن" حيث "أصبحت الإغاثة والسياسة في تلك الأطراف من عمل طاقم الحركة الذي نشط في ظروف العسرة والمشقة واحتمل ذلك بنية تخلص لحماية المشروع الإسلامي." (ص 128). وفي موضع آخر يطرق الكاتب نفس الموضوع في سياق رواية لصراع احتدم بين والي الخرطوم د. مجذوب الخليفة، ووزير الإسكان فيها د. شرف الدين بانقا، محوره كما يقول الكاتب اعتراض الأول على سياسة الثاني الرامية لإسكان النازحين.
في كلا الإشارتين طرح الموضوع كما لو كان الأمر يتعلق بمسائل عادية تتعلق بالنشاط الإغاثي لدعم واستقطاب النازحين وتزويدهم بالمساكن، لولا اعتراضات والي الخرطوم الأسبق عليه رحمة الله. ويبدو أن أخانا المحبوب لم يكن معنا على هذا الكوكب حين ثارت تلك الضجة في شتاء عام 1991 حول قيام بانقا بترحيل عشرات الآلاف من سكان مدن الصفيح قسراً إلى فضاء قفر عند تخوم العاصمة القصية، بدون مأوى أو أغطية تسترهم من البرد، حتى اضطر البعض إلى حفر الأرض علهم يتقوا البرد داخل قبور للأحياء. وقد كانت هذه الضجة إحدى عوامل إفشال زيارة الترابي إلى لندن في ربيع عام 1992، لأن الحوار بينه وبين المسؤولين البريطانيين لم يتمكن من تجاوز الحديث حول هذه القضية. ولكن الكاتب لا يكاد يذكر في إشاراته العابرة هذه المحنة الكبرى التي مست حياة مئات الآلاف وولدت الكثير من الضغائن والشعور بالظلم، وشوهت صورة السودان دولياً، بل لا يرى فيها إلا ما يصفه بتفاني كوادر الإسلاميين في الإغاثة، وهمة أعضاء معسكر الشيخ في الإغداق على النازحين، لولا تدخلات الوالي المنتمي للمعسكر الآخر.
هناك إشارة عابرة أخرى في الكتاب لممارسة التعذيب في حق المعتقلين، وحتى الفتوى الدينية بجوازه، إضافة إلى احتجاز المعتقلين السياسيين في مواقع غير رسمية سمتها المعارضة "بيوت الأشباح". ويتحدث الكتاب عن تولي عناصر من الاستخبارات العسكرية كبر هذه الممارسات، مع مشاركة "عناصر من أبناء الحركة الإسلامية"، أحياناً في حضور "الكبار من العسكريين الملتزمين وقادة أجهزة الحركة الخاصة". وقد "تناهت الأنباء المفزعة للصفوف الوسيطة في الحركة من الأقرباء والأصدقاء، وبلغت أعضاء في مجلس الثورة، لا سيمها في لقاءاتهم... في رحلاتهم الخارجية." وقد استنكرت هذه الممارسات "فئة من أبناء الحركة، واعترضت عليها بالصوت العالي داخل أجهزة الحركة."
مرة أخرى لا يسعنا إلا أن نتساءل: أي كوكب هذا الذي لا يسمع فيه كبار المسؤولين وقيادات الحركة الوسيطة بتجاوزات بهذا الحجم، سارت بها الركبان، ودأبت على بثها الصحف العربية والإذاعات الدولية، لا يسمعون بها عبر الأصدقاء أو حين يلتقون السودانيين في الخارج؟ هل هم صم بكم عمي فهم لا يعقلون؟ ومن أين إذن جاء "كبار العسكريين" وغيرهم من الكوادر التي مارست التعذيب، وبأي سلطة؟ وكيف يتم الاعتراض على هذه الممارسات داخل مؤسسات الحركة الإسلامية من قبل "البعض" فقط دون أن تتم مساءلة من اجترحوا هذه الممارسات ومعاقبتهم؟ ثم ألا يعني طرح هذه الأمور من قبل "البعض" داخل مؤسسات الحركة أن الآخرين داخل قيادة الحركة لم يقبلوا هذا الطرح، مما يعني عملياً أن أطر الحركة أقرت هذه الممارسات؟ ثم ألا يمكن أن نستنتج من هذا أن قيادات الحركة كانت على علم مسبق بتلك الممارسات، وهي التي تعين هؤلاء المسؤولين؟
ولكن الأغرب من هذا أن يردد هذا الكلام بعد أكثر من عشرين عاماً على قيام حكم الإنقاذ، كما لو كان رواية مقنعة لما حدث، أو باعتبارها تبرئ البعض، خاصة من كانوا على قمة هرم السلطة، من المسؤولية عن كبائر ارتكبت من قبل كبار المسؤولين، ثم "سمع" بها هؤلاء كم يسمع العابرون بأخبار حوادث الطرق في المدن النائية.
أتوقف هنا لأن المساحة محدودة، ولكنا ننوي العودة إلى الاسترسال في مناقشة هذا السفر الهام الذي يكشف عن حقبة الإنقاذ الأولى بما سكت عنه أكثر مما يكشف بما روى، وقد يفسر على أنه نعي للحركة الإسلامية أكثر مما هو تاريخ شبه رسمي لها.
القدس العربي
تاريخ رسمي أم "نعي أليم"؟
د. عبدالوهاب الأفندي
قال لي الشيخ حسن الترابي مرة وهو يذكر الأخ المحبوب عبدالسلام فيما يشبه الإشادة –ونادراً ما يجود الشيخ بالإشادة في حق شخص- أن المحبوب أقدر الناس على التعبير عن أفكاره. وأضاف إنه كثيراً ما يعهد إلى المحبوب بتناول بعض الأمور كتابةً نيابة عنه، حتى إذا سطر نص الخطاب أو الموضوعة ونظر فيه فنادراً ما يحتاج إلى تغيير كلمة أو جملة فيما سطر. ولا شك أن من يطالع كتاب المحبوب الذي صدر مطلع هذا العام عن دار مدارك السودانية بعنوان "الحركة الإسلامية السودانية: دائرة الضوء- خيوط الظلام" يصعب عليه أن يحدد أي الرجلين سطر حروف هذا الكتاب. وليس هذا فقط لأن المحبوب قدم رواية لتاريخ الحركة من منظور شيخه، بل كذلك لاستخدامه اللغة العربية الجزلة التي تميزت بها كتابات الشيخ الترابي.
كثيرون ممن تابعوا انتاج الترابي الفكري يغيب عنهم أن الرجل ليس مناضلاً فقط في المجال السياسي أو مفكراً في أمور الدين، بل هو كذلك مناضل شرس عن اللغة العربية، وداعية إلى تجديدها وإثرائها. ولهذا فإنه يحاول أن يجسد هذا النهج في كتاباته وخطابه السياسي والديني. ويتعمد الترابي أن يكتب باللغة العربية كما لو أنه لم يتعلم أو يقرأ غيرها، ويجتهد في اشتقاق مصطلحات جديدة تكتسب معانيها مباشرة من المعاني المتعارفة تراثياً، رافضاً في ذلك (باحتقار) بعض المصطلحات التي تأتي بمثابة ترجمة مباشرة لمصطلحات غربية بدون أن يكون لها عمق تراثي. فهو على سبيل المثال يستخدم مصطلح "الكسب" بديلاً ل "الإنجاز"، و "التوكل" بدل "المغامرة"، و "التوالي السياسي" عوضاً عن "التنظيم السياسي"، وقس على ذلك. وقد اقتفى المحبوب آثار شيخه في هذا السفر فأبدع وأمتع في غالب الأحيان، وأثار الضيق في بعضها حين لامس التنطع.
ولكن اللغة ليست موضوعنا اليوم، وإنما مضمون ما سطره المحبوب، وهو يعتبر بحق إضافة حقيقية إلى ما كتب عن الحركة الإسلامية، ولعله أول تاريخ شبه رسمي لعشرية الإنقاذ الأولى يأتي من شخص كان في قلب الحدث، وعلى متابعة لصيقة بكل القرارات الهامة التي صدرت، وملابساتها ومبرراتها. ولا بد أن أعترف هنا بأنني، رغم أنني كنت أرى نفسي من المتابعين عن قرب لما كان يجري، استقيت من الكتاب معلومات جديدة في أكثر من باب. وإن كان يؤخذ على صاحبنا أنه يغفل تحديد التواريخ الدقيقة للأحداث، ويخطئ في بعضها (اتفاقية فرانكفورت وقعت في مطلع عام 1992 وليس الذي يليه، ومذكرة العشرة لم تقدم في ديسمبر 1999).
وفوق أن الكتاب يقدم المعلومات، فإنه كذلك يقدم المبررات. فالكتاب يسطر تاريخ الإنقاذ من وجهة نظر صناعها، ولهذا فإن كل قرارات الإنقاذ تطرح ومعها مبرراتها التي ساقها صناع تلك القرارات، بحيث يتعدى الأمر تقرير الحقائق والوقائع إلى دفاع مبطن أو ظاهر عن كل خطوة اتخذتها قيادة الحركة الإسلامية. فالمصالحة مع الرئيس النميري قرار حكيم (وإن كان فرض على الحركة من الصادق المهدي) كانت له بركاته على الحركة والبلاد، أما انقلاب يونيو 1989 جاء لإنقاذ البلاد من تدهور مريع وضعها على حافة الكارثة. وإذا دلفنا إلى مؤتمرات الحوار التي عقدتها الحكومة فقد كانت منابر لا مثيل للحوار الحر والتواصل بين النخبة في المجتمع بدون أدني تدخل من الحكومة. أما نظام المؤتمرات الذي أعلنته الإنقاذ وعاءً وحيداً للتوالي السياسي فقد استقبلته "كل ولايات السودان بحماس وتفاعل". ولا ينسى أن وجود هذه الولايات ونظام الحكم المحلي والفدرالي فقد كان فتحاً مبيناً في نقل السلطة إلى الجماهير، سوى بعض تعقيدات مثل دور المحافظين الملتبس إدارياً. وقس على ذلك.
ولكن هناك أيضاً رواية موازية، تقسم اللاعبين وأبطال القصة ضمناً (كما أشار عدد من المعلقين) إلى فسطاطين: أحدهما معسكر الأشرار بقيادة نائب الأمين العام (علي عثمان محمد طه) وبدعم من رئاسة الجمهورية، والآخر معسكر الأخيار، بقيادة الأمين العام (الشيخ الترابي) ومعاونيه المقربين. ويكاد الكتاب يعيد تفسير تاريخ الإنقاذ بحيث تصبح كل تصرفات نائب العام موضع شبهة وخاضعة لأسوأ التأويلات، حتى قبل أن يظهر الخلاف، كما أن كل ما أتاه معسكر الشيخ خلا من كل شبهة خطأ. أما الصراع بين الطرفين فقد كان محوره إصرار معسكر الشيخ على بسط الديمقراطية وإعادة السلطة للشعب، وتمسك الأمين العام وشيعته باحتكار السلطة بعد أن أغواهم بريقها.
وهناك أكثر من قراءة ممكنة لسفر المحبوب، كلها تبعث في نفس القارئ الحادب على الإسلام ونهجه نوعاً مختلفاً من الأسى. فمن الممكن أن يقرأ قارئ الكتاب تماماً كما أراد له المحبوب أن يقرأ، فيرى أن الحركة الإسلامية السودانية بقيادة شيخها قد حققت إنجازات عظيمة للبلاد، بداية بتطوير نفسها من حركة صفوية صغيرة إلى حركة جماهيرية فاعلة، ثم وثبتها إلى السلطة في لحظة حرجة لإنقاذ البلاد من الفوضى والانهيار، والتحرك وفق نهج مدروس نحو تحقيق السلام وإبداع نظام سياسي فريد يناسب أوضاع البلاد، مخالفاً للحزبية النازعة نحو الفوضى والدكتاتورية القابضة، وإصلاح الاقتصاد جذرياً عبر التحرير والأسلمة ثم استخراج النفط، وأخيراً تطبيق النظام الفدرالي وإقرار دستور لا سابقة له في شموله ومناسبته لأوضاع البلاد. ولكن مسيرة الإنقاذ القاصدة (وهذا مصطلح آخر من إبداع الشيخ) تعثرت لأن قلة من القيادات، هم ثلة من العسكريين وقليل من المدنيين، تمردوا على نهجها القويم، وانقلبوا عليها بعد أن ملكتهم غواية السلطة. وقد انحاز إلى هؤلاء غالبية أعضاء الحركة الإسلامية وأنصار الإنقاذ، لأنهم مثلهم غرتهم الحياة الدنيا، فاختاروا المصالح على المبادئ والفانية على الباقية.
هذه قراءة مؤلمة، تخبرنا أن الحركة الإسلامية السودانية سقطت عند أول امتحان، وفتنت غالبية عضويتها بالدنيا، وكان تمسكها بالدين والمبادئ هشاً لا يرقى لالتزام بعض الأحزاب العلمانية وحتى اللادينية، التي تمسك أعضاؤها بمبادئهم، ولم تلن قناتهم لإغراءت السلطة ولم يخوفهم إرهابها. وهذه بلا شك إدانة شاملة للحركة الإسلامية ولقياداتها التي عجزت عن تلافي هذه الكارثة.
هناك قراءة أخرى قد ترى في الكتاب منشوراً حزبياً يعيد كتابة التاريخ من وجهة نظر فريق واحد، فيبرئ هذا الفريق من كل إثم، ويدمغ مخالفيه بكل نقيصة، ويشكك في كل تصرف قاموا به، ولا يعترف بأن الخصوم قد يكونوا اجتهدوا كما اجتهد، فلهم أجرهم إن أخطأوا أو أصابوا. وهذه أيضاً قراءة مؤلمة وباعثة على أسف كثير.
هناك قراءة ثالثة، تعترف للكاتب وفريقه بالصدق والاجتهاد، وترى في الرواية تعبيراً جاداً عن رؤية وقناعات هذا الفريق، وأنه ظل، رغم كل ما حدث والشواهد الكثيرة، مقتنعاً بصواب موقفه، مؤيداً لسابق تصرفاته بحيث يرى أنه لو استقبل ما استدبر فإنه لن يغير شيئاً في أفعاله وأقواله، سوى أنه كان سيتخلص مبكراً من قادة الفريق المفارق المكابر. ولعل هذه تكون أكثر القراءات مأساوية، لأنها إن صحت تؤكد أن الكاتب ومن معه كانوا ولا يزالون يعيشون في كوكب آخر غير الذي يسكنه بقية البشر.
هناك إشارتان في الكتاب قد تدعمان هذه القراءة، أولاهما إشارة عابرة في موضعين لقضية النازحين من سكان أكواخ الصفيح في العاصمة السودانية. في الإشارة الأولى، يتحدث الكاتب عن تكثيف العمل الطوعي في أول عهد الثورة "برعاية مباشرة من نائب رئيس الثورة" باتجاه "تأهيل النازحين واستيعابهم في الأحزمة المحيطة بالمدن" حيث "أصبحت الإغاثة والسياسة في تلك الأطراف من عمل طاقم الحركة الذي نشط في ظروف العسرة والمشقة واحتمل ذلك بنية تخلص لحماية المشروع الإسلامي." (ص 128). وفي موضع آخر يطرق الكاتب نفس الموضوع في سياق رواية لصراع احتدم بين والي الخرطوم د. مجذوب الخليفة، ووزير الإسكان فيها د. شرف الدين بانقا، محوره كما يقول الكاتب اعتراض الأول على سياسة الثاني الرامية لإسكان النازحين.
في كلا الإشارتين طرح الموضوع كما لو كان الأمر يتعلق بمسائل عادية تتعلق بالنشاط الإغاثي لدعم واستقطاب النازحين وتزويدهم بالمساكن، لولا اعتراضات والي الخرطوم الأسبق عليه رحمة الله. ويبدو أن أخانا المحبوب لم يكن معنا على هذا الكوكب حين ثارت تلك الضجة في شتاء عام 1991 حول قيام بانقا بترحيل عشرات الآلاف من سكان مدن الصفيح قسراً إلى فضاء قفر عند تخوم العاصمة القصية، بدون مأوى أو أغطية تسترهم من البرد، حتى اضطر البعض إلى حفر الأرض علهم يتقوا البرد داخل قبور للأحياء. وقد كانت هذه الضجة إحدى عوامل إفشال زيارة الترابي إلى لندن في ربيع عام 1992، لأن الحوار بينه وبين المسؤولين البريطانيين لم يتمكن من تجاوز الحديث حول هذه القضية. ولكن الكاتب لا يكاد يذكر في إشاراته العابرة هذه المحنة الكبرى التي مست حياة مئات الآلاف وولدت الكثير من الضغائن والشعور بالظلم، وشوهت صورة السودان دولياً، بل لا يرى فيها إلا ما يصفه بتفاني كوادر الإسلاميين في الإغاثة، وهمة أعضاء معسكر الشيخ في الإغداق على النازحين، لولا تدخلات الوالي المنتمي للمعسكر الآخر.
هناك إشارة عابرة أخرى في الكتاب لممارسة التعذيب في حق المعتقلين، وحتى الفتوى الدينية بجوازه، إضافة إلى احتجاز المعتقلين السياسيين في مواقع غير رسمية سمتها المعارضة "بيوت الأشباح". ويتحدث الكتاب عن تولي عناصر من الاستخبارات العسكرية كبر هذه الممارسات، مع مشاركة "عناصر من أبناء الحركة الإسلامية"، أحياناً في حضور "الكبار من العسكريين الملتزمين وقادة أجهزة الحركة الخاصة". وقد "تناهت الأنباء المفزعة للصفوف الوسيطة في الحركة من الأقرباء والأصدقاء، وبلغت أعضاء في مجلس الثورة، لا سيمها في لقاءاتهم... في رحلاتهم الخارجية." وقد استنكرت هذه الممارسات "فئة من أبناء الحركة، واعترضت عليها بالصوت العالي داخل أجهزة الحركة."
مرة أخرى لا يسعنا إلا أن نتساءل: أي كوكب هذا الذي لا يسمع فيه كبار المسؤولين وقيادات الحركة الوسيطة بتجاوزات بهذا الحجم، سارت بها الركبان، ودأبت على بثها الصحف العربية والإذاعات الدولية، لا يسمعون بها عبر الأصدقاء أو حين يلتقون السودانيين في الخارج؟ هل هم صم بكم عمي فهم لا يعقلون؟ ومن أين إذن جاء "كبار العسكريين" وغيرهم من الكوادر التي مارست التعذيب، وبأي سلطة؟ وكيف يتم الاعتراض على هذه الممارسات داخل مؤسسات الحركة الإسلامية من قبل "البعض" فقط دون أن تتم مساءلة من اجترحوا هذه الممارسات ومعاقبتهم؟ ثم ألا يعني طرح هذه الأمور من قبل "البعض" داخل مؤسسات الحركة أن الآخرين داخل قيادة الحركة لم يقبلوا هذا الطرح، مما يعني عملياً أن أطر الحركة أقرت هذه الممارسات؟ ثم ألا يمكن أن نستنتج من هذا أن قيادات الحركة كانت على علم مسبق بتلك الممارسات، وهي التي تعين هؤلاء المسؤولين؟
ولكن الأغرب من هذا أن يردد هذا الكلام بعد أكثر من عشرين عاماً على قيام حكم الإنقاذ، كما لو كان رواية مقنعة لما حدث، أو باعتبارها تبرئ البعض، خاصة من كانوا على قمة هرم السلطة، من المسؤولية عن كبائر ارتكبت من قبل كبار المسؤولين، ثم "سمع" بها هؤلاء كم يسمع العابرون بأخبار حوادث الطرق في المدن النائية.
أتوقف هنا لأن المساحة محدودة، ولكنا ننوي العودة إلى الاسترسال في مناقشة هذا السفر الهام الذي يكشف عن حقبة الإنقاذ الأولى بما سكت عنه أكثر مما يكشف بما روى، وقد يفسر على أنه نعي للحركة الإسلامية أكثر مما هو تاريخ شبه رسمي لها.
القدس العربي
nashi- مشرف المنتدى الرياضى
رد: المسيح المصلوب فى لوح المحبوب: الحركة الاسلامية، دائرة الضوء وخيوط الظلام
لماذا لم يتطرق للمحسوبية التي تدثرت بثوب التمكين وبالتحديد ماكان يقوم به عصام الترابي من سرقة ونهب المال العام واحتكار التوريد والتصدير في سلع ضرورية كالسكر والأسمنت لماذا لم يتكلو عن المال العام الذي بدده الشيخ من بنوك الدولة أقلها 90 مليون دفعت لرئيس تحرير صحيفة ألوان عام 1991 وهي تمثل أكثر من 7 مليون دولار في تلك الحقبة.. لماذا لم يتكلم عن تصفية الزبير محمد صالح بعد عودته من مصر ولقاء حسني مبارك.. لماذا لم يتكلم عن اغتيال داوود يحي والذي تجرأ في نيالا وخاطب الشيخ بوقاحة كما يزعمون..لماذا لم يتكلم عن دماء الشهداء من الشباب والذين كان الشيخ من أدخل لهم قاموس عرس الشهيد في السودان وحينما أزيح عن السلطة قال أنهم فطايس فماذا تكون مقالته هذه سوى الاستغلال البشع لهم ليوطد سلطانه وبعدما ضاعت السلطة فليذهبوا للجحيم فطايس ..لماذا لم يتكلم عن استقالات عدة أعضاء مؤثرين كانوا في مجلس الشورى ساءهم ما يقوم به الشيخ وابنه المدلل والذي خاطبت أمه أحدهم ( ولدي كان ماحكم خاله بيحكم أبوه) فالسودان ضيعة لخاله الصادق ووالده الترابي. فعصام كما قال صلاح أحمد إبراهيم مخاطباً حسن الترابي بعد تنفيذ حكم الإعدام في محمود محمد طه( أن عصام جدوده من ناحية الأم والأب إدعوا المهدية ولم يقتلهم الشعب السوداني أفتقتل محموداً ياترابي الضلال ولم يدعيها؟؟))
سأورد لكم إن شاء الله هذا المقال الذي كتبه صلاح عن الشيخ تذكرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وأخيراً فالأفندي في مركب الترابي وليس محايداً، فهو في خط المحبوب وتعليقه من باب ((شكارتها دلاكتها)) كما يقول المثل العامي عندنا في السودان.
سأورد لكم إن شاء الله هذا المقال الذي كتبه صلاح عن الشيخ تذكرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وأخيراً فالأفندي في مركب الترابي وليس محايداً، فهو في خط المحبوب وتعليقه من باب ((شكارتها دلاكتها)) كما يقول المثل العامي عندنا في السودان.
خدورة أم بشق- مشرف منتدى الشعر
اليل اذا عسعس والبطل اذا تنفس
العزيزة احسان شكراً على الموضوع وفعلاً البوست جدير بالمداخلة ويستحق التفاعل وذكرني مرور الاخ النقر بسجال ساخن دار بين البطل والصحفي المرموق فتحي الضو في يونو من العام الماضي على صفحات جريدة الاحداث اسمحي لي ان ارود رداً للضو على البطل والمعذرة للخروج عن موضوع البوست الاساسي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الليلُ إذا عَسْعَس و ” البطلُ “ إذا تَنْفَس (1)!
فتحي الضَّـو
faldaw@hotmail.com
كان يوليوس قيصر جَزِلاً يعيش اسعد أيام حياته، بعد أن حقق فتوحات تاريخية في بلاد (الغال) وأخمد حروباً أهلية كادت أن تفنِي الامبراطورية الرومانية. وكان أول شيء فعله في آخر انتصار له على خصمه (بومبي) أن أحرق آلاف الرسائل والتقارير التي وجدها في مقره دون أن يَقرأها أو ينشُرها، وذلك كي يجنب البلاد فتنة كان يمكن أن تندلع من بين السطور، بل عمِد عند وصوله روما إلى إعادة تمثال خصمه بومبي إلى موقعه في مقر مجلس الشيوخ، فبرغم الدم الذي سال انهارا، لم ينس قيصر حلفاً ثلاثياً شكَّله معه و(كراسوس) عام 60 ق.م. وقادوا به معركة ديمقراطية عنيفة ضد مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الأشراف، ومن ثم افترقا كل ذهب إلى طريقٍ يبحث فيه عن مجده، إلى ان التقيا في تلك المعركة الأخيرة. ولهذا كان من الطبيعي ألا يرحب اعضاء مجلس الشيوخ بعودة قيصر، لا سِيَّما، وأن ظلال الماضي تلك كانت تنبؤهم بإحتمال انحسار امتيازاتهم السياسية والطبقية، ولكن على عكس الارهاصات فقد عاملهم قيصر معاملة كريمة، إذ جعل (بروتس وكاسيوس وأليين) على رأس اثنتين من الولايات، وعين اشراف آخرين في مناصب عليا، ولم يعر روايات كانت تتحدث عن مقتله انتباهاً، بل لم يقدم على اعتقال من كان يظن أنهم يتآمرون عليه جهاراً نهاراً، بعد أن انبعثت روائح الخيانة والحقد والكراهية وحُب السلطة من دهاليز القصور وكواليس الغُرف المغلقة. إذ سدر الاشراف في حياكة مؤامرتهم ونجحوا في استمالة بروتس - الفتى المدلل عند قيصر - لرفع لوائها، ويقال أن أمه (سرفليا) كانت عشيقة لقيصر، وهي نقطة الضعف التي كانت تؤرقه وجعلته يميل لضفة المتآمرين، ومن ثمَّ تواصوا على قتل قيصر بغرس خناجرهم جميعاً في جسده حتى يتفرق دمه بينهم!
عشية انعقاد جلسة مجلس الشيوخ والتي حددوها لتنفيذ مُخططهم في الخامس عشر من مارس عام 44 ق.م. سأل قيصر ضيوفه الذين كانوا في منزله مساء اليوم الذي قبله: ماهي خير طريقة للموت؟ ولم ينتظر اجابتهم حيث أردف قائلاً: إنها الميتة المفاجئة. ولم يكن سؤاله واجابته ببعيدة عن مناخ الروايات والاكاذيب والشائعات التي سرت كالهشيم في سماء روما. وفي الصباح توسَّلت إليه زوجه (كالبورينا) ألا يذهب بعد رؤيتها حلماً مزعجاً، وكذا خادمها الذي تعمد اسقاط صورة أحد اسلافه من الجدار كنذير شؤم، بالاضافة إلى نصح آخرين حذروه تلميحاً وتصريحاً وهو في طريقه نحو الاجتماع، لكنه مضى لا يلوي على شيء ودلف داخل مبني بومبي حيث ستعقد الجلسة التاريخية، وتوقف قليلاً عند المكتبة التي اعتاد أن يتأملها وحلم أن يجعلها أكبر مكتبة في العالم بعد عودته من غزو الامبراطورية الفارسية. وفجأة انهالت عليه الخناجر من الخلف والأمام وأُريقت الدماء على جانبيه، وعندما حان دور بروتس مشى نحوه بخطىً متثاقلة وسدد له طعنة نجلاء، وقبل أن يلفظ انفاسه الأخيره رآه قيصر ممسكاً بخنجره، فقال له بصوت متهدج: حتى أنت يا بروتس! وفي رواية أخرى حتى أنت يا بُني! فقال له بروتس أنا أحبك ولكني أحب روما أكثر، فقال له: إذا فليمت قيصر. هكذا اراد شكبير الذي وصف موته في المسرحية التي حملت اسمه بـ « أقسى وأبشع جريمة في التاريخ » أن يقول علاوة على ذلك أن الخاتمة تعني قمة السخرية من قاتليه، وقمة التضحية والتفاني في سبيل الوطن. ومع ذلك لم يكن مقتل قيصر حلاً لقضية، فقد اشتعلت الحروب الأهلية بين قتلته وانصاره، أما بروتس فبعد هزيمته من ماركوس انطونيو أمر خادمه أن يمسك له السيف وهوى فيه منتحراً!
شاء صديقي الاستاذ مصطفى عبد العزيز البطل محاورتي بقلم صقيل في الهواء الطلق (الأحداث 3/6/2009) ولمَّا كنت أصلاً من الذين يدعون للحوار والمجادلة بالتي هي أحسن، فلا مناص عندئذٍ أن تجد دعوته صدى طيباً ومنزل صدق في نفسي، لا سِيَّما، ونحن دأبنا على التناصح والتشاور والتفاكر والتثاقف دوماً على هدى (نصف رأيك عند اخيك) وهو إطار يسمح لنا بالاختلاف مرة والائتلاف مرات، ليس هذا فحسب فنحن كصديقين من سائر عباد الله الرحمن، نُروِّح كذلك القلوب ساعة بعد ساعة بالمِلَح والطرائف وتسرية النفس بالذي يمسح عنها صدأ الزمن وكآبة الأحداث. لكن رغم كل ذلك الزاد الوفير والخير العميم، لم استطع اخفاء دهشة تسربت إلى نفسي على حين غرَّة بينما عيناي تجوسان في سطور مقاله المذكور، لا لشيء إلا لادراكي وقناعتي بأن صديقي الذي يعرف عني كل شيء، بما في ذلك (القابلة) التي عملت على اخراجي من ظلمات ثلاث إلى نور الوجود، شطح بخياله واستنزل منه معلومات على الورق، خلط فيها (الشامي بالمغربي) على حد المثل العربي الدارج. في حين كنت اظن من كثرة ما استهلكنا من ساعات طوال شرحاً وتداولاً وتحاوراً لبعض مواقف إلتبست في أذهان العامة، أن الحقيقة وقرت في قلب البطل لدرجة لن يأتيها الباطل من بين يديها ولا خلفها، ولم يساورني أدني شك في أنه سيصنع يوماً، من بديهيات جارية، هرماً بمسلمات راسخة ويجلس القرفصاء على قمته، ولا أدري لماذا باغتت مخيلتي قصص العرب العاربة في جاهليتهم التي سبقت الاسلام، حيث كان الواحد منهم يصنع لنفسه إلهاً من (عجوة) ولأن الجوع (كافر) فما أن تتحرك امعاؤه بحثاً عن طعام، يبدأ المذكور في قضم أطراف تمثاله بتلذذ بعد أن يقدم له ما تيسَّر من الاعتذارات، ويمسح بطرف ثوبه دمعاً تساقط خلسةً على خديه وجرى مدراراً!
عندما تناهى إلى سمعنا تلك الدعوة للملتقي الاعلامي موضع الجدل، اتخذنا موقفين نقيضين حيالها، وفشل كل منَّا في اقناع الآخر بوجهة نظره. وقد بذلت جهداً كنت أروم فيه نُصرة أخي ظالماً لعلمي أن مشاركته ستنعكس ايجاباً على من لا يستحقها. بل حتى عندما أزمع واستجاب للمشاركة لم أتوان أو اتقاعس في نصرته مظلوماً، إذ كان لزام عليَّ أن أنبري مدافعاً عنه أمام رهط من اصدقائنا المشتركين وغير المشتركين، وبعضهم اتخذ من بريدي الالكتروني وهواتفي ميداناً للرماية وشاءوا رجمه دون سماع مبرراته. وفي الحقيقة لم تكن منطلقات الوفاء لعلاقة سامية هي السبب الوحيد لإقدامي على ذلك، ولكن رأيت أن منطق الاشياء والأمر الواقع يفرض عليَّ الشيء ذاته، حيث قلنا للجميع كيف ندعو للحرية والديمقراطية وحقوق الانسان ونمنن ونستكثر على أحدنا أن شاء التمتع بتلك القيم، وقلنا لم يهمهم أمر صديقنا فيم العجلة يا رفاق والله نفسه – تبارك وتعالى – خلق الكون في ستة ايام، وتلك حكمة نتعلم منها الأناة والتريث وقضاء حوائجنا بالصبر. وقلنا لهم امنحوا صديقنا فرصة لعله يأتينا بالخبر اليقين، ولننتظر عودته الميمونة بحول الله ولنسمع بيانه وتبيانه ومن ثم فلنبسط الموازيين لنصدر احكامنا بالعدل والقسطاس، إن كان مخطئاً صوبناه وإن كان مصيباً اتبعناه. وبالطبع لم يستغرق ذلك وقتاً طويلاً، فبعد عودة البطل مباشرة حرصت على أن اعرف وجهة نظره الأوليه، فاسمعني حديثاً طربت له نفسي، علمت منه خيبة أمله في المؤتمر والمؤتمرين ودعاته وأجندته، وبالطبع ليس ثمة ما يدعوني للشماتة رغم أن تلك خلاصة يحق لمثلي أن يقيم لها الأفراح والليالي الملاح!
يقولون من اراد تقويض النظام عليهم غزو روما وليس الفاتيكان، تلك قالها السيد الصادق المهدي يوم أن غزت قوات المعارضة بلدة (همشكوريب) واراد تبخيس فعلها، لا لشيء سوى انه انتبذ منها مكاناً قصياً وذهب للخرطوم راضيا مرضياً وأخيراً متراضياً مع النظام الذي اقتلعه من كرسي الوزارة، ما علينا وتقليب المواجع، فالمهم ومن قبل الدخول في التفاصيل، لابد من التوقف والتأمل في مفارقة عجيبة ألبست الحق لبوس الباطل، ولا أدري كيف فات على البطل وهو العارف بخبايا قصور روما ودهاليز صوامع الفاتيكان، أن يخلط ذلك الخلط المريع بين الماء والزيت، أو بين الجنة والنار. فالعبد الفقير إلى ربه والذي ظلَّ حِواراً مخلصاً للحوار نفسه، وما أنفك يدعو له منذ أكثر من ثلاثة عقود زمنية، أصبح بقدرة قادر من الذين ينبذونه ويعادونه ويحاربونه، في حين أن الذين قطعوا التطور الديمقراطي وحرموا الناس حقوقهم المشروعة بما في ذلك الحريات الأساسية، اصبحوا هم الديمقراطيون الذين ينتهجون سبل الحوار ويشجعونها لا لشيء، إلا لأنهم دعوا لمؤتمر يخيم عليه البؤس من كل حدب وصوب، ناهيك عن نتائجه التي أثبتت فيما بعد أنه استمرار لمنهج الخداع وتكريس لأساليب (الفهلوة السياسية) التي درجت عليها العصبة ذوي البأس منذ أن وطأت سنام السلطة، أليس ذلك ما (يفقع المرارة) يا عزيزي القاريء، ليس هذا فحسب فمن نكد الدنيا على المرء في هذا الزمن التعيس أن تكون مطالباً برد (تهمة المبدئية) عن نفسك، في حين تجد من يقول لك أنك لو ارتديت عنها فلسوف تكون بطلاً، وأنك لو نكصت بها فستكون شجاعاً، وأنك إن تراخيت منها فستجد من يصفك بنكران الذات والتجرد لوجه الله والوطن! ولا أدري لماذا تمادى صديقي البطل في تعاطى المكروه عمداً، فهو لم يجد حرجاً في نفسه في أن يستعير اوصافاً التصقت بقوى سياسية معروفة ويحيلها عنوة لقوى سياسية أخرى. ففي سياق القصة القصيرة التي أوردها في لقائه بالسيد محمد ابراهيم نقد والذي وجَّه له فيه نقداً سالباً لحزبه، أتهم البطل الحزب الشيوعي بأن خطابه التعبوي الذي خاض به انتخابات عام 1986 قام « على شتيمة الآخرين ومنابذتهم بالألقاب وتبخيس بضاعتهم » ولسنا بصدد الدفاع عن حزب هو قادر على الدفاع عن نفسه، ولكن يعلم البطل علم اليقين، بل ويعلم القاصي والداني من الذي أستن هذه السنة غير الحميدة، ليس وقتذاك فحسب، بل حتى يومنا هذا الذي شهد أسوأ انحطاط للخطاب السياسي ودحرجته إلى اسفل سافلين، فلماذا نطعن الظل إذن والفيل قائم لا تخطؤه العين!
من البديهي أن التحليل الخاطيء يؤدي بالطبع إلى نتائج خاطئة، ولهذا لم يكن البطل موفقاً فيما استهل به مقاله واسماه باختلاف الرؤى بيننا عند تشخيص الهم الوطني، إذ قال « إذ بدا لي من خلال متابعة متأنية مستطردة لإسهاماته ككاتب قيادي خلال العامين المنصرمين أن فتحي، الذي كتب في الماضي كتاباً كاملاً عنوانه (محنة النخبة السودانية)، أصبح يرى أن محنة السودان في حاضرها تبدأ وتنتهي عند الحركة الإسلامية و(العصبة ذوي البأس) من رجالها. والفقير لربه يرى أن محنة السودان تبدأ وتنتهي عند مثقفيه ومتعلميه وفي طليعتهم من يُفترض أنهم قادة الرأي والفكر ومهندسو الحراك السياسي والثقافي بين قواه المدنية بشكل عام » لم يكن الجزء الذي يخصني دقيقاً، فالواقع استناداً على الكتاب المذكور الذي صدر في العام 1993 والأخير الذي صدر في العام 2006 استطيع أن أقول أنني توصلت إلى قناعة كاملة أن الأزمة الوطنية التي يعيشها السودان نتحملها جميعاً حكام ومحكومين، الأوائل بما صنعوا والآخرين فيما صمتوا، وبين هؤلاء واولئك هناك نفر قليل استثنى نفسه. وصحيح أن ما سُمى بالنخبة زادوا هذه الأزمة تعقيداً، ولكن يجب التأكيد على أنها اصبحت أكثر وضوحاً في العقدين الأخيرين بعد استيلاء الجبهة الاسلامية على الحكم، وتتحمل وحدها مالآت الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتدهورة. وما لم يتم الاعتراف بهذا الجرم وما لم يعقب الاعتراف فتح صحائف المحاسبة، وما لم يتم التخلي عن القانون العرفي الذي كبَّل السودانيون به أنفسهم (عفا الله عما سلف) يكون الحوار أشبه بحوار الطرشان، ويكون الحوار مجرد ترف يتعاطاه المانح كلما اشتد وثاق الأزمة والتف حبلها حول عنقه، وتعلمون يا سادتي أن للحوار شروط لا أعتقد أنها توفرت بالنوايا التي يراها البطل، ومن جهة أخري وحتى يكتمل المفهوم، أقول لصديقي ما ظللت اردده دوماً...لسنا ضد الجبهة الاسلامية لمجرد اسمها أو حتى وإن تغيرت مسمياتها، ولكننا ضد من يأتي ليحكمنا دون إرادتنا، وضد من يستلم السلطة بوسائل غير ديمقراطية، وضد من يدعي احتكار الاسلام ويرمي غيره بالكفر والالحاد، وضد من يقول لنا لا ترهقوا عقولكم بالتفكير طالما نحن نفكر نيابة عنك!
خلع عليَّ البطل مجداً لم أدعه وألبسني ثوباً لم اشتره وقال مخاطباً القراء « تر انى قلت في وصف صديقي فتحي: "الصحافى والسياسى". ولعلك تساءلت: من أين له بصفة السياسى؟ والإجابة عندى: من كتابه الذائع (سقوط الأقنعة)، الذي جمع بين دفتيه قصة صعود وأفول أكبر حركة معارضة سياسية في تاريخ السودان، عرفت باسم التجمع الوطنى الديمقراطى » الحقيقة لن استطيع أن اخفي عن صديقي دهشتي، فقد صعقت لهذا الابتسار الذي لا يليق به، فهو يعلم أن كل صحفي سياسي وليس كل سياسي صحفي، ومع ذلك ليس تواضعاً فأنا لم أدعِ يوماً ما أشار اليه بل ليته ساق للقراء الكرام مثالاً من الكتابين اللذين يربو عدد صفحاتهما على الالف صفحة، ويذكر صفحة واحدة ذكرت فيها دوراً مخبوءاً ادعيه، فأنا لم اتعاط السياسة اصلاً من باب الاحتراف، ومع ذلك ليس بخاف على أحد أنني صحفي غير محايد، طالما أعلنت انحيازي المباشر لقيم الحق والحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، وهو انحياز يجعلني تلقائياً ضد الذين تتقاطع اجندتهم مع هذه القيم السامية، بيد أن هذه لم تكن منطلقات صديقي عندما خلع عليَّ الصفة، ولم يكن ذلك حباً في سواد عيوني ولكن لشيء في نفس ابن يعقوب، ذلك لأن منهجه الذي بدأ به معالجة هذا الموضوع نهض على افتراضه الشيء ومن ثم التعامل معه كأمر واقع ومسلم به، ولهذا لا غروَّ إن كان ديدنه في الجزئية سالفة الذكر الوصول لهذه الخلاصة « وفي الكتاب تتضح بجلاء صلات فتحي العضوية والوظيفية بالحزب السياسي الذي عرف باسم التحالف الوطنى. وكون صديقي ينفي عن نفسه صفة الناطق الرسمي باسم حزب العميد عبد العزيز خالد منذ تأسيسه وحتى اليوم لا يضعه في موقف أفضل من موقفي عندما نفى عني وزير الإنقاذ كمال عبد اللطيف في خطابه الافتتاحي أمام الملتقى الحواري صفة الارتزاق » وفي الواقع ليس ثمة مقارنة بين الافتراضين، فأنا ايضاً يمكنني أن أنفي عنه تلك الصفة ولكنه لن يستطيع أن ينفي خطأ افتراضاته والتي بناها على حيثيات ضعيفة أراد فيها لي عنق الحقيقة بما اشتهى ورغب. وليت مصدره ساكن الهضبة الاريترية المشكوك في نزاهته يقول له إن كنت جالسته يوماً في اجتماعات اللجنة المركزية أو كنت حضوراً في مؤتمرات الحزب التي صال وجال فيها كالطاؤوس!
وامتدادا لسيل الافتراضات غير الصحيحة يستشهد البطل بصديق مشترك ليعضد قوله « وعندما عرض فتحي لوحه على شيوخ التحالف، ممن كان لهم في بنائه وتطوره سهم وافر، خرج واحد من المخضرمين هو الأستاذ صديق محيسي، الذي ترأس المجلس الوطني للتحالف في فترة من أحرج فتراته، ليبدي استغرابه ويأخذ على فتحي في مقال منشور أنه في كتابه (سقوط الأقنعة) صوَّر نفسه عامداً متعمداً في صورة المراقب المحايد المستقل ولبس لبوسه واعتمر قلنسوته، واتخذ من تلك الصفة ستاراً لتصفية حسابات العميد عبد العزيز خالد مع خصومه السياسيين داخل التحالف، الذين هم خصوم فتحي نفسه » أولاً لا ادري لم استشهد البطل بصديقنا محيسي والكتاب المذكور نفسه بين ظهرانيه، كان بإمكانه أن يكلف نفسه بضع دقائق وينظر فيه لينقل لنا مباشرة النص الذي يروق له، وثانياً لا أدري ماذا سيكون شعور صديقي لو عرف أن المقال المشار إليه والذي نشره محيسي في موقع (سودانيل) من المقالات التي اعتز بها في تقريظ الكتاب ومحتواه، وإن عزَّ العثور عليه فسنطلب من صاحبه أن يتحفنا به، ثم ما رأي صديقنا البطل لو علم أن محيسي نفسه أرسل لي رسالة في اليوم التالي مباشرة لنشر مقالك، يدرأ ويتبرأ من العبارات التي سقتها على لسانه، وكنت قد طلبت من صديقنا محيسي أن يرسل لك تلك الرسالة فأنت قمين بها ولعله فعل! ولأن الدهشة سيل لا ينقطع في مقال البطل، فقد هالني أن يستنكر ظاهرة كان يجدر به مشاركتي الاحتفاء بها ككاتب متصالح مع نفسه ومع ما يدعو له من قيم الحرية والديمقراطية، جاء ذلك في المقال المعنون بـ (الصغار الذين أولموا الكبار درساً) والذي أشرت فيه إلى ظاهرة نادرة لن نجد لها مثيلاً في أروقة تنظيماتنا السياسية، وهي مسألة تخلي العميد عبد العزيز خالد عن موقعه في المكتب التنفيذي للتحالف، وذلك خضوعاً للمبدأ الديمقراطي في عدم تولي أي شخصية لهذا المنصب لأكثر من دورتين، لكن البطل الذي يدعو لقيم الحوار والحرية والديمقراطية يستنكر على أحد تطبيقها، ويشكك في مصداقيتها دون مسوغ أو مبرر يذكر، ويسوق لنا افتراضات أقرب إلى الوهم منها إلى الحقيقة، مع أن المنطق يقول له إن كان متشككاً فما عليه سوى المراقبة حتى يستبين الخطأ من الصواب والواقع من الخيال ليستقيم نقده ويكتسب المصداقية المطلوبة، ولكن استباقه الأحداث بافتراضات سيريالية، يمكن أن تحدُث ويمكن ألا تحدُث ينم عن نوايا غير طيبة، بل يمكن القول إنها مبيته مع سبق الاصرار والترصد!
في الواقع أن تحليل صديقي البطل عن معطيات الساحة السياسية فيما يخص التجمع الوطني الديمقراطي بصورة عامة وقوات التحالف بصورة خاصة فيه جهل كبير، وليسمح لي بهذه الكلمة التي لم اجد لها بديلاً وهو يعلم أنني لا اقصد بها اساءة، وليته يعود لقراءة فقرات يصعب عليَّ اقتباسها، ولكن لا بأس من هذا النموذج الذي يوضح ما ذكرنا، وسأتجاوز عن الاستخفاف غير اللائق الذي صدر في مقدمتها فيما يخص شخصنا الضعيف « حزب التحالف الذي نأمل أن يتولى فتحي، لو أذِن الله، منصب وزير الإعلام في حكومته، حال فوزه في الانتخابات المقبلة، يجيئ في طليعة الأحزاب المتحاورة والمتعاملة مع نظام الإنقاذ تعاملاً شاملاً كاملاً غير مشروط. ونحن نعلم أن مشروع إعادة تأهيل وتوظيف عدد مقدّر من عناصر الحزب ومقاتليه الذين صدوا إلى البلاد من اريتريا عقب انفضاض مولد النضال المسلح تم ضبطه ومعالجته، عملاً وتعليماً وكسباً ومعاشاً، بالتنسيق بين جهاز الأمن والمخابرات وقيادة التحالف. ومالنا نلج بأنفسنا موالج الحرج وأمامنا الرجل الثاني في الحزب يشغل موقعاً دستورياً رفيعاً في مؤسسات نظام الإنقاذ! » الحقيقة أن ذلك حديث يسيء لكثيرين وبعضهم ممن يمتون بصلة طيبة مع البطل نفسه، وفيهم من اقتطع من وقته الثمين ساعات لوضع الأمور في نصابها الصحيح وكان بهم حفياً. لهذا لا شك عندي أن بعض القراء تساءلوا في قرارة أنفسهم عن الحكمة التي تجعله يستهدف تنظيم صغير بثلاث مقالات سالبة في غضون العامين التي بدأ فيهما الكتابة على صفحات هذه الصحيفة (الأحداث)، في حين أن تلك مكرمة لم تنلها أحزاب صاحبة (حول وطول) وجاه وسلطان. وفي خضم زحفه المقدس ذاك سبق له وأن وقع في خطأ جسيم عند اسقط على العميد عبد العزيز اتهاماً هو يعلم أن عواقبه وخيمة لولا ترفع الأخير عنه، وبالرغم من أن البطل استبان خطئه إلا ان شجاعته لم تسعفه في تطبيق شعيرة الاعتذار، اما أنا فأعجب والله لصديقنا البطل الذي يصر على أن يلدغ من جحر (مسيلمة) ثلاث مرات مع أنني أشهد له بالايمان!
هل يا عزيزي القاريء تظن أن ما مضى كله له علاقة بموضوعنا الذي أخرج الأقلام من اغمادها، بالطبع لا ، فليس ذلك في عيره ولا نفيره، لكني أخلص إلى ما خلص إليه البطل في هذا المحور، وهو أنه ما كان ينبغي لنا رفض الدعوة طالما أن قياداتنا الوطنية جميعها تجلس جنباً إلى جنب مع النظام وتشاركه مؤسساته وموائده، والحقيقة إن هذا منطق معلول وإن رآه صديقي سليما، ذلك لأنه ببساطة يخلط الكيمان بعضها ببعض، فالدعوة التي وجهت كانت دعوة اعلامية ولم تكن سياسية، وهب أن رفاقنا القدامي في التجمع مدوا جميعاً أياديهم بيضاء لمصالحة صاحب الدعوة، فهل ذلك يعني بالضرورة أن تتبعهم جحافل وافراد الشعب السوداني وتذهب حيث يذهبون؟ لماذا الاستناد على مشاركة فاروق أبوعيسي أو عبد الرحمن سعيد أو سليمان حامد أو عصام ميرغني في البرلمان وإعتبارها قرآناً يجب اتباعه؟ وبنفس المستوى، لماذا لا يشار لحقوق أصحاب الشراكة الحقيقية المهضومة وإعتبارها كفيلة بمنع أي مشاركة وتحت أي دعاوٍ؟
عودة على بدء، قبل عامين تقريباً (سبتمبر2007) نشرت صحيفة محلية (آسبن ديلي نيوز) في ولاية كلورادو الأمريكية أن ممثلاً مسرحياً كان يؤدي دور بروتس في مدينة آسبن طعن نفسه بالخطأ، بدلاً من أن يطعن يوليوس قيصر كما هو معروف في المسرحية، وقالت الصحيفة نقلاً عن أحد المشاهدين « في اللحظة التي كان مفترض فيها أن يقتل يوليوس قيصر سال الدم من ساقه وكان غزيراً جداً، ومع ذلك لم يتوقف الممثل ريد هدسون عن التمثيل، وصبر حتى نهاية المشهد ثم اتجه نحو الجمهور وقال لهم بكل هدوء: اعذورني سأتوقف للحظات، يبدو أنني طعنت نفسي » وأسدلت الستارة...
نواصل
عن سودانيس اونلاين
كمانشرته الاحداث بتاريخ14/6/2009
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الليلُ إذا عَسْعَس و ” البطلُ “ إذا تَنْفَس (1)!
فتحي الضَّـو
faldaw@hotmail.com
كان يوليوس قيصر جَزِلاً يعيش اسعد أيام حياته، بعد أن حقق فتوحات تاريخية في بلاد (الغال) وأخمد حروباً أهلية كادت أن تفنِي الامبراطورية الرومانية. وكان أول شيء فعله في آخر انتصار له على خصمه (بومبي) أن أحرق آلاف الرسائل والتقارير التي وجدها في مقره دون أن يَقرأها أو ينشُرها، وذلك كي يجنب البلاد فتنة كان يمكن أن تندلع من بين السطور، بل عمِد عند وصوله روما إلى إعادة تمثال خصمه بومبي إلى موقعه في مقر مجلس الشيوخ، فبرغم الدم الذي سال انهارا، لم ينس قيصر حلفاً ثلاثياً شكَّله معه و(كراسوس) عام 60 ق.م. وقادوا به معركة ديمقراطية عنيفة ضد مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الأشراف، ومن ثم افترقا كل ذهب إلى طريقٍ يبحث فيه عن مجده، إلى ان التقيا في تلك المعركة الأخيرة. ولهذا كان من الطبيعي ألا يرحب اعضاء مجلس الشيوخ بعودة قيصر، لا سِيَّما، وأن ظلال الماضي تلك كانت تنبؤهم بإحتمال انحسار امتيازاتهم السياسية والطبقية، ولكن على عكس الارهاصات فقد عاملهم قيصر معاملة كريمة، إذ جعل (بروتس وكاسيوس وأليين) على رأس اثنتين من الولايات، وعين اشراف آخرين في مناصب عليا، ولم يعر روايات كانت تتحدث عن مقتله انتباهاً، بل لم يقدم على اعتقال من كان يظن أنهم يتآمرون عليه جهاراً نهاراً، بعد أن انبعثت روائح الخيانة والحقد والكراهية وحُب السلطة من دهاليز القصور وكواليس الغُرف المغلقة. إذ سدر الاشراف في حياكة مؤامرتهم ونجحوا في استمالة بروتس - الفتى المدلل عند قيصر - لرفع لوائها، ويقال أن أمه (سرفليا) كانت عشيقة لقيصر، وهي نقطة الضعف التي كانت تؤرقه وجعلته يميل لضفة المتآمرين، ومن ثمَّ تواصوا على قتل قيصر بغرس خناجرهم جميعاً في جسده حتى يتفرق دمه بينهم!
عشية انعقاد جلسة مجلس الشيوخ والتي حددوها لتنفيذ مُخططهم في الخامس عشر من مارس عام 44 ق.م. سأل قيصر ضيوفه الذين كانوا في منزله مساء اليوم الذي قبله: ماهي خير طريقة للموت؟ ولم ينتظر اجابتهم حيث أردف قائلاً: إنها الميتة المفاجئة. ولم يكن سؤاله واجابته ببعيدة عن مناخ الروايات والاكاذيب والشائعات التي سرت كالهشيم في سماء روما. وفي الصباح توسَّلت إليه زوجه (كالبورينا) ألا يذهب بعد رؤيتها حلماً مزعجاً، وكذا خادمها الذي تعمد اسقاط صورة أحد اسلافه من الجدار كنذير شؤم، بالاضافة إلى نصح آخرين حذروه تلميحاً وتصريحاً وهو في طريقه نحو الاجتماع، لكنه مضى لا يلوي على شيء ودلف داخل مبني بومبي حيث ستعقد الجلسة التاريخية، وتوقف قليلاً عند المكتبة التي اعتاد أن يتأملها وحلم أن يجعلها أكبر مكتبة في العالم بعد عودته من غزو الامبراطورية الفارسية. وفجأة انهالت عليه الخناجر من الخلف والأمام وأُريقت الدماء على جانبيه، وعندما حان دور بروتس مشى نحوه بخطىً متثاقلة وسدد له طعنة نجلاء، وقبل أن يلفظ انفاسه الأخيره رآه قيصر ممسكاً بخنجره، فقال له بصوت متهدج: حتى أنت يا بروتس! وفي رواية أخرى حتى أنت يا بُني! فقال له بروتس أنا أحبك ولكني أحب روما أكثر، فقال له: إذا فليمت قيصر. هكذا اراد شكبير الذي وصف موته في المسرحية التي حملت اسمه بـ « أقسى وأبشع جريمة في التاريخ » أن يقول علاوة على ذلك أن الخاتمة تعني قمة السخرية من قاتليه، وقمة التضحية والتفاني في سبيل الوطن. ومع ذلك لم يكن مقتل قيصر حلاً لقضية، فقد اشتعلت الحروب الأهلية بين قتلته وانصاره، أما بروتس فبعد هزيمته من ماركوس انطونيو أمر خادمه أن يمسك له السيف وهوى فيه منتحراً!
شاء صديقي الاستاذ مصطفى عبد العزيز البطل محاورتي بقلم صقيل في الهواء الطلق (الأحداث 3/6/2009) ولمَّا كنت أصلاً من الذين يدعون للحوار والمجادلة بالتي هي أحسن، فلا مناص عندئذٍ أن تجد دعوته صدى طيباً ومنزل صدق في نفسي، لا سِيَّما، ونحن دأبنا على التناصح والتشاور والتفاكر والتثاقف دوماً على هدى (نصف رأيك عند اخيك) وهو إطار يسمح لنا بالاختلاف مرة والائتلاف مرات، ليس هذا فحسب فنحن كصديقين من سائر عباد الله الرحمن، نُروِّح كذلك القلوب ساعة بعد ساعة بالمِلَح والطرائف وتسرية النفس بالذي يمسح عنها صدأ الزمن وكآبة الأحداث. لكن رغم كل ذلك الزاد الوفير والخير العميم، لم استطع اخفاء دهشة تسربت إلى نفسي على حين غرَّة بينما عيناي تجوسان في سطور مقاله المذكور، لا لشيء إلا لادراكي وقناعتي بأن صديقي الذي يعرف عني كل شيء، بما في ذلك (القابلة) التي عملت على اخراجي من ظلمات ثلاث إلى نور الوجود، شطح بخياله واستنزل منه معلومات على الورق، خلط فيها (الشامي بالمغربي) على حد المثل العربي الدارج. في حين كنت اظن من كثرة ما استهلكنا من ساعات طوال شرحاً وتداولاً وتحاوراً لبعض مواقف إلتبست في أذهان العامة، أن الحقيقة وقرت في قلب البطل لدرجة لن يأتيها الباطل من بين يديها ولا خلفها، ولم يساورني أدني شك في أنه سيصنع يوماً، من بديهيات جارية، هرماً بمسلمات راسخة ويجلس القرفصاء على قمته، ولا أدري لماذا باغتت مخيلتي قصص العرب العاربة في جاهليتهم التي سبقت الاسلام، حيث كان الواحد منهم يصنع لنفسه إلهاً من (عجوة) ولأن الجوع (كافر) فما أن تتحرك امعاؤه بحثاً عن طعام، يبدأ المذكور في قضم أطراف تمثاله بتلذذ بعد أن يقدم له ما تيسَّر من الاعتذارات، ويمسح بطرف ثوبه دمعاً تساقط خلسةً على خديه وجرى مدراراً!
عندما تناهى إلى سمعنا تلك الدعوة للملتقي الاعلامي موضع الجدل، اتخذنا موقفين نقيضين حيالها، وفشل كل منَّا في اقناع الآخر بوجهة نظره. وقد بذلت جهداً كنت أروم فيه نُصرة أخي ظالماً لعلمي أن مشاركته ستنعكس ايجاباً على من لا يستحقها. بل حتى عندما أزمع واستجاب للمشاركة لم أتوان أو اتقاعس في نصرته مظلوماً، إذ كان لزام عليَّ أن أنبري مدافعاً عنه أمام رهط من اصدقائنا المشتركين وغير المشتركين، وبعضهم اتخذ من بريدي الالكتروني وهواتفي ميداناً للرماية وشاءوا رجمه دون سماع مبرراته. وفي الحقيقة لم تكن منطلقات الوفاء لعلاقة سامية هي السبب الوحيد لإقدامي على ذلك، ولكن رأيت أن منطق الاشياء والأمر الواقع يفرض عليَّ الشيء ذاته، حيث قلنا للجميع كيف ندعو للحرية والديمقراطية وحقوق الانسان ونمنن ونستكثر على أحدنا أن شاء التمتع بتلك القيم، وقلنا لم يهمهم أمر صديقنا فيم العجلة يا رفاق والله نفسه – تبارك وتعالى – خلق الكون في ستة ايام، وتلك حكمة نتعلم منها الأناة والتريث وقضاء حوائجنا بالصبر. وقلنا لهم امنحوا صديقنا فرصة لعله يأتينا بالخبر اليقين، ولننتظر عودته الميمونة بحول الله ولنسمع بيانه وتبيانه ومن ثم فلنبسط الموازيين لنصدر احكامنا بالعدل والقسطاس، إن كان مخطئاً صوبناه وإن كان مصيباً اتبعناه. وبالطبع لم يستغرق ذلك وقتاً طويلاً، فبعد عودة البطل مباشرة حرصت على أن اعرف وجهة نظره الأوليه، فاسمعني حديثاً طربت له نفسي، علمت منه خيبة أمله في المؤتمر والمؤتمرين ودعاته وأجندته، وبالطبع ليس ثمة ما يدعوني للشماتة رغم أن تلك خلاصة يحق لمثلي أن يقيم لها الأفراح والليالي الملاح!
يقولون من اراد تقويض النظام عليهم غزو روما وليس الفاتيكان، تلك قالها السيد الصادق المهدي يوم أن غزت قوات المعارضة بلدة (همشكوريب) واراد تبخيس فعلها، لا لشيء سوى انه انتبذ منها مكاناً قصياً وذهب للخرطوم راضيا مرضياً وأخيراً متراضياً مع النظام الذي اقتلعه من كرسي الوزارة، ما علينا وتقليب المواجع، فالمهم ومن قبل الدخول في التفاصيل، لابد من التوقف والتأمل في مفارقة عجيبة ألبست الحق لبوس الباطل، ولا أدري كيف فات على البطل وهو العارف بخبايا قصور روما ودهاليز صوامع الفاتيكان، أن يخلط ذلك الخلط المريع بين الماء والزيت، أو بين الجنة والنار. فالعبد الفقير إلى ربه والذي ظلَّ حِواراً مخلصاً للحوار نفسه، وما أنفك يدعو له منذ أكثر من ثلاثة عقود زمنية، أصبح بقدرة قادر من الذين ينبذونه ويعادونه ويحاربونه، في حين أن الذين قطعوا التطور الديمقراطي وحرموا الناس حقوقهم المشروعة بما في ذلك الحريات الأساسية، اصبحوا هم الديمقراطيون الذين ينتهجون سبل الحوار ويشجعونها لا لشيء، إلا لأنهم دعوا لمؤتمر يخيم عليه البؤس من كل حدب وصوب، ناهيك عن نتائجه التي أثبتت فيما بعد أنه استمرار لمنهج الخداع وتكريس لأساليب (الفهلوة السياسية) التي درجت عليها العصبة ذوي البأس منذ أن وطأت سنام السلطة، أليس ذلك ما (يفقع المرارة) يا عزيزي القاريء، ليس هذا فحسب فمن نكد الدنيا على المرء في هذا الزمن التعيس أن تكون مطالباً برد (تهمة المبدئية) عن نفسك، في حين تجد من يقول لك أنك لو ارتديت عنها فلسوف تكون بطلاً، وأنك لو نكصت بها فستكون شجاعاً، وأنك إن تراخيت منها فستجد من يصفك بنكران الذات والتجرد لوجه الله والوطن! ولا أدري لماذا تمادى صديقي البطل في تعاطى المكروه عمداً، فهو لم يجد حرجاً في نفسه في أن يستعير اوصافاً التصقت بقوى سياسية معروفة ويحيلها عنوة لقوى سياسية أخرى. ففي سياق القصة القصيرة التي أوردها في لقائه بالسيد محمد ابراهيم نقد والذي وجَّه له فيه نقداً سالباً لحزبه، أتهم البطل الحزب الشيوعي بأن خطابه التعبوي الذي خاض به انتخابات عام 1986 قام « على شتيمة الآخرين ومنابذتهم بالألقاب وتبخيس بضاعتهم » ولسنا بصدد الدفاع عن حزب هو قادر على الدفاع عن نفسه، ولكن يعلم البطل علم اليقين، بل ويعلم القاصي والداني من الذي أستن هذه السنة غير الحميدة، ليس وقتذاك فحسب، بل حتى يومنا هذا الذي شهد أسوأ انحطاط للخطاب السياسي ودحرجته إلى اسفل سافلين، فلماذا نطعن الظل إذن والفيل قائم لا تخطؤه العين!
من البديهي أن التحليل الخاطيء يؤدي بالطبع إلى نتائج خاطئة، ولهذا لم يكن البطل موفقاً فيما استهل به مقاله واسماه باختلاف الرؤى بيننا عند تشخيص الهم الوطني، إذ قال « إذ بدا لي من خلال متابعة متأنية مستطردة لإسهاماته ككاتب قيادي خلال العامين المنصرمين أن فتحي، الذي كتب في الماضي كتاباً كاملاً عنوانه (محنة النخبة السودانية)، أصبح يرى أن محنة السودان في حاضرها تبدأ وتنتهي عند الحركة الإسلامية و(العصبة ذوي البأس) من رجالها. والفقير لربه يرى أن محنة السودان تبدأ وتنتهي عند مثقفيه ومتعلميه وفي طليعتهم من يُفترض أنهم قادة الرأي والفكر ومهندسو الحراك السياسي والثقافي بين قواه المدنية بشكل عام » لم يكن الجزء الذي يخصني دقيقاً، فالواقع استناداً على الكتاب المذكور الذي صدر في العام 1993 والأخير الذي صدر في العام 2006 استطيع أن أقول أنني توصلت إلى قناعة كاملة أن الأزمة الوطنية التي يعيشها السودان نتحملها جميعاً حكام ومحكومين، الأوائل بما صنعوا والآخرين فيما صمتوا، وبين هؤلاء واولئك هناك نفر قليل استثنى نفسه. وصحيح أن ما سُمى بالنخبة زادوا هذه الأزمة تعقيداً، ولكن يجب التأكيد على أنها اصبحت أكثر وضوحاً في العقدين الأخيرين بعد استيلاء الجبهة الاسلامية على الحكم، وتتحمل وحدها مالآت الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتدهورة. وما لم يتم الاعتراف بهذا الجرم وما لم يعقب الاعتراف فتح صحائف المحاسبة، وما لم يتم التخلي عن القانون العرفي الذي كبَّل السودانيون به أنفسهم (عفا الله عما سلف) يكون الحوار أشبه بحوار الطرشان، ويكون الحوار مجرد ترف يتعاطاه المانح كلما اشتد وثاق الأزمة والتف حبلها حول عنقه، وتعلمون يا سادتي أن للحوار شروط لا أعتقد أنها توفرت بالنوايا التي يراها البطل، ومن جهة أخري وحتى يكتمل المفهوم، أقول لصديقي ما ظللت اردده دوماً...لسنا ضد الجبهة الاسلامية لمجرد اسمها أو حتى وإن تغيرت مسمياتها، ولكننا ضد من يأتي ليحكمنا دون إرادتنا، وضد من يستلم السلطة بوسائل غير ديمقراطية، وضد من يدعي احتكار الاسلام ويرمي غيره بالكفر والالحاد، وضد من يقول لنا لا ترهقوا عقولكم بالتفكير طالما نحن نفكر نيابة عنك!
خلع عليَّ البطل مجداً لم أدعه وألبسني ثوباً لم اشتره وقال مخاطباً القراء « تر انى قلت في وصف صديقي فتحي: "الصحافى والسياسى". ولعلك تساءلت: من أين له بصفة السياسى؟ والإجابة عندى: من كتابه الذائع (سقوط الأقنعة)، الذي جمع بين دفتيه قصة صعود وأفول أكبر حركة معارضة سياسية في تاريخ السودان، عرفت باسم التجمع الوطنى الديمقراطى » الحقيقة لن استطيع أن اخفي عن صديقي دهشتي، فقد صعقت لهذا الابتسار الذي لا يليق به، فهو يعلم أن كل صحفي سياسي وليس كل سياسي صحفي، ومع ذلك ليس تواضعاً فأنا لم أدعِ يوماً ما أشار اليه بل ليته ساق للقراء الكرام مثالاً من الكتابين اللذين يربو عدد صفحاتهما على الالف صفحة، ويذكر صفحة واحدة ذكرت فيها دوراً مخبوءاً ادعيه، فأنا لم اتعاط السياسة اصلاً من باب الاحتراف، ومع ذلك ليس بخاف على أحد أنني صحفي غير محايد، طالما أعلنت انحيازي المباشر لقيم الحق والحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، وهو انحياز يجعلني تلقائياً ضد الذين تتقاطع اجندتهم مع هذه القيم السامية، بيد أن هذه لم تكن منطلقات صديقي عندما خلع عليَّ الصفة، ولم يكن ذلك حباً في سواد عيوني ولكن لشيء في نفس ابن يعقوب، ذلك لأن منهجه الذي بدأ به معالجة هذا الموضوع نهض على افتراضه الشيء ومن ثم التعامل معه كأمر واقع ومسلم به، ولهذا لا غروَّ إن كان ديدنه في الجزئية سالفة الذكر الوصول لهذه الخلاصة « وفي الكتاب تتضح بجلاء صلات فتحي العضوية والوظيفية بالحزب السياسي الذي عرف باسم التحالف الوطنى. وكون صديقي ينفي عن نفسه صفة الناطق الرسمي باسم حزب العميد عبد العزيز خالد منذ تأسيسه وحتى اليوم لا يضعه في موقف أفضل من موقفي عندما نفى عني وزير الإنقاذ كمال عبد اللطيف في خطابه الافتتاحي أمام الملتقى الحواري صفة الارتزاق » وفي الواقع ليس ثمة مقارنة بين الافتراضين، فأنا ايضاً يمكنني أن أنفي عنه تلك الصفة ولكنه لن يستطيع أن ينفي خطأ افتراضاته والتي بناها على حيثيات ضعيفة أراد فيها لي عنق الحقيقة بما اشتهى ورغب. وليت مصدره ساكن الهضبة الاريترية المشكوك في نزاهته يقول له إن كنت جالسته يوماً في اجتماعات اللجنة المركزية أو كنت حضوراً في مؤتمرات الحزب التي صال وجال فيها كالطاؤوس!
وامتدادا لسيل الافتراضات غير الصحيحة يستشهد البطل بصديق مشترك ليعضد قوله « وعندما عرض فتحي لوحه على شيوخ التحالف، ممن كان لهم في بنائه وتطوره سهم وافر، خرج واحد من المخضرمين هو الأستاذ صديق محيسي، الذي ترأس المجلس الوطني للتحالف في فترة من أحرج فتراته، ليبدي استغرابه ويأخذ على فتحي في مقال منشور أنه في كتابه (سقوط الأقنعة) صوَّر نفسه عامداً متعمداً في صورة المراقب المحايد المستقل ولبس لبوسه واعتمر قلنسوته، واتخذ من تلك الصفة ستاراً لتصفية حسابات العميد عبد العزيز خالد مع خصومه السياسيين داخل التحالف، الذين هم خصوم فتحي نفسه » أولاً لا ادري لم استشهد البطل بصديقنا محيسي والكتاب المذكور نفسه بين ظهرانيه، كان بإمكانه أن يكلف نفسه بضع دقائق وينظر فيه لينقل لنا مباشرة النص الذي يروق له، وثانياً لا أدري ماذا سيكون شعور صديقي لو عرف أن المقال المشار إليه والذي نشره محيسي في موقع (سودانيل) من المقالات التي اعتز بها في تقريظ الكتاب ومحتواه، وإن عزَّ العثور عليه فسنطلب من صاحبه أن يتحفنا به، ثم ما رأي صديقنا البطل لو علم أن محيسي نفسه أرسل لي رسالة في اليوم التالي مباشرة لنشر مقالك، يدرأ ويتبرأ من العبارات التي سقتها على لسانه، وكنت قد طلبت من صديقنا محيسي أن يرسل لك تلك الرسالة فأنت قمين بها ولعله فعل! ولأن الدهشة سيل لا ينقطع في مقال البطل، فقد هالني أن يستنكر ظاهرة كان يجدر به مشاركتي الاحتفاء بها ككاتب متصالح مع نفسه ومع ما يدعو له من قيم الحرية والديمقراطية، جاء ذلك في المقال المعنون بـ (الصغار الذين أولموا الكبار درساً) والذي أشرت فيه إلى ظاهرة نادرة لن نجد لها مثيلاً في أروقة تنظيماتنا السياسية، وهي مسألة تخلي العميد عبد العزيز خالد عن موقعه في المكتب التنفيذي للتحالف، وذلك خضوعاً للمبدأ الديمقراطي في عدم تولي أي شخصية لهذا المنصب لأكثر من دورتين، لكن البطل الذي يدعو لقيم الحوار والحرية والديمقراطية يستنكر على أحد تطبيقها، ويشكك في مصداقيتها دون مسوغ أو مبرر يذكر، ويسوق لنا افتراضات أقرب إلى الوهم منها إلى الحقيقة، مع أن المنطق يقول له إن كان متشككاً فما عليه سوى المراقبة حتى يستبين الخطأ من الصواب والواقع من الخيال ليستقيم نقده ويكتسب المصداقية المطلوبة، ولكن استباقه الأحداث بافتراضات سيريالية، يمكن أن تحدُث ويمكن ألا تحدُث ينم عن نوايا غير طيبة، بل يمكن القول إنها مبيته مع سبق الاصرار والترصد!
في الواقع أن تحليل صديقي البطل عن معطيات الساحة السياسية فيما يخص التجمع الوطني الديمقراطي بصورة عامة وقوات التحالف بصورة خاصة فيه جهل كبير، وليسمح لي بهذه الكلمة التي لم اجد لها بديلاً وهو يعلم أنني لا اقصد بها اساءة، وليته يعود لقراءة فقرات يصعب عليَّ اقتباسها، ولكن لا بأس من هذا النموذج الذي يوضح ما ذكرنا، وسأتجاوز عن الاستخفاف غير اللائق الذي صدر في مقدمتها فيما يخص شخصنا الضعيف « حزب التحالف الذي نأمل أن يتولى فتحي، لو أذِن الله، منصب وزير الإعلام في حكومته، حال فوزه في الانتخابات المقبلة، يجيئ في طليعة الأحزاب المتحاورة والمتعاملة مع نظام الإنقاذ تعاملاً شاملاً كاملاً غير مشروط. ونحن نعلم أن مشروع إعادة تأهيل وتوظيف عدد مقدّر من عناصر الحزب ومقاتليه الذين صدوا إلى البلاد من اريتريا عقب انفضاض مولد النضال المسلح تم ضبطه ومعالجته، عملاً وتعليماً وكسباً ومعاشاً، بالتنسيق بين جهاز الأمن والمخابرات وقيادة التحالف. ومالنا نلج بأنفسنا موالج الحرج وأمامنا الرجل الثاني في الحزب يشغل موقعاً دستورياً رفيعاً في مؤسسات نظام الإنقاذ! » الحقيقة أن ذلك حديث يسيء لكثيرين وبعضهم ممن يمتون بصلة طيبة مع البطل نفسه، وفيهم من اقتطع من وقته الثمين ساعات لوضع الأمور في نصابها الصحيح وكان بهم حفياً. لهذا لا شك عندي أن بعض القراء تساءلوا في قرارة أنفسهم عن الحكمة التي تجعله يستهدف تنظيم صغير بثلاث مقالات سالبة في غضون العامين التي بدأ فيهما الكتابة على صفحات هذه الصحيفة (الأحداث)، في حين أن تلك مكرمة لم تنلها أحزاب صاحبة (حول وطول) وجاه وسلطان. وفي خضم زحفه المقدس ذاك سبق له وأن وقع في خطأ جسيم عند اسقط على العميد عبد العزيز اتهاماً هو يعلم أن عواقبه وخيمة لولا ترفع الأخير عنه، وبالرغم من أن البطل استبان خطئه إلا ان شجاعته لم تسعفه في تطبيق شعيرة الاعتذار، اما أنا فأعجب والله لصديقنا البطل الذي يصر على أن يلدغ من جحر (مسيلمة) ثلاث مرات مع أنني أشهد له بالايمان!
هل يا عزيزي القاريء تظن أن ما مضى كله له علاقة بموضوعنا الذي أخرج الأقلام من اغمادها، بالطبع لا ، فليس ذلك في عيره ولا نفيره، لكني أخلص إلى ما خلص إليه البطل في هذا المحور، وهو أنه ما كان ينبغي لنا رفض الدعوة طالما أن قياداتنا الوطنية جميعها تجلس جنباً إلى جنب مع النظام وتشاركه مؤسساته وموائده، والحقيقة إن هذا منطق معلول وإن رآه صديقي سليما، ذلك لأنه ببساطة يخلط الكيمان بعضها ببعض، فالدعوة التي وجهت كانت دعوة اعلامية ولم تكن سياسية، وهب أن رفاقنا القدامي في التجمع مدوا جميعاً أياديهم بيضاء لمصالحة صاحب الدعوة، فهل ذلك يعني بالضرورة أن تتبعهم جحافل وافراد الشعب السوداني وتذهب حيث يذهبون؟ لماذا الاستناد على مشاركة فاروق أبوعيسي أو عبد الرحمن سعيد أو سليمان حامد أو عصام ميرغني في البرلمان وإعتبارها قرآناً يجب اتباعه؟ وبنفس المستوى، لماذا لا يشار لحقوق أصحاب الشراكة الحقيقية المهضومة وإعتبارها كفيلة بمنع أي مشاركة وتحت أي دعاوٍ؟
عودة على بدء، قبل عامين تقريباً (سبتمبر2007) نشرت صحيفة محلية (آسبن ديلي نيوز) في ولاية كلورادو الأمريكية أن ممثلاً مسرحياً كان يؤدي دور بروتس في مدينة آسبن طعن نفسه بالخطأ، بدلاً من أن يطعن يوليوس قيصر كما هو معروف في المسرحية، وقالت الصحيفة نقلاً عن أحد المشاهدين « في اللحظة التي كان مفترض فيها أن يقتل يوليوس قيصر سال الدم من ساقه وكان غزيراً جداً، ومع ذلك لم يتوقف الممثل ريد هدسون عن التمثيل، وصبر حتى نهاية المشهد ثم اتجه نحو الجمهور وقال لهم بكل هدوء: اعذورني سأتوقف للحظات، يبدو أنني طعنت نفسي » وأسدلت الستارة...
نواصل
عن سودانيس اونلاين
كمانشرته الاحداث بتاريخ14/6/2009
محمد كمبال- نشط ثلاثة نجوم
رد: المسيح المصلوب فى لوح المحبوب: الحركة الاسلامية، دائرة الضوء وخيوط الظلام
كان يكون أحلى أن نعلم ماذا كتب البطل حتى استحق على فتحي أن يرد له لتكتمل الصورة للقارئ.
خدورة أم بشق- مشرف منتدى الشعر
رد: المسيح المصلوب فى لوح المحبوب: الحركة الاسلامية، دائرة الضوء وخيوط الظلام
استاذ الفضل التحية والتقدير
ملاحظه في محلها وفي الواقع ما دار بين الكاتبين من حوار كان في اكثر من مقالين لكل واحد منهماواستهداءً برأيك ساقوم برفع مقالين لتتضح الصورة للقارئ..مع شكري..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البداية مع الضو
حَصاد الهشِيم في مُلتقى الاعِلاميين
فتحي الضَّـو
faldaw@hotmail.com
ثمة نُكتة تذكرتها بمناسبة هذا المقال، وكان الناس قد تداولوها في بواكير جاهلية العُصْبَة ذوي البأس، حينما ابتدعت يومذاك ما أسمته بـ (الباصات السياحية) بغرض تخفيف حِدة أزمة المواصلات على خلق الله، ولكن كالعهد بهم فقد كان ذلك حلاً أشبه بما نطقت به ماري أنطوانيت زوجة لويس السادس عشر، والتي اقترحت على فقراء الفرنسيين المتظاهرين أمام قصر فرساي أكل (الجاتوه) عِوضاً عن الخبز الحافي الذي طالبوا به ليسُدَّ رَمَقهم! المُهم أن أحفادها بالتبني خصصوا تلك (الباصات) لتعمل جنباً إلى جنب مع الخطوط العادية، ولكن بفارق (سياحي) في سعر (التذكرة) والذي تضاعف كثيراً. تقول النكتة أن أحد الكادحين لم يكن يعلم بتلك البِدعة، فهرع ذات نهار قائظ نحو أحد الباصات السياحية، وحشر نفسه داخله دون عناء، بل استعجب حصوله على مقعدٍ خالٍ بلا مكابدة. ولكن فرحته تلك لم تدم طويلاً، إذ أخبره المُحصِل بسعر التذكرة المضاعف، فأراد صاحبنا المسكين الاحتجاج، لكن المُحصِل شرح له أسباب ذلك بقوله إن الباص سياحي. ولمَّا كان الرجل لا يملك المبلغ المطلوب وأُسِقط في يده...نهض مُتذمراً من مقعده والحسرة تملأ قلبه...وشاء قبل مغادرة الباص التنفيس عن كُربته، فالتفت نحو الرُكَّاب وخاطبهم بصوتٍ عالٍ قائلاً...إن شاء الله البلد تكون عجبتكم! ونحن بدورنا نستعير هذه الطُرُفة، ونقولها للزميلات والزملاء الذين هَرعوا خِفَافاًً ويَممُوا وجوههم شطر الخرطوم لحضور ما سُمي بملتقى الاعلاميين في الخارج!
لكن الأمر بدأ لي أكثر من طُرُفة، وفي الحقيقة إزدادت قناعتي بتلك التمنيات الطيبة إثر مشاهدتي أحد الغِرُّ الميامين الذين تكبدوا المشاق لحضور المؤتمر وقد جاءه قادماً من إحدى الدول الأوربية، والتي نمسك عن ذِكر اسمها لأن سيرتها أصبحت تثير أعصاب العُصْبة ذوي البأس، بل تتمنى لو أنها دكتها دكاً دكاً ومسحتها شبراً شبراً من خارطة العالم، ولكن ما علينا بحقدٍ استوطن في القلوب، ولا ضغائن مارت وفارت في الصدور، ودعونا نعود للمذكور الذي نتوارى خجلاً أيضاً من ذِكر اسمه، فقد ظهر على شاشة القناة الفضائية السودانية وهو مُدجج بكاميرا فوتوغرافية، وتحدث في أخبار النشرة الرئيسية (الساعة العاشرة مساء16/5/2009) وكان ضمن فوج من المؤتمرين اختاروا الذهاب إلى الفاشر للوقوف على حقيقة الأوضاع، بعيداً عن الاعلام الغربي صاحب الأجندة الخفية والدوافع المُغرِضة على حد زعمه. وللوصول لذلك الهدف النبيل، قال المذكور إنه انتبذ مكاناً قصياً وشقَّ طريقه ليصبح بمنأى عن الجماعة، وذلك حتى يتسنى له تلمس الواقع بلا رقيب أو عتيد. ولا أخفي عليك يا عزيزي القاريء إنني ما أن سمعت ذلك حتى تحفزَّت وجعلت من جسدي كله آذاناً صاغية. بل قلت في نفسي سراً: لله دَرُّهُ هذا الفتي إنه يأتي البيوت من شبابيكها، وبالرغم من أن ذلك يمثل أبغض الحَلال في ظِل الأنظمة الديمقراطية، إلاَّ أنه أمر مرغوب فيه في ظل الأنظمة الديكتاتورية. لكن الفتى الجَحْجاح لم يشأ أن يجعلني أنعم بما أضمرته، إذ ما لبث أن أحبطني دون وازِع إنساني أو سياسي...فقد قال – لا فضَّ فُوه - إنه استوقف مواطناً وسأله عن معسكر أبوشوك؟ فقال له المواطن المغلوب على أمره...أنت في معسكر أبوشوك. فأبدى (السائح الاعلامي) دهشةً بالغة! وقال للمشاهدين الذين صبروا على الأذى مثلنا...في الحقيقة يا جماعة لا شيء يدل على أنه معسكر لاجئين!
لم أشعر بإهانة شخصية أصابتني في مقتلٍ بمثلما شعرت في تلك اللحظة...هي إهانة لا يجدي معها الغضب ولا الانفعال ولا الحسرة، لأن القائل لم يكن يدري إنه بقوله ذاك قد أساء لنفسه أولاً، ثم للمناسبة التي ضرب لها أكباد الطائرات ثانياً، ثم للمهنة التي احتمي بمظلتها ثالثاً، ثم لبني جلدته الذين وقعوا بين سندان الظروف البائسة ومطرقة تهكمه البيئس رابعاً، ثم للانسانية جمعاء خامساً وأخيراً. بيد أن الفضول دفع بالتساؤل الذي مضغته الألسن كثيراً في كواليس المؤتمر إلى دائرة العلن، فلابد أنك تساءلت يا عزيزي القاريء مثلما تساءل أناس من وراء حجاب: هل كان ذلك المؤتمر حقاً ملتقى للاعلاميين وفقاً لتسميته ومداولاته وصِيته؟ من المؤكد أن الاجابة ليست عصية على قوم اتصفوا بفراسة تعرف الأجنة في الأرحام، ناهيك عن استنكاه دوافع من تبختر أمامهم بزهو وخيلاء. فالذين تابعوا وقائع هذا الملتقي أدركوا دون عناء يذكر، أن غالبية الحضور هم كالمعيدي تسمع به خير من أن تراه، فلا صِله لهم بالاعلام وإن كانوا من ذوي الصِلة بالمحفل وأهله، وليت الجهة الداعية تفعل خيراً وتقوم بنشر الأسماء والهويات على الملأ حتى يستبين الناس عشيتهم من ضحاهم. وبما أن الشيء بالشيء يذكر نتساءل كذلك عن جدوى حضور شخصيات من دول عربية شقيقة، ونخص بالذكر مثالاً محمد الهاشمي الحامدي، بإعتباره أحد الشخصيات المثيرة للجدل وله ارتباطات باطنية بالانقاذ وفجورها، وقد كشفت بعض الصحف عن دعم ممدود كان يتلقاه نظير تسخييره صحيفته (المستقلة) لخدمة المشروع الحضاري وهو في أوج تطرفه. وأيضاً كان الدكتور عبد الله الأشعل بين الحاضرين، وهو يفترض أن يكون رجل قانون، ولا يوجد أي سبب منطقي يدعم حضوره المناسبة، اللهم إلا إذا كانت اطلالته الراتبة في الفضائية السودانية قد أَهَّلته لأن يكون أحد الاعلاميين السودانيين العاملين بالخارج!
نخلص إلى عشِر ملاحظات استنبطناها من رِكام هذه المناسبة، ومنَّا إلى الجهة التي أشرفت عليها وذلك استجابةً لدعوتها الكريمة في ضرورة المناصحة بين الراعي والراعية، لعل هذا يكون حافزاً لها في استبانتها قبل ضحى الغد:
أولاً: من المُسلَّم به أن الطريق إلى عقل الاعلام الخارجي يمر أولاً بقلب الاعلام الداخلي، بمعني أن الذين توخوا إصلاحاً وصلاحاً للاعلام الخارجي عليهم في الأساس أن يصبُوا جهودهم في الاعلام الداخلي، ومن هذا المنطلق نعتقد أن الملتقي لم يكن موفقاً في اختيار التوقيت المناسب، فلضمان مثل تلك الملتقيات كان ينبغي إزالة كل المطبات الهوائية، والعمل على تهيئة المناخ الضروري لتعزيز الثقة بين الداعي والمدعوين، ولكن الذي حدث كان على العكس تماماً، فعلاوة على القيد المسمى بالرقابة القبيلة، فقد تزامن انعقاد الملتقى مع ازدياد حدة التوتر بين الشريكين حول قانون الصحافة والمطبوعات والذي يفترض أن يكون في صدارة أولويات المدعوين، بل جعل الشريكان من ساحة الملتقى نفسه ميداناً للرماية بتراشق واتهامات تجاوزت قانون المطبوعات وطالت الطعن في الذمم بوصمها بالفساد. علاوةً على أنهما – كما هو معروف - ليسا على قلب شريك واحد في موضوع المحكمة الجنائية، وبناءً عليه فالسؤال الذي يثور هنا: هل يمكن أن يُصلح عطار الملتقى ما أفسده دهر السياسة؟
ثانياً: لقد كشف ضعف التغطية الاعلامية لمؤتمر إعلامي عن مفارقة تدعو للشفقة والأسى، وأكد في نفس الوقت أن الجهة المشُرفة كان هاجسها حشد أكبر عدد من المدعوين أكثر من اهتمامها بما يمكن أن ينتج عنهم في القضية الاساسية. فهي تقول أن عددهم بلغ 400 إعلامي منهم 250 من الخارج و150 من الداخل، وكان من المفترض بل من المتوقع بالنظر لذلك العدد الضخم أن تُسيطر أخبار الملتقى تلقائياً على الساحة، وتنعكس بتغطية إعلامية شاملة يمكن أن تكون تمريناً ديمقراطياً، في حال صدقت النوايا التي جعلت من قضية الحريات الاعلامية هماً اساسياً أو هكذا ترآءى للناظرين. بل لعل المُدهش أن عدد الصحفيين الذين تناولوا الحدث بالتعليق في أعمدتهم اليومية لا يتعدى أصابع اليدين، وقد تَذهَلُ كُلُّ مُرضِعة عمَّا أَرضَعت إذا ما علمت أن الصحف جميعها خلت من البيان الختامي والقرارات والتوصيات، واكتفت بنذرٍ منه في السياق الخبري! وقد ساورني إحساس عميق بهاجس قال لي أن صحفيي الداخل جاءوا للفُرجة على صحفيي الخارج الذي هبطوا من دنياوات العالم! وبالقدر نفسه بادلهم صحفيو الخارج استطعام ذات الدهشة!
ثالثاً: في غزلٍ مكشوف وبحسب تغطية صحيفة الرأي العام (15/5/2009) قال السيد نافع على نافع موجهاً حديثه للسيد كمال عبد اللطيف عندما سمع بكلمته التصالحية تجاه المعارضين:«إنت ما عندك أخلاق بتكون بِعتنا للجماعة ديل، ونحن حنطلِّع بيان نكيّسك ونقول دا كلامك إنت بس ما كلام الحكومة» فقال كمال:«إنت لو عايز تكيسني صاح قول نحن الكتبنا ليهو الخطاب» في الواقع لا نريد أن نفسد على السيد كمال بهجة يومه ذاك، ولكن لو أن السيد نافع طبَّق عملياً مزحته تلك، لكان قد كافاْ الحكومة مغبة ما احتوش مواقفها من ظنون، ولكان قد انقذ كمال نفسه من تبعات خطاب يعد في التقدير من أسوأ ما نضح عن الملتقى، نسبة لأنه ارتأى أن يكون قومياً، فكان تجسيد فعلياً وباسقاطات العقل الباطن لمشروع مثلث حمدي (عبد الرحيم حمدي وزير المالية الأسبق صاحب تلك الفكرة الجدلية التي فضحت الاجندة الخفية لدولة الصحابة) بجانب أن الخطاب نفسه غرق في بحور عاطفية ولم يقدم تحليلاً علمياً لأدواء قضية جاءها المدعوون من أركان الدنيا الأربعة على حد فخره وتباهيه، بل أن الأنكي والأَمْر ذلك التخليط الذي مزج بين أصحاب مواقف مشرفة كانوا دوماً من نصراء الديمقراطيات مع أصحاب مواقف مخزية ظلوا على الدوام يقتاتون من موائد الديكتاتوريات، وبالرغم من أن الخطاب ليس بوثيقة يُعتد بها في هذا المضمار إلا أن الأمانة تقتضي نقده وتشريحه، لأنه بمثل ذلك التخليط اعتقد البعض أن القضية السودانية هي محض سمك لبن تمر هندي!
رابعاً: هذه ملاحظة تتسق مع ما مضى، وقد سبقني في الاشارة لها الزميل الصديق فيصل محمد صالح في عموده المقروء (الأخبار16/5/2009) وهي تؤكد أن المؤتمر الذي أُفترض أن يكون قومياً يعكس التعدد الحزبي ويمثل كل ألوان الطيف السياسي، جاء في مجمله تكريساً لهيمنة المؤتمر الوطني، وبحسب فيصل «تحولوا إلى متحدثين حزبيين باسم المؤتمر الوطني، وتحينوا الفرصة للهجوم على القوى السياسية الأخرى ورميها بتهم كثيرة» وتساءل أيضاً «ألم يكن من الأوجب والأعدل أن تتاح لباقان أموم أو ياسر عرمان أو مالك عقار فرصة الوقوف أمام المؤتمرين ومحاورتهم والادلاء برأي الحركة في المحاور والقضايا المطروحة؟ وكذلك محمد إبراهيم نقد والصادق المهدي» ولكنه عِوضاً عن ذلك فقد «تحول المؤتمر المصروف عليه من مال الحكومة لمنبر لحزب المؤتمر الوطني وهذا ما لا يجوز» وبناءً على ما تعلمناه في مدارج المرحلة الابتدائية، دعونا نستعير فصاحة الخروف في تلك القصة المعروفة ونقول: هل بعد السلخ ذبح يا مسعود؟
خامساً: إن أُم الكتاب في هذا الملتقى، هو السؤال الجوهري الذي كان ينبغي أن يسأله الداعي والمدعو لأنفسهم ويُحتم إجابة صادقة مع النفس قبل الآخرين وهو: هل نحن بصدد قضية مهنية بحتة تختص بالاعلام ودروبه، أم أننا أمام أزمة وطنية شاملة يعد الاعلام واحداً من جزئياتها الكثيرة والمتشابكة؟
سادساً: إلحاقاً للسؤال أعلاه، إذا افترضنا جدلاً أن الاعلاميين الذين اجتمعوا في رحاب الملتقى المذكور كانت قضية الحريات الصحفية هي مبعث همهم وغاية عزمهم، لعل السؤال الذي كان ينبغي أن يطرحه المشاركون على أنفسهم بأمانة وموضوعية أيضاً: هل المدعوون يُعدَّون في زمرة المتضررين بشكل مباشر أو غير مباشر من القيود التي تكبل تلك الحريات؟ فلو أن قائل اكتفى بالاجابة الأخيرة القائلة إنهم متضررون بشكل غير مباشر، وأن مطالبهم التي نادوا بها والخاصة بالحريات الصحفية هي من قبيل المؤازرة مع من ظلَّ يعاني من قيودها فعلياً، فسنقول له ساعتئذٍ أحسنت وبوركت وكفى الله المؤمنين شر الجِدال، أما إذا كابر مُكابر وقال أن صحفيي الخارج برمتهم متضررون بصورة مباشرة من قيود الحريات، فحتماً سنقول له كذباً كاذب، لأن الواقع يدحض الافتراء، فالاحصائيات تشير إلى أن الذين يتعاملون بشكل مباشر مع الصحافة السودانية ومن خلال هامش الحريات المتاح، لا يتعدون بضع أفراد بل لربما أقل من أصابع اليدين، وهو عدد إذا ما قورن بنحو 250 مدعو فسنجد أنه مجرد نقطة في محيط! ومن جهة أخرى إذا افترضنا أن رسالة الملتقى موجهة للعالم الخارجي فحسب، فالمعروف أن الذين توافدوا على الخرطوم...بعضهم يعمل في مؤسسات إعلامية تتمتع بحريات صحفية حد البطر، فأين إذن مساهماتهم في قضايا الوطن، علماً بأن لا قيد يدمى معصمهم؟
سابعاً: يعجب المرء أيما عجبٍ من الذين يزايدون على وطنهم ومواطنيهم ويدَّعون إنهم اتخذوا مواقف مناهضة للعصبة أو الديكتاتوريات التي سبقتها، ويكثرون من ترديدها ويزعمون أن تلك مرحلة طُويت صحائفها، وحتى لو صدق خطلهم فلا يدرى المرء لماذا تُطوى صحائف كتاب طالما أن العِلَّة موجودة والجرح متقيح والألم مستمر؟ ما الذي استجد حتى تصبح تلك المواقف وثائقاً تتوسد تلافيف الذاكرة؟ ومن ذا الذي قال إن الدفاع عن قضايا الحريات العامة فرض كفاية يقوم به البعض ويسقط عن الآخرين؟ لسنا في حاجة للقول إن الحرية بالنسبة للصحفي هي بمثابة الماء والهواء، بل كلما استمطر سحابتها أتاه خراجها دون صلاة استسقاء. ولذا فالدفاع عنها صيرورة تاريخية لاهدنة ولا مهادنة فيها، فإن لم يكن بمقدور البعض الاستمرار في طريق وعِر مليىء بالأشواك ومشبع بالمِحن والإحن، فما عليهم سوى الكف عن مزايدات هم يعلمون قبل غيرهم أنها مجرد هرطقات...لا أرضاً قطعت ولا ظهراً أبقت!
ثامناً: لا ندري لماذا انشغل الناس بتكلفة الملتقى، مع أن الذي يستحق الانشغال من ذات الشاكلة كثر. ومع هذا لا نعتقد أن الهمس الجهير أخطأ إرساله نحو آذان القائمين على أمره، بل يُحمد للزميل الطاهر حسن التوم الذي أثار الموضوع في الحوار الذي أجراه مع السيد كمال عبد اللطيف (قناة النيل الأزرق 18/5/2009) وتكهن فيه بتكلفة المؤتمر وفقاً لما تداولته مجالس العاصمة وقال حوالي المليار جنيه، لكن المسؤول لم يطفيء ظمأ حب استطلاع السائل فقال له: افرض مائة مليار حتى هل هذا كثير على أبناء وبنات السودان الذين تركوا ديارهم وأعمالهم وأهليهم؟ في الواقع نحن أيضاً نُعضد بدورنا من افتراضه ونقول بقسم مغلظ لا وألف لا فهم يستاهلون وأكثر، ولكنها على أية حال كانت فرصة لسيادته لاختبار الشفافية في أبهى معانيها، مثلما كانت فرصة لاقتران الأقوال بالأفعال، وعليه لا ندري أيم والله من رسب فيهما؟
تاسعاً: ينبغي علينا جميعاً أن نُطأطيء رؤوسنا خجلاً ونُذِل نفوسنا انكساراً، فقد تزامن مع الملتقى فوز الزميل معن البياري من صحيفة الخليج الأماراتية بجائزة الصحافة العربية التي ينظمها نادي دبي للصحافة سنوياً، وشارك فيها هذا العام 3113 صحفي من 19 بلداً عربياً، ولا تعجب يا عزيزي القاريء إن خلت القائمة من الصحفيين السودانيين، ولكن لك الحق كل الحق في أن تلطم الخدود وتشق الجيوب إذ ما علمت أن التقرير السياسي الفائز للزميل البياري كان عن نازحي دارفور! ونقول لمثل هذا يا سادتي لا تقام المؤتمرات ولا تنظم الملتقيات ولا تحشد اللقاءات، إنما كان الأجدر والأرحم أن ينصب الناس سرادقاً للحزن والبكاء والعويل على مدى المليون ميل مربع...ولا عزاء للمكلومين!
عاشراً: ضمن اللقاءات الجانبية التي تمت بين المؤتمرين والمسؤولين، كان هناك لقاء مع رأس الدولة المشير عمر البشير في بيت الضيافة (13/5/2009) ووفقاً لما أشارت له الصحف فقد شهد ولأول في تاريخ الانقاذ، اعترافه بظاهرة بيوت الأشباح والضرر الذي اصاب البعض من قرينتها المسماة بالفصل التعسفي، وطلب من المتضررين فتح صفحة جديدة. المدهش أن رأس الدولة هيأ فرصة تاريخية للمدعوين للوقوف عند القضيتين اللتين رُزِىء منهما خصوم الانقاذ، وكان بإمكان المستمعين استثمار الاعتراف ومواصلة الحديث حوله بشفافية، بل كان من المأمل تطوير تلك الدعوة والنظر في امكانية الخروج بمبادرة تضمد الجراح وترد المظالم، لا سيما، وبين ظهرانينا من ظلَّ يرفع لواء (العدالة الانتقالية) حتى كلَّ مَتنه، وكذلك أهرق الكثيرون حبراً دِهاقاً وتحدثوا مراراً وتكراراً عن كيفية استلهام تجارب دول عرفت بانتهاكاتها الفظيعة لحقوق الانسان، ولكنها نجحت في بلسمة جراح ضحاياها مثلما هو الحال في جنوب أفريقيا والمغرب وبعض دول أميركا اللاتينية. بل بين يدينا جهود سودانية خالصة وُضِعت نظرياً على الورق في عدة اتفاقيات كان نظام الانقاذ طرفاً أساسياً فيها، فعلى سبيل المثال اتفاق القاهرة الموقع بينه والتجمع الوطني الديمقراطي (2005) وقبله كان هناك اتفاق جدة بينه والحزب الاتحادي الديمقراطي (2004) وقبلهما كانت هناك اتفاقية جيبوتي بينه وحزب الأمة (1999) ولا داعي لتعميق الجراح بالحديث عن نيفاشا وإخواتها، ولهذا نعتقد أن المؤتمرين اضاعوا فرصة ثمينة كان يمكن اقتناصها ودحرجتها. فهل يا ترى لم يعلم حاضرو ذلك اللقاء أن الاعتراف الذي اندلق من بين الشدقين هو سيد الأدلة كما يقول القانونيون، ويمثل في الوقت نفسه نصف المسافة نحو العدالة، بحيث يسهل التفاكر أو الاجتهاد حول النصف الآخر؟ أم يا ترى لم يتيقن السادة المبجلون من وعد الأمان الذي منحهم له السيد كمال عبد اللطيف في نفس اللقاء عندما قدمهم للمشير البشير قائلاً: «اسألوا ما بدا لكم من أسئلة ساخنة» بمثلما لم يجد التقريظ الذي ذرَّه على مسامعهم فتيلاً :«نقيتهم نقاوة ما فيهم زولاً هيّن ولا ليّن، ومعظمهم معارضون وبعضهم ترك السودان منذ مجييء الانقاذ وبكرهونا عمى»!
إذاً يا ايها الملأ أفتُوني في رُؤياي إن كُنتُم للرؤيا تعبُرُون!!
عن موقع سودانيل
ملاحظه في محلها وفي الواقع ما دار بين الكاتبين من حوار كان في اكثر من مقالين لكل واحد منهماواستهداءً برأيك ساقوم برفع مقالين لتتضح الصورة للقارئ..مع شكري..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البداية مع الضو
حَصاد الهشِيم في مُلتقى الاعِلاميين
فتحي الضَّـو
faldaw@hotmail.com
ثمة نُكتة تذكرتها بمناسبة هذا المقال، وكان الناس قد تداولوها في بواكير جاهلية العُصْبَة ذوي البأس، حينما ابتدعت يومذاك ما أسمته بـ (الباصات السياحية) بغرض تخفيف حِدة أزمة المواصلات على خلق الله، ولكن كالعهد بهم فقد كان ذلك حلاً أشبه بما نطقت به ماري أنطوانيت زوجة لويس السادس عشر، والتي اقترحت على فقراء الفرنسيين المتظاهرين أمام قصر فرساي أكل (الجاتوه) عِوضاً عن الخبز الحافي الذي طالبوا به ليسُدَّ رَمَقهم! المُهم أن أحفادها بالتبني خصصوا تلك (الباصات) لتعمل جنباً إلى جنب مع الخطوط العادية، ولكن بفارق (سياحي) في سعر (التذكرة) والذي تضاعف كثيراً. تقول النكتة أن أحد الكادحين لم يكن يعلم بتلك البِدعة، فهرع ذات نهار قائظ نحو أحد الباصات السياحية، وحشر نفسه داخله دون عناء، بل استعجب حصوله على مقعدٍ خالٍ بلا مكابدة. ولكن فرحته تلك لم تدم طويلاً، إذ أخبره المُحصِل بسعر التذكرة المضاعف، فأراد صاحبنا المسكين الاحتجاج، لكن المُحصِل شرح له أسباب ذلك بقوله إن الباص سياحي. ولمَّا كان الرجل لا يملك المبلغ المطلوب وأُسِقط في يده...نهض مُتذمراً من مقعده والحسرة تملأ قلبه...وشاء قبل مغادرة الباص التنفيس عن كُربته، فالتفت نحو الرُكَّاب وخاطبهم بصوتٍ عالٍ قائلاً...إن شاء الله البلد تكون عجبتكم! ونحن بدورنا نستعير هذه الطُرُفة، ونقولها للزميلات والزملاء الذين هَرعوا خِفَافاًً ويَممُوا وجوههم شطر الخرطوم لحضور ما سُمي بملتقى الاعلاميين في الخارج!
لكن الأمر بدأ لي أكثر من طُرُفة، وفي الحقيقة إزدادت قناعتي بتلك التمنيات الطيبة إثر مشاهدتي أحد الغِرُّ الميامين الذين تكبدوا المشاق لحضور المؤتمر وقد جاءه قادماً من إحدى الدول الأوربية، والتي نمسك عن ذِكر اسمها لأن سيرتها أصبحت تثير أعصاب العُصْبة ذوي البأس، بل تتمنى لو أنها دكتها دكاً دكاً ومسحتها شبراً شبراً من خارطة العالم، ولكن ما علينا بحقدٍ استوطن في القلوب، ولا ضغائن مارت وفارت في الصدور، ودعونا نعود للمذكور الذي نتوارى خجلاً أيضاً من ذِكر اسمه، فقد ظهر على شاشة القناة الفضائية السودانية وهو مُدجج بكاميرا فوتوغرافية، وتحدث في أخبار النشرة الرئيسية (الساعة العاشرة مساء16/5/2009) وكان ضمن فوج من المؤتمرين اختاروا الذهاب إلى الفاشر للوقوف على حقيقة الأوضاع، بعيداً عن الاعلام الغربي صاحب الأجندة الخفية والدوافع المُغرِضة على حد زعمه. وللوصول لذلك الهدف النبيل، قال المذكور إنه انتبذ مكاناً قصياً وشقَّ طريقه ليصبح بمنأى عن الجماعة، وذلك حتى يتسنى له تلمس الواقع بلا رقيب أو عتيد. ولا أخفي عليك يا عزيزي القاريء إنني ما أن سمعت ذلك حتى تحفزَّت وجعلت من جسدي كله آذاناً صاغية. بل قلت في نفسي سراً: لله دَرُّهُ هذا الفتي إنه يأتي البيوت من شبابيكها، وبالرغم من أن ذلك يمثل أبغض الحَلال في ظِل الأنظمة الديمقراطية، إلاَّ أنه أمر مرغوب فيه في ظل الأنظمة الديكتاتورية. لكن الفتى الجَحْجاح لم يشأ أن يجعلني أنعم بما أضمرته، إذ ما لبث أن أحبطني دون وازِع إنساني أو سياسي...فقد قال – لا فضَّ فُوه - إنه استوقف مواطناً وسأله عن معسكر أبوشوك؟ فقال له المواطن المغلوب على أمره...أنت في معسكر أبوشوك. فأبدى (السائح الاعلامي) دهشةً بالغة! وقال للمشاهدين الذين صبروا على الأذى مثلنا...في الحقيقة يا جماعة لا شيء يدل على أنه معسكر لاجئين!
لم أشعر بإهانة شخصية أصابتني في مقتلٍ بمثلما شعرت في تلك اللحظة...هي إهانة لا يجدي معها الغضب ولا الانفعال ولا الحسرة، لأن القائل لم يكن يدري إنه بقوله ذاك قد أساء لنفسه أولاً، ثم للمناسبة التي ضرب لها أكباد الطائرات ثانياً، ثم للمهنة التي احتمي بمظلتها ثالثاً، ثم لبني جلدته الذين وقعوا بين سندان الظروف البائسة ومطرقة تهكمه البيئس رابعاً، ثم للانسانية جمعاء خامساً وأخيراً. بيد أن الفضول دفع بالتساؤل الذي مضغته الألسن كثيراً في كواليس المؤتمر إلى دائرة العلن، فلابد أنك تساءلت يا عزيزي القاريء مثلما تساءل أناس من وراء حجاب: هل كان ذلك المؤتمر حقاً ملتقى للاعلاميين وفقاً لتسميته ومداولاته وصِيته؟ من المؤكد أن الاجابة ليست عصية على قوم اتصفوا بفراسة تعرف الأجنة في الأرحام، ناهيك عن استنكاه دوافع من تبختر أمامهم بزهو وخيلاء. فالذين تابعوا وقائع هذا الملتقي أدركوا دون عناء يذكر، أن غالبية الحضور هم كالمعيدي تسمع به خير من أن تراه، فلا صِله لهم بالاعلام وإن كانوا من ذوي الصِلة بالمحفل وأهله، وليت الجهة الداعية تفعل خيراً وتقوم بنشر الأسماء والهويات على الملأ حتى يستبين الناس عشيتهم من ضحاهم. وبما أن الشيء بالشيء يذكر نتساءل كذلك عن جدوى حضور شخصيات من دول عربية شقيقة، ونخص بالذكر مثالاً محمد الهاشمي الحامدي، بإعتباره أحد الشخصيات المثيرة للجدل وله ارتباطات باطنية بالانقاذ وفجورها، وقد كشفت بعض الصحف عن دعم ممدود كان يتلقاه نظير تسخييره صحيفته (المستقلة) لخدمة المشروع الحضاري وهو في أوج تطرفه. وأيضاً كان الدكتور عبد الله الأشعل بين الحاضرين، وهو يفترض أن يكون رجل قانون، ولا يوجد أي سبب منطقي يدعم حضوره المناسبة، اللهم إلا إذا كانت اطلالته الراتبة في الفضائية السودانية قد أَهَّلته لأن يكون أحد الاعلاميين السودانيين العاملين بالخارج!
نخلص إلى عشِر ملاحظات استنبطناها من رِكام هذه المناسبة، ومنَّا إلى الجهة التي أشرفت عليها وذلك استجابةً لدعوتها الكريمة في ضرورة المناصحة بين الراعي والراعية، لعل هذا يكون حافزاً لها في استبانتها قبل ضحى الغد:
أولاً: من المُسلَّم به أن الطريق إلى عقل الاعلام الخارجي يمر أولاً بقلب الاعلام الداخلي، بمعني أن الذين توخوا إصلاحاً وصلاحاً للاعلام الخارجي عليهم في الأساس أن يصبُوا جهودهم في الاعلام الداخلي، ومن هذا المنطلق نعتقد أن الملتقي لم يكن موفقاً في اختيار التوقيت المناسب، فلضمان مثل تلك الملتقيات كان ينبغي إزالة كل المطبات الهوائية، والعمل على تهيئة المناخ الضروري لتعزيز الثقة بين الداعي والمدعوين، ولكن الذي حدث كان على العكس تماماً، فعلاوة على القيد المسمى بالرقابة القبيلة، فقد تزامن انعقاد الملتقى مع ازدياد حدة التوتر بين الشريكين حول قانون الصحافة والمطبوعات والذي يفترض أن يكون في صدارة أولويات المدعوين، بل جعل الشريكان من ساحة الملتقى نفسه ميداناً للرماية بتراشق واتهامات تجاوزت قانون المطبوعات وطالت الطعن في الذمم بوصمها بالفساد. علاوةً على أنهما – كما هو معروف - ليسا على قلب شريك واحد في موضوع المحكمة الجنائية، وبناءً عليه فالسؤال الذي يثور هنا: هل يمكن أن يُصلح عطار الملتقى ما أفسده دهر السياسة؟
ثانياً: لقد كشف ضعف التغطية الاعلامية لمؤتمر إعلامي عن مفارقة تدعو للشفقة والأسى، وأكد في نفس الوقت أن الجهة المشُرفة كان هاجسها حشد أكبر عدد من المدعوين أكثر من اهتمامها بما يمكن أن ينتج عنهم في القضية الاساسية. فهي تقول أن عددهم بلغ 400 إعلامي منهم 250 من الخارج و150 من الداخل، وكان من المفترض بل من المتوقع بالنظر لذلك العدد الضخم أن تُسيطر أخبار الملتقى تلقائياً على الساحة، وتنعكس بتغطية إعلامية شاملة يمكن أن تكون تمريناً ديمقراطياً، في حال صدقت النوايا التي جعلت من قضية الحريات الاعلامية هماً اساسياً أو هكذا ترآءى للناظرين. بل لعل المُدهش أن عدد الصحفيين الذين تناولوا الحدث بالتعليق في أعمدتهم اليومية لا يتعدى أصابع اليدين، وقد تَذهَلُ كُلُّ مُرضِعة عمَّا أَرضَعت إذا ما علمت أن الصحف جميعها خلت من البيان الختامي والقرارات والتوصيات، واكتفت بنذرٍ منه في السياق الخبري! وقد ساورني إحساس عميق بهاجس قال لي أن صحفيي الداخل جاءوا للفُرجة على صحفيي الخارج الذي هبطوا من دنياوات العالم! وبالقدر نفسه بادلهم صحفيو الخارج استطعام ذات الدهشة!
ثالثاً: في غزلٍ مكشوف وبحسب تغطية صحيفة الرأي العام (15/5/2009) قال السيد نافع على نافع موجهاً حديثه للسيد كمال عبد اللطيف عندما سمع بكلمته التصالحية تجاه المعارضين:«إنت ما عندك أخلاق بتكون بِعتنا للجماعة ديل، ونحن حنطلِّع بيان نكيّسك ونقول دا كلامك إنت بس ما كلام الحكومة» فقال كمال:«إنت لو عايز تكيسني صاح قول نحن الكتبنا ليهو الخطاب» في الواقع لا نريد أن نفسد على السيد كمال بهجة يومه ذاك، ولكن لو أن السيد نافع طبَّق عملياً مزحته تلك، لكان قد كافاْ الحكومة مغبة ما احتوش مواقفها من ظنون، ولكان قد انقذ كمال نفسه من تبعات خطاب يعد في التقدير من أسوأ ما نضح عن الملتقى، نسبة لأنه ارتأى أن يكون قومياً، فكان تجسيد فعلياً وباسقاطات العقل الباطن لمشروع مثلث حمدي (عبد الرحيم حمدي وزير المالية الأسبق صاحب تلك الفكرة الجدلية التي فضحت الاجندة الخفية لدولة الصحابة) بجانب أن الخطاب نفسه غرق في بحور عاطفية ولم يقدم تحليلاً علمياً لأدواء قضية جاءها المدعوون من أركان الدنيا الأربعة على حد فخره وتباهيه، بل أن الأنكي والأَمْر ذلك التخليط الذي مزج بين أصحاب مواقف مشرفة كانوا دوماً من نصراء الديمقراطيات مع أصحاب مواقف مخزية ظلوا على الدوام يقتاتون من موائد الديكتاتوريات، وبالرغم من أن الخطاب ليس بوثيقة يُعتد بها في هذا المضمار إلا أن الأمانة تقتضي نقده وتشريحه، لأنه بمثل ذلك التخليط اعتقد البعض أن القضية السودانية هي محض سمك لبن تمر هندي!
رابعاً: هذه ملاحظة تتسق مع ما مضى، وقد سبقني في الاشارة لها الزميل الصديق فيصل محمد صالح في عموده المقروء (الأخبار16/5/2009) وهي تؤكد أن المؤتمر الذي أُفترض أن يكون قومياً يعكس التعدد الحزبي ويمثل كل ألوان الطيف السياسي، جاء في مجمله تكريساً لهيمنة المؤتمر الوطني، وبحسب فيصل «تحولوا إلى متحدثين حزبيين باسم المؤتمر الوطني، وتحينوا الفرصة للهجوم على القوى السياسية الأخرى ورميها بتهم كثيرة» وتساءل أيضاً «ألم يكن من الأوجب والأعدل أن تتاح لباقان أموم أو ياسر عرمان أو مالك عقار فرصة الوقوف أمام المؤتمرين ومحاورتهم والادلاء برأي الحركة في المحاور والقضايا المطروحة؟ وكذلك محمد إبراهيم نقد والصادق المهدي» ولكنه عِوضاً عن ذلك فقد «تحول المؤتمر المصروف عليه من مال الحكومة لمنبر لحزب المؤتمر الوطني وهذا ما لا يجوز» وبناءً على ما تعلمناه في مدارج المرحلة الابتدائية، دعونا نستعير فصاحة الخروف في تلك القصة المعروفة ونقول: هل بعد السلخ ذبح يا مسعود؟
خامساً: إن أُم الكتاب في هذا الملتقى، هو السؤال الجوهري الذي كان ينبغي أن يسأله الداعي والمدعو لأنفسهم ويُحتم إجابة صادقة مع النفس قبل الآخرين وهو: هل نحن بصدد قضية مهنية بحتة تختص بالاعلام ودروبه، أم أننا أمام أزمة وطنية شاملة يعد الاعلام واحداً من جزئياتها الكثيرة والمتشابكة؟
سادساً: إلحاقاً للسؤال أعلاه، إذا افترضنا جدلاً أن الاعلاميين الذين اجتمعوا في رحاب الملتقى المذكور كانت قضية الحريات الصحفية هي مبعث همهم وغاية عزمهم، لعل السؤال الذي كان ينبغي أن يطرحه المشاركون على أنفسهم بأمانة وموضوعية أيضاً: هل المدعوون يُعدَّون في زمرة المتضررين بشكل مباشر أو غير مباشر من القيود التي تكبل تلك الحريات؟ فلو أن قائل اكتفى بالاجابة الأخيرة القائلة إنهم متضررون بشكل غير مباشر، وأن مطالبهم التي نادوا بها والخاصة بالحريات الصحفية هي من قبيل المؤازرة مع من ظلَّ يعاني من قيودها فعلياً، فسنقول له ساعتئذٍ أحسنت وبوركت وكفى الله المؤمنين شر الجِدال، أما إذا كابر مُكابر وقال أن صحفيي الخارج برمتهم متضررون بصورة مباشرة من قيود الحريات، فحتماً سنقول له كذباً كاذب، لأن الواقع يدحض الافتراء، فالاحصائيات تشير إلى أن الذين يتعاملون بشكل مباشر مع الصحافة السودانية ومن خلال هامش الحريات المتاح، لا يتعدون بضع أفراد بل لربما أقل من أصابع اليدين، وهو عدد إذا ما قورن بنحو 250 مدعو فسنجد أنه مجرد نقطة في محيط! ومن جهة أخرى إذا افترضنا أن رسالة الملتقى موجهة للعالم الخارجي فحسب، فالمعروف أن الذين توافدوا على الخرطوم...بعضهم يعمل في مؤسسات إعلامية تتمتع بحريات صحفية حد البطر، فأين إذن مساهماتهم في قضايا الوطن، علماً بأن لا قيد يدمى معصمهم؟
سابعاً: يعجب المرء أيما عجبٍ من الذين يزايدون على وطنهم ومواطنيهم ويدَّعون إنهم اتخذوا مواقف مناهضة للعصبة أو الديكتاتوريات التي سبقتها، ويكثرون من ترديدها ويزعمون أن تلك مرحلة طُويت صحائفها، وحتى لو صدق خطلهم فلا يدرى المرء لماذا تُطوى صحائف كتاب طالما أن العِلَّة موجودة والجرح متقيح والألم مستمر؟ ما الذي استجد حتى تصبح تلك المواقف وثائقاً تتوسد تلافيف الذاكرة؟ ومن ذا الذي قال إن الدفاع عن قضايا الحريات العامة فرض كفاية يقوم به البعض ويسقط عن الآخرين؟ لسنا في حاجة للقول إن الحرية بالنسبة للصحفي هي بمثابة الماء والهواء، بل كلما استمطر سحابتها أتاه خراجها دون صلاة استسقاء. ولذا فالدفاع عنها صيرورة تاريخية لاهدنة ولا مهادنة فيها، فإن لم يكن بمقدور البعض الاستمرار في طريق وعِر مليىء بالأشواك ومشبع بالمِحن والإحن، فما عليهم سوى الكف عن مزايدات هم يعلمون قبل غيرهم أنها مجرد هرطقات...لا أرضاً قطعت ولا ظهراً أبقت!
ثامناً: لا ندري لماذا انشغل الناس بتكلفة الملتقى، مع أن الذي يستحق الانشغال من ذات الشاكلة كثر. ومع هذا لا نعتقد أن الهمس الجهير أخطأ إرساله نحو آذان القائمين على أمره، بل يُحمد للزميل الطاهر حسن التوم الذي أثار الموضوع في الحوار الذي أجراه مع السيد كمال عبد اللطيف (قناة النيل الأزرق 18/5/2009) وتكهن فيه بتكلفة المؤتمر وفقاً لما تداولته مجالس العاصمة وقال حوالي المليار جنيه، لكن المسؤول لم يطفيء ظمأ حب استطلاع السائل فقال له: افرض مائة مليار حتى هل هذا كثير على أبناء وبنات السودان الذين تركوا ديارهم وأعمالهم وأهليهم؟ في الواقع نحن أيضاً نُعضد بدورنا من افتراضه ونقول بقسم مغلظ لا وألف لا فهم يستاهلون وأكثر، ولكنها على أية حال كانت فرصة لسيادته لاختبار الشفافية في أبهى معانيها، مثلما كانت فرصة لاقتران الأقوال بالأفعال، وعليه لا ندري أيم والله من رسب فيهما؟
تاسعاً: ينبغي علينا جميعاً أن نُطأطيء رؤوسنا خجلاً ونُذِل نفوسنا انكساراً، فقد تزامن مع الملتقى فوز الزميل معن البياري من صحيفة الخليج الأماراتية بجائزة الصحافة العربية التي ينظمها نادي دبي للصحافة سنوياً، وشارك فيها هذا العام 3113 صحفي من 19 بلداً عربياً، ولا تعجب يا عزيزي القاريء إن خلت القائمة من الصحفيين السودانيين، ولكن لك الحق كل الحق في أن تلطم الخدود وتشق الجيوب إذ ما علمت أن التقرير السياسي الفائز للزميل البياري كان عن نازحي دارفور! ونقول لمثل هذا يا سادتي لا تقام المؤتمرات ولا تنظم الملتقيات ولا تحشد اللقاءات، إنما كان الأجدر والأرحم أن ينصب الناس سرادقاً للحزن والبكاء والعويل على مدى المليون ميل مربع...ولا عزاء للمكلومين!
عاشراً: ضمن اللقاءات الجانبية التي تمت بين المؤتمرين والمسؤولين، كان هناك لقاء مع رأس الدولة المشير عمر البشير في بيت الضيافة (13/5/2009) ووفقاً لما أشارت له الصحف فقد شهد ولأول في تاريخ الانقاذ، اعترافه بظاهرة بيوت الأشباح والضرر الذي اصاب البعض من قرينتها المسماة بالفصل التعسفي، وطلب من المتضررين فتح صفحة جديدة. المدهش أن رأس الدولة هيأ فرصة تاريخية للمدعوين للوقوف عند القضيتين اللتين رُزِىء منهما خصوم الانقاذ، وكان بإمكان المستمعين استثمار الاعتراف ومواصلة الحديث حوله بشفافية، بل كان من المأمل تطوير تلك الدعوة والنظر في امكانية الخروج بمبادرة تضمد الجراح وترد المظالم، لا سيما، وبين ظهرانينا من ظلَّ يرفع لواء (العدالة الانتقالية) حتى كلَّ مَتنه، وكذلك أهرق الكثيرون حبراً دِهاقاً وتحدثوا مراراً وتكراراً عن كيفية استلهام تجارب دول عرفت بانتهاكاتها الفظيعة لحقوق الانسان، ولكنها نجحت في بلسمة جراح ضحاياها مثلما هو الحال في جنوب أفريقيا والمغرب وبعض دول أميركا اللاتينية. بل بين يدينا جهود سودانية خالصة وُضِعت نظرياً على الورق في عدة اتفاقيات كان نظام الانقاذ طرفاً أساسياً فيها، فعلى سبيل المثال اتفاق القاهرة الموقع بينه والتجمع الوطني الديمقراطي (2005) وقبله كان هناك اتفاق جدة بينه والحزب الاتحادي الديمقراطي (2004) وقبلهما كانت هناك اتفاقية جيبوتي بينه وحزب الأمة (1999) ولا داعي لتعميق الجراح بالحديث عن نيفاشا وإخواتها، ولهذا نعتقد أن المؤتمرين اضاعوا فرصة ثمينة كان يمكن اقتناصها ودحرجتها. فهل يا ترى لم يعلم حاضرو ذلك اللقاء أن الاعتراف الذي اندلق من بين الشدقين هو سيد الأدلة كما يقول القانونيون، ويمثل في الوقت نفسه نصف المسافة نحو العدالة، بحيث يسهل التفاكر أو الاجتهاد حول النصف الآخر؟ أم يا ترى لم يتيقن السادة المبجلون من وعد الأمان الذي منحهم له السيد كمال عبد اللطيف في نفس اللقاء عندما قدمهم للمشير البشير قائلاً: «اسألوا ما بدا لكم من أسئلة ساخنة» بمثلما لم يجد التقريظ الذي ذرَّه على مسامعهم فتيلاً :«نقيتهم نقاوة ما فيهم زولاً هيّن ولا ليّن، ومعظمهم معارضون وبعضهم ترك السودان منذ مجييء الانقاذ وبكرهونا عمى»!
إذاً يا ايها الملأ أفتُوني في رُؤياي إن كُنتُم للرؤيا تعبُرُون!!
عن موقع سودانيل
محمد كمبال- نشط ثلاثة نجوم
رد: المسيح المصلوب فى لوح المحبوب: الحركة الاسلامية، دائرة الضوء وخيوط الظلام
ثم البطل
مفكرة الخرطوم (2): حوار مع فتحى الضو
(1)
كتبت الأسبوع الماضي أن عقلي ووجداني استقرا على الاستجابة لدعوة العصبة المنقذة للمشاركة في الملتقى الحواري الإعلامي بالخرطوم في وجه معاظلات رجال ونساء من الأخيار، كان في مقدمتهم صديقي الصحافي والسياسي الأستاذ فتحي الضو. وفتحي هو من يقرأ المسودة الأولى لمقالاتي قبل إكمالها ونشرها، تماماً كما أقرأ أنا المسودة الأولى لمقالاته. في الإنجليزية يطلقون عبارة (ساوندنق بورد) على طرفي هذا الشكل من العلائق. وفي العبارة معنى أن يكون الواحد مرآة أخيه. وقد نصحني فتحي والحق يقال في المشهد والمغيب، وأمحضني النصح على توالي السنين، وأمحضته إياه سواءً بسواء. وفتحي من الذين إذا صادقوا أوفوا الصداقة كيلها وزادوا، وإذا آمنوا برأي أو فكرة استعصموا بها وتمترسوا حولها. أناوشه بين الفينة والفينة ببيت على ابن الجهم (أنت كالكلب فى الوفاء / وكالتيس في قراع الخطوب). هل أخذنا كل الوقت بنصح أحدنا للآخر؟ كلا. ولكن المهم أن النصح كان في جملة أحواله صادقاً ومتجرداً وخالصاً لوجه الله تعالى.
(2)
إلا أن هناك خلاف بيّن في الرؤى، عند تشخيص الهم الوطني، بيني وبين صاحبي. إذ بدا لي من خلال متابعة متأنية مستطردة لإسهاماته ككاتب قيادي خلال العامين المنصرمين إن فتحي، الذي كتب في الماضي كتاباً كاملاً عنوانه (محنة النخبة السودانية)، أصبح يرى أن محنة السودان في حاضرها تبدأ وتنتهي عند الحركة الإسلامية و(العصبة ذوي البأس) من رجالها. والفقير لربه يرى أن محنة السودان تبدأ وتنتهي عند مثقفيه ومتعلميه وفي طليعتهم من يُفترض أنهم قادة الرأي والفكر ومهندسو الحراك السياسي والثقافي بين قواه المدنية بشكل عام، وأن عجز هذه القوى وخبالها، وأخشى أن أقول هشاشة النسيج الخلقي في قماشتها، وتفشي الروح الانتهازية بين صفوفها هو الذي قاد السودان إلى مشهده الراهن، وهو المشهد الذي انبسطت فيه الحركة الإسلامية إنبساطاً أريحياً على ساحة الوطن كله ومدّت رجليها، ولكنها جعلت بساطها أحمدياً تجلس على حوافه كل القوى الأخرى المستأنس منها والمستوحش. وتلك قضية دلقت على متنها وحواشيها في زمن مضى نصف طن من الحبر.
ويستتبع الخلاف في الرؤى بالضرورة تباين في منهجية الخلاصات والمخارج. عندى أن الحل يكمن في استراتيجية الصعق الكهربائي، بحيث تتواطأ جميع القوى المدنية على نوع من العلاج لعجزها التاريخي المستحكم، يشبه الخضوع لذلك الصاعق الذي يستخدمه الأطباء لإحياء القلب وإعادة تدويره عند ضحايا الذبحة الصدرية. وكنت في حقبة الثمانينات قد وجهت سهام نقد حاد إلى واحدة من القوى السياسية الرئيسة التي علَّقت عليها جماهيرها آمالاً عراض بُعيد انتفاضة أبريل، وهي الحزب الشيوعي السوداني، فقد رأيت ان ذلك الحزب بثقله التاريخي وقوته القطاعية المقدّرة، قد جعل قصارى كدِّه و ذروة همّه، وهو يخوض تجربة الانتخابات النيابية عام ١٩٨٦م، مقارعة الجبهة الإسلامية القومية قراعاً لفظياً وتبخيسها وتنفير الناس عنها. وأذكر وقتها اننى قلت للرمز الشيوعى محمد إبراهيم نقد في حوار قصير دار بيني وبينه، في فيللا رجل الأعمال صلاح الدين إبراهيم أحمد بالخرطوم، ان شعار الحزب الذي ملأ الشوارع وغمر الساحات آنذاك وهو (يا محمد أحمد همّتك.. ما تخلي سادن قمتك) شعار بائس قمئ، وان الأناشيد التي تروجها حملات الحزب في الاحياء والتي تردد شعارات من شاكلة (السدنة ديل ما تصوتولهم) أكثر بؤساً وقماءة. لماذا؟ لأن القوى السياسية الواثقة والمؤثرة والمتطلعة لقيادة التغيير الديمقراطي لا ينبغي لها أن تبني خطابها التعبوي الجماهيري على شتيمة الآخرين ومنابذتهم بالألقاب وتبخيس بضاعتهم، وإنما تبنيه على عرض بضاعتها هي وترويج مفهوماتها وطروحاتها الفكرية الذاتية وسعايتها بين الناس، واستنفار برامجها القومية وأدواتها السياسية والثقافية والاجتماعية المظنون فى قدرتها على التصدي لقضايا الامة، ثم تطمح من فوق هكذا أرضية الى مواددة الشارع العام واستقطاب وعيه.
محنة الحزب الشيوعي في عام الانتخابات الثمانينية لا تختلف فى قليل او كثير عن محنة المشهد السياسي الوطني الراهنة. لا يكفي، بل لا يعقل، أن تكون كل بضاعتك هى "تبخيس بضاعة الآخرين". الأصح أن تعرض بضاعتك أنت. والأهم من ذلك كله أن يكون عندك - في المكان الأول - بضاعة قابلة للعرض! والذي أخشاه أننا كمتعلمين ومدعين للمعرفة ومنتحلين للأدوار في سوح المدافعة السياسية والثقافية ظللنا مثل منتجي أفلام السينما العربية، نصنع أفلاماً، نعلم أن قطاعاً كبيراً من الجمهور يعشقها، ولكنها في نهاية المطاف لا تبدد ليلاً ولاتجدد نهاراً. نبيع للجمهور قصصاً وروايات وحواديت عن مسالب نظام الإنقاذ وفساد أركانه وبشاعة رموزه وخطره على السودان، دون أن نعرض على قومنا منتجات حقيقية موازية قابلة للتسويق السياسي، تطرح البديل ومزاياه وخطط التغيير وطرقه، ودون أن نقدِّم عطاء حقيقياً في مضمار تنمية المناخ الحيوي الذي تتفاعل في بيئته موجبات التغيير. وها نحن بعد عشرين عاماً من عمر الوطن، انسربت عبر مضيق الزمن الممتد من ١٩٨٩م إلى ٢٠٠٩م، نجد أن المواطن السودانى، الذي هو موئل التثقيف السياسى ومادته، قبض الهواء!
(3)
ترانى قلت في وصف صديقي فتحي: "الصحافى والسياسى". ولعلك تساءلت: من أين له بصفة السياسى؟ والإجابة عندى: من كتابه الذائع (سقوط الأقنعة)، الذي جمع بين دفتيه قصة صعود وأفول أكبر حركة معارضة سياسية في تاريخ السودان، عرفت باسم التجمع الوطنى الديمقراطى. وفي الكتاب تتضح بجلاء صلات فتحي العضوية والوظيفية بالحزب السياسي الذي عرف باسم التحالف الوطنى. وكون صديقي ينفي عن نفسه صفة الناطق الرسمي باسم حزب العميد عبد العزيز خالد منذ تأسيسه وحتى اليوم لا يضعه في موقف أفضل من موقفي عندما نفى عني وزير الإنقاذ كمال عبد اللطيف في خطابه الافتتاحي أمام الملتقى الحواري صفة الارتزاق فقال: (لم تكن كتابات مصطفى البطل ارتزاقاً...)، إذ بمجرد أن أكمل الوزير تلك العبارة مال علىَّ صديقي الآخر، مدير تحرير صحيفة (الرأي العام) ضياء الدين بلال، الذي كان يجلس على يساري، وهمس في أذني: (طبعاً الكلام ده معناه إنت مرتزق!).
وعندما عرض فتحي لوحه على شيوخ التحالف، ممن كان لهم في بنائه وتطوره سهم وافر، خرج واحد من المخضرمين هو الأستاذ صديق محيسي، الذي ترأس المجلس الوطني للتحالف في فترة من أحرج فتراته، ليبدي استغرابه ويأخذ على فتحي في مقال منشور أنه في كتابه (سقوط الأقنعة) صوَّر نفسه عامداً متعمداً في صورة المراقب المحايد المستقل ولبس لبوسه واعتمر قلنسوته، واتخذ من تلك الصفة ستاراً لتصفية حسابات العميد عبد العزيز خالد مع خصومه السياسيين داخل التحالف، الذين هم خصوم فتحي نفسه! واستطراداً لدور صاحبي في تسويق حزبه السياسي وتلميعه كتب قبل أسبوعين مقاله المنشور (الصغار الذين أولموا الكبار درساً)، وفيه وصف المؤتمر الثالث للتحالف الوطني الذي التأم في الخرطوم الشهر الماضي بأنه (خطوة غير مسبوقة خلخلت ثوابت راسخة في مضمار العمل السياسي في السودان). واحتفى احتفاءً شديداً بما أسماه تخلي رئيس المكتب التنفيذي العميد عبد العزيز خالد عن موقعه التزاماً بمبدأ عدم تولي أي شخصية لهذا المنصب لأكثر من دورتين. وقرَّع فتحي شعب السودان تقريعاً ونعى عليه أنه لم يحتفِ بهذه الظاهرة السياسية غير المسبوقة فكتب: (كان ينبغي الاحتفاء [بالظاهرة] بصورة تليق بتفردها ولكن فيما يبدو فإن زامر الحى لا يُطرب).
غير أن صاحبي نسيَ أن يزوِّد شعبه بمعلومة من الأهمية بمكان، وهي أن العميد عبد العزيز لم يتخلَّ إلا عن صفة مراسمية شكلية، ولكنه في حقيقة الأمر ما زال يشغل ويتمسك بمنصب رئيس المجلس المركزي للحزب. والذين يعرفون تاريخ حزب التحالف ومأساة انقسامه في بدايات الألفية يدركون حتماً أن العميد كان قد أُطيح به وفقَد موقعه ونفوذه بسبب إخفاقه في السيطرة على المجلس المركزي ورئيسه الراحل البروفيسور الشيخ عبد العزيز عثمان، وأن ذلك الكيان يشكل في حقيقة الأمر القوة الفعلية الحاسمة داخل الحزب. وبهذا التدبير السياسي فإن العميد عبد العزيز لم يفعل أكثر من كونه ترسَّم خطى رجل روسيا القوي فلاديمير بوتين، الذي كان ولا زال يمسك بزمام الأمور في بلده بيد من حديد. وكان بوتين قد أعلن لشعبه انه سيتقيد بالنص الدستوري الذي يحدد فترات الرئاسة، فكان أن اختار شاباً وسيماً من أقرب خلصائه هو ديميتري مديفيف ودفع به إلى مقعد الرئاسة ثم نصَّب من نفسه رئيساً للوزراء يدير الأمور – كقائد أبدي لروسيا - من وراء ستار!
ما صلة هذا كله بما نحن فيه؟ ما هو الرابط بين حزب التحالف وفعالياته الداخلية وبين قضيتنا؟ الصلة والرباط تعرفهما، أيها الأعز الأكرم، عندما تدرك أننا نتجه إلى توصيف وتقويم المشهد السياسي السوداني بأسره وتدارس العلاقة بين كل القوى السياسية السودانية، أحزاباً ومجتمعاً مدنياً، من ناحية ونظام الإنقاذ الحاكم من ناحية أخرى. نفعل ذلك وفى غرضنا أن نسلط الضوء، في أعقاب تداعيات ملتقى الحوار الإعلامي مؤخراً، على بعض مظاهر الانفصال الشبكي وعمى الألوان في حياتنا العامة، فنبصّر أنفسنا ونذكِّر الناس بالحقائق كما هي على أرض الواقع. فقد بدا لنا مما نراه حولنا من الاستعراضات البهلوانية وعروض ( الثلاث ورقات) وبيع الترام بالجملة لعامة الناس، أن التبصرة والتذكرة ربما أعانت بعض الضحايا على الاستشفاء من حالة التوهان والتسمم الذهاني والاستغراق في أحلام اليقظة، والفكاك من جحيم الإفراط في ممارسة العادة السرية السياسية!
وحزب التحالف الذي نأمل أن يتولى فتحي، لو أذِن الله، منصب وزير الإعلام في حكومته، حال فوزه في الانتخابات المقبلة، يجيئ في طليعة الأحزاب المتحاورة والمتعاملة مع نظام الإنقاذ تعاملاً شاملاً كاملاً غير مشروط. ونحن نعلم أن مشروع إعادة تأهيل وتوظيف عدد مقدّر من عناصر الحزب ومقاتليه الذين صدوا إلى البلاد من اريتريا عقب انفضاض مولد النضال المسلح تم ضبطه ومعالجته، عملاً وتعليماً وكسباً ومعاشاً، بالتنسيق بين جهاز الأمن والمخابرات وقيادة التحالف. ومالنا نلج بأنفسنا موالج الحرج وأمامنا الرجل الثاني في الحزب يشغل موقعاً دستورياً رفيعاً في مؤسسات نظام الإنقاذ!
(4)
طائفة الكتاب الصحافيين والمهنيين المحترفين لصناعة الإعلام هم في نهاية الأمر فئة من فئات المجتمع المدني. والذي نراه في المشهد السياسي السوداني كما يتجلَّى أمام ناظرينا أن كل القوى السودانية المستظلة بظلال الشرعية الدستورية التاريخية، والمكونة لعضوية الجمعية التأسيسية المنتخبة انتخاباً ديمقراطياً في العام ١٩٨٦م، وتلك المتلفحة برداء الشرعية الثورية ممثلة في حملة السلاح وعلى رأسها الحركة الشعبية لتحرير السودان، حاورت الإنقاذ وفاوضته وساومته وتواثقت معه وانخرطت انخراطاً وظيفياً في مؤسسات حكمه. حاورت هذه القوى وفاوضت وساومت في عهود لم تكن فيها رقابة على الصحف، لا لشئ إلا لأنه لم تكن هناك صحف يسمح لها بالصدور أصلاً بخلاف صحف السلطة الحاكمة، إلا من رحم ربك. ثم أنها حاورت وفاوضت وساومت وبيوت الأشباح قائمة، والتعذيب مستطرد، والسجون مشرعة تقول هل من مزيد. وننظر إلى هذه القوى المتماهية في هياكل الحكم اليوم فنراها تبذل لسلطة الإنقاذ من شرايين شرعياتها التاريخية والثورية بذلاناً ممدوداً في غير منّ ولا أذى. بل هي صديق الإنقاذ وقت الضيق، اتحدت قلباً واحداً ويداً واحدة، من أقصى اليمين التقليدي إلى أقصى اليسار الشيوعي لترمي عن قوس واحدة، ترد عن الإنقاذ غوائل أوكامبو ونسوة الجنائية الدولية. المواقف مسطورة والبيانات منشورة. ثم نزيدك من القصيدة موشحاً: تتفاوض الأحزاب السياسية الرئيسة المعارضة عياناً بياناً مع النظام لدعم ترشيح الفريق البشير لرئاسة الجمهورية والتحالف مع حزب المؤتمر الوطني في الانتخابات النيابية!
فيم إذن الهلع والجزع وشق الجيوب والبكاء على أطلال المبادئ الذي رأيناه عند كثيرين، والغلظة والسخرية المريرة التي رأيناها عند صاحبنا فتحي وهو يسطر مقاله المعنون (حصاد الهشيم في ملتقى الإعلاميين)، ينعى إلى شعبه الفئة الضالة التي استصوبت لنفسها رأياً بالمشاركة في مؤتمر حواري مع حكومة الإنقاذ؟ على الأقل هذه الفئة الضالة لم تفاوض الإنقاذ في شئ ولم تعده بشئ. كل ما فعلته انها وقفت عند الباب و(تاوقت) لترى بعيني رأسها قيادات البلاد، يساراً ويميناً، التي انتخبها الشعب في آخر انتخابات حرة مباشرة، وتلك التي لم ينتخبها ولكنها قررت من عندها أنها تمثل (طلائع جماهيره) تجلس في بطن الدار آمنةً مطمئنة لكأنها (ست البيت). ألا ترانا نغرق شعبنا في لجج الأوهام ونبيعه الترام حين نقرّعه وننعى عليه – كما قرّعه ونعى عليه فتحي - إخفاقه في الاحتفاء بحزبه، التحالف الوطني السوداني، وتوقير إنجازاته التي وصفها بأنها (غير مسبوقة)، في وقت يشارك فيه هذا الحزب، مع غيره، في نظام الإنقاذ مشاركة فعلية ويجلس ممثليه تحت قبة برلمانه، وهو حزب يدعي في أدبياته انه يمثل (طلائع الجماهير السودانية)، ثم نقيم الدنيا ولا نقعدها لأن أفراداً معدودين اختاروا حضور منتدى حواري ينعقد بالخرطوم لأيام ثلاث ثم ينفض. والكتاب الصحفيون والإعلاميون المهنيون في مبتدأ الأمر ومنتهاه شخصيات فردية مستقلة لا تمثل إلا نفسها ولا تنطق إلا بلسانها. لم يزعم واحد منهم قط انه يمثل (طلائع الجماهير السودانية)!
(5)
ولكن ربما لم يكن فتحي في حصاد هشيمه الذي صب فيه جام غضبه على الملتقى والمشاركين فيه يصدر عن رفض مبدئى لفكرة مشاركة عناصر صحفية من تكوينات المجتمع المدني، ذات استقلالية فكرية ومهنية، بصفاتها الشخصية، في منتدى حواري تنظمه حكومة الإنقاذ بعد عشرين عاماً من وصولها للحكم. فتحي الذي أعرفه أحدُّ ذكاءً وأرجح عقلاً من أن يورط نفسه فى منزلقٍ وعرٍ كهذا وهو يرى أهل بيته وقادة حزبه يتوهطون أمام الدنيا والعالمين مقاعد وثيرة في صالون النظام الإنقاذي. ولكننا نفهم من مقاله انه، وإن لم يكن لديه اعتراض على مبدأ المشاركة، إلا انه يأخذ على المشاركين أنهم لم يشترطوا على النظام شروطاً لحضورهم منها رفع الرقابة القبلية عن الصحف. ويذكرني منطق صاحبي بحوار قديم، نظمه في نهاية التسعينيات، وسط مناخ سياسي بالغ التعقيد، مركز السودان للديمقراطية والسلام والحقوق المدنية، وأدارته الدكتورة سعاد تاج السر المحاضرة بجامعة ولاية اوهايو، لمناقشة دعوة كان قد أطلقها الصحافي السوداني البارز السر سيدأحمد، طالب فيها كل قيادات وكادرات التجمع الوطني المعارض بمغادرة العواصم العربية والإفريقية والأوربية والعودة إلى الوطن ومواصلة العمل السياسي المعارض من داخله. لم يقف وقتها داعماً للنداء في مواجهة هجمة هستيرية عارمة كادت تهلك الحرث والنسل غير كاتب هذه الكلمات، إلى درجة أن الاستاذ السر سيدأحمد، صاحب الدعوة نفسه، إنشقت الأرض وابتلعته فاختفى من مسرح الحوار وتركني وحيداً يضطرب سفيني وسط شلالات موّارة من الاستهجان والاستنكار. قال نصراء المعارضة آنذاك إن فكرة العودة إلى السودان غير مطروحة إبتداءً، اللهم إلا إذا استجاب النظام لشروط محددة منها: إعادة الديمقراطية! سألناهم يومها: ومن يعيد الديمقراطية؟ وما دوركم أنتم إذا أعادها نفس النظام الذي انقلب عليها؟ ولنفرض جدلا أن إنساً أو جناً أعادها، فما حاجة شعب السودان إلى عودتكم بعدها؟
الأصل في العمل السياسي الراشد أن من يطلب الحقوق يلتمس حاجته في مظانها، سلماً أو حرباً. ولا يرسل الشروط إلى من صادروها عبر أثير الأسافير من فوق ظهر كومبيوتر نقال. النضال السياسي عماده العمل من داخل كل المنابر والساحات المتاحة ووسط كل البشر، بهدف خلق وعي تغييري واستبدال الواقع الماثل بمنظرٍ جديد. وهكذا فأن ذات السؤال القديم المتجدد يعود لينتصب فنجابه به صديقنا فتحى: لو أن النظام استجاب لشروطكم برفع الرقابة وتوفير الحريات بدون قيد أو شرط فمن يحتاجكم في الخرطوم بعد ذلك؟! الكادر اليساري المتمرس محمد سيد أحمد عتيق وصحبه الذين صاغوا البيان الختامي للملتقى الإعلامي كتبوا في وثيقتهم، ولنا بالقطع مآخذ عليها: (الإعلاميون العاملون بالخارج يطالبون الحكومة برفع الرقابة على الصحف...). ورفع ممثلهم عقيرته بهذا النداء من فوق المنصة التي جلس على أريكتها نافع على نافع وغيره من رموز النظام، بحضور وتوثيق أجهزة الإعلام المحلية والاقليمية والدولية وسفراء ودبلوماسيين من الدول الأجنبية، ثم ركب عتيق وصحبه الطائرات وعادوا من حيث أتوا. قل لي – وأنت أصدق من عرفت - أيهما أفضل: أن تجلس في شيكاغو وتملي شروطاً على الهواء، أم تركب الهواء نفسه إلى حيث نافع على نافع وتقول له وعينك في عينه: أنا فتحي الضو وغيري من الكتاب الصحفيين نطالب برفع الرقابة .. ؟! أما علمت يا صديقي أن تغيير المنكر باللسان، أعظم عند الله من محاولة تغييره بشروط مُرسلة من جهاز اللاب توب، وأن أفضل الجهاد عند الله كلمة حق عند مساعدٍ لرئيس الجمهورية؟!
(6)
ما ضرَّ لو أننا – معشر المعارضين للنظام القائم - ترفقنا بقومنا وتواضعنا على كلمةٍ سواء. أن نراجع، ببصر مفتوح وبصيرة نافذة، مسيرة عشرين عاماً ظللنا ندور فيها حول أنفسنا دورات ودورات، كما الثيران في السواقي، فنقتص أثر خطى العقدين لنعرف أين تنكبنا الطريق وكيف توالت علينا الخيبات. ما ضرَّ - أخي فتحي - لو أنك وقفت معي كتفا بكتف فجابهنا إخوتنا ممن ظلوا يعاقرون نضال الملاذات والمنافي عشرين عاماً وقلنا لهم: لو كانت الأنظمة تسقط بالشتائم والسخائم والوعيد وعبارات السخرية ورسوم الكاريكاتير، نرسم ورقاتها ونحن مستلقين مسترخين على ضفاف نهر السين، لكان نظام الإنقاذ من يومنا جيفةً في بطن الأرض، ولكان سدنته أصفاراً على هامش التاريخ. ما ضرَّ لو تواثقنا على أن ننصح لقومنا بالحق، وإن كان مريراً كالعلقم - فنقول لهم إن أكذوبة الزحف المسلح من سهول اريتريا لتحرير الخرطوم قد ولَّت، وإن (الاجتثاث من الجذور) قد أضحى أثراً من الفولكلور الشعبي. ثم نقول لهم بلسان الناصح الأمين: لا تصيخوا سمعاً لأصحاب الصرْعات الهستيرية المنتحلة، والصرخات التهريجية المفتعلة، الذين يملأون الدنيا سؤالا وجوابا، تحت دعاوى الصمود والبسالة والنقاء الثوري، كلما سمعوا عن فرد أو جماعة من جماعات المجتمع المدني تجلس على مائدة واحدة مع رجال الإنقاذ. والله يعلم انهم كاذبون، وأنه التدجيل والتمثيل والضحك على الذقون. القوى السودانية ذات الوزن المقدر على اختلاف مشاربها، يميناً ويساراً، تجالس قيادات الإنقاذ وتحاورهم وتفاوضهم وتساومهم فرادى وجماعات في كل يوم تشرق فيه الشمس على رؤوس الأشهاد. ومن الخير لنا ولغيرنا أن نتصالح مع الواقع كما هو على أرض المشهد الوطني الذي فصّلناه ووصّفناه، وأن نكابد مع غيرنا من أبناء السودان في الداخل (وقد خلقنا الإنسان في كبد): ندافع الإنقاذ في عرينها مدافعةً، نقتلع الحقوق من فكها غلابا، ونوسّع مواعين المشاركة الديمقراطية غصباً، توسيعاً يستوعب التطلعات المشروعة لشعبٍ أجهده لؤم العصبة المنقذة، مثلما أرهقه نفر من بنيه استهوى أفئدتهم السهر في ليل الإنقاذ الطويل فاستعذبوه وتعشقوه، وعدّوا سهرهم نضالاً، وصدّقوا وهمهم الكبير، كما صدقت غانية قرطبة حملها الكاذب، وما انفكوا يرتجزون تحت ضياء الاقمار رجز ابن زيدون يا ليل طُل أو لا تطُل / لا بد لي أن أسهرك / لو بات عندى قمرى / ما بتُّ أرعى قمرك)!
ولك يا صديق من بحيرات منيسوتا التحايا، والود الذى تعرف.
عن سودانيل
مفكرة الخرطوم (2): حوار مع فتحى الضو
(1)
كتبت الأسبوع الماضي أن عقلي ووجداني استقرا على الاستجابة لدعوة العصبة المنقذة للمشاركة في الملتقى الحواري الإعلامي بالخرطوم في وجه معاظلات رجال ونساء من الأخيار، كان في مقدمتهم صديقي الصحافي والسياسي الأستاذ فتحي الضو. وفتحي هو من يقرأ المسودة الأولى لمقالاتي قبل إكمالها ونشرها، تماماً كما أقرأ أنا المسودة الأولى لمقالاته. في الإنجليزية يطلقون عبارة (ساوندنق بورد) على طرفي هذا الشكل من العلائق. وفي العبارة معنى أن يكون الواحد مرآة أخيه. وقد نصحني فتحي والحق يقال في المشهد والمغيب، وأمحضني النصح على توالي السنين، وأمحضته إياه سواءً بسواء. وفتحي من الذين إذا صادقوا أوفوا الصداقة كيلها وزادوا، وإذا آمنوا برأي أو فكرة استعصموا بها وتمترسوا حولها. أناوشه بين الفينة والفينة ببيت على ابن الجهم (أنت كالكلب فى الوفاء / وكالتيس في قراع الخطوب). هل أخذنا كل الوقت بنصح أحدنا للآخر؟ كلا. ولكن المهم أن النصح كان في جملة أحواله صادقاً ومتجرداً وخالصاً لوجه الله تعالى.
(2)
إلا أن هناك خلاف بيّن في الرؤى، عند تشخيص الهم الوطني، بيني وبين صاحبي. إذ بدا لي من خلال متابعة متأنية مستطردة لإسهاماته ككاتب قيادي خلال العامين المنصرمين إن فتحي، الذي كتب في الماضي كتاباً كاملاً عنوانه (محنة النخبة السودانية)، أصبح يرى أن محنة السودان في حاضرها تبدأ وتنتهي عند الحركة الإسلامية و(العصبة ذوي البأس) من رجالها. والفقير لربه يرى أن محنة السودان تبدأ وتنتهي عند مثقفيه ومتعلميه وفي طليعتهم من يُفترض أنهم قادة الرأي والفكر ومهندسو الحراك السياسي والثقافي بين قواه المدنية بشكل عام، وأن عجز هذه القوى وخبالها، وأخشى أن أقول هشاشة النسيج الخلقي في قماشتها، وتفشي الروح الانتهازية بين صفوفها هو الذي قاد السودان إلى مشهده الراهن، وهو المشهد الذي انبسطت فيه الحركة الإسلامية إنبساطاً أريحياً على ساحة الوطن كله ومدّت رجليها، ولكنها جعلت بساطها أحمدياً تجلس على حوافه كل القوى الأخرى المستأنس منها والمستوحش. وتلك قضية دلقت على متنها وحواشيها في زمن مضى نصف طن من الحبر.
ويستتبع الخلاف في الرؤى بالضرورة تباين في منهجية الخلاصات والمخارج. عندى أن الحل يكمن في استراتيجية الصعق الكهربائي، بحيث تتواطأ جميع القوى المدنية على نوع من العلاج لعجزها التاريخي المستحكم، يشبه الخضوع لذلك الصاعق الذي يستخدمه الأطباء لإحياء القلب وإعادة تدويره عند ضحايا الذبحة الصدرية. وكنت في حقبة الثمانينات قد وجهت سهام نقد حاد إلى واحدة من القوى السياسية الرئيسة التي علَّقت عليها جماهيرها آمالاً عراض بُعيد انتفاضة أبريل، وهي الحزب الشيوعي السوداني، فقد رأيت ان ذلك الحزب بثقله التاريخي وقوته القطاعية المقدّرة، قد جعل قصارى كدِّه و ذروة همّه، وهو يخوض تجربة الانتخابات النيابية عام ١٩٨٦م، مقارعة الجبهة الإسلامية القومية قراعاً لفظياً وتبخيسها وتنفير الناس عنها. وأذكر وقتها اننى قلت للرمز الشيوعى محمد إبراهيم نقد في حوار قصير دار بيني وبينه، في فيللا رجل الأعمال صلاح الدين إبراهيم أحمد بالخرطوم، ان شعار الحزب الذي ملأ الشوارع وغمر الساحات آنذاك وهو (يا محمد أحمد همّتك.. ما تخلي سادن قمتك) شعار بائس قمئ، وان الأناشيد التي تروجها حملات الحزب في الاحياء والتي تردد شعارات من شاكلة (السدنة ديل ما تصوتولهم) أكثر بؤساً وقماءة. لماذا؟ لأن القوى السياسية الواثقة والمؤثرة والمتطلعة لقيادة التغيير الديمقراطي لا ينبغي لها أن تبني خطابها التعبوي الجماهيري على شتيمة الآخرين ومنابذتهم بالألقاب وتبخيس بضاعتهم، وإنما تبنيه على عرض بضاعتها هي وترويج مفهوماتها وطروحاتها الفكرية الذاتية وسعايتها بين الناس، واستنفار برامجها القومية وأدواتها السياسية والثقافية والاجتماعية المظنون فى قدرتها على التصدي لقضايا الامة، ثم تطمح من فوق هكذا أرضية الى مواددة الشارع العام واستقطاب وعيه.
محنة الحزب الشيوعي في عام الانتخابات الثمانينية لا تختلف فى قليل او كثير عن محنة المشهد السياسي الوطني الراهنة. لا يكفي، بل لا يعقل، أن تكون كل بضاعتك هى "تبخيس بضاعة الآخرين". الأصح أن تعرض بضاعتك أنت. والأهم من ذلك كله أن يكون عندك - في المكان الأول - بضاعة قابلة للعرض! والذي أخشاه أننا كمتعلمين ومدعين للمعرفة ومنتحلين للأدوار في سوح المدافعة السياسية والثقافية ظللنا مثل منتجي أفلام السينما العربية، نصنع أفلاماً، نعلم أن قطاعاً كبيراً من الجمهور يعشقها، ولكنها في نهاية المطاف لا تبدد ليلاً ولاتجدد نهاراً. نبيع للجمهور قصصاً وروايات وحواديت عن مسالب نظام الإنقاذ وفساد أركانه وبشاعة رموزه وخطره على السودان، دون أن نعرض على قومنا منتجات حقيقية موازية قابلة للتسويق السياسي، تطرح البديل ومزاياه وخطط التغيير وطرقه، ودون أن نقدِّم عطاء حقيقياً في مضمار تنمية المناخ الحيوي الذي تتفاعل في بيئته موجبات التغيير. وها نحن بعد عشرين عاماً من عمر الوطن، انسربت عبر مضيق الزمن الممتد من ١٩٨٩م إلى ٢٠٠٩م، نجد أن المواطن السودانى، الذي هو موئل التثقيف السياسى ومادته، قبض الهواء!
(3)
ترانى قلت في وصف صديقي فتحي: "الصحافى والسياسى". ولعلك تساءلت: من أين له بصفة السياسى؟ والإجابة عندى: من كتابه الذائع (سقوط الأقنعة)، الذي جمع بين دفتيه قصة صعود وأفول أكبر حركة معارضة سياسية في تاريخ السودان، عرفت باسم التجمع الوطنى الديمقراطى. وفي الكتاب تتضح بجلاء صلات فتحي العضوية والوظيفية بالحزب السياسي الذي عرف باسم التحالف الوطنى. وكون صديقي ينفي عن نفسه صفة الناطق الرسمي باسم حزب العميد عبد العزيز خالد منذ تأسيسه وحتى اليوم لا يضعه في موقف أفضل من موقفي عندما نفى عني وزير الإنقاذ كمال عبد اللطيف في خطابه الافتتاحي أمام الملتقى الحواري صفة الارتزاق فقال: (لم تكن كتابات مصطفى البطل ارتزاقاً...)، إذ بمجرد أن أكمل الوزير تلك العبارة مال علىَّ صديقي الآخر، مدير تحرير صحيفة (الرأي العام) ضياء الدين بلال، الذي كان يجلس على يساري، وهمس في أذني: (طبعاً الكلام ده معناه إنت مرتزق!).
وعندما عرض فتحي لوحه على شيوخ التحالف، ممن كان لهم في بنائه وتطوره سهم وافر، خرج واحد من المخضرمين هو الأستاذ صديق محيسي، الذي ترأس المجلس الوطني للتحالف في فترة من أحرج فتراته، ليبدي استغرابه ويأخذ على فتحي في مقال منشور أنه في كتابه (سقوط الأقنعة) صوَّر نفسه عامداً متعمداً في صورة المراقب المحايد المستقل ولبس لبوسه واعتمر قلنسوته، واتخذ من تلك الصفة ستاراً لتصفية حسابات العميد عبد العزيز خالد مع خصومه السياسيين داخل التحالف، الذين هم خصوم فتحي نفسه! واستطراداً لدور صاحبي في تسويق حزبه السياسي وتلميعه كتب قبل أسبوعين مقاله المنشور (الصغار الذين أولموا الكبار درساً)، وفيه وصف المؤتمر الثالث للتحالف الوطني الذي التأم في الخرطوم الشهر الماضي بأنه (خطوة غير مسبوقة خلخلت ثوابت راسخة في مضمار العمل السياسي في السودان). واحتفى احتفاءً شديداً بما أسماه تخلي رئيس المكتب التنفيذي العميد عبد العزيز خالد عن موقعه التزاماً بمبدأ عدم تولي أي شخصية لهذا المنصب لأكثر من دورتين. وقرَّع فتحي شعب السودان تقريعاً ونعى عليه أنه لم يحتفِ بهذه الظاهرة السياسية غير المسبوقة فكتب: (كان ينبغي الاحتفاء [بالظاهرة] بصورة تليق بتفردها ولكن فيما يبدو فإن زامر الحى لا يُطرب).
غير أن صاحبي نسيَ أن يزوِّد شعبه بمعلومة من الأهمية بمكان، وهي أن العميد عبد العزيز لم يتخلَّ إلا عن صفة مراسمية شكلية، ولكنه في حقيقة الأمر ما زال يشغل ويتمسك بمنصب رئيس المجلس المركزي للحزب. والذين يعرفون تاريخ حزب التحالف ومأساة انقسامه في بدايات الألفية يدركون حتماً أن العميد كان قد أُطيح به وفقَد موقعه ونفوذه بسبب إخفاقه في السيطرة على المجلس المركزي ورئيسه الراحل البروفيسور الشيخ عبد العزيز عثمان، وأن ذلك الكيان يشكل في حقيقة الأمر القوة الفعلية الحاسمة داخل الحزب. وبهذا التدبير السياسي فإن العميد عبد العزيز لم يفعل أكثر من كونه ترسَّم خطى رجل روسيا القوي فلاديمير بوتين، الذي كان ولا زال يمسك بزمام الأمور في بلده بيد من حديد. وكان بوتين قد أعلن لشعبه انه سيتقيد بالنص الدستوري الذي يحدد فترات الرئاسة، فكان أن اختار شاباً وسيماً من أقرب خلصائه هو ديميتري مديفيف ودفع به إلى مقعد الرئاسة ثم نصَّب من نفسه رئيساً للوزراء يدير الأمور – كقائد أبدي لروسيا - من وراء ستار!
ما صلة هذا كله بما نحن فيه؟ ما هو الرابط بين حزب التحالف وفعالياته الداخلية وبين قضيتنا؟ الصلة والرباط تعرفهما، أيها الأعز الأكرم، عندما تدرك أننا نتجه إلى توصيف وتقويم المشهد السياسي السوداني بأسره وتدارس العلاقة بين كل القوى السياسية السودانية، أحزاباً ومجتمعاً مدنياً، من ناحية ونظام الإنقاذ الحاكم من ناحية أخرى. نفعل ذلك وفى غرضنا أن نسلط الضوء، في أعقاب تداعيات ملتقى الحوار الإعلامي مؤخراً، على بعض مظاهر الانفصال الشبكي وعمى الألوان في حياتنا العامة، فنبصّر أنفسنا ونذكِّر الناس بالحقائق كما هي على أرض الواقع. فقد بدا لنا مما نراه حولنا من الاستعراضات البهلوانية وعروض ( الثلاث ورقات) وبيع الترام بالجملة لعامة الناس، أن التبصرة والتذكرة ربما أعانت بعض الضحايا على الاستشفاء من حالة التوهان والتسمم الذهاني والاستغراق في أحلام اليقظة، والفكاك من جحيم الإفراط في ممارسة العادة السرية السياسية!
وحزب التحالف الذي نأمل أن يتولى فتحي، لو أذِن الله، منصب وزير الإعلام في حكومته، حال فوزه في الانتخابات المقبلة، يجيئ في طليعة الأحزاب المتحاورة والمتعاملة مع نظام الإنقاذ تعاملاً شاملاً كاملاً غير مشروط. ونحن نعلم أن مشروع إعادة تأهيل وتوظيف عدد مقدّر من عناصر الحزب ومقاتليه الذين صدوا إلى البلاد من اريتريا عقب انفضاض مولد النضال المسلح تم ضبطه ومعالجته، عملاً وتعليماً وكسباً ومعاشاً، بالتنسيق بين جهاز الأمن والمخابرات وقيادة التحالف. ومالنا نلج بأنفسنا موالج الحرج وأمامنا الرجل الثاني في الحزب يشغل موقعاً دستورياً رفيعاً في مؤسسات نظام الإنقاذ!
(4)
طائفة الكتاب الصحافيين والمهنيين المحترفين لصناعة الإعلام هم في نهاية الأمر فئة من فئات المجتمع المدني. والذي نراه في المشهد السياسي السوداني كما يتجلَّى أمام ناظرينا أن كل القوى السودانية المستظلة بظلال الشرعية الدستورية التاريخية، والمكونة لعضوية الجمعية التأسيسية المنتخبة انتخاباً ديمقراطياً في العام ١٩٨٦م، وتلك المتلفحة برداء الشرعية الثورية ممثلة في حملة السلاح وعلى رأسها الحركة الشعبية لتحرير السودان، حاورت الإنقاذ وفاوضته وساومته وتواثقت معه وانخرطت انخراطاً وظيفياً في مؤسسات حكمه. حاورت هذه القوى وفاوضت وساومت في عهود لم تكن فيها رقابة على الصحف، لا لشئ إلا لأنه لم تكن هناك صحف يسمح لها بالصدور أصلاً بخلاف صحف السلطة الحاكمة، إلا من رحم ربك. ثم أنها حاورت وفاوضت وساومت وبيوت الأشباح قائمة، والتعذيب مستطرد، والسجون مشرعة تقول هل من مزيد. وننظر إلى هذه القوى المتماهية في هياكل الحكم اليوم فنراها تبذل لسلطة الإنقاذ من شرايين شرعياتها التاريخية والثورية بذلاناً ممدوداً في غير منّ ولا أذى. بل هي صديق الإنقاذ وقت الضيق، اتحدت قلباً واحداً ويداً واحدة، من أقصى اليمين التقليدي إلى أقصى اليسار الشيوعي لترمي عن قوس واحدة، ترد عن الإنقاذ غوائل أوكامبو ونسوة الجنائية الدولية. المواقف مسطورة والبيانات منشورة. ثم نزيدك من القصيدة موشحاً: تتفاوض الأحزاب السياسية الرئيسة المعارضة عياناً بياناً مع النظام لدعم ترشيح الفريق البشير لرئاسة الجمهورية والتحالف مع حزب المؤتمر الوطني في الانتخابات النيابية!
فيم إذن الهلع والجزع وشق الجيوب والبكاء على أطلال المبادئ الذي رأيناه عند كثيرين، والغلظة والسخرية المريرة التي رأيناها عند صاحبنا فتحي وهو يسطر مقاله المعنون (حصاد الهشيم في ملتقى الإعلاميين)، ينعى إلى شعبه الفئة الضالة التي استصوبت لنفسها رأياً بالمشاركة في مؤتمر حواري مع حكومة الإنقاذ؟ على الأقل هذه الفئة الضالة لم تفاوض الإنقاذ في شئ ولم تعده بشئ. كل ما فعلته انها وقفت عند الباب و(تاوقت) لترى بعيني رأسها قيادات البلاد، يساراً ويميناً، التي انتخبها الشعب في آخر انتخابات حرة مباشرة، وتلك التي لم ينتخبها ولكنها قررت من عندها أنها تمثل (طلائع جماهيره) تجلس في بطن الدار آمنةً مطمئنة لكأنها (ست البيت). ألا ترانا نغرق شعبنا في لجج الأوهام ونبيعه الترام حين نقرّعه وننعى عليه – كما قرّعه ونعى عليه فتحي - إخفاقه في الاحتفاء بحزبه، التحالف الوطني السوداني، وتوقير إنجازاته التي وصفها بأنها (غير مسبوقة)، في وقت يشارك فيه هذا الحزب، مع غيره، في نظام الإنقاذ مشاركة فعلية ويجلس ممثليه تحت قبة برلمانه، وهو حزب يدعي في أدبياته انه يمثل (طلائع الجماهير السودانية)، ثم نقيم الدنيا ولا نقعدها لأن أفراداً معدودين اختاروا حضور منتدى حواري ينعقد بالخرطوم لأيام ثلاث ثم ينفض. والكتاب الصحفيون والإعلاميون المهنيون في مبتدأ الأمر ومنتهاه شخصيات فردية مستقلة لا تمثل إلا نفسها ولا تنطق إلا بلسانها. لم يزعم واحد منهم قط انه يمثل (طلائع الجماهير السودانية)!
(5)
ولكن ربما لم يكن فتحي في حصاد هشيمه الذي صب فيه جام غضبه على الملتقى والمشاركين فيه يصدر عن رفض مبدئى لفكرة مشاركة عناصر صحفية من تكوينات المجتمع المدني، ذات استقلالية فكرية ومهنية، بصفاتها الشخصية، في منتدى حواري تنظمه حكومة الإنقاذ بعد عشرين عاماً من وصولها للحكم. فتحي الذي أعرفه أحدُّ ذكاءً وأرجح عقلاً من أن يورط نفسه فى منزلقٍ وعرٍ كهذا وهو يرى أهل بيته وقادة حزبه يتوهطون أمام الدنيا والعالمين مقاعد وثيرة في صالون النظام الإنقاذي. ولكننا نفهم من مقاله انه، وإن لم يكن لديه اعتراض على مبدأ المشاركة، إلا انه يأخذ على المشاركين أنهم لم يشترطوا على النظام شروطاً لحضورهم منها رفع الرقابة القبلية عن الصحف. ويذكرني منطق صاحبي بحوار قديم، نظمه في نهاية التسعينيات، وسط مناخ سياسي بالغ التعقيد، مركز السودان للديمقراطية والسلام والحقوق المدنية، وأدارته الدكتورة سعاد تاج السر المحاضرة بجامعة ولاية اوهايو، لمناقشة دعوة كان قد أطلقها الصحافي السوداني البارز السر سيدأحمد، طالب فيها كل قيادات وكادرات التجمع الوطني المعارض بمغادرة العواصم العربية والإفريقية والأوربية والعودة إلى الوطن ومواصلة العمل السياسي المعارض من داخله. لم يقف وقتها داعماً للنداء في مواجهة هجمة هستيرية عارمة كادت تهلك الحرث والنسل غير كاتب هذه الكلمات، إلى درجة أن الاستاذ السر سيدأحمد، صاحب الدعوة نفسه، إنشقت الأرض وابتلعته فاختفى من مسرح الحوار وتركني وحيداً يضطرب سفيني وسط شلالات موّارة من الاستهجان والاستنكار. قال نصراء المعارضة آنذاك إن فكرة العودة إلى السودان غير مطروحة إبتداءً، اللهم إلا إذا استجاب النظام لشروط محددة منها: إعادة الديمقراطية! سألناهم يومها: ومن يعيد الديمقراطية؟ وما دوركم أنتم إذا أعادها نفس النظام الذي انقلب عليها؟ ولنفرض جدلا أن إنساً أو جناً أعادها، فما حاجة شعب السودان إلى عودتكم بعدها؟
الأصل في العمل السياسي الراشد أن من يطلب الحقوق يلتمس حاجته في مظانها، سلماً أو حرباً. ولا يرسل الشروط إلى من صادروها عبر أثير الأسافير من فوق ظهر كومبيوتر نقال. النضال السياسي عماده العمل من داخل كل المنابر والساحات المتاحة ووسط كل البشر، بهدف خلق وعي تغييري واستبدال الواقع الماثل بمنظرٍ جديد. وهكذا فأن ذات السؤال القديم المتجدد يعود لينتصب فنجابه به صديقنا فتحى: لو أن النظام استجاب لشروطكم برفع الرقابة وتوفير الحريات بدون قيد أو شرط فمن يحتاجكم في الخرطوم بعد ذلك؟! الكادر اليساري المتمرس محمد سيد أحمد عتيق وصحبه الذين صاغوا البيان الختامي للملتقى الإعلامي كتبوا في وثيقتهم، ولنا بالقطع مآخذ عليها: (الإعلاميون العاملون بالخارج يطالبون الحكومة برفع الرقابة على الصحف...). ورفع ممثلهم عقيرته بهذا النداء من فوق المنصة التي جلس على أريكتها نافع على نافع وغيره من رموز النظام، بحضور وتوثيق أجهزة الإعلام المحلية والاقليمية والدولية وسفراء ودبلوماسيين من الدول الأجنبية، ثم ركب عتيق وصحبه الطائرات وعادوا من حيث أتوا. قل لي – وأنت أصدق من عرفت - أيهما أفضل: أن تجلس في شيكاغو وتملي شروطاً على الهواء، أم تركب الهواء نفسه إلى حيث نافع على نافع وتقول له وعينك في عينه: أنا فتحي الضو وغيري من الكتاب الصحفيين نطالب برفع الرقابة .. ؟! أما علمت يا صديقي أن تغيير المنكر باللسان، أعظم عند الله من محاولة تغييره بشروط مُرسلة من جهاز اللاب توب، وأن أفضل الجهاد عند الله كلمة حق عند مساعدٍ لرئيس الجمهورية؟!
(6)
ما ضرَّ لو أننا – معشر المعارضين للنظام القائم - ترفقنا بقومنا وتواضعنا على كلمةٍ سواء. أن نراجع، ببصر مفتوح وبصيرة نافذة، مسيرة عشرين عاماً ظللنا ندور فيها حول أنفسنا دورات ودورات، كما الثيران في السواقي، فنقتص أثر خطى العقدين لنعرف أين تنكبنا الطريق وكيف توالت علينا الخيبات. ما ضرَّ - أخي فتحي - لو أنك وقفت معي كتفا بكتف فجابهنا إخوتنا ممن ظلوا يعاقرون نضال الملاذات والمنافي عشرين عاماً وقلنا لهم: لو كانت الأنظمة تسقط بالشتائم والسخائم والوعيد وعبارات السخرية ورسوم الكاريكاتير، نرسم ورقاتها ونحن مستلقين مسترخين على ضفاف نهر السين، لكان نظام الإنقاذ من يومنا جيفةً في بطن الأرض، ولكان سدنته أصفاراً على هامش التاريخ. ما ضرَّ لو تواثقنا على أن ننصح لقومنا بالحق، وإن كان مريراً كالعلقم - فنقول لهم إن أكذوبة الزحف المسلح من سهول اريتريا لتحرير الخرطوم قد ولَّت، وإن (الاجتثاث من الجذور) قد أضحى أثراً من الفولكلور الشعبي. ثم نقول لهم بلسان الناصح الأمين: لا تصيخوا سمعاً لأصحاب الصرْعات الهستيرية المنتحلة، والصرخات التهريجية المفتعلة، الذين يملأون الدنيا سؤالا وجوابا، تحت دعاوى الصمود والبسالة والنقاء الثوري، كلما سمعوا عن فرد أو جماعة من جماعات المجتمع المدني تجلس على مائدة واحدة مع رجال الإنقاذ. والله يعلم انهم كاذبون، وأنه التدجيل والتمثيل والضحك على الذقون. القوى السودانية ذات الوزن المقدر على اختلاف مشاربها، يميناً ويساراً، تجالس قيادات الإنقاذ وتحاورهم وتفاوضهم وتساومهم فرادى وجماعات في كل يوم تشرق فيه الشمس على رؤوس الأشهاد. ومن الخير لنا ولغيرنا أن نتصالح مع الواقع كما هو على أرض المشهد الوطني الذي فصّلناه ووصّفناه، وأن نكابد مع غيرنا من أبناء السودان في الداخل (وقد خلقنا الإنسان في كبد): ندافع الإنقاذ في عرينها مدافعةً، نقتلع الحقوق من فكها غلابا، ونوسّع مواعين المشاركة الديمقراطية غصباً، توسيعاً يستوعب التطلعات المشروعة لشعبٍ أجهده لؤم العصبة المنقذة، مثلما أرهقه نفر من بنيه استهوى أفئدتهم السهر في ليل الإنقاذ الطويل فاستعذبوه وتعشقوه، وعدّوا سهرهم نضالاً، وصدّقوا وهمهم الكبير، كما صدقت غانية قرطبة حملها الكاذب، وما انفكوا يرتجزون تحت ضياء الاقمار رجز ابن زيدون يا ليل طُل أو لا تطُل / لا بد لي أن أسهرك / لو بات عندى قمرى / ما بتُّ أرعى قمرك)!
ولك يا صديق من بحيرات منيسوتا التحايا، والود الذى تعرف.
عن سودانيل
محمد كمبال- نشط ثلاثة نجوم
رد: المسيح المصلوب فى لوح المحبوب: الحركة الاسلامية، دائرة الضوء وخيوط الظلام
مشكور اخي محمد كمبال لاثراء البوست
nashi- مشرف المنتدى الرياضى
ود المحلج- مشرف المنتدى العام
رد: المسيح المصلوب فى لوح المحبوب: الحركة الاسلامية، دائرة الضوء وخيوط الظلام
شكراً محمد شكراً كثيراً وفعلا يستحق القراءة حرفاً حرفاً فالكاتبان ضليعان ومتشربان بكم من اللغة والقدرة على الحوار الجاد بما لاتخطئه عين أتمنى من كل أعضاء المنتدى ممن يهتمون بالشأن السياسي السوداني قراءة المقالين.. لك محمد كما قلت أولاً الشكر والتحية.
خدورة أم بشق- مشرف منتدى الشعر
رد: المسيح المصلوب فى لوح المحبوب: الحركة الاسلامية، دائرة الضوء وخيوط الظلام
د.إحسان كل الثناء و الشكر لكي انت واخي النقر واستاذ الفضل ربنا يحفظكم
مع فائق تقديري
مع فائق تقديري
محمد كمبال- نشط ثلاثة نجوم
رد: المسيح المصلوب فى لوح المحبوب: الحركة الاسلامية، دائرة الضوء وخيوط الظلام
بين الكتابة والرقابة
المحبوب عبدالسلام جانياً وضحية
محمد عثمان إبراهيم
منذ أيام دراستها الجامعية في كلية (ميمين سينغ) الطبية في إقليم العاصمة البنغالية دكا في أواخر السبعينيات وحتى إصدارها لرواية (العار) أو (لاغا) عام 1993 لم يسمع أحد بتسليما نسرين بالرغم من أنها كانت قد أصدرت ست مجموعات شعرية وكتاباً ضم مجموعة مقالات وأربع روايات لم تحظ أي منها بتقدير أدبي رفيع أو إهتمام نقدي. كان يمكن أن تنضم رواية العار الى سلسلة كتابات نسرين المتواضعة لولا أن أصدرت جماعة (جند الصحابة ) المتطرفة فتوى بإهدار دم الكاتبة المغمورة. وجدت الكاتبة المغمورة في فتوى الجماعة المتطرفة السبيل الأمثل نحو الشهرة التي فشلت في العثور عليها من خلال عشرة كتب لم يقرأها أحد، في العالم من حولها، فصرحت بعد أشهر قليلة من الفتوى ضدها لصحيفة هندية تصدر من مدينة كلكتا الهندية إن القرآن بحاجة الى مراجعة! وهكذا تحولت نسرين من أديبة عابرة إلى أيقونة عالمية مناهضة للإسلام (أعلنت إلحادها لاحقاً) وتلقفتها منظمات الدفاع عن المرأة وحرية التعبير وحقوق الإنسان.
-----
لكن حكومة السودان لا تقرأ وأجهزتها لا تستلهم العبر ولا تنقل لنا من العالم الخارجي سوى خطاياه. منعت السلطات المختصة نشر وتوزيع كتاب الكاتب الإسلاموى الناشط فى حزب المؤتمر الشعبي المحبوب عبد السلام (الحركة الإسلامية السودانية - دائرة الضوء وخيوط الظلام) الصادر عن دار مدارك الذي لقى تغطية إعلامية واسعة وقراءة ما كان لها أن تتأتى له لولا حظره الذي رفع أسهم الكتاب، وزاد من رواجه في الأوساط المحلية وفي أوساط السودانيين في المغتربات والمهاجر حول العالم. لم تملك الحكومة الجرأة الكافية لتسمح بنشر الكتاب كما لم تملك الشجاعة اللازمة لتعلن أنها منعت الكتاب. ففيما أعلن المؤلف عبر بيان نشر على نطاق واسع أن الدار الناشرة للكتاب تلقت إخطاراً شفهياً بحظر دخول الكتاب الى السودان، نفت الأمينة العامة لهيئة المصنفات الأدبية والفنية بالإنابة، هالة قاسم، في تصريح لموقع قناة الجزيرة على شبكة الإنترنت خبر حظر الكتاب أو وقف توزيعه بالسودان وعزت التأخير إلى ما اسمته الإجراءات الروتينية المتعلقة بقراءة الكتاب وإجازته «الجزيرة نت 12 مارس 2010 » بالطبع هذا مكر واضح من الحكومة التي ترفض إصدار قرار علني بحظر الكتاب حتى لا تلجأ الدار الناشرة الى الإحتكام للمؤسسات العدلية بحكم أن إجراءات هيئة المصنفات الإدارية خاضعة في النهاية لولاية القضاء.
تخشى الحكومة من كتاب ولا تخشى من خليل ابراهيم وجنده الذين أتوا الى أم درمان ممتشقين السلاح. تطلق الحكومة سراح أسرى العدل والمساواة وتحبس كتاباً.
تخصص الحكومة شرطة كاملة للرقابة على الإبداع ولا تخصص شرطة لحماية المبدعين الذين يلاقون ما يلاقون من التنكيل والمسغبة!
تمنع الحكومة دخول الكتاب عبر المطارات الخاضعة لها والموانيء التي تحت سيطرتها ولكنها لا تدري بأنها تعجز عن منع دخول الكتاب عبر النسخ المصورة والأصلية التي يحملها القادمون الى السودان.
تمنع الحكومة دخول النسخ الأصلية للكتاب بشكل متحضر وقانوني وعادل، وتشجع على القرصنة وإهدار حقوق الملكية الفكرية بتشجيع تبادل النسخ الإلكترونية عبر التواصل الأثيري.
تمنع الحكومة الناشر من تحقيق الربح الحلال والترويج لقيم الجدل الثقافي الحر بوسائل سلمية، بينما تغدق الأموال والمناصب على قطاع الطرق والهاربين والمهربين واللصوص وتعدهم بالمزيد.
تمنع الحكومة الكتاب وهي لا تدري أنها لا تستطيع، ببساطة، منعه. يمكن للقراء أن يحتفظوا بنسخهم الخاصة من الكتاب على أقراص مدمجة أو في ذاكرة الكترونية صغيرة يعلقونها في ميداليات مفاتيحهم، وللعلم فإن هذه الذاكرات الإلكترونية تتسع لآلاف الكتب الأخرى من لدن المحبوب عبدالسلام وحتى سيد القمني والمقريزي وسلمان رشدي ذاته.
ربما استطاعت الحكومة منع توريد الأقراص المدمجة نفسها والذاكرات الإلكترونية، لكن يمكن للقراء أن يحتفظوا بالكتاب في صناديق بريدهم الإلكتروني المحروس بكلمة سر ما إليها سبيل ويمكن لحملة الهواتف النقالة تخزين الكتاب في هواتفهم وإرساله مجاناً لأصدقائهم عبر البلوتوث المجاني القادم من فيوض التقنية وعلوم الإتصال الحديثة.
إن الحكومة بقرارها بعدم السماح بتوزيع الكتاب تبدو كمن يغلق نافذة في بيت بلا أبواب ثم يظن أن بيته محصن من دخول الغرباء.
مسكينة هي الحكومة، ومسكينة وزارة الثقافة ووزيرها الغائب ووزير دولتها الكثيف الحضور الذي لم أشهد له، طوال عشرين عاماً قضاها حاضراً ومتنفذاً في شأن البلاد الثقافي والإعلامي، موقفاً واحداً مناصراً لحرية التعبير أو مسانداً للإبداع الحر في بيئة ديمقراطية يوقع-هو نفسه- الإتفاقيات السياسية لخلقها، وتتولى الأجهزة التابعة له خنقها.
لا شك أن الحكومة السودانية تخشى الآداب والفنون والكتب والصحف والكلمات. هذا أمر مفروغ منه وهي لهذا تقيم شعبة شرطة كاملة لديها محققون سريون (رجال مباحث) باسم شرطة المصنفات وهي معنية كما هو واضح من اسمها بالحجر على حرية التعبير تحت ستار حماية المجتمع من الأشرطة الجنسية الفاضحة وتلك التي تروج للرذيلة والكفر ربما.
بقرارها - غير الذكي!- بعدم السماح بتوزيع كتاب المحبوب عبد السلام المشار اليه تضع الحكومة الكاتب (في الدروة) معصوب العينين، مكبل الأطراف ثم تسمح للجميع بالتصويب عليه والنيل منه، دون أن تمنحه الحق المشروع في قول كلمته علناً أو الدفاع عن نفسه ضد ما قد يصيبه من أذى كتّاب قد لا يحفل بعضهم بقراءة السفر الضخم الممل المعجز.
***
قبل عصر الهواتف النقالة والفاكس والكمبيوتر والإنترنت كانت المعارضة توزع في عهد الدكتاتور الراحل نميري مجلات الدستور البعثية اللندنية والصباح الجديد الإتحادية ونشرات الميدان ومنشورات الإخوان الجمهوريين دون أن تقوى أجهزة حماية سلطة مايو الغاشمة على الوصول للموزعين أو القراء. وفي مرحلة لاحقة تداول الناس سراً ديوان شعر وقصيدة هجاء ساخرة مطولة بعنوان: (كتاب مفتوح الى حضرة الإمام) للشاعر سليم عبدالسلام عبدالله الذي لم يكن سوى السفير الأستاذ سيد أحمد الحردلو، متعه الله بنعمة الشفاء والصحة والعافية. حفظ الكثيرون من طلاب الجامعات القصيدة وردد المعارضون بعض مقاطعها
المحبوب يقدم قراءة بائسة ومتعسفة ، وهي بالفعل كذلك كما أبان كتاب كبار عدول ومخضرمون. بفعلتها هذه تحرم الحكومة نفسها من قراءات كانت ستناصرها لا محالة بسبب أن من العسير جداً أن يقف أحد في صف المحبوب عبد السلام وكتابه الهادف الى شيئين اثنين لا ثالث لهما هما: إعادة تصنيف عالم الحركة الإسلامية المنشقة إلى فسطاطين واحد للخير - وهو ليس كذلك - يقبع فيه هو مع شيخه حسن الترابي وآخرون من ذوي الحظوة، وفسطاط آخر للشياطين يقيم فيه الرئيس البشير ونائبه علي عثمان ومساعده نافع علي نافع ووزيره عوض أحمد الجاز ومستشاره غازي صلاح الدين ومن والاهم دون إستثناء من الأحياء والأموات!
***
تبدو الحكومة الآن، بعد تلكؤها في السماح بنشر كتاب المحبوب هذا، في وضع أسوأ مما كانت عليه عام 1995 حين سمحت بتوزيع نسخ محدودة من كتاب الدكتور عبدالوهاب الأفندي الشهير ( الثورة والإصلاح السياسي في السودان) الذي أفضى بالطرفين (الأفندي وحزب السلطة الحاكم) الى فراق مبين يصعب رتق أطرافه بعد أن طال الزمن وتبدلت النفوس. في كتابه المشار اليه أغلظ الأفندي على زملائه في حكومة الإنقاذ وهو لم يزل بعد دبلوماسياً في الخارجية كما يقول، وكما لا يوافق الكاتب الراحل محمد طه محمد أحمد، الذي اتهم الأفندي بأنه كتب كتابه بعد أن ظن سفينة الإنقاذ غارقة لا محالة وأنه يريد النزول منها بعد أن استدعاه قباطنتها للعودة إلى (كتاحة) وحر الخرطوم بعد سنوات في عاصمة الضباب عاش فيها دبلوماسياً رفيعاً وإعلامياً حاضراً في وسائل الإعلام العالمية في العالم الأول (مقالات محمد طه نشرت في صحيفة السوداني الدولية بعنوان الأفندي ودعاوى السفينة الغارقة). المهم بالرغم من أن الأفندي لم يوفر أحداً كبيراً من رفاقه إلا أن الكتاب لم يٌمنع و تعاملت الدولة مع توزيعه بحياد، وقد تحققت من ذلك من الدكتور الأفندي نفسه عن طريق صديقنا المشترك الكاتب مصطفى عبد العزيز البطل، وأفاد الأفندي أنه لم تكن هناك محاولة مباشرة لمنع الكتاب.
تصدى الأستاذ أحمد كمال الدين - رئيس تحرير مجلة سودان ناو-حينها- والقيادي البارز بدار السودان للطباعة والنشر التي وزعت الكتاب بالرد على محمد طه محمد أحمد على صفحات جريدة الإنقاذ الوطني. وقد توجهت نحو الأستاذ كمال الدين الذي هجر الصحافة الآن وعاد الى القانون وسألته عن حيثيات السماح بتوزيع كتاب الأفندي ومنع كتاب المحبوب خصوصاً وأن الراحل محمد طه ألمح الى تكسب دار السودان من توزيع الكتاب وغمز من قناة كمال الدين مشيراً إلى أن دفاعه عن توزيع ونشر الكتاب في الخرطوم مرتبط بمردود التوزيع. أفادني الأستاذ كمال الدين بأنه أبلغ الشيخ الترابي بنيته في توزيع الكتاب فلم يمانع ثم ذهب الى اللواء الفاتح عروة مدير جهاز الأمن حينها فوافق هو الآخر دون ممانعة، ومن الواضح أنه بعد الحصول على موافقة الرجلين القويين المشار اليهما فإن كمال الدين لم ينشغل بالإتصال بلجنة المصنفات أو وزارة الثقافة أو غيرها وإنما أحضر أربعمائة نسخة فقط قام ببيعها بشكل فردي للمشترين وذكر لي - للتأريخ- إنه لم يمنح نسختين لشخص واحد أبداً سوى للقيادي الإسلاموي الراحل عبد الله بدري الذي احتفظ بنسخة وقدم نسخة أخرى للراحل محمد طه محمد أحمد بعد أن واجهه كمال الدين في مسجد جامعة الخرطوم بحقيقة أنه لم يقرأ الكتاب وأنه يكتب مقالاته القاسية ضد الأفندي عفو الخاطر دون أن يكلف نفسه بقراءة ما كتب الرجل فكان رد طه « ما مهم أقراهو»!
شرح لي الأستاذ كمال الدين أن قيامه بنفسه على أمرتوزيع الكتاب قصد منه تفادي طرحه في السوق كي لا تقوم جهة واحدة بشراء كل المعروض والسلام ، كما يحدث في كثير من الدول المبتلاة بالحكم الشمولي، لكن وجهة نظري لا تزال أن أمر البيع المحدود هذا يبعث الطمأنينة في أروقة السلطة بأن غالبية القراء سيكونون من النخبة داخل نادي السلطة الخاص، وهي الجماعة التي كان بوسعها الوصول الى حيث الأستاذ كمال الدين نفسه.
إذن لن نخطيء التحليل لنقول إن الإنقاذ في طبعتها الأولى التي يتناولها كتاب المحبوب، كانت أكثر قبولاً للرأي الآخر من إنقاذ الطبعة الثانية، لكن ما يثير التأمل في الإنقاذ الحالية أنها تتراجع في مناطق معينة عن عشريتها الأولى وفي ذهني حادثة رفض لجنة المصنفات الفنية - إياها- إجازة كلمات أغنية عقد الجلاد القديمة (ساجور) التي كتب كلماتها جمال حسن سعيد. وفي الوقت الذي تمنع فيه الحكومة أغنيات مثل ساجور وديوان الشاعر علي عبد القيوم وكتاب المحبوب عبد السلام فإن الشعب في مناخاته غير الرسمية وأقاليمه الفنية والأدبية غير الخاضعة للسلطة يتغنى بأغنيات (راجل المرة) ويسخر من رموز النخبة السياسية والإجتماعية والرياضية والثقافية بأغانٍ ساخرة ناقدة وخارجة، دون أن يسمح لهيئة المصنفات الفنية والأدبية وشرطتها ومحققيها السريين بأن يقولوا له : (تلت التلاتة كم؟)
***
إن الحكومة بحاجة إلى خلع النظارات المعتمة التي تحرمها من رؤية العالم من حولها لتعرف أنها بمنعها لنشر الكتاب فإنما هي تضر بالناشر واجتهاداته المحترمة وتحرمه من الكسب الحلال، ولو وضعت دار مدارك مالها في السمسرة والأنشطة الطفيلية الأخرى لما لاقت من المشقة والعنت ما تلاقي وهي ترى الناس تقوم علناً بقرصنة جهدها وتوزيعه مجاناً دون أن تنال كلمة شكر واحدة. على الحكومة أن تدرك أنه لن يضير الكاتب شيئاً في عصر الفضاءات المفتوحة هذا أن يحظر توزيع كتابه، فلهذا الكاتب حزب ينفق عليه ثم إن كتابه يجد الرواج والنشر فيما يجد هو الفرصة لتقديم نفسه على أنه ضحية للرقابة المتعسفة وهو في الواقع جانٍ (جاني) على الكتابة بتطويله الممل، وإقتباساته المفتعلة المتهافتة وهو أمر سنأتي اليه حين نقرأ في مناخ أفضل من هذا، كتاب (الحركة الاسلامية السودانية - دائرة الضوء وخيوط الظلام) مقروناً مع مجمل كتابات التي تضعه بإمتياز على رأس قائمة أفندية الفكر وكتاب الدواوين السلطانية في عصرنا هذا في سوداننا هذا.. والله أعلم.
الرأي العام
المحبوب عبدالسلام جانياً وضحية
محمد عثمان إبراهيم
منذ أيام دراستها الجامعية في كلية (ميمين سينغ) الطبية في إقليم العاصمة البنغالية دكا في أواخر السبعينيات وحتى إصدارها لرواية (العار) أو (لاغا) عام 1993 لم يسمع أحد بتسليما نسرين بالرغم من أنها كانت قد أصدرت ست مجموعات شعرية وكتاباً ضم مجموعة مقالات وأربع روايات لم تحظ أي منها بتقدير أدبي رفيع أو إهتمام نقدي. كان يمكن أن تنضم رواية العار الى سلسلة كتابات نسرين المتواضعة لولا أن أصدرت جماعة (جند الصحابة ) المتطرفة فتوى بإهدار دم الكاتبة المغمورة. وجدت الكاتبة المغمورة في فتوى الجماعة المتطرفة السبيل الأمثل نحو الشهرة التي فشلت في العثور عليها من خلال عشرة كتب لم يقرأها أحد، في العالم من حولها، فصرحت بعد أشهر قليلة من الفتوى ضدها لصحيفة هندية تصدر من مدينة كلكتا الهندية إن القرآن بحاجة الى مراجعة! وهكذا تحولت نسرين من أديبة عابرة إلى أيقونة عالمية مناهضة للإسلام (أعلنت إلحادها لاحقاً) وتلقفتها منظمات الدفاع عن المرأة وحرية التعبير وحقوق الإنسان.
-----
لكن حكومة السودان لا تقرأ وأجهزتها لا تستلهم العبر ولا تنقل لنا من العالم الخارجي سوى خطاياه. منعت السلطات المختصة نشر وتوزيع كتاب الكاتب الإسلاموى الناشط فى حزب المؤتمر الشعبي المحبوب عبد السلام (الحركة الإسلامية السودانية - دائرة الضوء وخيوط الظلام) الصادر عن دار مدارك الذي لقى تغطية إعلامية واسعة وقراءة ما كان لها أن تتأتى له لولا حظره الذي رفع أسهم الكتاب، وزاد من رواجه في الأوساط المحلية وفي أوساط السودانيين في المغتربات والمهاجر حول العالم. لم تملك الحكومة الجرأة الكافية لتسمح بنشر الكتاب كما لم تملك الشجاعة اللازمة لتعلن أنها منعت الكتاب. ففيما أعلن المؤلف عبر بيان نشر على نطاق واسع أن الدار الناشرة للكتاب تلقت إخطاراً شفهياً بحظر دخول الكتاب الى السودان، نفت الأمينة العامة لهيئة المصنفات الأدبية والفنية بالإنابة، هالة قاسم، في تصريح لموقع قناة الجزيرة على شبكة الإنترنت خبر حظر الكتاب أو وقف توزيعه بالسودان وعزت التأخير إلى ما اسمته الإجراءات الروتينية المتعلقة بقراءة الكتاب وإجازته «الجزيرة نت 12 مارس 2010 » بالطبع هذا مكر واضح من الحكومة التي ترفض إصدار قرار علني بحظر الكتاب حتى لا تلجأ الدار الناشرة الى الإحتكام للمؤسسات العدلية بحكم أن إجراءات هيئة المصنفات الإدارية خاضعة في النهاية لولاية القضاء.
تخشى الحكومة من كتاب ولا تخشى من خليل ابراهيم وجنده الذين أتوا الى أم درمان ممتشقين السلاح. تطلق الحكومة سراح أسرى العدل والمساواة وتحبس كتاباً.
تخصص الحكومة شرطة كاملة للرقابة على الإبداع ولا تخصص شرطة لحماية المبدعين الذين يلاقون ما يلاقون من التنكيل والمسغبة!
تمنع الحكومة دخول الكتاب عبر المطارات الخاضعة لها والموانيء التي تحت سيطرتها ولكنها لا تدري بأنها تعجز عن منع دخول الكتاب عبر النسخ المصورة والأصلية التي يحملها القادمون الى السودان.
تمنع الحكومة دخول النسخ الأصلية للكتاب بشكل متحضر وقانوني وعادل، وتشجع على القرصنة وإهدار حقوق الملكية الفكرية بتشجيع تبادل النسخ الإلكترونية عبر التواصل الأثيري.
تمنع الحكومة الناشر من تحقيق الربح الحلال والترويج لقيم الجدل الثقافي الحر بوسائل سلمية، بينما تغدق الأموال والمناصب على قطاع الطرق والهاربين والمهربين واللصوص وتعدهم بالمزيد.
تمنع الحكومة الكتاب وهي لا تدري أنها لا تستطيع، ببساطة، منعه. يمكن للقراء أن يحتفظوا بنسخهم الخاصة من الكتاب على أقراص مدمجة أو في ذاكرة الكترونية صغيرة يعلقونها في ميداليات مفاتيحهم، وللعلم فإن هذه الذاكرات الإلكترونية تتسع لآلاف الكتب الأخرى من لدن المحبوب عبدالسلام وحتى سيد القمني والمقريزي وسلمان رشدي ذاته.
ربما استطاعت الحكومة منع توريد الأقراص المدمجة نفسها والذاكرات الإلكترونية، لكن يمكن للقراء أن يحتفظوا بالكتاب في صناديق بريدهم الإلكتروني المحروس بكلمة سر ما إليها سبيل ويمكن لحملة الهواتف النقالة تخزين الكتاب في هواتفهم وإرساله مجاناً لأصدقائهم عبر البلوتوث المجاني القادم من فيوض التقنية وعلوم الإتصال الحديثة.
إن الحكومة بقرارها بعدم السماح بتوزيع الكتاب تبدو كمن يغلق نافذة في بيت بلا أبواب ثم يظن أن بيته محصن من دخول الغرباء.
مسكينة هي الحكومة، ومسكينة وزارة الثقافة ووزيرها الغائب ووزير دولتها الكثيف الحضور الذي لم أشهد له، طوال عشرين عاماً قضاها حاضراً ومتنفذاً في شأن البلاد الثقافي والإعلامي، موقفاً واحداً مناصراً لحرية التعبير أو مسانداً للإبداع الحر في بيئة ديمقراطية يوقع-هو نفسه- الإتفاقيات السياسية لخلقها، وتتولى الأجهزة التابعة له خنقها.
لا شك أن الحكومة السودانية تخشى الآداب والفنون والكتب والصحف والكلمات. هذا أمر مفروغ منه وهي لهذا تقيم شعبة شرطة كاملة لديها محققون سريون (رجال مباحث) باسم شرطة المصنفات وهي معنية كما هو واضح من اسمها بالحجر على حرية التعبير تحت ستار حماية المجتمع من الأشرطة الجنسية الفاضحة وتلك التي تروج للرذيلة والكفر ربما.
بقرارها - غير الذكي!- بعدم السماح بتوزيع كتاب المحبوب عبد السلام المشار اليه تضع الحكومة الكاتب (في الدروة) معصوب العينين، مكبل الأطراف ثم تسمح للجميع بالتصويب عليه والنيل منه، دون أن تمنحه الحق المشروع في قول كلمته علناً أو الدفاع عن نفسه ضد ما قد يصيبه من أذى كتّاب قد لا يحفل بعضهم بقراءة السفر الضخم الممل المعجز.
***
قبل عصر الهواتف النقالة والفاكس والكمبيوتر والإنترنت كانت المعارضة توزع في عهد الدكتاتور الراحل نميري مجلات الدستور البعثية اللندنية والصباح الجديد الإتحادية ونشرات الميدان ومنشورات الإخوان الجمهوريين دون أن تقوى أجهزة حماية سلطة مايو الغاشمة على الوصول للموزعين أو القراء. وفي مرحلة لاحقة تداول الناس سراً ديوان شعر وقصيدة هجاء ساخرة مطولة بعنوان: (كتاب مفتوح الى حضرة الإمام) للشاعر سليم عبدالسلام عبدالله الذي لم يكن سوى السفير الأستاذ سيد أحمد الحردلو، متعه الله بنعمة الشفاء والصحة والعافية. حفظ الكثيرون من طلاب الجامعات القصيدة وردد المعارضون بعض مقاطعها
المحبوب يقدم قراءة بائسة ومتعسفة ، وهي بالفعل كذلك كما أبان كتاب كبار عدول ومخضرمون. بفعلتها هذه تحرم الحكومة نفسها من قراءات كانت ستناصرها لا محالة بسبب أن من العسير جداً أن يقف أحد في صف المحبوب عبد السلام وكتابه الهادف الى شيئين اثنين لا ثالث لهما هما: إعادة تصنيف عالم الحركة الإسلامية المنشقة إلى فسطاطين واحد للخير - وهو ليس كذلك - يقبع فيه هو مع شيخه حسن الترابي وآخرون من ذوي الحظوة، وفسطاط آخر للشياطين يقيم فيه الرئيس البشير ونائبه علي عثمان ومساعده نافع علي نافع ووزيره عوض أحمد الجاز ومستشاره غازي صلاح الدين ومن والاهم دون إستثناء من الأحياء والأموات!
***
تبدو الحكومة الآن، بعد تلكؤها في السماح بنشر كتاب المحبوب هذا، في وضع أسوأ مما كانت عليه عام 1995 حين سمحت بتوزيع نسخ محدودة من كتاب الدكتور عبدالوهاب الأفندي الشهير ( الثورة والإصلاح السياسي في السودان) الذي أفضى بالطرفين (الأفندي وحزب السلطة الحاكم) الى فراق مبين يصعب رتق أطرافه بعد أن طال الزمن وتبدلت النفوس. في كتابه المشار اليه أغلظ الأفندي على زملائه في حكومة الإنقاذ وهو لم يزل بعد دبلوماسياً في الخارجية كما يقول، وكما لا يوافق الكاتب الراحل محمد طه محمد أحمد، الذي اتهم الأفندي بأنه كتب كتابه بعد أن ظن سفينة الإنقاذ غارقة لا محالة وأنه يريد النزول منها بعد أن استدعاه قباطنتها للعودة إلى (كتاحة) وحر الخرطوم بعد سنوات في عاصمة الضباب عاش فيها دبلوماسياً رفيعاً وإعلامياً حاضراً في وسائل الإعلام العالمية في العالم الأول (مقالات محمد طه نشرت في صحيفة السوداني الدولية بعنوان الأفندي ودعاوى السفينة الغارقة). المهم بالرغم من أن الأفندي لم يوفر أحداً كبيراً من رفاقه إلا أن الكتاب لم يٌمنع و تعاملت الدولة مع توزيعه بحياد، وقد تحققت من ذلك من الدكتور الأفندي نفسه عن طريق صديقنا المشترك الكاتب مصطفى عبد العزيز البطل، وأفاد الأفندي أنه لم تكن هناك محاولة مباشرة لمنع الكتاب.
تصدى الأستاذ أحمد كمال الدين - رئيس تحرير مجلة سودان ناو-حينها- والقيادي البارز بدار السودان للطباعة والنشر التي وزعت الكتاب بالرد على محمد طه محمد أحمد على صفحات جريدة الإنقاذ الوطني. وقد توجهت نحو الأستاذ كمال الدين الذي هجر الصحافة الآن وعاد الى القانون وسألته عن حيثيات السماح بتوزيع كتاب الأفندي ومنع كتاب المحبوب خصوصاً وأن الراحل محمد طه ألمح الى تكسب دار السودان من توزيع الكتاب وغمز من قناة كمال الدين مشيراً إلى أن دفاعه عن توزيع ونشر الكتاب في الخرطوم مرتبط بمردود التوزيع. أفادني الأستاذ كمال الدين بأنه أبلغ الشيخ الترابي بنيته في توزيع الكتاب فلم يمانع ثم ذهب الى اللواء الفاتح عروة مدير جهاز الأمن حينها فوافق هو الآخر دون ممانعة، ومن الواضح أنه بعد الحصول على موافقة الرجلين القويين المشار اليهما فإن كمال الدين لم ينشغل بالإتصال بلجنة المصنفات أو وزارة الثقافة أو غيرها وإنما أحضر أربعمائة نسخة فقط قام ببيعها بشكل فردي للمشترين وذكر لي - للتأريخ- إنه لم يمنح نسختين لشخص واحد أبداً سوى للقيادي الإسلاموي الراحل عبد الله بدري الذي احتفظ بنسخة وقدم نسخة أخرى للراحل محمد طه محمد أحمد بعد أن واجهه كمال الدين في مسجد جامعة الخرطوم بحقيقة أنه لم يقرأ الكتاب وأنه يكتب مقالاته القاسية ضد الأفندي عفو الخاطر دون أن يكلف نفسه بقراءة ما كتب الرجل فكان رد طه « ما مهم أقراهو»!
شرح لي الأستاذ كمال الدين أن قيامه بنفسه على أمرتوزيع الكتاب قصد منه تفادي طرحه في السوق كي لا تقوم جهة واحدة بشراء كل المعروض والسلام ، كما يحدث في كثير من الدول المبتلاة بالحكم الشمولي، لكن وجهة نظري لا تزال أن أمر البيع المحدود هذا يبعث الطمأنينة في أروقة السلطة بأن غالبية القراء سيكونون من النخبة داخل نادي السلطة الخاص، وهي الجماعة التي كان بوسعها الوصول الى حيث الأستاذ كمال الدين نفسه.
إذن لن نخطيء التحليل لنقول إن الإنقاذ في طبعتها الأولى التي يتناولها كتاب المحبوب، كانت أكثر قبولاً للرأي الآخر من إنقاذ الطبعة الثانية، لكن ما يثير التأمل في الإنقاذ الحالية أنها تتراجع في مناطق معينة عن عشريتها الأولى وفي ذهني حادثة رفض لجنة المصنفات الفنية - إياها- إجازة كلمات أغنية عقد الجلاد القديمة (ساجور) التي كتب كلماتها جمال حسن سعيد. وفي الوقت الذي تمنع فيه الحكومة أغنيات مثل ساجور وديوان الشاعر علي عبد القيوم وكتاب المحبوب عبد السلام فإن الشعب في مناخاته غير الرسمية وأقاليمه الفنية والأدبية غير الخاضعة للسلطة يتغنى بأغنيات (راجل المرة) ويسخر من رموز النخبة السياسية والإجتماعية والرياضية والثقافية بأغانٍ ساخرة ناقدة وخارجة، دون أن يسمح لهيئة المصنفات الفنية والأدبية وشرطتها ومحققيها السريين بأن يقولوا له : (تلت التلاتة كم؟)
***
إن الحكومة بحاجة إلى خلع النظارات المعتمة التي تحرمها من رؤية العالم من حولها لتعرف أنها بمنعها لنشر الكتاب فإنما هي تضر بالناشر واجتهاداته المحترمة وتحرمه من الكسب الحلال، ولو وضعت دار مدارك مالها في السمسرة والأنشطة الطفيلية الأخرى لما لاقت من المشقة والعنت ما تلاقي وهي ترى الناس تقوم علناً بقرصنة جهدها وتوزيعه مجاناً دون أن تنال كلمة شكر واحدة. على الحكومة أن تدرك أنه لن يضير الكاتب شيئاً في عصر الفضاءات المفتوحة هذا أن يحظر توزيع كتابه، فلهذا الكاتب حزب ينفق عليه ثم إن كتابه يجد الرواج والنشر فيما يجد هو الفرصة لتقديم نفسه على أنه ضحية للرقابة المتعسفة وهو في الواقع جانٍ (جاني) على الكتابة بتطويله الممل، وإقتباساته المفتعلة المتهافتة وهو أمر سنأتي اليه حين نقرأ في مناخ أفضل من هذا، كتاب (الحركة الاسلامية السودانية - دائرة الضوء وخيوط الظلام) مقروناً مع مجمل كتابات التي تضعه بإمتياز على رأس قائمة أفندية الفكر وكتاب الدواوين السلطانية في عصرنا هذا في سوداننا هذا.. والله أعلم.
الرأي العام
nashi- مشرف المنتدى الرياضى
مواضيع مماثلة
» الربيع العربي واثره علي الحركة الاسلامية والوضع العام بالسودان
» الحركة الاسلامية وامامها الغائب لكم دينكم ولنا ديننا (سودانيزاون لاين )شاي العصر
» الخبير الاسلامي احمد مالك: كنت أحد كوادر الحركة الاسلامية التي أيدت ثورة الخميني
» مناديل من كفن المسيح
» موبوتو ولدنا
» الحركة الاسلامية وامامها الغائب لكم دينكم ولنا ديننا (سودانيزاون لاين )شاي العصر
» الخبير الاسلامي احمد مالك: كنت أحد كوادر الحركة الاسلامية التي أيدت ثورة الخميني
» مناديل من كفن المسيح
» موبوتو ولدنا
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى