إنفصال الجنوب
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
إنفصال الجنوب
قراءة في أزمة وطن مزمنة..قضية- السودان....إلى أين المصير ؟ (22)
تداعيات الإنفصال .. الدين الخارجي والإحتياطي النقدي
1. الدين الخارجي
بقلم : د. منصور خالد
صحيفة الرأي العام
بلغ الدين الخارجي للسودان في عام 2006م سبعة وعشرين (27) ملياراً من الدولارات، ثم إرتفع إلى واحد وثلاثين ملياراً وتسعمائة مليون (31.9) دولار في هذا العام. ونعني بالدين الخارجي الدين العام والخاص على السودان الذي يخص الأشخاص غير المقيمين ويتم سداده بالعملة الصعبة أو السلع أو الخدمات. يشمل هذا ديون الدائنين متعددي الأطراف مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، أو دائني نادي باريس، أو ديون البنوك التجارية الأجنبية، الى جانب ديون الموردين الأجانب.
وحسب آخر تقرير مشترك أصدره صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لا يتعدى أصل الدين الأربعة عشر (14) مليار دولار, في حين يتعلق باقي المبلغ ، أي سبعة عشر مليار وتسعمائة مليون (17.9) دولار بفوائد الديون والجزاءات على التأخير في، أو عدم، الالتزام بالسداد. أشار التقرير أيضاً إلى أن مديونية السودان الخارجية التي ازدادت بصورة ملحوظة في السنوات الأخيرة تنقسم إلى: (32) % لدول نادي باريس, (37) % للدول غير الأعضاء في نادي باريس, (16) % للمؤسسات المالية الدولية, 12 % للبنوك التجارية العالمية و3 % للموردين الأجانب. من جانب آخر ، أبان التقرير أن هذه الديون الخارجية تمثل 284 % من الصادرات مقارنة بـ150% كمؤشر عالمي مما يؤكد صعوبة الاستدانة لتزايد نسبة الفوائد والجزاءات لعدم السداد.
ما هو الموقف بالنسبة لهذه الديون؟ بصورة عامة، يُلزم القانون الدولي، بحسب قـانون التوارث بين الدول (law of state succession) الدولة الجديدة بوراثة الإلتزامات الخارجية القانونية للدولة القديمة مثل الإتفاقيات الدولية والإتفاقيات الإقليمية، وتلك مع دول الجوار مثل إتفاقيات الحدود. هذا الإلتزام العام لايسري تلقائياً على الديون. فنظرية التوارث في القانون الدولي لا ينطبق عليها ما ينطبق على نظرية الوراثة في القانون الخاص التي تقضي أن يحل الوارث تلقائياً محل الموروث في الحقوق والإلتزامات. الحقوق والإلتزامات مثل الديون القومية تخضع للتقويم حتى يكون الغُرم بقدر الغَنم، كما تقول الشريعة. لذلك، من الضروري تصنيف الديون بحيث يمكن تحديد الكيفية التي تم بها الحصول على الدين، وأهم من ذلك فيم وكيف أنفق الدين.
نظرية التوارث في حالة الديون العامة أو الديون القومية ظلت نظرية غير مستقرة في التجارب التاريخية. فمن تلك التجارب، مثلاً، رفض تكساس عند إنفصالها عن المكسيك في عام 1840م الإلتزام بديون الأخيرة بما في ذلك ما أنفقته تلك الدولة على تكساس. بـدلاً عن ذلك إكتفت تكـساس بمنح المكسيك تعويضـاً على سبيـل الـهبة (ex gratia). وفـي حـالة إنفصـال دولة إيرلندا الحـرة (Irish Free State) عن المملكة المتحـدة في عام 1921 إتفـق الطرفـان عـلى أن يتم إقتسـام الـديون علـى أسـاس منصـف وعـادل (Fair and equitable). أما تجربة إقتسام الديون بين الهند وباكستان عقب إنسلاخ باكستان عن الهند فقد كانت فريدة: إتفق الطرفان على أن تستمر الهند في تحمل كل الديون الخارجية على أن تصبح الديون المثبت إنفاقها في الباكستان ديناً للهند على باكستان. من جهة أخرى، إرتضت حكومة المانيا الإتحادية في إتفاقية توحيد الألمانيتين (المادة 23) أن تتولى جميع ديون المانيا الديموقراطية، ولربما كان ذلك هو الثمن الذي دفعه المستشار الألماني هيلموت كول للإتحاد السوفيتي لييسر ضم الألمانيتين، خاصة وأغلب ديون ألمانيا الديموقراطية تعود إلى الإتحاد السوفيتي.
عـدم إستقرار القانون في هذا المجال دفع الأمم المتحدة للإهتمام بقضية التوارث بين الدول منذ عام 1961 عندمـا طلـبت الجمعية العـامة مــن لجـنة القـانون الـدولي (International Law Commisson) إعداد دراسات حول الموضوع. وعلى مدى سنوات أعدت اللجنة تقارير ثلاثة أشرف عليها ثلاثة من مقرري اللجنة: السير همفري والدوك والسير فرانسيس فالات البريطانيان، ومحمد بيجاوي الجزائري. هذه التقارير اصبحت اساساً لمقررات مؤتمر فيينا حول التوارث (1978) والذي دخل في حيز التنفيذ في نوفمبر 1996.
وبما أن تلك الإتفاقية لم تستوفِ في البحث قضية الديون دعت الجمعية العامة إلى عقد مؤتمر آخر في فيينا أفضى إلى إتفاقية فيينا حول توارث الدول للديون والأصول والأرشيف (1983). ورغم أن تلك الإتفاقية لم تدخل بعد إلى حيز التنفيذ لعدم إكتمال التوقيعات المطلوبة لسريانها إلا أنها أرست قاعدتين هامتين. الأولى هي قاعدة إقتسام الدين العام إذ نصت على ما يلي: «عندما ينفصل جزء من دولة لتكوين دولة أخرى، فإن الديون الرسمية لتلك الدولة تؤول للـدولة التي خلفتها بنسبة عادلة تأخذ في الاعتبار، على وجه الخصوص، الأصـول المـوروثة والحقـوق والفـوائد التي إكتسبتها تلك الــدولة من الدولــة السـالفة» ( المادة 40 ) كما نصت على أن يتم ذلك الإقتسام عبر اتفاقية بين الدولتين.
القاعدة الثانية تتعلق بفض النزاع بين الأطراف في حالات الإختلاف. في ذلك تقول الإتفاقية (المادة 41): «في حالة أي خلاف حول تفسير أو تطبيق هذه الإتفاقية بين طرفين أو أكثر يمكن، بطلب من أي منهم، اللجوء إلى التشاور والمفاوضات». كما تقول المادة (43): «إذا لم تتمكن الأطراف من حل النزاع خلال ستة أشهر من تقديم الطلب للتفاوض حسب ما نصت عليه الإتفاقية فيمكن لأي طرف منهم اللجوء إلى إجراءات التوفيق المنصوص عليها في ملحق الإتفاقية بتقديم طلب للأمين العام للامم المتحدة وإخطار الطرف الآخر بذلك». وتلزم الإتفاقية الامين العام بإختيار قائمة من القانونيين ذوي الكفاءة ليكِّونوا فريقاً من المحكمين يتم الإختيار من بينهم من يرتضيه الطرفان لفض النزاع.
المسألة إذن، تحكمها مبادئ ثلاثة : فيم أنفقت الديون؟ وما الذي غنمه كل طرف من إستخدامها؟ ثم القسمة العادلة المنصفة للديون التي حققت نفعاً مشتركاً. وإذا نظرنا إلى ديون السودان التي تراكمت حتى بلغت ما يربو على الواحد وثلاثين ملياراً من الدولارات نجد أن حجماً كبيراً منها قد ذهب إما للبنى التحتية في شمال السودان أو الإنفاق الحربي. ولا شك في أن ثمة ديوناً تعود إلى مشروعات لم تكتمل، أو بالحرى لم تقم أبداً في الجنوب، مثل الديون على مشروعي منقلا وملوط للسكر، وديون اخرى تتعلق بالسكك الحديدية (بابنوسة، أويل، واو) أو بمنشآت إنتاج البترول. أما الديون العسكرية فهي الأكثر إحراجاً للحكومة إذ لا يتوقع من الجنوب تحمل التكلفة المالية للحرب التي ظلت تدور رحاها على أرضه، كما أن إثارة الأمر قد يقود إلى حديث حول إقتسام الإصول العسكرية: الصناعات الحربية. تلك هي المشاكل التي سيكون فيها نظر والتي يجب أن يتفرغ لها فريق من الباحثين الخبراء يستهدون بالحقائق على الارض، على ان يتم ذلك العمل بشفافية كاملة. تراني لم اذكر شيئاً عن الارشيف القومي الذي أوردته إتفاقية فينا إلى جانب الديون، لأن طرفي الإتفاقية لم يضمناه صراحة في المجالات السبعة التي إختارا للحوار بينهما حول قضايا ما بعد تقرير المصير، إلا إن حُسب ذلك ضمنا بين تقدير الإصول.
2. الإحتياطي النقدي
تقوم الدول، عبر مصرفها المركزي، ببناء إحتياطي نقدي يمثل نسبة مئوية معينة من الأموال المودعة لديه. الهدف من ذلك الإحتياطي هو التأمين ضد المخاطر المالية المرتقبة وحماية المصدرين من تدهور العملات. ويستمد البنك المركزي قوته من إحتكاره لإصدار العملة في البلد المعين وهيمنته على وضع وتطبيق السياسة النقدية. هذا الدور يمارسه بنك السودان اليوم في الشمال والجنوب بحسبانه المسئول عبر القطر عن تطبيق السياسة النقدية التي تشمل تأمين إستقرار الأسعار، المحافظة على إستقرار سعر الصرف، كفاءة النظام المصرفي، إصدار العملة (الفقرات 14-3 إلى 14-5 من بروتوكول إقتسام السلطة). ولا شك في ان وضع ذلك الإحتياطي سيتأثر تأثراً بالغاً بما سيتم الإتفاق عليه بين الطرفين حول إقتسام عوائد النفط، إذ يعود 95% من ذلك الإحتياطي للنفط. وفي حالة تقلصه سيؤدي هذا لا محالة إلى تدهور في قيمة العملة المحلية.
ما الذي سيحدث في السودان إن قرر الجنوب إصدار عملته الخاصة كما فعلت إريتريا بإصدار العملة الإرترية (النقفة) كبديل للعملة الاثيوبية (البِر) والتي كان هو ايضاً العملة المتداولة في إريتريا قبل إستقلالها؟ التجربة الإثيوبية الارترية تُفيد أن المشكلة الكبرى التي أدت للخلاف بين البلدين قبل إنفجار موضوع الحدود كانت هي إقتسام احتياطي العملة الصعبة. يُجدي ، إذن، االنظر إلى تجارب الدول في التعاون النقدي، إما في حالات إنفصال دولة عن دولة ، أو رغبة دولتين أو أكثر في توحيد عملاتها. نموذج كويبك، رغم أنه نموذج نظري، حقيق بالإعتبار. فعند مناداتها بالإنفصال عن كندا أبدت كويبك الرغبة في الإستمرار في التعامل بالدولار الكندي. ورغم أن الإنفصال بين كويبك وكندا لم يتحقق ، أو بالحري سقط كخيار عند الإستفتاء، يظل إبداء كويبك الرغبة في الإبقاء على الدولار الكندي بعد الإنفصال تجربة حرية بالإعتبار. ويبقى السؤال: هل سيوفر الإبقاء على الجنيه السوداني كعملة متداولة في الشمال والجنوب ما كان أهل كويبك يتوقعونه من الدولار الكندي؟.
أما تجربة الإتحادات النقدية (Monetary unions) والتي يعتبر النموذج الأمثل لها هو التجربة الأوروبية فهو نظام معقد يتطلب تخلي الدولة ذات السيادة عن عملتها وتبني عملة جـديدة تتفق عليها الأطراف كما حدث في حالة الإتحاد النقدي الأوروبي (European Monetary Union)، أو ما يسعى إتحاد دول الخليج لتحقيقه بتعثر شديد بسبب غيرة الدول ذات الإقتصادات الأكبر على عملاتها. نجاح التجربة الأوروبية يعود إلى عوامل هامة على رأسها أن الإتحاد النقدي تم بين دول ذات سيادة لها هياكلها المصرفية المستقرة، وأسواقها المالية الواسعة، ونظمها السياسية الثابتة، ثم أنها، رغم حروبها العديدة، تبنت جميعاً نظاماً سياسياً واحداً (الديموقراطية الليبرالية)، ونظاماً إقتصادياً مشتركاً (السوق الحر). هذه هي الإعتبارات التي مكنت دول الإتحاد الأوروبي من تبني نظام يقوم على إلغاء العملات الوطنية (بإستثناء بريطانيا)، ويرتضي مركزية السلطة النقدية وجماعية القرار فيها.
نموذج آخر هو ما قررته دولة إيرلندا الحرة بعد إنفصالها عن بريطانيا وإنشائها لنظام مصرفي خاص بها ولعملة وطنية خاصة: الجنيه الإيرلندي الذي يعرف ايضاً بالبُنت (Punt). مع ذلك الإستقلال النقدي، قررت إيرلندا أن يتولى بنك إنجلترا نيابة عن بنك إيرلندا المركزي مهمة التسوية (Clearence) في كل معاملاتها النقدية عبر صندوق مقاصة يقوم بتسوية الشيكات التي يصدرها البنك الإيرلندي وتسديد الأرصدة المستحقة نقداً. ذلك النظام ظل قائماً منذ إنفصال إيرلندا عن بريطانيا في عام 1921م وإلى عام 1979م عندما إلتحقت بالنظام الأوروبي وتبنت اليورو عملة لها. هذا ، بالطبع، خيار لا مكان له من الإعراب في التجربة السودانية إذ يقتضي وجود نظامين مصرفيين وعملتين وطنيتين. فرغم وجود نظامين مصرفيين في السودان إلا أن العملة المتداولة والسلطة النقدية واحدة
لهذا قد يكون الخيار الأمثل هو إستمرار حكومة الجنوب في إستخدام الجنيه السوداني إما بصورة دائمة، أو لأمد محدد، شريطة أن يتم الإتفاق على ضوابط إصدار العملة، وإسلوب إتخاذ القرار من جانب السلطة النقدية، والتعامل في الإحتياطي الخارجي المشترك، ومشاركة حكومة الجنوب في المنظمات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي). بعض هذه المشاكل مثل ضوابط التعامل في الإحتياطي النقدي قد طرأت حتى في ظل النظام الراهن رغم أن بنك السودان يكاد يكون هو المؤسسة القومية الوحيدة التي إلتزمت إلتزاماً صارماً بكل ما نصت عليه الإتفاقية واثبتت حساسية فائقة نحو حكومة الجنوب خاصة في إنشاء البنى التحتية وتدريب العاملين والسعي لحل المشاكل الطارئة عبر الحوار. وفي الحالتين قد يكون تطبيق هذا النظام لأمد معقول أمراً مرغوباً لتجربة فاعليته.
بالطبع لا يمكن أن يكون النظام المقترح (تبني الجنوب في حالة إستقلاله للجنيه السوداني) نظيراً لنظام الدولرة (Dollarization) حيث تتبنى بعض الدول الدولار الأمريكي كعملة لها (ليبريا وبعض دول امريكا الوسطى). فـفي تـلك الحـالة تخضع كل المعـاملات النقـدية للضـوابط التي يضعها نـظام الإحتـياطي الفـيدرالي (Federal Reserves System) أي البنك المركزي الأمريكي. كما لا يتماثل مع تبني بعض الدويلات الصغيرة مثل ليشتنشتاين للفرنك السويسري كعملة لها، وإعتماد الفاتيكان لليرة الإيطالية كعملة متداولة في دولتها إلى أن تم إستبدالها باليورو. تلك الدويلات ، رغم تمتعها بالسيادة قانونياً، لا تعدو أن تكون جيوباً داخل النطاق الجغرافي للدول التي تحتضنها ولن يكون هذا هو حال الجنوب إن إستقل
تداعيات الإنفصال .. الدين الخارجي والإحتياطي النقدي
1. الدين الخارجي
بقلم : د. منصور خالد
صحيفة الرأي العام
بلغ الدين الخارجي للسودان في عام 2006م سبعة وعشرين (27) ملياراً من الدولارات، ثم إرتفع إلى واحد وثلاثين ملياراً وتسعمائة مليون (31.9) دولار في هذا العام. ونعني بالدين الخارجي الدين العام والخاص على السودان الذي يخص الأشخاص غير المقيمين ويتم سداده بالعملة الصعبة أو السلع أو الخدمات. يشمل هذا ديون الدائنين متعددي الأطراف مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، أو دائني نادي باريس، أو ديون البنوك التجارية الأجنبية، الى جانب ديون الموردين الأجانب.
وحسب آخر تقرير مشترك أصدره صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لا يتعدى أصل الدين الأربعة عشر (14) مليار دولار, في حين يتعلق باقي المبلغ ، أي سبعة عشر مليار وتسعمائة مليون (17.9) دولار بفوائد الديون والجزاءات على التأخير في، أو عدم، الالتزام بالسداد. أشار التقرير أيضاً إلى أن مديونية السودان الخارجية التي ازدادت بصورة ملحوظة في السنوات الأخيرة تنقسم إلى: (32) % لدول نادي باريس, (37) % للدول غير الأعضاء في نادي باريس, (16) % للمؤسسات المالية الدولية, 12 % للبنوك التجارية العالمية و3 % للموردين الأجانب. من جانب آخر ، أبان التقرير أن هذه الديون الخارجية تمثل 284 % من الصادرات مقارنة بـ150% كمؤشر عالمي مما يؤكد صعوبة الاستدانة لتزايد نسبة الفوائد والجزاءات لعدم السداد.
ما هو الموقف بالنسبة لهذه الديون؟ بصورة عامة، يُلزم القانون الدولي، بحسب قـانون التوارث بين الدول (law of state succession) الدولة الجديدة بوراثة الإلتزامات الخارجية القانونية للدولة القديمة مثل الإتفاقيات الدولية والإتفاقيات الإقليمية، وتلك مع دول الجوار مثل إتفاقيات الحدود. هذا الإلتزام العام لايسري تلقائياً على الديون. فنظرية التوارث في القانون الدولي لا ينطبق عليها ما ينطبق على نظرية الوراثة في القانون الخاص التي تقضي أن يحل الوارث تلقائياً محل الموروث في الحقوق والإلتزامات. الحقوق والإلتزامات مثل الديون القومية تخضع للتقويم حتى يكون الغُرم بقدر الغَنم، كما تقول الشريعة. لذلك، من الضروري تصنيف الديون بحيث يمكن تحديد الكيفية التي تم بها الحصول على الدين، وأهم من ذلك فيم وكيف أنفق الدين.
نظرية التوارث في حالة الديون العامة أو الديون القومية ظلت نظرية غير مستقرة في التجارب التاريخية. فمن تلك التجارب، مثلاً، رفض تكساس عند إنفصالها عن المكسيك في عام 1840م الإلتزام بديون الأخيرة بما في ذلك ما أنفقته تلك الدولة على تكساس. بـدلاً عن ذلك إكتفت تكـساس بمنح المكسيك تعويضـاً على سبيـل الـهبة (ex gratia). وفـي حـالة إنفصـال دولة إيرلندا الحـرة (Irish Free State) عن المملكة المتحـدة في عام 1921 إتفـق الطرفـان عـلى أن يتم إقتسـام الـديون علـى أسـاس منصـف وعـادل (Fair and equitable). أما تجربة إقتسام الديون بين الهند وباكستان عقب إنسلاخ باكستان عن الهند فقد كانت فريدة: إتفق الطرفان على أن تستمر الهند في تحمل كل الديون الخارجية على أن تصبح الديون المثبت إنفاقها في الباكستان ديناً للهند على باكستان. من جهة أخرى، إرتضت حكومة المانيا الإتحادية في إتفاقية توحيد الألمانيتين (المادة 23) أن تتولى جميع ديون المانيا الديموقراطية، ولربما كان ذلك هو الثمن الذي دفعه المستشار الألماني هيلموت كول للإتحاد السوفيتي لييسر ضم الألمانيتين، خاصة وأغلب ديون ألمانيا الديموقراطية تعود إلى الإتحاد السوفيتي.
عـدم إستقرار القانون في هذا المجال دفع الأمم المتحدة للإهتمام بقضية التوارث بين الدول منذ عام 1961 عندمـا طلـبت الجمعية العـامة مــن لجـنة القـانون الـدولي (International Law Commisson) إعداد دراسات حول الموضوع. وعلى مدى سنوات أعدت اللجنة تقارير ثلاثة أشرف عليها ثلاثة من مقرري اللجنة: السير همفري والدوك والسير فرانسيس فالات البريطانيان، ومحمد بيجاوي الجزائري. هذه التقارير اصبحت اساساً لمقررات مؤتمر فيينا حول التوارث (1978) والذي دخل في حيز التنفيذ في نوفمبر 1996.
وبما أن تلك الإتفاقية لم تستوفِ في البحث قضية الديون دعت الجمعية العامة إلى عقد مؤتمر آخر في فيينا أفضى إلى إتفاقية فيينا حول توارث الدول للديون والأصول والأرشيف (1983). ورغم أن تلك الإتفاقية لم تدخل بعد إلى حيز التنفيذ لعدم إكتمال التوقيعات المطلوبة لسريانها إلا أنها أرست قاعدتين هامتين. الأولى هي قاعدة إقتسام الدين العام إذ نصت على ما يلي: «عندما ينفصل جزء من دولة لتكوين دولة أخرى، فإن الديون الرسمية لتلك الدولة تؤول للـدولة التي خلفتها بنسبة عادلة تأخذ في الاعتبار، على وجه الخصوص، الأصـول المـوروثة والحقـوق والفـوائد التي إكتسبتها تلك الــدولة من الدولــة السـالفة» ( المادة 40 ) كما نصت على أن يتم ذلك الإقتسام عبر اتفاقية بين الدولتين.
القاعدة الثانية تتعلق بفض النزاع بين الأطراف في حالات الإختلاف. في ذلك تقول الإتفاقية (المادة 41): «في حالة أي خلاف حول تفسير أو تطبيق هذه الإتفاقية بين طرفين أو أكثر يمكن، بطلب من أي منهم، اللجوء إلى التشاور والمفاوضات». كما تقول المادة (43): «إذا لم تتمكن الأطراف من حل النزاع خلال ستة أشهر من تقديم الطلب للتفاوض حسب ما نصت عليه الإتفاقية فيمكن لأي طرف منهم اللجوء إلى إجراءات التوفيق المنصوص عليها في ملحق الإتفاقية بتقديم طلب للأمين العام للامم المتحدة وإخطار الطرف الآخر بذلك». وتلزم الإتفاقية الامين العام بإختيار قائمة من القانونيين ذوي الكفاءة ليكِّونوا فريقاً من المحكمين يتم الإختيار من بينهم من يرتضيه الطرفان لفض النزاع.
المسألة إذن، تحكمها مبادئ ثلاثة : فيم أنفقت الديون؟ وما الذي غنمه كل طرف من إستخدامها؟ ثم القسمة العادلة المنصفة للديون التي حققت نفعاً مشتركاً. وإذا نظرنا إلى ديون السودان التي تراكمت حتى بلغت ما يربو على الواحد وثلاثين ملياراً من الدولارات نجد أن حجماً كبيراً منها قد ذهب إما للبنى التحتية في شمال السودان أو الإنفاق الحربي. ولا شك في أن ثمة ديوناً تعود إلى مشروعات لم تكتمل، أو بالحرى لم تقم أبداً في الجنوب، مثل الديون على مشروعي منقلا وملوط للسكر، وديون اخرى تتعلق بالسكك الحديدية (بابنوسة، أويل، واو) أو بمنشآت إنتاج البترول. أما الديون العسكرية فهي الأكثر إحراجاً للحكومة إذ لا يتوقع من الجنوب تحمل التكلفة المالية للحرب التي ظلت تدور رحاها على أرضه، كما أن إثارة الأمر قد يقود إلى حديث حول إقتسام الإصول العسكرية: الصناعات الحربية. تلك هي المشاكل التي سيكون فيها نظر والتي يجب أن يتفرغ لها فريق من الباحثين الخبراء يستهدون بالحقائق على الارض، على ان يتم ذلك العمل بشفافية كاملة. تراني لم اذكر شيئاً عن الارشيف القومي الذي أوردته إتفاقية فينا إلى جانب الديون، لأن طرفي الإتفاقية لم يضمناه صراحة في المجالات السبعة التي إختارا للحوار بينهما حول قضايا ما بعد تقرير المصير، إلا إن حُسب ذلك ضمنا بين تقدير الإصول.
2. الإحتياطي النقدي
تقوم الدول، عبر مصرفها المركزي، ببناء إحتياطي نقدي يمثل نسبة مئوية معينة من الأموال المودعة لديه. الهدف من ذلك الإحتياطي هو التأمين ضد المخاطر المالية المرتقبة وحماية المصدرين من تدهور العملات. ويستمد البنك المركزي قوته من إحتكاره لإصدار العملة في البلد المعين وهيمنته على وضع وتطبيق السياسة النقدية. هذا الدور يمارسه بنك السودان اليوم في الشمال والجنوب بحسبانه المسئول عبر القطر عن تطبيق السياسة النقدية التي تشمل تأمين إستقرار الأسعار، المحافظة على إستقرار سعر الصرف، كفاءة النظام المصرفي، إصدار العملة (الفقرات 14-3 إلى 14-5 من بروتوكول إقتسام السلطة). ولا شك في ان وضع ذلك الإحتياطي سيتأثر تأثراً بالغاً بما سيتم الإتفاق عليه بين الطرفين حول إقتسام عوائد النفط، إذ يعود 95% من ذلك الإحتياطي للنفط. وفي حالة تقلصه سيؤدي هذا لا محالة إلى تدهور في قيمة العملة المحلية.
ما الذي سيحدث في السودان إن قرر الجنوب إصدار عملته الخاصة كما فعلت إريتريا بإصدار العملة الإرترية (النقفة) كبديل للعملة الاثيوبية (البِر) والتي كان هو ايضاً العملة المتداولة في إريتريا قبل إستقلالها؟ التجربة الإثيوبية الارترية تُفيد أن المشكلة الكبرى التي أدت للخلاف بين البلدين قبل إنفجار موضوع الحدود كانت هي إقتسام احتياطي العملة الصعبة. يُجدي ، إذن، االنظر إلى تجارب الدول في التعاون النقدي، إما في حالات إنفصال دولة عن دولة ، أو رغبة دولتين أو أكثر في توحيد عملاتها. نموذج كويبك، رغم أنه نموذج نظري، حقيق بالإعتبار. فعند مناداتها بالإنفصال عن كندا أبدت كويبك الرغبة في الإستمرار في التعامل بالدولار الكندي. ورغم أن الإنفصال بين كويبك وكندا لم يتحقق ، أو بالحري سقط كخيار عند الإستفتاء، يظل إبداء كويبك الرغبة في الإبقاء على الدولار الكندي بعد الإنفصال تجربة حرية بالإعتبار. ويبقى السؤال: هل سيوفر الإبقاء على الجنيه السوداني كعملة متداولة في الشمال والجنوب ما كان أهل كويبك يتوقعونه من الدولار الكندي؟.
أما تجربة الإتحادات النقدية (Monetary unions) والتي يعتبر النموذج الأمثل لها هو التجربة الأوروبية فهو نظام معقد يتطلب تخلي الدولة ذات السيادة عن عملتها وتبني عملة جـديدة تتفق عليها الأطراف كما حدث في حالة الإتحاد النقدي الأوروبي (European Monetary Union)، أو ما يسعى إتحاد دول الخليج لتحقيقه بتعثر شديد بسبب غيرة الدول ذات الإقتصادات الأكبر على عملاتها. نجاح التجربة الأوروبية يعود إلى عوامل هامة على رأسها أن الإتحاد النقدي تم بين دول ذات سيادة لها هياكلها المصرفية المستقرة، وأسواقها المالية الواسعة، ونظمها السياسية الثابتة، ثم أنها، رغم حروبها العديدة، تبنت جميعاً نظاماً سياسياً واحداً (الديموقراطية الليبرالية)، ونظاماً إقتصادياً مشتركاً (السوق الحر). هذه هي الإعتبارات التي مكنت دول الإتحاد الأوروبي من تبني نظام يقوم على إلغاء العملات الوطنية (بإستثناء بريطانيا)، ويرتضي مركزية السلطة النقدية وجماعية القرار فيها.
نموذج آخر هو ما قررته دولة إيرلندا الحرة بعد إنفصالها عن بريطانيا وإنشائها لنظام مصرفي خاص بها ولعملة وطنية خاصة: الجنيه الإيرلندي الذي يعرف ايضاً بالبُنت (Punt). مع ذلك الإستقلال النقدي، قررت إيرلندا أن يتولى بنك إنجلترا نيابة عن بنك إيرلندا المركزي مهمة التسوية (Clearence) في كل معاملاتها النقدية عبر صندوق مقاصة يقوم بتسوية الشيكات التي يصدرها البنك الإيرلندي وتسديد الأرصدة المستحقة نقداً. ذلك النظام ظل قائماً منذ إنفصال إيرلندا عن بريطانيا في عام 1921م وإلى عام 1979م عندما إلتحقت بالنظام الأوروبي وتبنت اليورو عملة لها. هذا ، بالطبع، خيار لا مكان له من الإعراب في التجربة السودانية إذ يقتضي وجود نظامين مصرفيين وعملتين وطنيتين. فرغم وجود نظامين مصرفيين في السودان إلا أن العملة المتداولة والسلطة النقدية واحدة
لهذا قد يكون الخيار الأمثل هو إستمرار حكومة الجنوب في إستخدام الجنيه السوداني إما بصورة دائمة، أو لأمد محدد، شريطة أن يتم الإتفاق على ضوابط إصدار العملة، وإسلوب إتخاذ القرار من جانب السلطة النقدية، والتعامل في الإحتياطي الخارجي المشترك، ومشاركة حكومة الجنوب في المنظمات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي). بعض هذه المشاكل مثل ضوابط التعامل في الإحتياطي النقدي قد طرأت حتى في ظل النظام الراهن رغم أن بنك السودان يكاد يكون هو المؤسسة القومية الوحيدة التي إلتزمت إلتزاماً صارماً بكل ما نصت عليه الإتفاقية واثبتت حساسية فائقة نحو حكومة الجنوب خاصة في إنشاء البنى التحتية وتدريب العاملين والسعي لحل المشاكل الطارئة عبر الحوار. وفي الحالتين قد يكون تطبيق هذا النظام لأمد معقول أمراً مرغوباً لتجربة فاعليته.
بالطبع لا يمكن أن يكون النظام المقترح (تبني الجنوب في حالة إستقلاله للجنيه السوداني) نظيراً لنظام الدولرة (Dollarization) حيث تتبنى بعض الدول الدولار الأمريكي كعملة لها (ليبريا وبعض دول امريكا الوسطى). فـفي تـلك الحـالة تخضع كل المعـاملات النقـدية للضـوابط التي يضعها نـظام الإحتـياطي الفـيدرالي (Federal Reserves System) أي البنك المركزي الأمريكي. كما لا يتماثل مع تبني بعض الدويلات الصغيرة مثل ليشتنشتاين للفرنك السويسري كعملة لها، وإعتماد الفاتيكان لليرة الإيطالية كعملة متداولة في دولتها إلى أن تم إستبدالها باليورو. تلك الدويلات ، رغم تمتعها بالسيادة قانونياً، لا تعدو أن تكون جيوباً داخل النطاق الجغرافي للدول التي تحتضنها ولن يكون هذا هو حال الجنوب إن إستقل
الفاتح حسن ابوساره- مشرف تاريخ ابوجبيهه
رد: إنفصال الجنوب
الفاتح آخوى شكرا على التنوير وتفصيل الديون على السودان لكن يظهر ناسنا ديل شغالين بنظرية(الدين فى الكتوف والاصل معروف)
د.الجنيد احمد سليمان- نشط مميز
مواضيع مماثلة
» لقد تم إنفصال الجنوب ؟؟؟؟؟؟
» ماذا نحن فاعلون لو اصبحت ابوجبيهه من نصيب جنوب السودان - مقتراحاتكم و افكاركم بعيدا عن السياسة
» ورطة الجنوب
» الجنوب المفقود
» مؤتمر جوبا والضحك علي الدقون
» ماذا نحن فاعلون لو اصبحت ابوجبيهه من نصيب جنوب السودان - مقتراحاتكم و افكاركم بعيدا عن السياسة
» ورطة الجنوب
» الجنوب المفقود
» مؤتمر جوبا والضحك علي الدقون
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى