رسالة إلى إيلين ...و قصص قصيرة أخرى .. الطيب صالح
3 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
رسالة إلى إيلين ...و قصص قصيرة أخرى .. الطيب صالح
رسالة الى ايلين
قصة قصيرة
بقلم: الطيب صالح.
من كتابات الراحل المقيم قصة قصيرة أسماها
رسالة الى ايلين
عزيزتي إيلين،
الآن انتهيت من فض حقائبي. أنت عظيمة ولست أدري ماذا أفعل بدونك. كل شيء يلزمني وضعتِهِ في الحقائب. تسعة قمصان ((فان هوسن)) ثلاثة منها لا تحتاج للكيّ. ((أغسلها ونشفها والبسها)). وأنت تعلمين أنني لن أفعل شيئاً من هذا القبيل. ربطة العنق التي اشتريتها لي في العام الماضي في بوند ستريت، وجدتها مع خمس كرافتات أخرى. ((خمس كرافتات تكفيك. أنت لن تخرج كثيراً ولن يدعوك أحد لحفلة. وإذا دعيت فلا تذهب)). كم أحببتك لأنك لم تنسي أن تضعي في حقائبي هذه الربطة ... ربطة عنق قرمزية اللون، واحدة من ملايين الأشياء الصغيرة التي تشد قلبي إليك ... في مثل هذا الوقت من العام الماضي، بعد ثمانية أشهر من معرفتي إياك، في القطار الذي يسير تحت الأرض، الساعة السادسة والناس مزدحمون، ونحن واقفان وأنت متكئة عليّ، فجأة قلت لك: ((إنني أحبك. أريد أن أتزوجك)). احمرّ خداك والتفت الناس إلينا. طيلة ثمانية أشهر عرفتك فيها لم أقل لك أنني أحبك. كنت أتهرب وأداري وأزوغ. ثم فجأة وسط الزحام، في الساعة السادسة مساء، حين يعود الناس التعبين مرهقين إلى بيوتهم بعد عمل شاق طيلة اليوم، فجأة خرجت الكلمة المحرمة من فمي وكأنني محموم يهذي. لا أعلم أي شيطان حرّك لساني، أي ثائر أثارني، ولكنني شعرت بسعادة عظيمة، في تلك الساعة، في ذلك الجو الخانق، بين تلك الوجوه الكالحة المكدودة التي اختفت وراء صحف المساء. ولما خرجنا ضغطت على يدي بشدة، ورأيت في عينيك طيفاً من دموع، وقلت لي: ((إنك مهووس. أنت أهوس رجل على وجه البسيطة. ولكنني أحبك. إذا رأيت أن تتزوجني فأنت وشأنك)).
ثمانية أشهر وأنا أتهرب وأحاور وأحاضر. أحاضرك في الفوارق التي تفرقنا. الدين والبلد والجنس. أنت من ابردين في سكتلندا وأنا من الخرطوم. أنت مسيحية وأنا مسلم. أنت صغيرة مرحة متفائلة، وأنا قلبي فيه جروح بعدُ لم تندمل. أي شيء حببني فيك؟ أنت شقراء زرقاء العينين ممتثلة الجسم، تحبين السباحة ولعب التنس، وأنا طول عمري أحن إلى فتاة سمراء، واسعة العيون، سوداء الشعر، شرقية السمات، هادئات الحركة. أي شيء حبَّبك فيَّ، أنا الضائع الغريب، أحمل في قلبي هموم جيل بأسره؟ أنا المغرور القلق المتقلب المزاج؟ ((لا تتعب عقلك في تفسير كل شيء. أنت حصان هرم من بلد متأخر، وقد أراد القدر أن يصيبني بحبك. هذا كل ما في الأمر. تذكر قول شيكسبير. كيوبيد طفل عفريت. ومن عفرتته أنه أصاب قلبي بحب طامة كبيرة. مثلك)). وتضحكين، ويقع شعرك الذهبي على وجهك فتردينه بيدك، ثم تضحكين ضحكتك التي تحاكي رنين الفضة. وذهبنا إلى مطعم صيني واحتفلنا، وكنت نسيت أن اليوم هو يوم ميلادي. أنا لا أحفل بأمسي ولا بيومي وأنت تحفلين بكل شيء. أنت تذكرت، فأحضرت ربطة العنق القرمزية هذه. كم أحبك لأنك وضعتها بين متاعي.
عزيزتي إيلين،
هذه هي الليلة الأولى بدونك ... منذ عام. منذ عام كامل. ثلاثمائة وخمس وستون ليلة، وأنت تشاركينني فراشي، تنامين على ذراعي، تختلط أنفاسنا وعطر أجسادنا، تحلمين أحلامي، تقرأين أفكاري، تحضرين إفطاري، نستحم معاً في حمام واحد، نستعمل فرشاة أسنان واحدة، تقرأين الكتاب وتخبرينني بمحتواه فأكتفي بك فلا أقرأه. تزوجتني، تزوجت شرقاً مضطرباً على مفترق الطرق، تزوجت شمساً قاسية الشعاع، تزوجت فكراً فوضوي، وآمالاً ظمأى كصحارى قومي. الليلة الأولى عداك يا طفلة من ابردين ـ وضعتها الأقدار في طريقي. تبينتك وآخيتني. ((يا أختاه. يا أختاه)). البذلة الرمادية التي تؤثرينها ـ ((ثلاث بدل أكثر من الكفاية. رجل متزوج يقضي شهراً مع أهله لن يحفل بك أحد، ولن تهتم بك صبايا بلدك، ولا حاجة بك إلى هندمة نفسك والاعتناء بشكلك. ومهما يكن فإن شكلك لا تجدي معه هندمة. أذهب وعد إليّ سليماً: إذا ضحكت لك منهن فتاة فكشر في وجهها)).
اطمئني قلن تضحك لي فتاة. أنا في حسابهن كنخلة على الشاطئ اقتلعها التيار وجرفها بعيداً عن منبتها. أنا في حسابهن تجارة كسدت. لكن ما أحلى الكساد معك.
الليلة الأولى بدونك. وبعدها ليالٍ ثلاثون كمفازة ليس لها آخر. سأجلس على صخرة قبالة دارنا وأتحدث إليك. أنا واثق أنك تسمعينني. أنا واثق أن الرياح والكهرباء التي في الأثير والهواجس التي تهجس في الكون، سترهف آذانها، وستحمل حديثي إليك. موجات هوج من قلبي، تستقبلها محطة في قلبك. حين تنامي مدّي ذراعك حيث أضع رأسي على الوسادة، فإنني هناك معك. حين تستيقظين قولي ((صباح الخير)) فإنني سأسمع وأرد. أجل سأسمع. أنا الآن أسمع صوتك العذب الواضح تقولين لي: ((أسعد في عطلتك ولكن لا تسعد أكثر مما يجب. تذكر أنني هنا أتضوى وأنتظرك. ستكون مع أهلك فلا تنسَ إنك برحيلك ستتركني بلا أهل)).
أتمّ الخطاب وثناه أربع ثنيات ووضعه في الغلاف، ثم كتب العنوان. ورفعه بين إصبعيه وتمعنه طويلاً في صمت كأن فيه سراً عظيماً. نادى أخاه الصغير وأمره بإلقائه في البريد. مرت بعد ذلك مدة لم يعرف حسابها، لعلها طالت أو قصرت، وهو جالس حيث هو لا يسمع ولا يرى شيئاً. وفجأة سمع ضحكة عالية تتناهى إليه من الجناح الشمالي في البيت. ضحكة أمه. واتضح لأذنيه اللغط، لغط النساء اللائي جئن يهنئن أمه بوصوله سالماً من البلد البعيد. كلهن قريباته. فيهن العمة والخالة وابنة العم وابنة الخالة. وظل كذلك برهة. ثم جاء أبوه ومعه حشد من الرجال. كلهم أقرباؤه. سلموا عليه وجلسوا. جيء بالقهوة والشاي وعصير البرتقال وعصير الليمون. شيء يشبه الاحتفال. سألوه أسئلة رد عليها، ثم بدأوا في حديثهم الذي ظلوا يتحدثونه طول حياتهم. وشعر في قلبه بالامتنان لهم أنهم تركوه وشأنه. وفجأة تضخمت في ذهنه فكرة ارتاع لها. هؤلاء القوم قومه. قبيلة ضخمة هو فرد منها. ومع ذلك فهم غرباء عنه. هو غريب بينهم. قبل أعوام كان خلية حيّة في جسم القبيلة المترابط. كان يغيب فيخلف فراغاً لا يمتلئ حتى يعود. وحين يعود يصافحه أبوه ببساطة وتضحك أمه كعادتها ويعامله بقية أهله بلا كلفة طوال الأيام التي غابها. أما الآن .. أبوه احتضنه بقوة وأمه ذرفت الدموع وبقية أهله بالغوا في الترحيب به. هذه المبالغة هي التي أزعجته. كأن إحساسهم الطبيعي قد فتر فدعموه بالمبالغة.
((طويل الجرح يغري بالتناسي)).
وسمع صوت إيلين واضحاً عذباً تقول له وهي تودعه: ((أرجو من كل قلبي أن تجد أهلك كما تركتهم، لم يتغيروا. أهم من ذلك من أن تكون أنت لم تتغير نحوهم)).
آه منك يا زمان النزوح
عزيزتي إيلين،
الآن انتهيت من فض حقائبي. أنت عظيمة ولست أدري ماذا أفعل بدونك. كل شيء يلزمني وضعتِهِ في الحقائب. تسعة قمصان ((فان هوسن)) ثلاثة منها لا تحتاج للكيّ. ((أغسلها ونشفها والبسها)). وأنت تعلمين أنني لن أفعل شيئاً من هذا القبيل. ربطة العنق التي اشتريتها لي في العام الماضي في بوند ستريت، وجدتها مع خمس كرافتات أخرى. ((خمس كرافتات تكفيك. أنت لن تخرج كثيراً ولن يدعوك أحد لحفلة. وإذا دعيت فلا تذهب)). كم أحببتك لأنك لم تنسي أن تضعي في حقائبي هذه الربطة ... ربطة عنق قرمزية اللون، واحدة من ملايين الأشياء الصغيرة التي تشد قلبي إليك ... في مثل هذا الوقت من العام الماضي، بعد ثمانية أشهر من معرفتي إياك، في القطار الذي يسير تحت الأرض، الساعة السادسة والناس مزدحمون، ونحن واقفان وأنت متكئة عليّ، فجأة قلت لك: ((إنني أحبك. أريد أن أتزوجك)). احمرّ خداك والتفت الناس إلينا. طيلة ثمانية أشهر عرفتك فيها لم أقل لك أنني أحبك. كنت أتهرب وأداري وأزوغ. ثم فجأة وسط الزحام، في الساعة السادسة مساء، حين يعود الناس التعبين مرهقين إلى بيوتهم بعد عمل شاق طيلة اليوم، فجأة خرجت الكلمة المحرمة من فمي وكأنني محموم يهذي. لا أعلم أي شيطان حرّك لساني، أي ثائر أثارني، ولكنني شعرت بسعادة عظيمة، في تلك الساعة، في ذلك الجو الخانق، بين تلك الوجوه الكالحة المكدودة التي اختفت وراء صحف المساء. ولما خرجنا ضغطت على يدي بشدة، ورأيت في عينيك طيفاً من دموع، وقلت لي: ((إنك مهووس. أنت أهوس رجل على وجه البسيطة. ولكنني أحبك. إذا رأيت أن تتزوجني فأنت وشأنك)).
ثمانية أشهر وأنا أتهرب وأحاور وأحاضر. أحاضرك في الفوارق التي تفرقنا. الدين والبلد والجنس. أنت من ابردين في سكتلندا وأنا من الخرطوم. أنت مسيحية وأنا مسلم. أنت صغيرة مرحة متفائلة، وأنا قلبي فيه جروح بعدُ لم تندمل. أي شيء حببني فيك؟ أنت شقراء زرقاء العينين ممتثلة الجسم، تحبين السباحة ولعب التنس، وأنا طول عمري أحن إلى فتاة سمراء، واسعة العيون، سوداء الشعر، شرقية السمات، هادئات الحركة. أي شيء حبَّبك فيَّ، أنا الضائع الغريب، أحمل في قلبي هموم جيل بأسره؟ أنا المغرور القلق المتقلب المزاج؟ ((لا تتعب عقلك في تفسير كل شيء. أنت حصان هرم من بلد متأخر، وقد أراد القدر أن يصيبني بحبك. هذا كل ما في الأمر. تذكر قول شيكسبير. كيوبيد طفل عفريت. ومن عفرتته أنه أصاب قلبي بحب طامة كبيرة. مثلك)). وتضحكين، ويقع شعرك الذهبي على وجهك فتردينه بيدك، ثم تضحكين ضحكتك التي تحاكي رنين الفضة. وذهبنا إلى مطعم صيني واحتفلنا، وكنت نسيت أن اليوم هو يوم ميلادي. أنا لا أحفل بأمسي ولا بيومي وأنت تحفلين بكل شيء. أنت تذكرت، فأحضرت ربطة العنق القرمزية هذه. كم أحبك لأنك وضعتها بين متاعي.
عزيزتي إيلين،
هذه هي الليلة الأولى بدونك ... منذ عام. منذ عام كامل. ثلاثمائة وخمس وستون ليلة، وأنت تشاركينني فراشي، تنامين على ذراعي، تختلط أنفاسنا وعطر أجسادنا، تحلمين أحلامي، تقرأين أفكاري، تحضرين إفطاري، نستحم معاً في حمام واحد، نستعمل فرشاة أسنان واحدة، تقرأين الكتاب وتخبرينني بمحتواه فأكتفي بك فلا أقرأه. تزوجتني، تزوجت شرقاً مضطرباً على مفترق الطرق، تزوجت شمساً قاسية الشعاع، تزوجت فكراً فوضوي، وآمالاً ظمأى كصحارى قومي. الليلة الأولى عداك يا طفلة من ابردين ـ وضعتها الأقدار في طريقي. تبينتك وآخيتني. ((يا أختاه. يا أختاه)). البذلة الرمادية التي تؤثرينها ـ ((ثلاث بدل أكثر من الكفاية. رجل متزوج يقضي شهراً مع أهله لن يحفل بك أحد، ولن تهتم بك صبايا بلدك، ولا حاجة بك إلى هندمة نفسك والاعتناء بشكلك. ومهما يكن فإن شكلك لا تجدي معه هندمة. أذهب وعد إليّ سليماً: إذا ضحكت لك منهن فتاة فكشر في وجهها)).
اطمئني قلن تضحك لي فتاة. أنا في حسابهن كنخلة على الشاطئ اقتلعها التيار وجرفها بعيداً عن منبتها. أنا في حسابهن تجارة كسدت. لكن ما أحلى الكساد معك.
الليلة الأولى بدونك. وبعدها ليالٍ ثلاثون كمفازة ليس لها آخر. سأجلس على صخرة قبالة دارنا وأتحدث إليك. أنا واثق أنك تسمعينني. أنا واثق أن الرياح والكهرباء التي في الأثير والهواجس التي تهجس في الكون، سترهف آذانها، وستحمل حديثي إليك. موجات هوج من قلبي، تستقبلها محطة في قلبك. حين تنامي مدّي ذراعك حيث أضع رأسي على الوسادة، فإنني هناك معك. حين تستيقظين قولي ((صباح الخير)) فإنني سأسمع وأرد. أجل سأسمع. أنا الآن أسمع صوتك العذب الواضح تقولين لي: ((أسعد في عطلتك ولكن لا تسعد أكثر مما يجب. تذكر أنني هنا أتضوى وأنتظرك. ستكون مع أهلك فلا تنسَ إنك برحيلك ستتركني بلا أهل)).
أتمّ الخطاب وثناه أربع ثنيات ووضعه في الغلاف، ثم كتب العنوان. ورفعه بين إصبعيه وتمعنه طويلاً في صمت كأن فيه سراً عظيماً. نادى أخاه الصغير وأمره بإلقائه في البريد. مرت بعد ذلك مدة لم يعرف حسابها، لعلها طالت أو قصرت، وهو جالس حيث هو لا يسمع ولا يرى شيئاً. وفجأة سمع ضحكة عالية تتناهى إليه من الجناح الشمالي في البيت. ضحكة أمه. واتضح لأذنيه اللغط، لغط النساء اللائي جئن يهنئن أمه بوصوله سالماً من البلد البعيد. كلهن قريباته. فيهن العمة والخالة وابنة العم وابنة الخالة. وظل كذلك برهة. ثم جاء أبوه ومعه حشد من الرجال. كلهم أقرباؤه. سلموا عليه وجلسوا. جيء بالقهوة والشاي وعصير البرتقال وعصير الليمون. شيء يشبه الاحتفال. سألوه أسئلة رد عليها، ثم بدأوا في حديثهم الذي ظلوا يتحدثونه طول حياتهم. وشعر في قلبه بالامتنان لهم أنهم تركوه وشأنه. وفجأة تضخمت في ذهنه فكرة ارتاع لها. هؤلاء القوم قومه. قبيلة ضخمة هو فرد منها. ومع ذلك فهم غرباء عنه. هو غريب بينهم. قبل أعوام كان خلية حيّة في جسم القبيلة المترابط. كان يغيب فيخلف فراغاً لا يمتلئ حتى يعود. وحين يعود يصافحه أبوه ببساطة وتضحك أمه كعادتها ويعامله بقية أهله بلا كلفة طوال الأيام التي غابها. أما الآن .. أبوه احتضنه بقوة وأمه ذرفت الدموع وبقية أهله بالغوا في الترحيب به. هذه المبالغة هي التي أزعجته. كأن إحساسهم الطبيعي قد فتر فدعموه بالمبالغة.
((طويل الجرح يغري بالتناسي)).
وسمع صوت إيلين واضحاً عذباً تقول له وهي تودعه: ((أرجو من كل قلبي أن تجد أهلك كما تركتهم، لم يتغيروا. أهم من ذلك من أن تكون أنت لم تتغير نحوهم)).
آه منك يا زمان النزوح
عدل سابقا من قبل أزهرى الحاج البشير في 2nd سبتمبر 2010, 10:20 عدل 4 مرات
أزهرى الحاج البشير- مشرف عام
رد: رسالة إلى إيلين ...و قصص قصيرة أخرى .. الطيب صالح
ياليتنا هنئنا بضمة امهاتنا وهمهمة اعمامنا ..وفرح العمات ودعابات الاتراب وابناء العمومة...
كم ذرفوا الدمع فى وداعنا وقلوبنا طلتها قسوة المهاجر..ولكن عزائنا ..مشيناها خطا
ومن كتبت عليه خطا مشاها...
دائما متألق فى اختيارك ايها الوريف.من محاكمة الحسناء حتى رسالة الى ايلين مساحة ابداع تشد الذوق الادبى..
شكرا اخى ابو الزهور مقصرين معك وكل المنتدى فالمعذرة..
كم ذرفوا الدمع فى وداعنا وقلوبنا طلتها قسوة المهاجر..ولكن عزائنا ..مشيناها خطا
ومن كتبت عليه خطا مشاها...
دائما متألق فى اختيارك ايها الوريف.من محاكمة الحسناء حتى رسالة الى ايلين مساحة ابداع تشد الذوق الادبى..
شكرا اخى ابو الزهور مقصرين معك وكل المنتدى فالمعذرة..
عثمان موسى آدم- نشط مميز
رد: رسالة إلى إيلين ...و قصص قصيرة أخرى .. الطيب صالح
أهلا بدخري الحوبة ... أهلا بعثمان وينك يا حبيب ..... ؟؟
أزهرى الحاج البشير- مشرف عام
رد: رسالة إلى إيلين ...و قصص قصيرة أخرى .. الطيب صالح
تقدمت فى بوست بتقصيرى من التواجد ..بس بقينا جميعا ((عزابة))وعارف دوام للجماعة ((الشركة ))ودوام ((عيادة خارجية))المحاسبيين يسموها عيادة خارجية ولكن اخى العزيز انت اغلى من كل دوام ومن فوق هامات السنيين نتشابى ونقالدك..
قد هاتفت اخى عبدالرحمن تيمى سكب فى اذنى حديث نبراته نغمات يحكى عن اصالتك ونبلك ايام كنت بالرياض وهذا ليس بغريب ..
دمت لنا وكل سنة وانت طيب ورمضان كريم انشاء الله سنفطر مع بعض إن بلغنا الله رمضان
قد هاتفت اخى عبدالرحمن تيمى سكب فى اذنى حديث نبراته نغمات يحكى عن اصالتك ونبلك ايام كنت بالرياض وهذا ليس بغريب ..
دمت لنا وكل سنة وانت طيب ورمضان كريم انشاء الله سنفطر مع بعض إن بلغنا الله رمضان
عدل سابقا من قبل عثمان موسى آدم في 10th أغسطس 2010, 15:00 عدل 1 مرات (السبب : اضافة)
عثمان موسى آدم- نشط مميز
رد: رسالة إلى إيلين ...و قصص قصيرة أخرى .. الطيب صالح
آآآآآآآآآآآآآآآآآمين يا رب
أزهرى الحاج البشير- مشرف عام
رد: رسالة إلى إيلين ...و قصص قصيرة أخرى .. الطيب صالح
هذه من قصص الطيب صالح القصيرة والجميلة والتى لم تنل حظها في التداخل ............. مرة أخرى
عدل سابقا من قبل أزهرى الحاج البشير في 21st أغسطس 2010, 14:55 عدل 1 مرات
أزهرى الحاج البشير- مشرف عام
رد: رسالة إلى إيلين ...و قصص قصيرة أخرى .. الطيب صالح
ابو الزهور رغم روعة القصه ورغم حبنا للون الازرق إلا انه حرمنا من مطالعة القصه كده اعمل اللون داكن اكثر او بنى حتى نستطيع قرايته بسهوله 000ده عجيز ساكت طبعا
غريق كمبال- مشرف المنتدى الاقتصادى
رد: رسالة إلى إيلين ...و قصص قصيرة أخرى .. الطيب صالح
شكرا ابو الزهور الطيب صالح قامه سامقه وقاص من طراز فريد ياخزك باسلوبه الشيق وعباراته اللطيفه بالجد القصه تستحق الاطلاع وهى تحفه ادبيه متكامله
غريق كمبال- مشرف المنتدى الاقتصادى
الرجل القبرصي ... قصة قصيرة للطيب صالح
نيقوسيا في شهر يوليو كما لو أن الخرطوم قامت مقام دمشق. الشوارع كما خططها الإنجليز، والصحراء – صحراء الخرطوم. ولكن ذلك الصراع بين ريح الصبا وريح الدبور كما أذكره في دمشق وهي إنجليزية من رأسها حتى أخمص قدميها بالرغم من كل تلك الدماء صدمت لأنني توقعت بلداً ذا طابع هليني لكن الرجل لم يهملني ريثما أوصل الفكرة إلى نهايتها. جاء وجلس جانب على حافة حوض السباحة التفت لفتة خفيفة فأحضروا له فنجان قهوة فوراً اتجه نحوى كأننا كنا على موعد.
وقال:
سائح ؟
قلت: نعم
أحدث صوتاً لم أفهم مغزاه كأنه يقول أن مثلي لا يستحق أن يكون سائحاً في نيقوسيا، أو أن نيقوسيا لا تستحق أن يكون مثلي سائحاً فيها.
انصرفت عنه بالتمعن في امرأة وجهها مثل ملائكة روفائيل، وجسدها مثل نساء قوقان. هل هي الزوجة أم المرأة الأخرى؟ وقررت بسرعة أن الزوجة هي المرأة الأخرى لأن الرجل منصرف بكليته إلى المرأة السماوية الوجه، الأرضية الجسد. مرة أخرى قطع علي صاحبي القبرصي حبل تفكيري:
- من أين؟
- من السودان؟
- ماذا تعمل؟
- في الحكومة؟
أيضاً ذلك الصوت الغريب، لكن مغزاه كان واضحاً لا مراء فه هذه المرة، يعني، أنني، والسودان، والحكومة، ماذا أقول؟ ابتسمت لأن الحكومات صدرها واسع على أي حال، وأنا في الواقع لا أعمل في الحكومة.
- قال بلا مناسبة ، بإنجليزية حسنة:
- عندي مصنع.
- صحيح؟
- لصنع أزياء النساء.
- شئ جميل.
- كونت ثروة كبيرة اشتغلت مثل العبد . عملت ثروة. الآن لا أعمل أقضي وقتي كله في الفراش.
- تنام؟
- أنام ؟ أنت تمزح. ماذا يفعل الرجل في الفراش ؟ يلهو. طالع نازل. واحدة تلو الأخرى. طول اليوم.
- ألا تتعب؟
- أنت تمزح. انظر إلى كم تظن سني؟
- أحياناً خمسون، وسبعون أحياناً، لكنني لم أشأ أن أساعده قلت له:
- سبعون
لم يؤلمه ذلك كما قدرت، ولكنه ضحك ضحكة مجلجلة وقال:
- خمسة وسبعون في الواقع، ولكن ما من أحد يعطينى أكثر من خمسين، قل الحق.
- خمسون إذا شئت.
- لماذا؟
- تتريض.
- نعم، في الفراش، أطلع أنزل بيض وسود وحمر وصفر. كل الألوان. أوروبيات وزنجيات وهنود وعرب ويهود مسلمون ونصارى وبوذيون جميع الأديان.
- أنت رجل متحرر.
- نعم في الفراش..
- وفي الخارج؟
- أكره اليهود.
- لماذا تكره اليهود؟
- هكذا، لوجه الله . ثم إنهم يلعبون بحذق !
- ماذا؟
- لعبة الموت. مارسوها منذ قرون.
- لماذا يغضبك هذا؟
- لأنني.. لأنني.. لا يهم.
- ألا يغلبون؟
- كلهم ستسلمون في نهاية الأمر، بكت ، في انتظار قودو.
- ونساؤهم؟
- ليس أحسن منهن في الفراش.. كلما ازدادت كراهيتك لهم ازدادت متعتك مع نسائهم انهم شعبي المختار.
- وزنوج أمريكا ؟
- لم تصل علاقتي بهم إلى درجة الكراهية. يجب أن أنتبه لهم أكثر.
- والعرب؟
- يثيرون الضحك أو الرثاء ، ويستسلمون بسهولة، في هذه الأيام على الأقل اللعب معهم ليس ممتعاً لأنه من طرف واحد..
فكرت، لو أنهم قبلوا بقبرص، لو أن بلفور وعدهم إياها.
ضحك الرجل القبرصي ضحكته المجلجلة وقال:
"المرأة تطيل العمر – يجب أن يبدو الرجل أصغر من سنه بعشرين سنة على الأقل، هذه هي الشطارة".
- هل تخدع الموت ؟
- ما هو الموت ؟ شخص يلقاك صدفة ، يجلس معك ، كما تجلس الآن ، ويتبسط معك في الحديث ، ربما عن الطقس أو النساء أو أسعار الأسهم في سوق المال. ثم يوصلك بأدب إلى الباب يفتح الباب ويشير إليك أن تخرج بعد ذلك لا تعلم.
كأن غيمة رمادية ظللت برهة فوق المكان، لكنني في تلك اللحظة لم أكن أعلم أن القداح تضرب وأن الرجل القبرصي يلعب معي لعبة خطرة.
اتسعت موجة الضحك فشملتني كانت عائلة عذبة أنست لها منذ جلست، الأب طيب الوجه، والأم صوتها الإنجليزي مثل لحن إليزابيثي من أوتار قيثارة عريقة أربع بنات كبراهن لا تزيد عن الثانية عشرة. كن يدخلن حوض للسباحة ويخرجن ويضحكن، ويعابثن أبويهن ، ويضحكن وكانوا يبتسمون لي، ويوسعون دائرة سعادتهن حتى شملتني. وجاءت لحظة رأيت على وجه الأب أنه يوشك أن يدعوني أن أنضم إلى مجلسهم، في تلك اللحظة دهمني الرجل القبرصي قامت البنت الكبرى وخطت برشاقة نحو حوض السباحة قال الرجل للقبرصي والبنت توقفت فجأة كأن قوة غامضة أوقفتها قال:
- هذه أدفع فيها مائة جنيه إسترليني.
قلت له مذعوراً:
- "لماذا"؟
أشار الرجل القبرصي بذراعه إشارة بشعة.
في تلك اللحظة انكبت البنت على وجهها، سقطت على الحجر وسال الدم من جبهتها هبت العائلة الطيبة مثل طيور مذعورة وأحاطوا بالبنت فوراً قمت من جنب الرجل وأنا أشعر نحوه بكراهية طاغية، وجلست على مائدة بعيداً عنه.
تذكرت بنات وأمهن في بيروت وغضبت، ورأيت أفراد العائلة الجميلة ينصرفون مبتئسين، البنات يتشبثن بالأم والأم تتحامل على الأب، فغضبت أكثر ثم سكت وسكتت الأشياء حولي . وانحسرت الضوضاء وجاء صديقي الطاهر "ود الرواسي" وجلس إلى جانبي على الكنبة أمام متجر سعد كان متهلل الوجه نشطاً ممتلئاً عافية قلت له:
"صحح ليش ما كبرت أو عجزت مع أنك أكبر منهم كلهم؟"
قال:
"من وعيت على الدنيا وأنا متحرك ما أذكر أني وقفت من الحركة أشتغل مثل الحصان وإذا كان مافي شغل أخلق أي حاجة أشغل نفسي بيها. أنوم وقت ما أنوم بدري أو وخري، شرط أصحي على المؤذن أول ما يقول "الله أكبر الله أكبر" لصلاة الفجر".
- لكنك لا تصلي؟
- أتشهد وأستغفر بعد ما المؤذن يخلص الأذان، وقلبي يتطمن أن الدنيا ماشية زي ما كانت. آخذ غفوة مثل نص ساعة، العجيب غفوة ما بعد الأذان تسوي عندي نوم الليل كله. بعدها أصحي كأنه صحاني منبه. أعمل الشاي واصحي فاطمة. هي تصلي صلاة الصبح.. نشرب الشاي. أنا أ،زل أقابل الشمس فوق صفحة النيل وأقول لصباح الله حبابك ومرحبابك. أغيب ذي ما أغيب أرجع ألقى الفطور حاضر نقعد أنا وفاطمة وأي إنسان من عباد الله تجئ به لينا القسمة أكثر من خمسين سنة على هذي الحالة".
يوماً ما سأسأل الطاهر ود الرواسي، عن قصة زواجه بفاطمة بنت جبر الدار، إحدى أخوات محبوب الأربعة. هل أسأله الآن؟ لم يكن ولاؤه لنفسه، بل كان لمحبوب، وكان يضحك على نفسه وعلى الدنيا. هل صبح بطلاً ؟ واضح أنه إذا جد الجد فسوف يفدي محبوب بنفسه. هل أسأله الآن؟ لكنه قال، وحده جملة صغيرة مصنوعة من نسيج حياته كلها:
- "فاطمة بنت جبر الدار هالله. الله".
- ومحبوب؟
ضحك الطاهر ود الرواسي ضحكة لها طعم تلك الأيام، وذلك مدى حبه لمحبوب، حتى ذكر اسمه يملؤه سعادة، كأن وجود محبوب على وجه الأرض يجعلها أقل عدواناً، وأكثر خيراً في نظر الطاهر ود الرواسي ضحك وقال وهو يضحك:
"محبوب حاجة تانية محبوب معمول من طينة غير"
ثم سكت وكان واضحاً لي أنه لا يريد وقتها أن يقول أكثر في ذلك الموضوع بالذات بعد مدة سألته:
"عبد الحفيظ قال إنك ما دخلت الجامع في حياتك أبداً صحيح؟
- مرة واحدة بس دخلت الجامع.
- ليش ؟ وعلشان إيش ؟
- مرة واحدة فقط كان شتاء من الشتوات طوبة أو أمشير والله أعلم.
قلت له:
- كان في أمشير بعد ما دفنتم مريم باللّيل.
- صحيح عرفت كيف؟
- كنت معاكم موجود.
- وين؟ ما شفتك داك الصباح، مع أن البلد اجتمعت كلها يومداك في الجامع؟
- كنت عند الشباك أظهر وأبين لحد ما قلتم ولا الضالين آمين.
- سبحان الله الرجل الغريب محيميد المسكن كان صرخ ويقول: الرجل الكان هنا راح وين؟"
- وبعدين؟
فجأة طائر الأحلام طار. اختفى ود الرواسي، واختفت "ود حامد" بكل تلك الاحتمالات وحيث كان يجلس رأيت الرجل القبرصي، سمعت صوته فانقبض قلبي سمعت الصراخ والضوضاء وارتطام الماء بجوانب المسبح، وتشكلت الأشباح على هيئة نساء عاريات ورجال عراة وأطفال يتقافزون ويتصايحون وكان الصوت يقول:
"أدفع في هذه خمسين جنيهاً استرلينياً فقط".
ضغطت عيني لأصحو أكثر ونظرت إلى السلعة المعروضة في السوق كانت تلك المرأة كانت تشرب عصير برتقال في اللحظة التي قال فيها الرجل القبرصي ما قال شرقت واختنقت وهب إليها الرجل وهبت المرأة وجاء الخدم والسعاة واجتمع الناس وحملوها مغشيا عليها وكأنما ساحر أشار بعصاه السحرية، فإذا بالناس، كما خيل لي قد اختفوا فجأة والظلام أيضا كأنه كان على مقربة ينتظر إشارة من أحد، نزل دفعة واحدة أنا والرجل القبرصي وحدنا والضوء يلعب ألاعيبه على صفحة الماء قال لي بين النور والظلام:-
"بنتان أمريكيتان وصلتا هذا الصباح من نيويورك جميلتان جداً وثريتان جداً واحدة في الثامنة عشرة وهي لي والثانية في الخامسة والعشرين وهي لك. أختان تملكان فيلا في كابرينيا عندي سيارة لن تكلفك المغامرة شيئاً اسمع كلامي لونك سيعجبهن جداً".
كانت الظلمة والضوء يتصارعان حول المسبح وعلى سطح الماء وكان صوت الرجل القبرصي كأنما يزود جيوش الظلام بالسلاح لذلك أردت أن أقول له فليكن، ولكن صوتاً آخر خرج من حلقي دون إرادتي قلت له وأنا أتابع الحرب الدائرة على صفحة الماء:
"لا، أشكرك لم أحضر إلى نيقوسيا بحثاً عن هذا جئت لأتحدث إلى صديقي الطاهر ود الرواسي في هدوء لأنه رفض أن يزورني في لندن، وأعياني لقاؤه في بيروت".
ثم التفت غليه ويا هول ما رأيت أنا واهم أم حالم أم مجنون؟ جرت، جرت لائذاً بالجمع في مشرب الفندق طلبت شراباً ما وشربته لا أذكر مذاقه وشربته لا أعلم ماذا كان.. هدأ روعي قليلاً ولكن الرجل القبرصي جاء وجلس معي كان يقفز على عكازين طلب كأساً من الو سكي دبل قال انه فقد ساقه اليمني في الحرب أية حرب؟ حرب من الحروب ماذا يهم أية حرب؟ تهشمت ساقه الخشبية هذا الصباح صعد جبلاً ينتظر ساقاً جديدة من لندن. صوته إنجليزي أحياناً وتشبه لكنة ألمانية أحياناً ويبدو لي فرنسياً أحياناً، ويستعمل كلمات أمريكية:
- هل أنت...؟
- لا لست أنا بعض الناس يحسبوني إيطالياً وبعضهم يحسبونني روسياً، وبعضهم ألمانياً.. أسبانياً.. ومرة سألني سائح أمريكي هل أنا من بسوتولاند تصور ماذا يهم من أين أنا؟ وأنت يا صاحب السعادة؟
- لماذا تقول لي يا صاحب السعادة؟
- لأنك إنسان مهم جداً.
- ما هي أهميتي؟
- إنك موجود اليوم ولن تكون موجوداً غداً.. ولن تتكرر.
- هذا يحدث لكل إنسان ما أهمية ذلك؟
- ليس كل إنسان مدركاً أنت يا صاحب السعادة تدرك موضعك في الزمان والمكان.
- لا أعتقد ذلك.
شرب الكأس دفعة واحدة، ووقف على ساقين سليمتين إلا إذا كنت واهماً أو حالماً أو مجنوناً وكان كأنه الرجل القبرصي انحنى بأدب متصنع جداً وكان وجهه كما رأيته على حافة البركة يجعلك تحس أن الحياة لا قيمة لها وقال:
"لا أقول وداعاً ولكن إلى اللقاء يا صاحب السعادة".
كانت الساعة العاشرة حين دخلت فراشي تحايلت على النوم بوسائل شتى وكنت متعباً سبحت طول اليوم حاولت التحدث إلى الطاهر ود الرواسي.. سألته عن قصة زواجه من فاطمة بنت جبر الدار سألته عن حضوره صلاة الفجر في ذلك اليوم المشهود سألته عن ذلك الغناء الذي كان يعقد ما بين الضفتين بخيوط من حرير، بينما كان محيميد المسكين يضرب في أليم ملاحقاً طيف مريم لكنه لم يجب . لم تسعفني الموسيقى ولم تسعفني القراءة وكان يمكن أن أخرج أذهب على ملهى أو أجلس في مشرب الفندق لا حيلة لي ثم بدأ الألم خدر خفيف في أطراف أصابع القدمين، أخذ يزحف تدريجياً إلى أعلى حتى كأن مخالب رهيبة تنهش البطن والصدر والظهر والرأس وكأن نيران الجحيم اشتعلت مرة واحدة كنت أغيب عن الوعي ثم أفيق، ثم أدخل في دوامة رهيبة من الآلام والنيران والوجه المرغب يتراءي لي بين الغيبوبة وشبه الوعي، ينط من مقعد إلى مقعد يختفي ويبين في أنحاء الغرفة أصوات لا أفهمها تجئ من المجهول ووجوه لا أعرفها مكشرة قاتمة ولم تكن لي حيلة كنت واعياً بطريقة ما ولكن لم تكن لي حلة أن ارفع سماعة التلفون أطلب طيباً أو أ،زل إلى الاستقبال في الفندق أو أصرخ مستغيثاً كانت حرباً شرسة صامتة بيني وبين أقدار مجهولة ولابد أنني انتصرت نوعا من الانتصار لأنني صحوت على دقات الساعة الرابعة صباحاً. والفندق والمدينة صامتين اختفت الآلام إلا من إحساس بالإعياء وإحساس بيأس شامل كأن الدنيا بخيرها وشرها لا تساوي جناح بعوضة بعد ذلك نمت في التاسعة صباحا حقت الطائرة الذاهبة بي إلى بيروت فوق نيقوسيا فبدت لي مثل مقبرة قديمة.
في مساء اليوم التالي في بيروت دق جرس الباب وإذا امرأة متشحة بالسواد تحمل طفلا كانت تبكي وأول جملة قالتها:
"أنا فلسطينية ابنتي ماتت"
وقفت برهة أنظر إليها لا أدرى ماذا أقول ولكنها دخلت وجلست وقالت:
"هل تتركني أرتاح وأرضع الطفل ؟"
- بينما هي تحكي لي قصتها دق جرس الباب أخذت البرقية وفتحتها وكانت المرأة الفلسطينية تحكي لي أنباء الفاجعة الكبرى وأنا مشغول عنها بفجيعتي قطعت البحار والقفار وكنت أريد أن أعلم قبل أي شئ متى مات وكيف مات . اخبروني انه عمل في الحديثة في حقله كعادته في الصباح وعمل الأشياء التي يعملها عادة في يومه لم يكن يشكو من شئ دخل دور أقربائه وجالس مع أصدقائه هنا وهنا أحضر بعض التمر في نصف نضجه وشرب به القهوة ورد اسمي في حديثه عدة مرات وكان ينتظر قدومي بفارغ الصبر لأنني كتبت له أنني قادم . تعشى خفيفاً كعادته وصلى صلاة العشاء ثم جاءته نذر الموت نحو الساعة العاشرة قبيل صلاة الفجر فاضت روحه وحين كانت الطائرة تحملني من نقوسيا إلى بيروت كانوا قد فرغوا لتوهم من دفنه.
وقفت على قبره وقت الضحى وكان الرجل القبرصي جالساً على طرف القبر في زيه الرسمي يستمع إلي وأنا أدعو وأبتهل. قال لي بصوت كأنه ينبع من الأرض والسماء ويحيط بي من النواحي كافة:
"لن تراني على هذه الهيئة إلا آخر لحظة حين افتح لك الباب وانحني لك بأدب وأقول لك "تفضل يا صاحب السعادة" سوف تراني في أزياء أخرى مختلفة قد تلقاني على هيئة فتاة جميلة تجيئك وتقول لك إنها معجبة بأفكارك وآرائك وتحب أن تعمل معك مقابلة لصحيفة أو مجلة أو على هيئة رئيس أو حاكم يعرض عليك وظيفة يخفق لها قلبك أو على هيئة لعبة من ألاعيب الحياة تعطيك مالا كثيراً لم تبذل فيه جهداً وربما على هيأة بنت تصغرك بعشرين عاماً تتشهاها، تقول لك نذهب إلى كوخ منعزل في الجبل احترس لن يكون أبوك موجوداً في المرة القادمة ليفديك بروحه احترس الأجل مسمى ولكننا نأخذ بعين الاعتبار المَهرة في اللعب.
احترس فإنك الآن تصعد نحو قمة الجبل".
ولما تيقنت أنه كان ذلك اليوم في نيقوسيا يفاضل بيني وبين أبي، وأنه اختار أفضلنا بكيت الدموع التي ظلت حبيسة طول ذلك العهد بكيت حتى نسيت الموت والحياة والرجل القبرصي .
وقال:
سائح ؟
قلت: نعم
أحدث صوتاً لم أفهم مغزاه كأنه يقول أن مثلي لا يستحق أن يكون سائحاً في نيقوسيا، أو أن نيقوسيا لا تستحق أن يكون مثلي سائحاً فيها.
انصرفت عنه بالتمعن في امرأة وجهها مثل ملائكة روفائيل، وجسدها مثل نساء قوقان. هل هي الزوجة أم المرأة الأخرى؟ وقررت بسرعة أن الزوجة هي المرأة الأخرى لأن الرجل منصرف بكليته إلى المرأة السماوية الوجه، الأرضية الجسد. مرة أخرى قطع علي صاحبي القبرصي حبل تفكيري:
- من أين؟
- من السودان؟
- ماذا تعمل؟
- في الحكومة؟
أيضاً ذلك الصوت الغريب، لكن مغزاه كان واضحاً لا مراء فه هذه المرة، يعني، أنني، والسودان، والحكومة، ماذا أقول؟ ابتسمت لأن الحكومات صدرها واسع على أي حال، وأنا في الواقع لا أعمل في الحكومة.
- قال بلا مناسبة ، بإنجليزية حسنة:
- عندي مصنع.
- صحيح؟
- لصنع أزياء النساء.
- شئ جميل.
- كونت ثروة كبيرة اشتغلت مثل العبد . عملت ثروة. الآن لا أعمل أقضي وقتي كله في الفراش.
- تنام؟
- أنام ؟ أنت تمزح. ماذا يفعل الرجل في الفراش ؟ يلهو. طالع نازل. واحدة تلو الأخرى. طول اليوم.
- ألا تتعب؟
- أنت تمزح. انظر إلى كم تظن سني؟
- أحياناً خمسون، وسبعون أحياناً، لكنني لم أشأ أن أساعده قلت له:
- سبعون
لم يؤلمه ذلك كما قدرت، ولكنه ضحك ضحكة مجلجلة وقال:
- خمسة وسبعون في الواقع، ولكن ما من أحد يعطينى أكثر من خمسين، قل الحق.
- خمسون إذا شئت.
- لماذا؟
- تتريض.
- نعم، في الفراش، أطلع أنزل بيض وسود وحمر وصفر. كل الألوان. أوروبيات وزنجيات وهنود وعرب ويهود مسلمون ونصارى وبوذيون جميع الأديان.
- أنت رجل متحرر.
- نعم في الفراش..
- وفي الخارج؟
- أكره اليهود.
- لماذا تكره اليهود؟
- هكذا، لوجه الله . ثم إنهم يلعبون بحذق !
- ماذا؟
- لعبة الموت. مارسوها منذ قرون.
- لماذا يغضبك هذا؟
- لأنني.. لأنني.. لا يهم.
- ألا يغلبون؟
- كلهم ستسلمون في نهاية الأمر، بكت ، في انتظار قودو.
- ونساؤهم؟
- ليس أحسن منهن في الفراش.. كلما ازدادت كراهيتك لهم ازدادت متعتك مع نسائهم انهم شعبي المختار.
- وزنوج أمريكا ؟
- لم تصل علاقتي بهم إلى درجة الكراهية. يجب أن أنتبه لهم أكثر.
- والعرب؟
- يثيرون الضحك أو الرثاء ، ويستسلمون بسهولة، في هذه الأيام على الأقل اللعب معهم ليس ممتعاً لأنه من طرف واحد..
فكرت، لو أنهم قبلوا بقبرص، لو أن بلفور وعدهم إياها.
ضحك الرجل القبرصي ضحكته المجلجلة وقال:
"المرأة تطيل العمر – يجب أن يبدو الرجل أصغر من سنه بعشرين سنة على الأقل، هذه هي الشطارة".
- هل تخدع الموت ؟
- ما هو الموت ؟ شخص يلقاك صدفة ، يجلس معك ، كما تجلس الآن ، ويتبسط معك في الحديث ، ربما عن الطقس أو النساء أو أسعار الأسهم في سوق المال. ثم يوصلك بأدب إلى الباب يفتح الباب ويشير إليك أن تخرج بعد ذلك لا تعلم.
كأن غيمة رمادية ظللت برهة فوق المكان، لكنني في تلك اللحظة لم أكن أعلم أن القداح تضرب وأن الرجل القبرصي يلعب معي لعبة خطرة.
اتسعت موجة الضحك فشملتني كانت عائلة عذبة أنست لها منذ جلست، الأب طيب الوجه، والأم صوتها الإنجليزي مثل لحن إليزابيثي من أوتار قيثارة عريقة أربع بنات كبراهن لا تزيد عن الثانية عشرة. كن يدخلن حوض للسباحة ويخرجن ويضحكن، ويعابثن أبويهن ، ويضحكن وكانوا يبتسمون لي، ويوسعون دائرة سعادتهن حتى شملتني. وجاءت لحظة رأيت على وجه الأب أنه يوشك أن يدعوني أن أنضم إلى مجلسهم، في تلك اللحظة دهمني الرجل القبرصي قامت البنت الكبرى وخطت برشاقة نحو حوض السباحة قال الرجل للقبرصي والبنت توقفت فجأة كأن قوة غامضة أوقفتها قال:
- هذه أدفع فيها مائة جنيه إسترليني.
قلت له مذعوراً:
- "لماذا"؟
أشار الرجل القبرصي بذراعه إشارة بشعة.
في تلك اللحظة انكبت البنت على وجهها، سقطت على الحجر وسال الدم من جبهتها هبت العائلة الطيبة مثل طيور مذعورة وأحاطوا بالبنت فوراً قمت من جنب الرجل وأنا أشعر نحوه بكراهية طاغية، وجلست على مائدة بعيداً عنه.
تذكرت بنات وأمهن في بيروت وغضبت، ورأيت أفراد العائلة الجميلة ينصرفون مبتئسين، البنات يتشبثن بالأم والأم تتحامل على الأب، فغضبت أكثر ثم سكت وسكتت الأشياء حولي . وانحسرت الضوضاء وجاء صديقي الطاهر "ود الرواسي" وجلس إلى جانبي على الكنبة أمام متجر سعد كان متهلل الوجه نشطاً ممتلئاً عافية قلت له:
"صحح ليش ما كبرت أو عجزت مع أنك أكبر منهم كلهم؟"
قال:
"من وعيت على الدنيا وأنا متحرك ما أذكر أني وقفت من الحركة أشتغل مثل الحصان وإذا كان مافي شغل أخلق أي حاجة أشغل نفسي بيها. أنوم وقت ما أنوم بدري أو وخري، شرط أصحي على المؤذن أول ما يقول "الله أكبر الله أكبر" لصلاة الفجر".
- لكنك لا تصلي؟
- أتشهد وأستغفر بعد ما المؤذن يخلص الأذان، وقلبي يتطمن أن الدنيا ماشية زي ما كانت. آخذ غفوة مثل نص ساعة، العجيب غفوة ما بعد الأذان تسوي عندي نوم الليل كله. بعدها أصحي كأنه صحاني منبه. أعمل الشاي واصحي فاطمة. هي تصلي صلاة الصبح.. نشرب الشاي. أنا أ،زل أقابل الشمس فوق صفحة النيل وأقول لصباح الله حبابك ومرحبابك. أغيب ذي ما أغيب أرجع ألقى الفطور حاضر نقعد أنا وفاطمة وأي إنسان من عباد الله تجئ به لينا القسمة أكثر من خمسين سنة على هذي الحالة".
يوماً ما سأسأل الطاهر ود الرواسي، عن قصة زواجه بفاطمة بنت جبر الدار، إحدى أخوات محبوب الأربعة. هل أسأله الآن؟ لم يكن ولاؤه لنفسه، بل كان لمحبوب، وكان يضحك على نفسه وعلى الدنيا. هل صبح بطلاً ؟ واضح أنه إذا جد الجد فسوف يفدي محبوب بنفسه. هل أسأله الآن؟ لكنه قال، وحده جملة صغيرة مصنوعة من نسيج حياته كلها:
- "فاطمة بنت جبر الدار هالله. الله".
- ومحبوب؟
ضحك الطاهر ود الرواسي ضحكة لها طعم تلك الأيام، وذلك مدى حبه لمحبوب، حتى ذكر اسمه يملؤه سعادة، كأن وجود محبوب على وجه الأرض يجعلها أقل عدواناً، وأكثر خيراً في نظر الطاهر ود الرواسي ضحك وقال وهو يضحك:
"محبوب حاجة تانية محبوب معمول من طينة غير"
ثم سكت وكان واضحاً لي أنه لا يريد وقتها أن يقول أكثر في ذلك الموضوع بالذات بعد مدة سألته:
"عبد الحفيظ قال إنك ما دخلت الجامع في حياتك أبداً صحيح؟
- مرة واحدة بس دخلت الجامع.
- ليش ؟ وعلشان إيش ؟
- مرة واحدة فقط كان شتاء من الشتوات طوبة أو أمشير والله أعلم.
قلت له:
- كان في أمشير بعد ما دفنتم مريم باللّيل.
- صحيح عرفت كيف؟
- كنت معاكم موجود.
- وين؟ ما شفتك داك الصباح، مع أن البلد اجتمعت كلها يومداك في الجامع؟
- كنت عند الشباك أظهر وأبين لحد ما قلتم ولا الضالين آمين.
- سبحان الله الرجل الغريب محيميد المسكن كان صرخ ويقول: الرجل الكان هنا راح وين؟"
- وبعدين؟
فجأة طائر الأحلام طار. اختفى ود الرواسي، واختفت "ود حامد" بكل تلك الاحتمالات وحيث كان يجلس رأيت الرجل القبرصي، سمعت صوته فانقبض قلبي سمعت الصراخ والضوضاء وارتطام الماء بجوانب المسبح، وتشكلت الأشباح على هيئة نساء عاريات ورجال عراة وأطفال يتقافزون ويتصايحون وكان الصوت يقول:
"أدفع في هذه خمسين جنيهاً استرلينياً فقط".
ضغطت عيني لأصحو أكثر ونظرت إلى السلعة المعروضة في السوق كانت تلك المرأة كانت تشرب عصير برتقال في اللحظة التي قال فيها الرجل القبرصي ما قال شرقت واختنقت وهب إليها الرجل وهبت المرأة وجاء الخدم والسعاة واجتمع الناس وحملوها مغشيا عليها وكأنما ساحر أشار بعصاه السحرية، فإذا بالناس، كما خيل لي قد اختفوا فجأة والظلام أيضا كأنه كان على مقربة ينتظر إشارة من أحد، نزل دفعة واحدة أنا والرجل القبرصي وحدنا والضوء يلعب ألاعيبه على صفحة الماء قال لي بين النور والظلام:-
"بنتان أمريكيتان وصلتا هذا الصباح من نيويورك جميلتان جداً وثريتان جداً واحدة في الثامنة عشرة وهي لي والثانية في الخامسة والعشرين وهي لك. أختان تملكان فيلا في كابرينيا عندي سيارة لن تكلفك المغامرة شيئاً اسمع كلامي لونك سيعجبهن جداً".
كانت الظلمة والضوء يتصارعان حول المسبح وعلى سطح الماء وكان صوت الرجل القبرصي كأنما يزود جيوش الظلام بالسلاح لذلك أردت أن أقول له فليكن، ولكن صوتاً آخر خرج من حلقي دون إرادتي قلت له وأنا أتابع الحرب الدائرة على صفحة الماء:
"لا، أشكرك لم أحضر إلى نيقوسيا بحثاً عن هذا جئت لأتحدث إلى صديقي الطاهر ود الرواسي في هدوء لأنه رفض أن يزورني في لندن، وأعياني لقاؤه في بيروت".
ثم التفت غليه ويا هول ما رأيت أنا واهم أم حالم أم مجنون؟ جرت، جرت لائذاً بالجمع في مشرب الفندق طلبت شراباً ما وشربته لا أذكر مذاقه وشربته لا أعلم ماذا كان.. هدأ روعي قليلاً ولكن الرجل القبرصي جاء وجلس معي كان يقفز على عكازين طلب كأساً من الو سكي دبل قال انه فقد ساقه اليمني في الحرب أية حرب؟ حرب من الحروب ماذا يهم أية حرب؟ تهشمت ساقه الخشبية هذا الصباح صعد جبلاً ينتظر ساقاً جديدة من لندن. صوته إنجليزي أحياناً وتشبه لكنة ألمانية أحياناً ويبدو لي فرنسياً أحياناً، ويستعمل كلمات أمريكية:
- هل أنت...؟
- لا لست أنا بعض الناس يحسبوني إيطالياً وبعضهم يحسبونني روسياً، وبعضهم ألمانياً.. أسبانياً.. ومرة سألني سائح أمريكي هل أنا من بسوتولاند تصور ماذا يهم من أين أنا؟ وأنت يا صاحب السعادة؟
- لماذا تقول لي يا صاحب السعادة؟
- لأنك إنسان مهم جداً.
- ما هي أهميتي؟
- إنك موجود اليوم ولن تكون موجوداً غداً.. ولن تتكرر.
- هذا يحدث لكل إنسان ما أهمية ذلك؟
- ليس كل إنسان مدركاً أنت يا صاحب السعادة تدرك موضعك في الزمان والمكان.
- لا أعتقد ذلك.
شرب الكأس دفعة واحدة، ووقف على ساقين سليمتين إلا إذا كنت واهماً أو حالماً أو مجنوناً وكان كأنه الرجل القبرصي انحنى بأدب متصنع جداً وكان وجهه كما رأيته على حافة البركة يجعلك تحس أن الحياة لا قيمة لها وقال:
"لا أقول وداعاً ولكن إلى اللقاء يا صاحب السعادة".
كانت الساعة العاشرة حين دخلت فراشي تحايلت على النوم بوسائل شتى وكنت متعباً سبحت طول اليوم حاولت التحدث إلى الطاهر ود الرواسي.. سألته عن قصة زواجه من فاطمة بنت جبر الدار سألته عن حضوره صلاة الفجر في ذلك اليوم المشهود سألته عن ذلك الغناء الذي كان يعقد ما بين الضفتين بخيوط من حرير، بينما كان محيميد المسكين يضرب في أليم ملاحقاً طيف مريم لكنه لم يجب . لم تسعفني الموسيقى ولم تسعفني القراءة وكان يمكن أن أخرج أذهب على ملهى أو أجلس في مشرب الفندق لا حيلة لي ثم بدأ الألم خدر خفيف في أطراف أصابع القدمين، أخذ يزحف تدريجياً إلى أعلى حتى كأن مخالب رهيبة تنهش البطن والصدر والظهر والرأس وكأن نيران الجحيم اشتعلت مرة واحدة كنت أغيب عن الوعي ثم أفيق، ثم أدخل في دوامة رهيبة من الآلام والنيران والوجه المرغب يتراءي لي بين الغيبوبة وشبه الوعي، ينط من مقعد إلى مقعد يختفي ويبين في أنحاء الغرفة أصوات لا أفهمها تجئ من المجهول ووجوه لا أعرفها مكشرة قاتمة ولم تكن لي حيلة كنت واعياً بطريقة ما ولكن لم تكن لي حلة أن ارفع سماعة التلفون أطلب طيباً أو أ،زل إلى الاستقبال في الفندق أو أصرخ مستغيثاً كانت حرباً شرسة صامتة بيني وبين أقدار مجهولة ولابد أنني انتصرت نوعا من الانتصار لأنني صحوت على دقات الساعة الرابعة صباحاً. والفندق والمدينة صامتين اختفت الآلام إلا من إحساس بالإعياء وإحساس بيأس شامل كأن الدنيا بخيرها وشرها لا تساوي جناح بعوضة بعد ذلك نمت في التاسعة صباحا حقت الطائرة الذاهبة بي إلى بيروت فوق نيقوسيا فبدت لي مثل مقبرة قديمة.
في مساء اليوم التالي في بيروت دق جرس الباب وإذا امرأة متشحة بالسواد تحمل طفلا كانت تبكي وأول جملة قالتها:
"أنا فلسطينية ابنتي ماتت"
وقفت برهة أنظر إليها لا أدرى ماذا أقول ولكنها دخلت وجلست وقالت:
"هل تتركني أرتاح وأرضع الطفل ؟"
- بينما هي تحكي لي قصتها دق جرس الباب أخذت البرقية وفتحتها وكانت المرأة الفلسطينية تحكي لي أنباء الفاجعة الكبرى وأنا مشغول عنها بفجيعتي قطعت البحار والقفار وكنت أريد أن أعلم قبل أي شئ متى مات وكيف مات . اخبروني انه عمل في الحديثة في حقله كعادته في الصباح وعمل الأشياء التي يعملها عادة في يومه لم يكن يشكو من شئ دخل دور أقربائه وجالس مع أصدقائه هنا وهنا أحضر بعض التمر في نصف نضجه وشرب به القهوة ورد اسمي في حديثه عدة مرات وكان ينتظر قدومي بفارغ الصبر لأنني كتبت له أنني قادم . تعشى خفيفاً كعادته وصلى صلاة العشاء ثم جاءته نذر الموت نحو الساعة العاشرة قبيل صلاة الفجر فاضت روحه وحين كانت الطائرة تحملني من نقوسيا إلى بيروت كانوا قد فرغوا لتوهم من دفنه.
وقفت على قبره وقت الضحى وكان الرجل القبرصي جالساً على طرف القبر في زيه الرسمي يستمع إلي وأنا أدعو وأبتهل. قال لي بصوت كأنه ينبع من الأرض والسماء ويحيط بي من النواحي كافة:
"لن تراني على هذه الهيئة إلا آخر لحظة حين افتح لك الباب وانحني لك بأدب وأقول لك "تفضل يا صاحب السعادة" سوف تراني في أزياء أخرى مختلفة قد تلقاني على هيئة فتاة جميلة تجيئك وتقول لك إنها معجبة بأفكارك وآرائك وتحب أن تعمل معك مقابلة لصحيفة أو مجلة أو على هيئة رئيس أو حاكم يعرض عليك وظيفة يخفق لها قلبك أو على هيئة لعبة من ألاعيب الحياة تعطيك مالا كثيراً لم تبذل فيه جهداً وربما على هيأة بنت تصغرك بعشرين عاماً تتشهاها، تقول لك نذهب إلى كوخ منعزل في الجبل احترس لن يكون أبوك موجوداً في المرة القادمة ليفديك بروحه احترس الأجل مسمى ولكننا نأخذ بعين الاعتبار المَهرة في اللعب.
احترس فإنك الآن تصعد نحو قمة الجبل".
ولما تيقنت أنه كان ذلك اليوم في نيقوسيا يفاضل بيني وبين أبي، وأنه اختار أفضلنا بكيت الدموع التي ظلت حبيسة طول ذلك العهد بكيت حتى نسيت الموت والحياة والرجل القبرصي .
أزهرى الحاج البشير- مشرف عام
مواضيع مماثلة
» الطيبون: عبد الله الطيب والطيب صالح وطارق الطيب
» في ذكرى الطيب صالح
» الطيب صالح وحوار عن صلاح أحمد إبراهيم
» قصيده لشكسبير
» قال عالم عباس محمد نور
» في ذكرى الطيب صالح
» الطيب صالح وحوار عن صلاح أحمد إبراهيم
» قصيده لشكسبير
» قال عالم عباس محمد نور
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى