في ذكرى الطيب صالح
+7
أزهرى الحاج البشير
الفاتح محمد التوم
حيدر خليل
محمود منصور محمد علي
محمد قادم نوية
nashi
فيصل خليل حتيلة
11 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
في ذكرى الطيب صالح
بقلم : خالد القشطيني: الشرق الأوسط
مرت في الآونة الأخيرة ذكرى وفاة الطيب صالح. وحداني ذلك إلى استدعاء ذكرياتي معه. فأنا من القلائل الذين حظوا بمعرفته معرفة كثيبة وحميمية. ساعدني على ذلك اشتغالي معه في الـ«بي بي سي»، وثانيا لسكناه قريبا مني بويمبلدون، مما جعلنا نتزاور مرارا. وثالثا لمشاركتنا في كثير من المؤتمرات. كنا نحضرها من دون أن نشارك فيها في الواقع أو حتى أن نستمع لما يجري فيها من كلام. نجلس في إحدى زوايا الفندق ونتسامر مع الآخرين.
يتهمون الأديب الراحل بالكسل، لكنني لم أجد شيئا من هذا الكسل في دأبه على الخروج من الفندق لنتمشى في مشاوير طويلة، فننطلق للحديث عن شتى الأمور. قلما تحدثنا عن أعماله الروائية أو رواياتي أنا.. فهذا شيء كان يكره الخوض فيه.
وخلال ذلك، استمتعت بهذا الجانب من شخصيته، وهو جانب قلما التفت إليه أحد، ألا وهو حلاوة حديثه. كان له صوت رخيم جعلني أعتقد أنه لو وُلد في الغرب وتوجه للموسيقى لربما أصبح من نجوم الأوبرا. لكن الصوت لم يكن سحره الوحيد وإنما تزاوج هذا الصوت بطريقة الإلقاء الهادئ والرصين. ساعده على ذلك عمله الإذاعي وتخصصه في الروايات والمسرحيات الإذاعية. اكتسب من ذلك حسن الأداء. كان يجيد هذين العنصرين الأساسيين في العمل المسرحي: فرز الكلمات punctuation وتوقيت إلقائها Timing.. لم أسمع متحدثا عربيا يجيد ذلك كما كان يفعل الطيب. حببه ذلك للكثيرين من الرجال والنساء، فرُحنا جميعا نحسده على هذه الشعبية. وكان ممن وقع في سحره غوردن ووترفيلد، مدير القسم العربي. وما تحدث مع امرأة إلا وهامت به.
بالطبع يحتاج القالب إلى محتوى، فالإجادة في الكلام لا تكفي وإنما تتطلب شيئا ثمينا تقوله. وما أكثر ما لدى الطيب من درر أدبية نادرة يدلي بها ويغني المستمع بحكاياتها.. كان حفيظا للشعر ومحيطا بالكثير من النفائس الأدبية التي قلما التفت إليها الآخرون. من أحلى ما يمكن لأحد أن يتمتع به من أحاديث الطيب صالح الاستماع إليه وهو يلقي دررا من الشعر العربي يحسن في اختيارها ويبدع، كما قلت، في تلاوتها ويغنينا بالتعليق عليها وإعطائنا خلفيات تاريخية عنها.
هكذا قلت وكذا أكرر: إنني كنت محظوظا بمعرفة هذا العملاق الرقيق القصير من عمالقة الفكر والأدب العربي وبالاستماع إليه على مدى سنين طويلة. يذكرني صديقي الفقيد بأوسكار وايلد في هذا الخصوص. كان هذا الأديب الإنجليزي يسحر الناس بكلامه وطرائفه، حتى قالوا إن من عاش في زمن أوسكار وايلد ولم يسمعه يتحدث في مقهى كازينو دي باري بلندن، فهو كمن عاش في زمن الإغريق ولم ير معبد البارثنون قائما. دعوني أواصل هذه المقارنة الظريفة فأقول: إن من عاش في زمن الطيب صالح ولم يسمعه يتحدث فهو كمن عاش في زمن امرئ القيس ولم يسمع امرأ القيس يتلو في سوق عكاظ:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فيصل خليل حتيلة- مشرف إجتماعيات أبوجبيهة
رد: في ذكرى الطيب صالح
شكرا أ.فيصل علي المقال
حقيقة فترة طويلة لم أقرأ
اشكرك علي المتعة التي نقلتها لنا
تحياتي
nashi- مشرف المنتدى الرياضى
رد: في ذكرى الطيب صالح
هذه إضاءات هامة عن ما خطه كبار الصحفيين عن أديبنا الطيب صالح. وسيظل هذا الهرم السامق في ذاكرة المثقفين من بلادي قرون عدة. فكل بيت وكل أسرة تجد لها مكانا في رواياته يؤرخ لأفرادها بأدق الأوصاف.
لك التحية ياحبيب علي النقل الجميل
لك التحية ياحبيب علي النقل الجميل
محمد قادم نوية- مشرف منتدى الصوتيات
رد: في ذكرى الطيب صالح
شكرا ياعمدة على هذا النقل الجميل الانيق فقد
اثلجت صدورنا به ..فعندما تاتي الاشادة والاعتراف
والتقدير من خارج الوطن نرفع هاماتنا بكل شموخ
وفخر وكبرياء. وعندما ياتي الكلام عن الطيب صالح
نطاطئ الرؤوس تقديرا وتبجيلا وتنحني القامات تعظيما
امام هذا الهرم الشامخ شموخ اهرامات البجراوية والمصورات
والنقعة ..الساطع سطوع الشمس في ساحات الوغى في كرري
وشيكان وام دبيكرات.
يكفي العلامة الاديب فخرا ان اسمه دخل كل البيوت السودانية...
الف تحية المبدع السباق فيصل ولد خليل
اثلجت صدورنا به ..فعندما تاتي الاشادة والاعتراف
والتقدير من خارج الوطن نرفع هاماتنا بكل شموخ
وفخر وكبرياء. وعندما ياتي الكلام عن الطيب صالح
نطاطئ الرؤوس تقديرا وتبجيلا وتنحني القامات تعظيما
امام هذا الهرم الشامخ شموخ اهرامات البجراوية والمصورات
والنقعة ..الساطع سطوع الشمس في ساحات الوغى في كرري
وشيكان وام دبيكرات.
يكفي العلامة الاديب فخرا ان اسمه دخل كل البيوت السودانية...
الف تحية المبدع السباق فيصل ولد خليل
محمود منصور محمد علي- مشرف المنتدى العام و مصحح لغوي
رد: في ذكرى الطيب صالح
الطيب صالح يستحق الحفاوة والتقدير كيف لا وهو من صنف ضمن افضل مائة كاتب رواية علي مر التاريخ وكنا ونحن طلبة في الهند نعرف به وبرواياته وماكنانزعل بل نفتخر ونزهو ايما زهو
الطيب صالح انسان غير عادي فهو رجل له قدرة علي اثارة الدهشة في رواياته وكتاباته وحتي في حديثه واذكر ان استضافه الشاعر اللبناني زاهي وهبي في برنامجه الجميل خليك بالبيت علي قناة المستقبل وقدمه بطريقة جميلة للمشاهدين وقد بانت علامات الخجل علي الطيب صالح لم اري في حياتي انسان متواضع مثل الطيب صالح وحقيقة مع ان الحديث في ذلك البرنامج كان عن الرواية والشعر وكم كان شيقا وانيقا و لكن للامانه اكثر ماشدني في ذلك الحوار كان تواضع وادب الطيب صالح.
ومن ضمن اسئلة زاهي هبي له ان تواضع الطيب صالح حجب عنه الاضواء فاجابه الطيب صالح ان التواضع هو سر شموخ الشخصية السودانية.
رحم الله الطيب صالح رحمه واسعه
الطيب صالح انسان غير عادي فهو رجل له قدرة علي اثارة الدهشة في رواياته وكتاباته وحتي في حديثه واذكر ان استضافه الشاعر اللبناني زاهي وهبي في برنامجه الجميل خليك بالبيت علي قناة المستقبل وقدمه بطريقة جميلة للمشاهدين وقد بانت علامات الخجل علي الطيب صالح لم اري في حياتي انسان متواضع مثل الطيب صالح وحقيقة مع ان الحديث في ذلك البرنامج كان عن الرواية والشعر وكم كان شيقا وانيقا و لكن للامانه اكثر ماشدني في ذلك الحوار كان تواضع وادب الطيب صالح.
ومن ضمن اسئلة زاهي هبي له ان تواضع الطيب صالح حجب عنه الاضواء فاجابه الطيب صالح ان التواضع هو سر شموخ الشخصية السودانية.
رحم الله الطيب صالح رحمه واسعه
حيدر خليل- نشط مميز
السعوديون يتذكرون الطيب الصالح: المثقف العربي الأبرز في جنادريتهم
تنبأ قبل 30 عاما بطوفان الرواية النسائية السعودية
على مدى 23 عاما من دورات المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية)، كان الراحل الطيب الصالح هو المثقف العربي الأبرز الذي يضيء أمسياتها كما يضيء ملتقيات المثقفين العرب الذين تحتضنهم العاصمة السعودية كل عام. ومبكرا التصق الطيب الصالح بالحياة الثقافية السعودية والخليجية، التي درسها واقترن برموزها، وكان الراحل الشيخ عبد العزيز التويجري أحد أبرز أصدقاء الطيب الصالح الذي كان مجلسه هو الآخر صالونا للثقافة والفكر يحتفي كل (جنادرية) بمناقشات ثقافية ومساجلات مع الطيب الصالح، وبرز من بين تلك المساجلات مباراة في الذاكرة بين الشيخ والطيب بشأن أبيات منسوبة للمتنبي، ومعلوم أن الكتاب الأول للراحل التويجري كان (في أثر المتنبي بين اليمامة والدهناء).
كان الطيب الصالح قريبا حد الالتصاق بالمشهد الثقافي السعودي خصوصا والخليجي بشكل عام، وقلّ أن يغيب عن مهرجان أدبي أو احتفالية ثقافية كبرى، وفي حضوره في الرياض كان دؤوبا في الالتقاء بالمثقفين السعوديين وزيارة بيوتهم، كما كان يلتقي بالمثقفين السعوديين وبالأدباء الشبان في بهو الفندق كل عام لمناقشة رواياته بكل أريحية وشفافية، وطالما تقبل النقد، أو راح يفسر شيئا مما يلتبس في الفهم.
وبسبب اقترابه من الهوية الثقافية والأدبية الآخذة بالتشكل منذ الثمانينات تنبأ الطيب بما بات يعرف اليوم (تسونامي الرواية النسائية السعودية). فقبل أكثر من ثلاثين عاما نقلت مجلة (عالم الكتب – العدد الرابع 1981) عن الطيب الصالح قوله: «إذا كان الخليج عنده أدب حديث وأصيل وليس ازدهارا مجبرا فسيكون مكتوبا على يد امرأة لأن النساء هنّ اللواتي يعشن تحت ظروف اجتماعية صعبة تجعلهن مؤهلات للكتابة في الرواية والشعر .. وأنه إذا كان هناك رواية خليجية خلال العشر سنوات المقبلة فإنها سوف تكون رواية امرأة كتبت بالقهر والغضب
الطيب صالح بعيون سعودية
* تركي الحمد: لماذا لم يكرم في حياته
من السعودية يقول الأديب والمفكر السعودي تركي الحمد، إن وفاة الطيب صالح تفتح الملف القديم الجديد، حيث يجب أن يموت المبدع والمفكر لكي يتم تكريمه، فهذه القضية التي تطرح باستمرار وأشبعت نقاشا وجدلا، لكنها ذات القضية لم تتغير، فعندما يموت شخص بحجم الطيب صالح، نردد ذلك لماذا لم يتم تكريمه أثناء الحياة.
ويقول الحمد إن الطيب صالح لو لم يقدم سوى روايته (موسم الهجرة إلى الشمال) فقط لكفاه، وذلك في إشارة من الحمد إلى ما يقوله بعض المثقفين العرب إلى الطيب صالح من أنه لم يقدم أي عمل روائي خلال الـ20 سنة الأخيرة من حياته، ويضيف الحمد، في الثقافة الغربية هناك كتاب ورموز عالميون لم يكتب الواحد منهم سوى عمل واحد خلد اسمه.
ويضيف الحمد: «تكمن روعة الطيب صالح في الكيف وليس في الكم، فمثلا رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) حظيت بالعديد من الدراسات وأسند عليها من تفسيرات، حول علاقة الشرق بالغرب، والمستعمِر بالمستعمَر، وما إلى ذلك من تفسيرات.
وكان الحمد قد التقى بالطيب صالح في عدد من المؤتمرات الفكرية والثقافية، ويصفه بأنه كان متواضعا يمثل بساطة البيئة التي أتى منها.
د. ثريا العريض: الرواية إذ تتعدى الفرد إلى المجتمع
الشاعرة الدكتورة ثريا العريض تقول: «التقيت بالطيب صالح في لندن في إحدى أمسياتي الشعرية هناك بمناسبة احتفال السفارة السعودية بمئوية المملكة. وبعد إلقاء الشعر وجدت الأديب الفارع يتقدم نحوي وعرفته حالا بملامحه التي رسمتها مئات المطبوعات الأدبية كلما نشرت له أو عنه. نسيت وقتها كوني نجمة الحفل و لم يبق يسطع أمامي غير الأديب الشهير. فلم يكن من السهل أن أستوعب الموقف: الطيب صالح يصافحني ويبدي استمتاعه بما سمع. قلت له إنني أيضا استمتعت بكل ما قرأته له من روايات وعلى رأسها «موسم الهجرة إلى الشمال». وإنني من أشد المعجبات بأسلوبه المتميز الذي رسم لي ولغيري عالما عن الريف السوداني لم يكن لنا به علم. توقف لحظات يفكر ثم قال: لقد كتبت بعد موسم الهجرة عددا من الروايات أراها أكثر تميزا ولكن القارئ مصر على أن يربطني بتلك الرواية الأولى. سألته وقتها ما الذي يفضله هو من رواياته الأخرى فأجاب: «دومة ود حامد» و«عرس الزين». في اليوم التالي اشتريت تلك الروايات وعدت من لندن أحملها محملة بعبق من صوته وهو يتحدث عنها.
وتقول العريض، حين تلقيت خبر رحيله شعرت بحزن كثيف. فقد مات الأديب المثقف المبدع.. وبرحيله أعزي فيه نفسي والساحة الأدبية العربية وأهله في السودان وفي لندن.
وتضيف: «الطيب ترك آثارا أدبية تشرف الثقافة العربية.. أدعو روائيينا الأحداث أن يقرأوها ويتعلموا منها كيف تكتب رواية تتعدى الفرد إلى التعمق في نفسية المجتمع دون فوقية مرفوضة. وبرحيله فقدنا أديبا متميزا. وتميزه ليس فقط في لغته وأسلوبه بل أيضا في عمق تواصله بانفعالات الشاب العربي الذي يقف بين شفيرين: إدراكه أن معتقدات مجتمعه لا تسمح أن يكون هناك تقبل متبادل مع من يتجاوز وعيه تلك المعتادات البسيطة بما في ذلك الخزعبلات المتوارثة، والشفير الثاني هو إدراكه أن المجتمعات البعيدة التي يجذبه إليها تطورها المعرفي لا تراه إلا مختزلا في إطار الرومانسية الاستشراقية التي تنجذب إلى تفاصيل سطحية ينفر منها هو ولا يتقبلها في ما يراه ذاته الفردية. وهنا تأتي إشكالية العبور إلى الشمال حيث هو عبور لا يتم أبدا».
وتتساءل العريض: «هل عبر الطيب صالح بعد ذلك الهوة التي فصلته في برزخ بين المجتمعين؟ هل حقق الهدنة والتصالح مع ذاته ومجتمعه ومجتمع الآخر؟» وتجيب: لا أعرف، و لكنه الآن ارتاح من مواجهة الصراع في تلك المساحة الضيقة بين الشفيرين والكتابة عنه.
يوسف المحيميد: رحيل الضلع الثالث
الروائي السعودي يوسف المحيميد يصف وفاة الطيب صالح بأنها تعني رحيل أحد أهم رموز السرد الروائي العربي، ويضيف: «بموته سقط الضلع الثالث من المثلث الذي شكل رؤيته الأدبية ولغته السردية وذائقته الفنية، فبعد رحيل محمود درويش الذي تتلمذ على أشعاره ولغته الشاعرية التي ظهرت كما يقول بشكل جلي في أعماله الأدبية الأولى، وكذلك رحيل يوسف شاهين الذي شكل ذائقته البصرية ورؤيته الفنية قبل نهاية العام، ليحلق الضلع الثالث الذي كان له دور في تشكيل لغته السردية مع بدايات العام الجديد».
ويبين المحيميد أن «كثيرا من الناس يخلطون بين شخصية الطيب صالح وبين شخصية مصطفى سعيد بطل رواية موسم الهجرة إلى الشمال، أحد أهم أعمال الطيب صالح، ويضيف هذا لا يعني أنه ليس هناك أعمال أخرى مهمة مثل رواية عرس الزين، ودومة ود حامد، إلا إنها أغفلت وتم التركيز على موسم الهجرة إلى الشمال كعادتنا في تناول الأعمال الإبداعية.
ويعتبر المحيميد موقف الطيب صالح بتوقفه عن كتابة الرواية موقفا شجاعا وجريئا، حيث صرح في أكثر من مرة بأنه ليس لديه شيء جديد لكي يكتبه، رغم أنه منضبط في كتابة المقالة، وهذا موقف نادر ليس على المستوى العربي بل على المستوى العالمي. ويشير المحيميد إلى رواية الأديب العالمي غربيال غارسيا ماركيز (مذكرات غانياتي الحزينات)، التي وصف إصدار ماركيز لها بالتهور، لأنها لا ترقى إلى اسمه ومكانته في عالم الرواية، بينما موقف الطيب صالح يحسب له، فقد كان يستطيع أن يكتب رواية من ذكريات الطفولة وسيسوقها باسم الطيب صالح، لكنه لم يفعل».
وهو يعتبر أن تجربته الأدبية تفتحت على اسم الطيب صالح، فقد شكل ذائقته السردية في عالم الرواية كما كان ليوسف إدريس حضوره في القصة. وعن لقاءاته به يقول: «التقيت به مرارا في مؤتمرات الرواية العربية في القاهرة. كان بسيطا فلم يكن يشبه كثيرا من الروائيين أو الشعراء العرب المغرورين».
عبد الله الوشمي: صلة الوصل بين الغرب والعرب
من الرياض يقول عبد الله الوشمي، نائب رئيس نادي الرياض الأدبي: «الروائي الطيب صالح أحد الأسماء العربية الكبرى في عالم الرواية، وهو يمثل بالنسبة لي ولجيلي واحدا من جيل الأدباء العرب الآباء. ونستطيع أن نجد تأثيره في عدد كبير من الأدباء والروائيين العرب وبالأخص نحن السعوديين الذين عرفناه أديبا وكاتبا وإنسانا من خلال رواياته ومن خلال مقالاته المضيئة بالصحف والمجلات السعودية والخليجية ومن خلال زياراته للسعودية في مواسمها الثقافية (الجنادرية).
وقد نشأ جيل يتذكر رواياته بلا حدود كـ(موسم الهجرة إلى الشمال) بوصفه أحد أبرز الذين دشنوا الصلة بين الغرب والعرب من خلال النصّ الروائي.
وكان الطيب صالح على علاقة جدلية مع الآخر بكل مكوناته اللامتناهية.. فاستطاع أن يصنع هويته الفائضة بالتمرد على الأصول والمسلمات. وهذا الروائي المجنون تنطبق عليه مقولة خفة الكائن.. وبرحيله تفقد الرواية العربية رمزا من رموزها الأفذاذ النادرين وأحد فرسانها الذين لا يشق لهم غبار».
هكذا كنت أتابع يا فيصل مقالات عن الطيب صالح ...... وقد رفدني ببعضها بعض الزملاء وهم كتاب مشهورين جداً ويمتلكون ثقافة عاليه جداً ..... تخيّل يافيصل منطقه ذي العايش فيها أنا عدد سكانها لايتجاوز عددها 840 ألف نسمة يحتفون ويكتبون عن هذا القامة ..... الإنسان المتفرد...
كان الطيب الصالح قريبا حد الالتصاق بالمشهد الثقافي السعودي خصوصا والخليجي بشكل عام، وقلّ أن يغيب عن مهرجان أدبي أو احتفالية ثقافية كبرى، وفي حضوره في الرياض كان دؤوبا في الالتقاء بالمثقفين السعوديين وزيارة بيوتهم، كما كان يلتقي بالمثقفين السعوديين وبالأدباء الشبان في بهو الفندق كل عام لمناقشة رواياته بكل أريحية وشفافية، وطالما تقبل النقد، أو راح يفسر شيئا مما يلتبس في الفهم.
وبسبب اقترابه من الهوية الثقافية والأدبية الآخذة بالتشكل منذ الثمانينات تنبأ الطيب بما بات يعرف اليوم (تسونامي الرواية النسائية السعودية). فقبل أكثر من ثلاثين عاما نقلت مجلة (عالم الكتب – العدد الرابع 1981) عن الطيب الصالح قوله: «إذا كان الخليج عنده أدب حديث وأصيل وليس ازدهارا مجبرا فسيكون مكتوبا على يد امرأة لأن النساء هنّ اللواتي يعشن تحت ظروف اجتماعية صعبة تجعلهن مؤهلات للكتابة في الرواية والشعر .. وأنه إذا كان هناك رواية خليجية خلال العشر سنوات المقبلة فإنها سوف تكون رواية امرأة كتبت بالقهر والغضب
الطيب صالح بعيون سعودية
* تركي الحمد: لماذا لم يكرم في حياته
من السعودية يقول الأديب والمفكر السعودي تركي الحمد، إن وفاة الطيب صالح تفتح الملف القديم الجديد، حيث يجب أن يموت المبدع والمفكر لكي يتم تكريمه، فهذه القضية التي تطرح باستمرار وأشبعت نقاشا وجدلا، لكنها ذات القضية لم تتغير، فعندما يموت شخص بحجم الطيب صالح، نردد ذلك لماذا لم يتم تكريمه أثناء الحياة.
ويقول الحمد إن الطيب صالح لو لم يقدم سوى روايته (موسم الهجرة إلى الشمال) فقط لكفاه، وذلك في إشارة من الحمد إلى ما يقوله بعض المثقفين العرب إلى الطيب صالح من أنه لم يقدم أي عمل روائي خلال الـ20 سنة الأخيرة من حياته، ويضيف الحمد، في الثقافة الغربية هناك كتاب ورموز عالميون لم يكتب الواحد منهم سوى عمل واحد خلد اسمه.
ويضيف الحمد: «تكمن روعة الطيب صالح في الكيف وليس في الكم، فمثلا رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) حظيت بالعديد من الدراسات وأسند عليها من تفسيرات، حول علاقة الشرق بالغرب، والمستعمِر بالمستعمَر، وما إلى ذلك من تفسيرات.
وكان الحمد قد التقى بالطيب صالح في عدد من المؤتمرات الفكرية والثقافية، ويصفه بأنه كان متواضعا يمثل بساطة البيئة التي أتى منها.
د. ثريا العريض: الرواية إذ تتعدى الفرد إلى المجتمع
الشاعرة الدكتورة ثريا العريض تقول: «التقيت بالطيب صالح في لندن في إحدى أمسياتي الشعرية هناك بمناسبة احتفال السفارة السعودية بمئوية المملكة. وبعد إلقاء الشعر وجدت الأديب الفارع يتقدم نحوي وعرفته حالا بملامحه التي رسمتها مئات المطبوعات الأدبية كلما نشرت له أو عنه. نسيت وقتها كوني نجمة الحفل و لم يبق يسطع أمامي غير الأديب الشهير. فلم يكن من السهل أن أستوعب الموقف: الطيب صالح يصافحني ويبدي استمتاعه بما سمع. قلت له إنني أيضا استمتعت بكل ما قرأته له من روايات وعلى رأسها «موسم الهجرة إلى الشمال». وإنني من أشد المعجبات بأسلوبه المتميز الذي رسم لي ولغيري عالما عن الريف السوداني لم يكن لنا به علم. توقف لحظات يفكر ثم قال: لقد كتبت بعد موسم الهجرة عددا من الروايات أراها أكثر تميزا ولكن القارئ مصر على أن يربطني بتلك الرواية الأولى. سألته وقتها ما الذي يفضله هو من رواياته الأخرى فأجاب: «دومة ود حامد» و«عرس الزين». في اليوم التالي اشتريت تلك الروايات وعدت من لندن أحملها محملة بعبق من صوته وهو يتحدث عنها.
وتقول العريض، حين تلقيت خبر رحيله شعرت بحزن كثيف. فقد مات الأديب المثقف المبدع.. وبرحيله أعزي فيه نفسي والساحة الأدبية العربية وأهله في السودان وفي لندن.
وتضيف: «الطيب ترك آثارا أدبية تشرف الثقافة العربية.. أدعو روائيينا الأحداث أن يقرأوها ويتعلموا منها كيف تكتب رواية تتعدى الفرد إلى التعمق في نفسية المجتمع دون فوقية مرفوضة. وبرحيله فقدنا أديبا متميزا. وتميزه ليس فقط في لغته وأسلوبه بل أيضا في عمق تواصله بانفعالات الشاب العربي الذي يقف بين شفيرين: إدراكه أن معتقدات مجتمعه لا تسمح أن يكون هناك تقبل متبادل مع من يتجاوز وعيه تلك المعتادات البسيطة بما في ذلك الخزعبلات المتوارثة، والشفير الثاني هو إدراكه أن المجتمعات البعيدة التي يجذبه إليها تطورها المعرفي لا تراه إلا مختزلا في إطار الرومانسية الاستشراقية التي تنجذب إلى تفاصيل سطحية ينفر منها هو ولا يتقبلها في ما يراه ذاته الفردية. وهنا تأتي إشكالية العبور إلى الشمال حيث هو عبور لا يتم أبدا».
وتتساءل العريض: «هل عبر الطيب صالح بعد ذلك الهوة التي فصلته في برزخ بين المجتمعين؟ هل حقق الهدنة والتصالح مع ذاته ومجتمعه ومجتمع الآخر؟» وتجيب: لا أعرف، و لكنه الآن ارتاح من مواجهة الصراع في تلك المساحة الضيقة بين الشفيرين والكتابة عنه.
يوسف المحيميد: رحيل الضلع الثالث
الروائي السعودي يوسف المحيميد يصف وفاة الطيب صالح بأنها تعني رحيل أحد أهم رموز السرد الروائي العربي، ويضيف: «بموته سقط الضلع الثالث من المثلث الذي شكل رؤيته الأدبية ولغته السردية وذائقته الفنية، فبعد رحيل محمود درويش الذي تتلمذ على أشعاره ولغته الشاعرية التي ظهرت كما يقول بشكل جلي في أعماله الأدبية الأولى، وكذلك رحيل يوسف شاهين الذي شكل ذائقته البصرية ورؤيته الفنية قبل نهاية العام، ليحلق الضلع الثالث الذي كان له دور في تشكيل لغته السردية مع بدايات العام الجديد».
ويبين المحيميد أن «كثيرا من الناس يخلطون بين شخصية الطيب صالح وبين شخصية مصطفى سعيد بطل رواية موسم الهجرة إلى الشمال، أحد أهم أعمال الطيب صالح، ويضيف هذا لا يعني أنه ليس هناك أعمال أخرى مهمة مثل رواية عرس الزين، ودومة ود حامد، إلا إنها أغفلت وتم التركيز على موسم الهجرة إلى الشمال كعادتنا في تناول الأعمال الإبداعية.
ويعتبر المحيميد موقف الطيب صالح بتوقفه عن كتابة الرواية موقفا شجاعا وجريئا، حيث صرح في أكثر من مرة بأنه ليس لديه شيء جديد لكي يكتبه، رغم أنه منضبط في كتابة المقالة، وهذا موقف نادر ليس على المستوى العربي بل على المستوى العالمي. ويشير المحيميد إلى رواية الأديب العالمي غربيال غارسيا ماركيز (مذكرات غانياتي الحزينات)، التي وصف إصدار ماركيز لها بالتهور، لأنها لا ترقى إلى اسمه ومكانته في عالم الرواية، بينما موقف الطيب صالح يحسب له، فقد كان يستطيع أن يكتب رواية من ذكريات الطفولة وسيسوقها باسم الطيب صالح، لكنه لم يفعل».
وهو يعتبر أن تجربته الأدبية تفتحت على اسم الطيب صالح، فقد شكل ذائقته السردية في عالم الرواية كما كان ليوسف إدريس حضوره في القصة. وعن لقاءاته به يقول: «التقيت به مرارا في مؤتمرات الرواية العربية في القاهرة. كان بسيطا فلم يكن يشبه كثيرا من الروائيين أو الشعراء العرب المغرورين».
عبد الله الوشمي: صلة الوصل بين الغرب والعرب
من الرياض يقول عبد الله الوشمي، نائب رئيس نادي الرياض الأدبي: «الروائي الطيب صالح أحد الأسماء العربية الكبرى في عالم الرواية، وهو يمثل بالنسبة لي ولجيلي واحدا من جيل الأدباء العرب الآباء. ونستطيع أن نجد تأثيره في عدد كبير من الأدباء والروائيين العرب وبالأخص نحن السعوديين الذين عرفناه أديبا وكاتبا وإنسانا من خلال رواياته ومن خلال مقالاته المضيئة بالصحف والمجلات السعودية والخليجية ومن خلال زياراته للسعودية في مواسمها الثقافية (الجنادرية).
وقد نشأ جيل يتذكر رواياته بلا حدود كـ(موسم الهجرة إلى الشمال) بوصفه أحد أبرز الذين دشنوا الصلة بين الغرب والعرب من خلال النصّ الروائي.
وكان الطيب صالح على علاقة جدلية مع الآخر بكل مكوناته اللامتناهية.. فاستطاع أن يصنع هويته الفائضة بالتمرد على الأصول والمسلمات. وهذا الروائي المجنون تنطبق عليه مقولة خفة الكائن.. وبرحيله تفقد الرواية العربية رمزا من رموزها الأفذاذ النادرين وأحد فرسانها الذين لا يشق لهم غبار».
هكذا كنت أتابع يا فيصل مقالات عن الطيب صالح ...... وقد رفدني ببعضها بعض الزملاء وهم كتاب مشهورين جداً ويمتلكون ثقافة عاليه جداً ..... تخيّل يافيصل منطقه ذي العايش فيها أنا عدد سكانها لايتجاوز عددها 840 ألف نسمة يحتفون ويكتبون عن هذا القامة ..... الإنسان المتفرد...
فيصل دوماً أقول السودانيين زاهدين ....وكفى !!....
*****_*****
واختم قولي بالصلاة معظما أيا ربنا صلى وبارك وسلما
على المصطفى والصحب دائما صلاة تفوق المسك عطرا مفخما
يطيب بها كل الوجود ويتلآلآ
*****_*****
واختم قولي بالصلاة معظما أيا ربنا صلى وبارك وسلما
على المصطفى والصحب دائما صلاة تفوق المسك عطرا مفخما
يطيب بها كل الوجود ويتلآلآ
الفاتح محمد التوم- مشرف المنتدى السياسى
رد: في ذكرى الطيب صالح
الفاتح وفيصل لكم التحية والمحبة واشكركم علي فتح هذه النافذة الجميلة وفعلا اخي الفاتح الطيب لم يكتب كثيرا ولكن هذا القول مردود لانو حتي نجيب محفوظ نال جائزة نوبل علي تلاتة روايات من ضمنها السكرية واخرتين لم اتذكرهم مع انو نجيب محفوظ كاتب اكثر من 40 رواية الشاهد انو العبرة ليست بالكثرة
واتذكر انو في نفس اللقاء الذي ذكرته ساله زاهي عن توقفه عن الكتابة لفترة طويلة وقلة العطاء فقال الطيبب صالح انو هو مامتفرق للكتابة يعني زي ماقال انا ما ماسك قلمي وقاعداكتب انا عندي اهتمامات اخري وانا موظف كذلك مهتم بوظيفتي ولي التزامات اجتماعية كثيرة وكذلك الطيب صالح مهتم جدا بالشعر الجاهلي وخاصة شعر المتنبي وابوالزهور عارف الكتير عن هذا الموضوع فهو من المولعين بالمتنبئ.
واتذكر انو في نفس اللقاء الذي ذكرته ساله زاهي عن توقفه عن الكتابة لفترة طويلة وقلة العطاء فقال الطيبب صالح انو هو مامتفرق للكتابة يعني زي ماقال انا ما ماسك قلمي وقاعداكتب انا عندي اهتمامات اخري وانا موظف كذلك مهتم بوظيفتي ولي التزامات اجتماعية كثيرة وكذلك الطيب صالح مهتم جدا بالشعر الجاهلي وخاصة شعر المتنبي وابوالزهور عارف الكتير عن هذا الموضوع فهو من المولعين بالمتنبئ.
حيدر خليل- نشط مميز
رد: في ذكرى الطيب صالح
نعم عزيزي الصافي حيدر..... أصبت الحقيقه وزياده... حتى في فراغهم بعد اليوم الوظيفي .. تجدهم زاهدون لايتعلقون بنقاط ابداعهم .... ولكن عزانا في أن أبطال رواياته وقصصه سيبقون أحياء طويلا، بينهم «مصطفى سعيد» الذي خلد في واحدة من أهم الروايات على المستوى الإنساني والعربي «موسم الهجرة إلى الشمال» .. وكذلك الحال بالنسبة لـ«الطاهر» و«د الرواسي» ومعه «محجوب» في بندر شاه و«مريود» وضوء البيت و«دومة» و«د حامد». نعم صدقت حيدر هكذا يقبض الكبار كالطيب صالح على شيء من الخلود في حلم الإنسان الأزلي.. فهم يرحلون لكنهم لا يتوارون أبدا...
غشوة يا أبوالحــااااج ....
غشوة يا أبوالحــااااج ....
الفاتح محمد التوم- مشرف المنتدى السياسى
رد: في ذكرى الطيب صالح
مروركم و حواراتكم قيمة للغاية
وين ابوالزهور
تحياتى
فيصل خليل حتيلة- مشرف إجتماعيات أبوجبيهة
رد: في ذكرى الطيب صالح
إن من عاش في زمن الطيب صالح ولم يسمعه يتحدث فهو كمن عاش في زمن امرئ القيس ولم يسمع امرأ القيس يتلو في سوق عكاظ:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
لي عودة
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
لي عودة
أزهرى الحاج البشير- مشرف عام
رد: في ذكرى الطيب صالح
احسان-نويه-محمود-الفاتح-حيدر و ازهرى شكرا على المرور و الاضافة
ول نويه ( الحبل على الجرار )
منقول-------------------------
الإنجليزي الأسـود على ضفاف النيل
موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح
رواية كلاسيكية لأدب ما بعد الكولونياليه، تُكتشـف من جديد
د. هانز-بيتر كُونش، Dr. HANS-PETER KUNISCH
ترجمة د حامد فضل الله 1
أمير حمد 2
اتسم اقتحام مصطفي سعيد لأوروبا وانسجامه بانسيابية مذهلة. كأول مبعوث سوداني يحقق حلم وصوله إلى لندن، حظي في سن الرابعة والعشرين بتعينه محاضراً للعلوم الاقتصادية، وكم تعلق كِلفا بحرث كتبه الجامعية، توهجت فيه ملاحقة النساء الأوروبيات بهوس جنوني، فتارة تجده يتصدر المنصة خطيباً من أجل "اقتصاد إنساني" ومندداً بالاستعمار. أما شقته فهي خيمة شرقية منمنمه تعتمد إستراتيجية الإغراء فيها على البخور وأعواد الصندل المحروق -مضفياً عليها- بإهابه الأسود الأكاذيب (اللذيذة) "عن الحياة على ضفاف النيل".
قبل عامين مُنعت في السودان رواية موسم الهجرة إلى الشمال، أول رواية للكاتب الطيب صالح المولود عام 1929 والذي يعيش منذ سنوات في إنجلترا، وذلك لأنه كان قد أشار في صحيفة الحياة اللندنية إلى الوضع الاجتماعي والسياسي المحزن في وطنه، علماً بان الاحتجاج الرسمي تمثل في تصنيف الرواية كأدب "بورنوغرافي" ومخالفتها لإصول الإسلام. لقد جاء المنع بلا شك متأخراً بعض الشيء، فالرواية قد توطدت - من قبل - بين أوساط المثقفين "ككتاب مقدس" أوان نشرها لأول مره في منتصف الستينيات وهي الآن في مصاف الأدب العالمي.
بفترة طويلة قبل صمويل هنتجنتون Samuel Huntington "صراع الحضارات" تطرق الطيب إلى هذه الموضوعة كشرخ ينسحب على بعض المصائر الفردية لشخصيات الرواية.
مواجهة الحضارات
احتدت المواجهة بمصطفى سعيد عندما التقى بند مثله، [أنت بشع، لم أر في حياتي وجهاً بشعاً كوجهك وفتحت فمي لأتكلم لكنها ذهبت] هكذا تفوهت جين مورس المغازلة لكل من هب ودب والمتحرشة والباحثة عن العراك أينما كان. تزوج سعيد "السوبر عربي" جين الفتاة المتحررة.
وياله من ثنائي مجبول على التحرش، كأسلوب متطرف لمواجهة الثقافات.
يختم صالح الرواية بفاجعة دموية، حيث تخون جين مورس سعيد "فرضياً" قبل أن يغمد الخنجر في قلبها تحقيقا لرغبتها.
عقب سبع سنوات قضاها في غياهب السجن أثر الانزواء فأستقر في قرية صغيرة على ضفة النيل، حيث التقاه الراوي المتحدث بضمير الأنا. تزوج سعيد بفتاة من القرية وأنجبا طفلين وبالرغم من مساهمته الفعالة كعضو نافع في مجتمع القرية إلا انه كان شخصاً غامضاً لا يعرف أحـُدُ عن تاريخه شيئاً، سوى الراوي أثر صدفة أتاحت له الاستراق إليه وهو يتلو مخموراً قصيدة إنجليزية للعائدين من الحرب، فأضطره إلى كشف دقائق ماضيه الغابر خوف أن يشي به.
بالرغم من مضى ثلاثين عاماً على ذيوع رواية صالح إلا أنها -ومما يدعو إلى الدهشة- لم يزل تأثيرها الروحي طاغياً وهذا ما ينطبق كذلك على ترجمتها إلى الألمانية التي أتت متأخرة جداً -مما يعلل تزكية الرواية هذه- هو أن القطيعة بين الثقافات رغم التناقض بين التحزب للعولمة أو التظلم منها لم تفقد أهميتها ولان الرواية كُتبت بحريه مُسيطرة. إن تعدد الاحتمالات داخل الرواية لهو مشروط بالفقرات "المقالية" وقصص أهل القرية الشفهية والمونولوج الداخلي وهذه العناصر في حد ذاتها توسع المنظور أكثر من مضمون حياة سعيد غـريبة الأطوار والذي تلاشى دوره مع انسيابية الرواية شيئاً فشيئاً.
اختفى سعيد من القرية بعد أن تنازل عن تاريخ حياته، لعله مات منتحراً أو غرق أثناء فيضان النيل.
يقف مصطفى سعيد الاقتصادي اللامع -إلى جانب قصص شخصيات الطيب صالح- كشخصية متغيرة، محفوفة بالأسرار والأخطار. إن المزج الأخاذ بين أوروبا وإفريقيا -في هذه الرواية- بتباين السرد الزمني من حيث الشكل والمضمون، خول لها التشكل كتجربة انفتاح على الإدراك الذاتي.
أجل فالسودان نفسه كمستعمره أفروعربية سابقه قاوم منذ البداية تحديد هويته على عجل. أما حديث أعيان القرية فيقف بجانب القصص اللندنية وقصة الشاب اليتيم "غير العربي" الذي لا أصل له والغريب على أمه [لا أتأثر بشيء لا أبكي إذا ضربت، لا أفرح إذا أثنى على المدرس في الفصل ... كنت مثل شيء مكور من المطاط تلقيه في الماء فلا يبتل، ترميه على الأرض فيقفز].
وجودي؟ انطوائي؟ ذاتي؟ أو ثلاثـتهم معاً. هل يفسر ذلك الإحساس بالتماثل القدسي مع الرواية الذي لا يمت بصله في نهاية الأمر إلى نمازج الحياة التي أفردها صالح جنبأً إلى جنب دون تقويم وأضح: قبل موته قرر مصطفى سعيد ذلك الإنجليزي الأسود العاجز عن غزو أوروبا الانسحاب من الحياة أثراً التكتم على حياته الأوروبية الغابرة كسر مقدس محتفظاً بذكرياته حول مدفأة ومحاطاً بكتب، أفلاطون، نقد الاستعمار، توماس مان، وفـتـغـنشـتاين داخل غرفه جلوس إنجليزية النمط في تلك القرية الصغيرة على ضفة النيل.
يطوق نموذج الحياة العادية للراوي، القصص الأخرى المختلفة في هيكلية الرواية، كعائد أيضاً من أوروبا أبدى استعداداً لإعادة صلته والانسجام من جديد مع حياة القرية وساهم بالخداع المرير في مفتتح الرواية إلا أن طيف حياة سعيد كان يتجابه مع فعله الذاتي وبالرغم من ذلك ظل وسيطاً متأملاً متردداً بين ثـقافـات تتصدرها العقـبات فهو أشـبه ما يكون بالراوي في رواية (قلب الظلام) لجوزيف كونراد Josph Conrad بمطاردته مصيراً أخر.
أما المشهد الختامي الرائع، جاء كنهاية مفتوحة ... أيتبع سعيد إلى النيل ...؟ تركت كل قضايا الصراع الحالية تقريباً المتعلقة بالحياة الأفريقية، بعد الاستعمار أثاراً واضحة في هذه الرواية المدهشة التي نُشرت في عام 1966:
* عواقب التطور (الثورة) التعليمية.
* السلوك الاستعماري الحديث داخل البلاد للنخبة الجديدة التي تعلمت في الغرب.
* حق تقرير المصير للأفراد والثقافات.
* الوضع الاجتماعي للمرأة وختان الإناث.
اقتلوا عجوز الشهوة
إن القصص المتداخلة بمهارة في بعضها البعض تؤدى برمتها إلى الكارثة:
تدخل أهل القرية لتحقيق رغبه أحد الشيوخ بالتزوج من أرملة سعيد رغم إصرارها على حريتها وكالمعتاد فقد أدرك الراوي حبه لها متأخراً. قتلت الأرملة العجوز وقطعت عضوه بعد أن حاول اغتصابها ومن ثم انتحرت طعناً.
إن الإثارة والروعة لا يكمنان في حادثة القتل المؤسسة على ميلودراميه شاقه وإنما في ما تشير إليه هذه الجريمة من واقع اجتماعي، انه صراع حضارات خفي يشتعل في تخوم قرية إفريقية.
دون واعز أخلاقي يصوغ صالح هيكله السردي الموسوم بصراعات حادة والذي تتخلله انتقالات هادئة حتى الكارثة التي لا تمثل في حد ذاتها بشارة الخلاص.
إن نصوص أخرى لأدب الرحلات -مثل "مسلم يكتشف أوروبا" لرفاعة رافع الطهطاوي في بداية القرن التاسع عشر أو السيرة الذاتية لطه حسين، "مواطن عالمي بين القاهرة وباريس" هي أقرب إلى التوثيق (مقارنة بصالح)- ترسم صورة تنحو إلى الطرافة في تباين الثقافات. من التعسف أن تعرض موسم الهجرة إلى الشمال كجوهرة نادرة "سوليتير". فالكتب المنشورة بالفرنسية للمغربي محمد خير الدين "الحفار؟ 1973" أو الجزائري رشيد بوجدرة "توبوغرافيا؟ 1975" تُشير بوضوح -وبالأخص الأخيرة- إلى نماذج طليعية تستحق الالتفات.
ربما يكون إصرار صالح على المزج التجريبي والتقليدي في هيكليه السرد في هذه الرواية الصغيرة -التي تنمو من فصل إلى فصل والمشار فيها دائماً إلى جوزيف كونراد وتسترجع عطيل، وتقترب بصوره مدهشة من أثر شكسبير- هو الذي جعل تباين الثقافات والمناقشات الحالية حول السرد القديم والحديث مكسواً بالغبار.
إشارة المترجم:
* كاتب المقال ناقد أدبي أما المقال نفسه فقد نُشر في صحيفة سودديتشا سايتنج Sueddeutsche Zeitung (العدد 139/1998) وهى من أهم الصحف الألمانية وتصدر في ميونخ.
* نقلت الرواية عن العربية باقتدار د. رجينا قروشولي Regina Karachouli الأستاذة بمعهد الدراسات الشرقية جامعة لايبزج Leipzig وزوجه الشاعر السوري د. عادل قروشولي الأستاذ السابق في نفس الجامعة.
* اختتمت الترجمة بتعريف عن المؤلف كتبه د. هارتموت فندرش Hartmut Faehndrich المستعرب الألماني المتميز الذي شارك في مؤتمر الرواية العربية (القاهرة/ فبراير 1998) والمترجم لعديدٍ من الروايات العربية منها تمثيلاً لا حصراً:
(الزيني بركات: جمال الغيطاني، اللجنة: صنع الله إبراهيم، نزيف الحجر: إبراهيم الكوني).
* كُتب اسم المؤلف Tajjib Salich وهي صورة تختلف عما جاء في الدراسات الألمانية عن أدب الطيب صالح قبل ترجمة الرواية وعما جاء في الترجمة الإنجليزية Tayeb (Tayyib) Salih والتي هي أقرب إلى الهجاء والنطق العربي.
* تغير عنوان الرواية من "موسم الهجرة إلى الشمال" إلى "زمن الهجرة إلى الشمال" وهو خليق بحجم الغلاف الأنيق ويثير في الوقت عينه فضول وانتباه القارئ خاصة بعد التطورات العالمية الأخيرة حول قضيه الهجرة والمهاجرين.
* تحيه لدار لينوس LENOS(بازل/ سويسرا) التي نجحت أخيراً في نشر الرواية بعد محاولات عديدة لجهات مختلفة في السنوات السابقة لم تكلل بالنجاح.
* لا تزال ترجمة الأدب العربي إلى الألمانية طفيفة جداً بالمقارنة بالآداب الأخرى وهذه نقطه هامة لا مجال لمناقشتها الآن ربما نعود إليها في مقال لاحق، خاصة موقف ودور الكتاب والمثقفين العرب الذين يعيشون منذ فتره طويلة في ألمانيا.
* الجمل المُـقتبسة من الرواية التي جاءت في متن المقال اقتبست مباشرة من النص العربي (دار العودة بيروت 1981).
_______________________
1. طبيب سوداني مقيم في برلين/ منتدى حوار الشرق والغرب.
2. كاتب وشاعر سوداني مقيم في برلين.
ول نويه ( الحبل على الجرار )
منقول-------------------------
الإنجليزي الأسـود على ضفاف النيل
موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح
رواية كلاسيكية لأدب ما بعد الكولونياليه، تُكتشـف من جديد
د. هانز-بيتر كُونش، Dr. HANS-PETER KUNISCH
ترجمة د حامد فضل الله 1
أمير حمد 2
اتسم اقتحام مصطفي سعيد لأوروبا وانسجامه بانسيابية مذهلة. كأول مبعوث سوداني يحقق حلم وصوله إلى لندن، حظي في سن الرابعة والعشرين بتعينه محاضراً للعلوم الاقتصادية، وكم تعلق كِلفا بحرث كتبه الجامعية، توهجت فيه ملاحقة النساء الأوروبيات بهوس جنوني، فتارة تجده يتصدر المنصة خطيباً من أجل "اقتصاد إنساني" ومندداً بالاستعمار. أما شقته فهي خيمة شرقية منمنمه تعتمد إستراتيجية الإغراء فيها على البخور وأعواد الصندل المحروق -مضفياً عليها- بإهابه الأسود الأكاذيب (اللذيذة) "عن الحياة على ضفاف النيل".
قبل عامين مُنعت في السودان رواية موسم الهجرة إلى الشمال، أول رواية للكاتب الطيب صالح المولود عام 1929 والذي يعيش منذ سنوات في إنجلترا، وذلك لأنه كان قد أشار في صحيفة الحياة اللندنية إلى الوضع الاجتماعي والسياسي المحزن في وطنه، علماً بان الاحتجاج الرسمي تمثل في تصنيف الرواية كأدب "بورنوغرافي" ومخالفتها لإصول الإسلام. لقد جاء المنع بلا شك متأخراً بعض الشيء، فالرواية قد توطدت - من قبل - بين أوساط المثقفين "ككتاب مقدس" أوان نشرها لأول مره في منتصف الستينيات وهي الآن في مصاف الأدب العالمي.
بفترة طويلة قبل صمويل هنتجنتون Samuel Huntington "صراع الحضارات" تطرق الطيب إلى هذه الموضوعة كشرخ ينسحب على بعض المصائر الفردية لشخصيات الرواية.
مواجهة الحضارات
احتدت المواجهة بمصطفى سعيد عندما التقى بند مثله، [أنت بشع، لم أر في حياتي وجهاً بشعاً كوجهك وفتحت فمي لأتكلم لكنها ذهبت] هكذا تفوهت جين مورس المغازلة لكل من هب ودب والمتحرشة والباحثة عن العراك أينما كان. تزوج سعيد "السوبر عربي" جين الفتاة المتحررة.
وياله من ثنائي مجبول على التحرش، كأسلوب متطرف لمواجهة الثقافات.
يختم صالح الرواية بفاجعة دموية، حيث تخون جين مورس سعيد "فرضياً" قبل أن يغمد الخنجر في قلبها تحقيقا لرغبتها.
عقب سبع سنوات قضاها في غياهب السجن أثر الانزواء فأستقر في قرية صغيرة على ضفة النيل، حيث التقاه الراوي المتحدث بضمير الأنا. تزوج سعيد بفتاة من القرية وأنجبا طفلين وبالرغم من مساهمته الفعالة كعضو نافع في مجتمع القرية إلا انه كان شخصاً غامضاً لا يعرف أحـُدُ عن تاريخه شيئاً، سوى الراوي أثر صدفة أتاحت له الاستراق إليه وهو يتلو مخموراً قصيدة إنجليزية للعائدين من الحرب، فأضطره إلى كشف دقائق ماضيه الغابر خوف أن يشي به.
بالرغم من مضى ثلاثين عاماً على ذيوع رواية صالح إلا أنها -ومما يدعو إلى الدهشة- لم يزل تأثيرها الروحي طاغياً وهذا ما ينطبق كذلك على ترجمتها إلى الألمانية التي أتت متأخرة جداً -مما يعلل تزكية الرواية هذه- هو أن القطيعة بين الثقافات رغم التناقض بين التحزب للعولمة أو التظلم منها لم تفقد أهميتها ولان الرواية كُتبت بحريه مُسيطرة. إن تعدد الاحتمالات داخل الرواية لهو مشروط بالفقرات "المقالية" وقصص أهل القرية الشفهية والمونولوج الداخلي وهذه العناصر في حد ذاتها توسع المنظور أكثر من مضمون حياة سعيد غـريبة الأطوار والذي تلاشى دوره مع انسيابية الرواية شيئاً فشيئاً.
اختفى سعيد من القرية بعد أن تنازل عن تاريخ حياته، لعله مات منتحراً أو غرق أثناء فيضان النيل.
يقف مصطفى سعيد الاقتصادي اللامع -إلى جانب قصص شخصيات الطيب صالح- كشخصية متغيرة، محفوفة بالأسرار والأخطار. إن المزج الأخاذ بين أوروبا وإفريقيا -في هذه الرواية- بتباين السرد الزمني من حيث الشكل والمضمون، خول لها التشكل كتجربة انفتاح على الإدراك الذاتي.
أجل فالسودان نفسه كمستعمره أفروعربية سابقه قاوم منذ البداية تحديد هويته على عجل. أما حديث أعيان القرية فيقف بجانب القصص اللندنية وقصة الشاب اليتيم "غير العربي" الذي لا أصل له والغريب على أمه [لا أتأثر بشيء لا أبكي إذا ضربت، لا أفرح إذا أثنى على المدرس في الفصل ... كنت مثل شيء مكور من المطاط تلقيه في الماء فلا يبتل، ترميه على الأرض فيقفز].
وجودي؟ انطوائي؟ ذاتي؟ أو ثلاثـتهم معاً. هل يفسر ذلك الإحساس بالتماثل القدسي مع الرواية الذي لا يمت بصله في نهاية الأمر إلى نمازج الحياة التي أفردها صالح جنبأً إلى جنب دون تقويم وأضح: قبل موته قرر مصطفى سعيد ذلك الإنجليزي الأسود العاجز عن غزو أوروبا الانسحاب من الحياة أثراً التكتم على حياته الأوروبية الغابرة كسر مقدس محتفظاً بذكرياته حول مدفأة ومحاطاً بكتب، أفلاطون، نقد الاستعمار، توماس مان، وفـتـغـنشـتاين داخل غرفه جلوس إنجليزية النمط في تلك القرية الصغيرة على ضفة النيل.
يطوق نموذج الحياة العادية للراوي، القصص الأخرى المختلفة في هيكلية الرواية، كعائد أيضاً من أوروبا أبدى استعداداً لإعادة صلته والانسجام من جديد مع حياة القرية وساهم بالخداع المرير في مفتتح الرواية إلا أن طيف حياة سعيد كان يتجابه مع فعله الذاتي وبالرغم من ذلك ظل وسيطاً متأملاً متردداً بين ثـقافـات تتصدرها العقـبات فهو أشـبه ما يكون بالراوي في رواية (قلب الظلام) لجوزيف كونراد Josph Conrad بمطاردته مصيراً أخر.
أما المشهد الختامي الرائع، جاء كنهاية مفتوحة ... أيتبع سعيد إلى النيل ...؟ تركت كل قضايا الصراع الحالية تقريباً المتعلقة بالحياة الأفريقية، بعد الاستعمار أثاراً واضحة في هذه الرواية المدهشة التي نُشرت في عام 1966:
* عواقب التطور (الثورة) التعليمية.
* السلوك الاستعماري الحديث داخل البلاد للنخبة الجديدة التي تعلمت في الغرب.
* حق تقرير المصير للأفراد والثقافات.
* الوضع الاجتماعي للمرأة وختان الإناث.
اقتلوا عجوز الشهوة
إن القصص المتداخلة بمهارة في بعضها البعض تؤدى برمتها إلى الكارثة:
تدخل أهل القرية لتحقيق رغبه أحد الشيوخ بالتزوج من أرملة سعيد رغم إصرارها على حريتها وكالمعتاد فقد أدرك الراوي حبه لها متأخراً. قتلت الأرملة العجوز وقطعت عضوه بعد أن حاول اغتصابها ومن ثم انتحرت طعناً.
إن الإثارة والروعة لا يكمنان في حادثة القتل المؤسسة على ميلودراميه شاقه وإنما في ما تشير إليه هذه الجريمة من واقع اجتماعي، انه صراع حضارات خفي يشتعل في تخوم قرية إفريقية.
دون واعز أخلاقي يصوغ صالح هيكله السردي الموسوم بصراعات حادة والذي تتخلله انتقالات هادئة حتى الكارثة التي لا تمثل في حد ذاتها بشارة الخلاص.
إن نصوص أخرى لأدب الرحلات -مثل "مسلم يكتشف أوروبا" لرفاعة رافع الطهطاوي في بداية القرن التاسع عشر أو السيرة الذاتية لطه حسين، "مواطن عالمي بين القاهرة وباريس" هي أقرب إلى التوثيق (مقارنة بصالح)- ترسم صورة تنحو إلى الطرافة في تباين الثقافات. من التعسف أن تعرض موسم الهجرة إلى الشمال كجوهرة نادرة "سوليتير". فالكتب المنشورة بالفرنسية للمغربي محمد خير الدين "الحفار؟ 1973" أو الجزائري رشيد بوجدرة "توبوغرافيا؟ 1975" تُشير بوضوح -وبالأخص الأخيرة- إلى نماذج طليعية تستحق الالتفات.
ربما يكون إصرار صالح على المزج التجريبي والتقليدي في هيكليه السرد في هذه الرواية الصغيرة -التي تنمو من فصل إلى فصل والمشار فيها دائماً إلى جوزيف كونراد وتسترجع عطيل، وتقترب بصوره مدهشة من أثر شكسبير- هو الذي جعل تباين الثقافات والمناقشات الحالية حول السرد القديم والحديث مكسواً بالغبار.
إشارة المترجم:
* كاتب المقال ناقد أدبي أما المقال نفسه فقد نُشر في صحيفة سودديتشا سايتنج Sueddeutsche Zeitung (العدد 139/1998) وهى من أهم الصحف الألمانية وتصدر في ميونخ.
* نقلت الرواية عن العربية باقتدار د. رجينا قروشولي Regina Karachouli الأستاذة بمعهد الدراسات الشرقية جامعة لايبزج Leipzig وزوجه الشاعر السوري د. عادل قروشولي الأستاذ السابق في نفس الجامعة.
* اختتمت الترجمة بتعريف عن المؤلف كتبه د. هارتموت فندرش Hartmut Faehndrich المستعرب الألماني المتميز الذي شارك في مؤتمر الرواية العربية (القاهرة/ فبراير 1998) والمترجم لعديدٍ من الروايات العربية منها تمثيلاً لا حصراً:
(الزيني بركات: جمال الغيطاني، اللجنة: صنع الله إبراهيم، نزيف الحجر: إبراهيم الكوني).
* كُتب اسم المؤلف Tajjib Salich وهي صورة تختلف عما جاء في الدراسات الألمانية عن أدب الطيب صالح قبل ترجمة الرواية وعما جاء في الترجمة الإنجليزية Tayeb (Tayyib) Salih والتي هي أقرب إلى الهجاء والنطق العربي.
* تغير عنوان الرواية من "موسم الهجرة إلى الشمال" إلى "زمن الهجرة إلى الشمال" وهو خليق بحجم الغلاف الأنيق ويثير في الوقت عينه فضول وانتباه القارئ خاصة بعد التطورات العالمية الأخيرة حول قضيه الهجرة والمهاجرين.
* تحيه لدار لينوس LENOS(بازل/ سويسرا) التي نجحت أخيراً في نشر الرواية بعد محاولات عديدة لجهات مختلفة في السنوات السابقة لم تكلل بالنجاح.
* لا تزال ترجمة الأدب العربي إلى الألمانية طفيفة جداً بالمقارنة بالآداب الأخرى وهذه نقطه هامة لا مجال لمناقشتها الآن ربما نعود إليها في مقال لاحق، خاصة موقف ودور الكتاب والمثقفين العرب الذين يعيشون منذ فتره طويلة في ألمانيا.
* الجمل المُـقتبسة من الرواية التي جاءت في متن المقال اقتبست مباشرة من النص العربي (دار العودة بيروت 1981).
_______________________
1. طبيب سوداني مقيم في برلين/ منتدى حوار الشرق والغرب.
2. كاتب وشاعر سوداني مقيم في برلين.
فيصل خليل حتيلة- مشرف إجتماعيات أبوجبيهة
رد: في ذكرى الطيب صالح
الاخ فيصل
سلالالالالالالالالالالالالالامات
نشكرك علي النقل الجميل الرائع عن
العملاق الراحل المقيم الطيب صالح........
له الرحمة والمغفرة
تسلم يا راقي
سلالالالالالالالالالالالالالامات
نشكرك علي النقل الجميل الرائع عن
العملاق الراحل المقيم الطيب صالح........
له الرحمة والمغفرة
تسلم يا راقي
صباح حسن عبد الرحيم- مبدع مميز
رد: في ذكرى الطيب صالح
انظروا الى وصفة للحالة السودانية..والدهشة والاستغراب:ـــ
السماء ما تزال صافية فوق أرض السودان أم أنّهم حجبوها بالأكاذيب ؟
هل مطار الخرطوم ما يزال يمتلئ بالنّازحين ؟
يريدون الهرب الى أيّ مكان ، فذلك البلد الواسع لم يعد يتّسع لهم . كأنّي بهم ينتظرون منذ تركتهم في ذلك اليوم عام ثمانية وثمانين .
يُعلَن عن قيام الطائرات ولا تقوم . لا أحد يكلّمهم .
لا أحد يهمّه أمرهم .
هل ما زالوا يتحدّثون عن الرخاء والناس جوعى ؟ وعن الأمن والناس في ذُعر ؟ وعن صلاح الأحوال والبلد خراب ؟
الخرطوم الجميلة مثل طفلة يُنِيمونها عُنوةً ويغلقون عليها الباب ، تنام منذ العاشرة ، تنام باكية في ثيابها البالية ، لا حركة في الطرقات . لا أضواء من نوافذ البيوت . لا فرحٌ في القلوب . لا ضحك في الحناجر . لا ماء ، لا خُبز ، لاسُكّر ، لا بنزين ، لا دواء . الأمن مستتب كما يهدأ الموتى .
نهر النيل الصبور يسير سيره الحكيم ، ويعزف لحنه القديم " السادة " الجدد لايسمعون ولا يفهمون .
يظنّون أنّهم وجدوا مفاتيح المستقبل . يعرفون الحلول . موقنون من كل شيئ .
يزحمون شاشات التلفزيون ومكرفونات الإذاعة .
يقولون كلاماً ميِّتاً في بلدٍ حيٍّ في حقيقته ولكنّهم يريدون قتله حتى يستتب الأم
مِن أين جاء هؤلاء النّاس ؟ أما أرضعتهم الأمّهات والعمّات والخالات ؟
أما أصغوا للرياح تهبُّ من الشمال والجنوب ؟
أما رأوا بروق الصعيد تشيل وتحط ؟
أما شافوا القمح ينمو في الحقول وسبائط التمر مثقلة فوق هامات النخيل؟
أما سمعوا مدائح حاج الماحي وود سعد ، وأغاني سرور وخليل فرح وحسن عطية والكابلي و المصطفى ؟
أما قرأوا شعر العباس والمجذوب ؟
أما سمعوا الأصوات القديمة وأحسُّوا الأشواق القديمة ، ألا يحبّون الوطن كما نحبّه ؟
إذاً لماذا يحبّونه وكأنّهم يكرهونه ويعملون على إعماره وكأنّهم مسخّرون لخرابه ؟
أجلس هنا بين قوم أحرار في بلد حرٍّ ، أحسّ البرد في عظامي واليوم ليس بارداً . أنتمي الى أمّة مقهورة ودولة تافهة . أنظر إليهم يكرِّمون رجالهم ونساءهم وهم أحياء ، ولو كان أمثال هؤلاء عندنا لقتلوهم أو سجنوهم أو شرّدوهم في الآفاق .
من الذي يبني لك المستقبل يا هداك الله وأنت تذبح الخيل وتُبقي العربات ، وتُميت الأرض وتُحيي الآفات ؟
هل حرائر النساء من " سودري " و " حمرة الوز " و " حمرة الشيخ " ما زلن يتسولنّ في شوارع الخرطوم ؟
هل ما زال أهل الجنوب ينزحون الى الشمال وأهل الشمال يهربون الى أي بلد يقبلهم ؟
هل أسعار الدولار ما تزال في صعود وأقدار الناس في هبوط ؟ أما زالوا يحلمون أن يُقيموا على جثّة السودان المسكين خلافة إسلامية سودانية يبايعها أهل مصر وبلاد الشام والمغرب واليمن والعراق وبلاد جزيرة العرب ؟
من أين جاء هؤلاء الناس ؟ بل - مَن هؤلاء الناس ؟ من اين اتي هولاء
منقول
السماء ما تزال صافية فوق أرض السودان أم أنّهم حجبوها بالأكاذيب ؟
هل مطار الخرطوم ما يزال يمتلئ بالنّازحين ؟
يريدون الهرب الى أيّ مكان ، فذلك البلد الواسع لم يعد يتّسع لهم . كأنّي بهم ينتظرون منذ تركتهم في ذلك اليوم عام ثمانية وثمانين .
يُعلَن عن قيام الطائرات ولا تقوم . لا أحد يكلّمهم .
لا أحد يهمّه أمرهم .
هل ما زالوا يتحدّثون عن الرخاء والناس جوعى ؟ وعن الأمن والناس في ذُعر ؟ وعن صلاح الأحوال والبلد خراب ؟
الخرطوم الجميلة مثل طفلة يُنِيمونها عُنوةً ويغلقون عليها الباب ، تنام منذ العاشرة ، تنام باكية في ثيابها البالية ، لا حركة في الطرقات . لا أضواء من نوافذ البيوت . لا فرحٌ في القلوب . لا ضحك في الحناجر . لا ماء ، لا خُبز ، لاسُكّر ، لا بنزين ، لا دواء . الأمن مستتب كما يهدأ الموتى .
نهر النيل الصبور يسير سيره الحكيم ، ويعزف لحنه القديم " السادة " الجدد لايسمعون ولا يفهمون .
يظنّون أنّهم وجدوا مفاتيح المستقبل . يعرفون الحلول . موقنون من كل شيئ .
يزحمون شاشات التلفزيون ومكرفونات الإذاعة .
يقولون كلاماً ميِّتاً في بلدٍ حيٍّ في حقيقته ولكنّهم يريدون قتله حتى يستتب الأم
مِن أين جاء هؤلاء النّاس ؟ أما أرضعتهم الأمّهات والعمّات والخالات ؟
أما أصغوا للرياح تهبُّ من الشمال والجنوب ؟
أما رأوا بروق الصعيد تشيل وتحط ؟
أما شافوا القمح ينمو في الحقول وسبائط التمر مثقلة فوق هامات النخيل؟
أما سمعوا مدائح حاج الماحي وود سعد ، وأغاني سرور وخليل فرح وحسن عطية والكابلي و المصطفى ؟
أما قرأوا شعر العباس والمجذوب ؟
أما سمعوا الأصوات القديمة وأحسُّوا الأشواق القديمة ، ألا يحبّون الوطن كما نحبّه ؟
إذاً لماذا يحبّونه وكأنّهم يكرهونه ويعملون على إعماره وكأنّهم مسخّرون لخرابه ؟
أجلس هنا بين قوم أحرار في بلد حرٍّ ، أحسّ البرد في عظامي واليوم ليس بارداً . أنتمي الى أمّة مقهورة ودولة تافهة . أنظر إليهم يكرِّمون رجالهم ونساءهم وهم أحياء ، ولو كان أمثال هؤلاء عندنا لقتلوهم أو سجنوهم أو شرّدوهم في الآفاق .
من الذي يبني لك المستقبل يا هداك الله وأنت تذبح الخيل وتُبقي العربات ، وتُميت الأرض وتُحيي الآفات ؟
هل حرائر النساء من " سودري " و " حمرة الوز " و " حمرة الشيخ " ما زلن يتسولنّ في شوارع الخرطوم ؟
هل ما زال أهل الجنوب ينزحون الى الشمال وأهل الشمال يهربون الى أي بلد يقبلهم ؟
هل أسعار الدولار ما تزال في صعود وأقدار الناس في هبوط ؟ أما زالوا يحلمون أن يُقيموا على جثّة السودان المسكين خلافة إسلامية سودانية يبايعها أهل مصر وبلاد الشام والمغرب واليمن والعراق وبلاد جزيرة العرب ؟
من أين جاء هؤلاء الناس ؟ بل - مَن هؤلاء الناس ؟ من اين اتي هولاء
منقول
عثمان موسى آدم- نشط مميز
رد: في ذكرى الطيب صالح
فيصل خليل
مشاءالله بقيت تتكلم كلام كبار .. كبار .. بيني و بينك ناس ازهري و الفاتح و خدورة ام بشق الجماعه ديل ما بداقشو في الشعر و بعدين قول البلاغه ..
لكم التحية جميعا
ود عشمان- مشرف تعريف المنتدى
رد: في ذكرى الطيب صالح
من جريدة الشرق الأوسط - 11 ابريل 2007
الخرطوم: جريزلدا الطيب
كاتبة
هذا المقال جريزلدا الطيب، هي فنانة بريطانية وباحثة في الأدب الأفريقي
بلغت اليوم ثمانيناتها. كانت قد تزوجت من عبد الله الطيب، الكاتب السوداني
الراحل المعروف، وعايشت الحقبة التي تستوحي منها رواية «موسم الهجرة إلى
الشمال أحداثها وأبطالها» في السودان كما في لندن. وهذه الباحثة تكتب
اليوم، مفككة الرواية، باحثة عن أصول أبطالها في واقع الطيب صالح، لا
كدارسة أكاديمية فحسب، بل كشاهد حي على فترة، لم يبق منها الكثير من
الشهود. انها قراءة مختلفة ومثيرة لرواية لا تزال تشغل النقاد...
جيل
اليوم يعرف الطيب صالح من خلال كتاباته الروائية والمقالات، ومعلوماتهم عن
حياته، تعتمد على مقولات وفرضيات، معظمها غير صحيح، تحيط بفلك هذا الكاتب
المشهور وروايته ذائعة الصيت «موسم الهجرة إلى الشمال».
وهذه
المقالة تغطي فجوة زمنية مهمة، تقع بين جيل قراء ومعجبي الطيب صالح الجدد
وجيلنا نحن. فأنا أنتمي الى جيل قديم انطفأ عنه البريق، ولكنه عرف الطيب
صالح شخصيا في شبابه، وكذلك عرفت الأشخاص والأحداث التي شكلت، على الأرجح،
خلفية لـ«موسم الهجرة الى الشمال» لأنها كانت رابضة في وعي المؤلف.
والدراسة هذه هي عملية تحليل لمعرفة مفاتيح رواية «موسم الهجرة الى الشمال»
roman a_clef بدلا من الفكرة السائدة عنها في المحيط الأدبي كسيرة ذاتية
للكاتب كما في دراسة سابقة للناقد رجاء النقاش الذي تعرّف على الطيب صالح
في الخليج عندما كان الأخير يعمل هناك، وفي غيرها من الدراسات النقدية
لنقاد تبنوا نفس التحليل رغم أن معظمهم لم يتعرّف على طبيعة الحياة في
السودان أو في بريطانيا!
وندعي من طرفنا، أن مصطفى سعيد بطل رواية
«موسم الهجرة الى الشمال» ليس هو الطيب صالح، ولا يستعير جانباً مهماً من
سيرته؟ فمن يكون هذا البطل الروائي اذاً؟
هذا سؤال مثير ليس علينا
أن نجفل من إجابته، ولكن دعونا أولاً نؤسس تحقيقنا على أن مصطفى سعيد ليس
ولا يمكن أن يكون سيرة ذاتية للكاتب. الطيب صالح ذهب الى المملكة المتحدة
عام 1952 لينضم الى فريق القسم العربي بالـ«بي بي سي» حيث ظل يعمل هناك على
مدى 15 عاما، قام فيها بأعمال متميزة وبدأ وظيفته كمؤلف. ولكن الحقيقة أنه
لم يدرس أبدا في أي جامعة في المملكة المتحدة، بينما مصطفى سعيد بطل
الرواية يفترض أنه ذهب الى المملكة المتحدة في منتصف العشرينات، وحقق نتائج
أكاديمية رفيعة ونجاحا باهرا. وفي الحقيقة أنه لا يوجد سوداني ذهب الى
المملكة المتحدة في العشرينات، وهي واحدة من الأحداث المدهشة في الكتاب.
ولكن في الثلاثينات ذهب الى المملكة المتحدة كل من الدرديري إسماعيل ويعقوب
عثمان لدراسة القانون.
ما نود تحقيقه الآن هو أن مصطفى سعيد بطل
متخيّل على عدة مستويات في ذهن المؤلف، مصطفى سعيد قد صنع من مزج عدة
شخصيات التقاهم بالتأكيد الطيب صالح أو سمع بهم عندما ذهب لأول مرة إلى
لندن عام 1952، ولكن قبل أن نمعن أو ننطلق في هذه الفرضية علينا أن ننظر
الى شخصية البطل ونقسمها الى ثلاثة محاور:
مصطفى سعيد- الأكاديمي السوداني الذي يعيش في لندن.
مصطفى سعيد- «دون جوان لندن».
مصطفى سعيد - وعودته الى موطنه الأول.
يرجح
ان مصطفى سعيد الأكاديمي هو شخصية «متكوّنة» من ثلاثة أعضاء في دفعة
السودانيين النخبة الذين اختيروا بعناية، وأرسلوا بواسطة الحكومة السودانية
عام 1945 لجامعات المملكة المتحدة، وكلهم يمثلون شخصيات بطولية في الوعي
الوطني الباكر للسودانيين، أحدهم هو د. سعد الدين فوزي وهو أول سوداني
يتخصص في الاقتصاد بجامعة أكسفورد، حيث تزوج فتاة هولندية محترمة ومخلصة
وليست شبيهة بالفتيات في الرواية، وحصل على درجة الدكتوراة في العام 1953،
وعاد الى السودان، حيث شغل منصبا أكاديميا رفيعا الى أن توفي بالسرطان عام
1959. ولكن قبل ذلك التاريخ في الخمسينات حصل عبدالله الطيب على درجة
الدكتوراه من جامعة لندن في اللغة العربية وعيّن بعدها محاضرا في كلية
الدراسات الأفريقية والشرقية بالجامعة نفسها، وقبلها بعامين تزوج من فتاة
إنجليزية، ومرة أخرى ليست شبيهة بصور فتيات الرواية.
إذا هنا مزج
الطيب صالح الشخصيات الثلاثة: سعد الدين وحصوله على شهادة بالاقتصاد من
أكسفورد والدكتور عبدالله الطيب وتعيينه محاضرا في جامعة لندن. أما الشخص
الأكاديمي السوداني الثالث الذي اقتبس الطيب صالح جزءاً من شخصيته لتمثل
الصفة الثالثة عند مصطفى سعيد وهي «الدون جوان، الى حد ما، فهو الدكتور
أحمد الطيب. هذا الرجل كان جذابا وشخصية معقدة ومفكرا رومانسيا، وكما حال
الأكاديميين من جيله شغله الصراع النفسي بين حياته الحاضرة وإرثه القديم،
كما كان مجروح العواطف ومهشما بالطموح السياسي ومنافسات الوظيفة لجيله.
وكطالب يافع فإن أحمد الطيب كان معجبا جدا بـ د.هـ. لورنس وفكرة «الحب
الحر»، ومن المحتمل أنه عند ذهابه الى إنجلترا كان يضع في ذهنه ونصب عينيه
إمكانية إقامة علاقات رومانسية مع الفتيات الإنجليزيات. ولكن أول رحلة له
للمملكة المتحدة كانت عام 1945-46 وهي فترة قصيرة، ولكن زيارته الثانية عام
1951-1954 أنجز فيها درجة الدكتوراه في الأدب العربي وتزوج من سيدة
بريطانية. وقد فشل هذا الزواج والتقي أحمد بزوجة سودانية لطيفة والتي لحد
ما تشابه حسنة- ولكن أحمد الطيب لم يستقر في زواجه، كما هو متوقع، وانتهت
حياته في السودان فجأة وبطريقة غامضة ومأساوية. وهو بكل تأكيد معروف تماما
الى الطيب صالح، وكان يعيش في لندن عندما ذهب إليها الكاتب لأول مرة.
وعامل
آخر يجب أن يذكر في الربط بين الدكتور أحمد الطيب ومصطفى سعيد، هو أن أحمد
الطيب كانت له علاقة وثيقة جدا بصحافي لامع شاب وهو بشير محمد سعيد، جاء
من منطقة أو حياة قروية تشابه الى حد بعيد بيئة الراوي في «موسم الهجرة الى
الشمال».
وإذا عدنا لشخصية الدون جوان عند مصطفى سعيد، فان الطيب
صالح لم تكن لديه مبررات عظيمة أو مقنعه لإلقاء نفسه على أجساد النساء
الإنجليزيات كانتقام من الإمبريالية لوطنه. أولا، ولنقل بأمانة أن
الإمبريالية المذكورة في الرواية ليست بهذا السوء، فإذا كان البريطانيون قد
احتلوا السودان وإذا ما كانت لديهم مغامرات في أجزاء من هذا البلد، فذلك
لأن التركيب الاجتماعي في تلك المناطق يسمح بإقامة مثل هذه العلاقات بل
وحتى يشجعها، ولكن الاستعماريين البريطانيين لم يؤذوا النساء في شمال
السودان الإسلامي، لذا فإنه ليس هناك تبرير منطقي لهذا الإنتقام. وترينا
الرواية ان الفتيات الإنجليزيات كن ينظرن الى الطلاب الأفارقة كظاهرة مثيرة
جديدة تسبح في أفق حياتهن الجنسية والإجتماعية. وفي رأيي أن الكاتب
النيجيري شينوا أكليشي تعامل مع هذا الوضع في روايتهNo longer at ease
وبطلها «أوبي» بطريقة أكثر واقعية وقابلية للتصديق من رواية مصطفى سعيد،
الذي تعامل مع الوضع العام كله وكأنه حقيقة إجتماعية في ذلك الزمان. ولذا
علينا هنا توضيح الأمر. ففكرة أن إعجاب النساء البيض بالرجال الأفارقة تتبع
لأسطورة الرجل الأفريقي القوي جنسيا، هذه الفكرة موجودة لدى العرب أنفسهم،
ومؤكدة في بداية رواية ألف ليلة وليلة فشهرزاد مهددة بالموت من زوجها
الملك شهريار الذي خانته زوجته الأولى مع عبد زنجي.
كما هناك توضيح
آخر يجب أن يوضع في الإعتبار، أن ذلك الجيل من الفتيات والنساء البريطانيات
اللواتي تعرّفن على الطلاب الأفارقة في بلادهن في تلك الفترة هن بنات
لأمهات حاربن طويلا لأجل المساواة مع الرجل وتخلصن مما يسمى بـ«عقدة أو
أسطورة الرجل القوي». ولكن بلا وعي منهن فإن هؤلاء الفتيات كن يبحثن عن
الذكر «الجنتلمان»- أو الحمش باللهجة المصرية، وهو الرجل الذي يوافق
أدبياتهن وما قرأنه في «روايات جين آير» و«مرتفعات ويزرنج» ونموذج الرجل
الغريب الأسود، وهذا ما جعلهن يتوقعن أن يجدنها عند الرجال الأفارقة الذين
يبدون واثقين من أنفسهم وقوتهم وشجاعتهم وحمايتهم للمرأة وقناعتهم الثابتة
بأنها المخلوق الضعيف الذي يحتاج الى الحماية! وهذا ما فشل الطيب صالح في
تصويره. كما أن الفتيات البريطانيات اللواتي أقمن علاقات مع الطلاب
الأفارقة كن يعملن على مساعدة هؤلاء الطلاب في بحوثهم الجامعية وكتابتها
باللغة الإنجليزية الرصينة. لذا فليس الشكل الخارجي الجذاب لمصطفى سعيد هو
الذي قاد الفتيات الإنجليزيات لأن يقعن في غرامه من أول وهلة!
ولحسن
الحظ أنه لم تكن هناك قضية جنائية لرجل سوداني قتل فيها سيدة بريطانية أو
عشيقة، ولكن كانت هناك قصة مأساوية حدثت في الخمسينات تناقلتها الصحف
بتغطية واسعة، كانت القصة بين فتاة بريطانية تدعى ناوومي بيدوك وفتاها
السوداني عبدالرحمن آدم، كان الإثنان يدرسان بجامعة كمبريدج ونشأت بينهما
علاقة عاطفية. وقام والد الفتى بزيارة مفاجئة الى إنجلترا وعارض هذه
العلاقة والزواج المخطط له بين الشابين، مما أعقبه انتحار الفتى بالغاز،
ومن ثم انتحار الفتاة ناوومي بعده بأيام وبنفس الوسيلة. وكان والدها العطوف
المتسامح بروفسور دان بيدو قد ألقى كلمة حزينة في التحقيق، تعاطف فيها مع
قصة حب ابنته وأنه كان يتمنى لها زواجا سعيدا. وهو خطاب يشبه في عاطفيته
الذي ألقاه والد الفتاة التي قتلها مصطفى سعيد في روايته للمحكمة.
بل
حتى مشهد المحاكمة نفسه نستطيع ان نجد له من مقابل، فقد حدثت في العام
1947 قضية مشهورة جدا حيث قام حارس مطعم سوداني يدعى محمد عباس ألقي عليه
القبض لإطلاقه النار على رجل جامايكي، وقد حكم عليه بالقتل الخطأ. وهذه
القضية أثارت حساسية لدى المجتمع السوداني بلندن حيث أن كل السودانيين
كانوا معتادين الذهاب الى ذلك المطعم في إيست إند ليتناولوا فيه الأطباق
السودانية المحببة. وهذه الحادثة كان قد سجلها عبدالله الطيب في صحيفة
«الأيام» التي تصدر في الخرطوم عام 1954.
وفي الحقيقة كانت براعة من
الطيب صالح أن يقوم بخلط كل تلك الشخصيات والأحداث وإخراج عمل فني رائع
منها. أما أكثر الجوانب المثيرة، والمحيطة بمصطفى سعيد فهي عودته لبلده
كمواطن غير سعيد، وظاهرة عدم الرضا، وعدم التوافق مع المجتمع الأصل، كان قد
تناولها عدد من الكتاب الأفارقة. وهي مشاعر يمكن الإحساس بها في الروايات
No Longer at Ease و The Beautiful one is not yet born و Morning yet in
Creation و Not yet Uhuru. والقرية في الرواية شبيهة بقرية الطيب صالح التي
قمت بزيارتها بمنطقة الشمالية، وهنا نجد السيرة الذاتية بالتأكيد قد دخلت
في نسيج الرواية وتلاقي الأجيال هو حقيقي في القرى، إلا أن التعليقات التي
قالتها المرأة العجوز في مجتمع محافظ كمجتمعات القرى يجعل المرء يتساءل من
أين أتى الطيب صالح بهذه المرأة؟ وقصة حسنة وزواجها الثاني مناف للواقع حيث
أن التقاليد القروية تمنح الأرامل الحرية في اختيار الزوج على عكس
العذراوات.
وفي القرى حيث أن أي شخص له الحرية في التدخل في حياة
الشخص الآخر وشؤونه وحيث الناس دائما في حالة إجتماع مع بعضهم البعض.
ويمكننا تخيل مدى الفضول في قرية نائية تجاه كل جديد وافد. فمن الطبيعي أن
شخصا مثقفا عائدا من أوروبا يريد أن تكون له مملكته الخاصة. وهذه الغرفة
الخاصة بمصطفى سعيد شبيهة بغرفة كانت في حي العرب بأم درمان، وصاحبها هو
المرحوم محمد صالح الشنقيطي. وهو شخصية سودانية لامعة ومن النخب المثقفة،
وهو أيضا أول قاض وبرلماني ضليع تلقى تعليمه ببيروت، وقد جاء ذكره وذكر
غرفته في رواية Black Vanguard للكاتب السوري إدوارد عطية التي صدرت في
الأربعينات، والذي كان يعمل في مخابرات الجيش البريطاني في السودان.
وبالطبع كانت هناك الزيارات العديدة الى منزل محمد صالح الشنقيطي بعد تناول
الشاي وبعدها بالتأكيد يذهبون الى الغرفة المهيأة بالأثاث في
«الديوان»-الاسم القديم للصالون، المحاط بالزهور. وهي غرفة تبدو عادية من
الخارج يهتم بها الشنقيطي يغلقها ويفتحها بنفسه، والكتب بها مرصوصة من
الأرض الى السقف ومفروشة بالسجاجيد الفارسية الثمينة والتحف الرومانية.
وهذه المكتبة الخاصة تشابه بصورة دقيقة غرفة مصطفى سعيد حيث يسمح للراوي
بإلقاء نظرة على الغرفة، وتم إهداء محتويات المكتبة الى جامعة الخرطوم في
الذكرى السنوية لرحيله.
وبذا نكون قد حققنا تركيبة الشخصية المعقدة
لمصطفى سعيد، في هذه الرواية الشهيرة «موسم الهجرة الى الشمال» ليس
استناداً فقط إلى وثائق قرأناها، وإنما إلى حقبة كاملة سنحت الفرصة ان أكون
شاهدة على أحداثها.
الخرطوم: جريزلدا الطيب
كاتبة
هذا المقال جريزلدا الطيب، هي فنانة بريطانية وباحثة في الأدب الأفريقي
بلغت اليوم ثمانيناتها. كانت قد تزوجت من عبد الله الطيب، الكاتب السوداني
الراحل المعروف، وعايشت الحقبة التي تستوحي منها رواية «موسم الهجرة إلى
الشمال أحداثها وأبطالها» في السودان كما في لندن. وهذه الباحثة تكتب
اليوم، مفككة الرواية، باحثة عن أصول أبطالها في واقع الطيب صالح، لا
كدارسة أكاديمية فحسب، بل كشاهد حي على فترة، لم يبق منها الكثير من
الشهود. انها قراءة مختلفة ومثيرة لرواية لا تزال تشغل النقاد...
جيل
اليوم يعرف الطيب صالح من خلال كتاباته الروائية والمقالات، ومعلوماتهم عن
حياته، تعتمد على مقولات وفرضيات، معظمها غير صحيح، تحيط بفلك هذا الكاتب
المشهور وروايته ذائعة الصيت «موسم الهجرة إلى الشمال».
وهذه
المقالة تغطي فجوة زمنية مهمة، تقع بين جيل قراء ومعجبي الطيب صالح الجدد
وجيلنا نحن. فأنا أنتمي الى جيل قديم انطفأ عنه البريق، ولكنه عرف الطيب
صالح شخصيا في شبابه، وكذلك عرفت الأشخاص والأحداث التي شكلت، على الأرجح،
خلفية لـ«موسم الهجرة الى الشمال» لأنها كانت رابضة في وعي المؤلف.
والدراسة هذه هي عملية تحليل لمعرفة مفاتيح رواية «موسم الهجرة الى الشمال»
roman a_clef بدلا من الفكرة السائدة عنها في المحيط الأدبي كسيرة ذاتية
للكاتب كما في دراسة سابقة للناقد رجاء النقاش الذي تعرّف على الطيب صالح
في الخليج عندما كان الأخير يعمل هناك، وفي غيرها من الدراسات النقدية
لنقاد تبنوا نفس التحليل رغم أن معظمهم لم يتعرّف على طبيعة الحياة في
السودان أو في بريطانيا!
وندعي من طرفنا، أن مصطفى سعيد بطل رواية
«موسم الهجرة الى الشمال» ليس هو الطيب صالح، ولا يستعير جانباً مهماً من
سيرته؟ فمن يكون هذا البطل الروائي اذاً؟
هذا سؤال مثير ليس علينا
أن نجفل من إجابته، ولكن دعونا أولاً نؤسس تحقيقنا على أن مصطفى سعيد ليس
ولا يمكن أن يكون سيرة ذاتية للكاتب. الطيب صالح ذهب الى المملكة المتحدة
عام 1952 لينضم الى فريق القسم العربي بالـ«بي بي سي» حيث ظل يعمل هناك على
مدى 15 عاما، قام فيها بأعمال متميزة وبدأ وظيفته كمؤلف. ولكن الحقيقة أنه
لم يدرس أبدا في أي جامعة في المملكة المتحدة، بينما مصطفى سعيد بطل
الرواية يفترض أنه ذهب الى المملكة المتحدة في منتصف العشرينات، وحقق نتائج
أكاديمية رفيعة ونجاحا باهرا. وفي الحقيقة أنه لا يوجد سوداني ذهب الى
المملكة المتحدة في العشرينات، وهي واحدة من الأحداث المدهشة في الكتاب.
ولكن في الثلاثينات ذهب الى المملكة المتحدة كل من الدرديري إسماعيل ويعقوب
عثمان لدراسة القانون.
ما نود تحقيقه الآن هو أن مصطفى سعيد بطل
متخيّل على عدة مستويات في ذهن المؤلف، مصطفى سعيد قد صنع من مزج عدة
شخصيات التقاهم بالتأكيد الطيب صالح أو سمع بهم عندما ذهب لأول مرة إلى
لندن عام 1952، ولكن قبل أن نمعن أو ننطلق في هذه الفرضية علينا أن ننظر
الى شخصية البطل ونقسمها الى ثلاثة محاور:
مصطفى سعيد- الأكاديمي السوداني الذي يعيش في لندن.
مصطفى سعيد- «دون جوان لندن».
مصطفى سعيد - وعودته الى موطنه الأول.
يرجح
ان مصطفى سعيد الأكاديمي هو شخصية «متكوّنة» من ثلاثة أعضاء في دفعة
السودانيين النخبة الذين اختيروا بعناية، وأرسلوا بواسطة الحكومة السودانية
عام 1945 لجامعات المملكة المتحدة، وكلهم يمثلون شخصيات بطولية في الوعي
الوطني الباكر للسودانيين، أحدهم هو د. سعد الدين فوزي وهو أول سوداني
يتخصص في الاقتصاد بجامعة أكسفورد، حيث تزوج فتاة هولندية محترمة ومخلصة
وليست شبيهة بالفتيات في الرواية، وحصل على درجة الدكتوراة في العام 1953،
وعاد الى السودان، حيث شغل منصبا أكاديميا رفيعا الى أن توفي بالسرطان عام
1959. ولكن قبل ذلك التاريخ في الخمسينات حصل عبدالله الطيب على درجة
الدكتوراه من جامعة لندن في اللغة العربية وعيّن بعدها محاضرا في كلية
الدراسات الأفريقية والشرقية بالجامعة نفسها، وقبلها بعامين تزوج من فتاة
إنجليزية، ومرة أخرى ليست شبيهة بصور فتيات الرواية.
إذا هنا مزج
الطيب صالح الشخصيات الثلاثة: سعد الدين وحصوله على شهادة بالاقتصاد من
أكسفورد والدكتور عبدالله الطيب وتعيينه محاضرا في جامعة لندن. أما الشخص
الأكاديمي السوداني الثالث الذي اقتبس الطيب صالح جزءاً من شخصيته لتمثل
الصفة الثالثة عند مصطفى سعيد وهي «الدون جوان، الى حد ما، فهو الدكتور
أحمد الطيب. هذا الرجل كان جذابا وشخصية معقدة ومفكرا رومانسيا، وكما حال
الأكاديميين من جيله شغله الصراع النفسي بين حياته الحاضرة وإرثه القديم،
كما كان مجروح العواطف ومهشما بالطموح السياسي ومنافسات الوظيفة لجيله.
وكطالب يافع فإن أحمد الطيب كان معجبا جدا بـ د.هـ. لورنس وفكرة «الحب
الحر»، ومن المحتمل أنه عند ذهابه الى إنجلترا كان يضع في ذهنه ونصب عينيه
إمكانية إقامة علاقات رومانسية مع الفتيات الإنجليزيات. ولكن أول رحلة له
للمملكة المتحدة كانت عام 1945-46 وهي فترة قصيرة، ولكن زيارته الثانية عام
1951-1954 أنجز فيها درجة الدكتوراه في الأدب العربي وتزوج من سيدة
بريطانية. وقد فشل هذا الزواج والتقي أحمد بزوجة سودانية لطيفة والتي لحد
ما تشابه حسنة- ولكن أحمد الطيب لم يستقر في زواجه، كما هو متوقع، وانتهت
حياته في السودان فجأة وبطريقة غامضة ومأساوية. وهو بكل تأكيد معروف تماما
الى الطيب صالح، وكان يعيش في لندن عندما ذهب إليها الكاتب لأول مرة.
وعامل
آخر يجب أن يذكر في الربط بين الدكتور أحمد الطيب ومصطفى سعيد، هو أن أحمد
الطيب كانت له علاقة وثيقة جدا بصحافي لامع شاب وهو بشير محمد سعيد، جاء
من منطقة أو حياة قروية تشابه الى حد بعيد بيئة الراوي في «موسم الهجرة الى
الشمال».
وإذا عدنا لشخصية الدون جوان عند مصطفى سعيد، فان الطيب
صالح لم تكن لديه مبررات عظيمة أو مقنعه لإلقاء نفسه على أجساد النساء
الإنجليزيات كانتقام من الإمبريالية لوطنه. أولا، ولنقل بأمانة أن
الإمبريالية المذكورة في الرواية ليست بهذا السوء، فإذا كان البريطانيون قد
احتلوا السودان وإذا ما كانت لديهم مغامرات في أجزاء من هذا البلد، فذلك
لأن التركيب الاجتماعي في تلك المناطق يسمح بإقامة مثل هذه العلاقات بل
وحتى يشجعها، ولكن الاستعماريين البريطانيين لم يؤذوا النساء في شمال
السودان الإسلامي، لذا فإنه ليس هناك تبرير منطقي لهذا الإنتقام. وترينا
الرواية ان الفتيات الإنجليزيات كن ينظرن الى الطلاب الأفارقة كظاهرة مثيرة
جديدة تسبح في أفق حياتهن الجنسية والإجتماعية. وفي رأيي أن الكاتب
النيجيري شينوا أكليشي تعامل مع هذا الوضع في روايتهNo longer at ease
وبطلها «أوبي» بطريقة أكثر واقعية وقابلية للتصديق من رواية مصطفى سعيد،
الذي تعامل مع الوضع العام كله وكأنه حقيقة إجتماعية في ذلك الزمان. ولذا
علينا هنا توضيح الأمر. ففكرة أن إعجاب النساء البيض بالرجال الأفارقة تتبع
لأسطورة الرجل الأفريقي القوي جنسيا، هذه الفكرة موجودة لدى العرب أنفسهم،
ومؤكدة في بداية رواية ألف ليلة وليلة فشهرزاد مهددة بالموت من زوجها
الملك شهريار الذي خانته زوجته الأولى مع عبد زنجي.
كما هناك توضيح
آخر يجب أن يوضع في الإعتبار، أن ذلك الجيل من الفتيات والنساء البريطانيات
اللواتي تعرّفن على الطلاب الأفارقة في بلادهن في تلك الفترة هن بنات
لأمهات حاربن طويلا لأجل المساواة مع الرجل وتخلصن مما يسمى بـ«عقدة أو
أسطورة الرجل القوي». ولكن بلا وعي منهن فإن هؤلاء الفتيات كن يبحثن عن
الذكر «الجنتلمان»- أو الحمش باللهجة المصرية، وهو الرجل الذي يوافق
أدبياتهن وما قرأنه في «روايات جين آير» و«مرتفعات ويزرنج» ونموذج الرجل
الغريب الأسود، وهذا ما جعلهن يتوقعن أن يجدنها عند الرجال الأفارقة الذين
يبدون واثقين من أنفسهم وقوتهم وشجاعتهم وحمايتهم للمرأة وقناعتهم الثابتة
بأنها المخلوق الضعيف الذي يحتاج الى الحماية! وهذا ما فشل الطيب صالح في
تصويره. كما أن الفتيات البريطانيات اللواتي أقمن علاقات مع الطلاب
الأفارقة كن يعملن على مساعدة هؤلاء الطلاب في بحوثهم الجامعية وكتابتها
باللغة الإنجليزية الرصينة. لذا فليس الشكل الخارجي الجذاب لمصطفى سعيد هو
الذي قاد الفتيات الإنجليزيات لأن يقعن في غرامه من أول وهلة!
ولحسن
الحظ أنه لم تكن هناك قضية جنائية لرجل سوداني قتل فيها سيدة بريطانية أو
عشيقة، ولكن كانت هناك قصة مأساوية حدثت في الخمسينات تناقلتها الصحف
بتغطية واسعة، كانت القصة بين فتاة بريطانية تدعى ناوومي بيدوك وفتاها
السوداني عبدالرحمن آدم، كان الإثنان يدرسان بجامعة كمبريدج ونشأت بينهما
علاقة عاطفية. وقام والد الفتى بزيارة مفاجئة الى إنجلترا وعارض هذه
العلاقة والزواج المخطط له بين الشابين، مما أعقبه انتحار الفتى بالغاز،
ومن ثم انتحار الفتاة ناوومي بعده بأيام وبنفس الوسيلة. وكان والدها العطوف
المتسامح بروفسور دان بيدو قد ألقى كلمة حزينة في التحقيق، تعاطف فيها مع
قصة حب ابنته وأنه كان يتمنى لها زواجا سعيدا. وهو خطاب يشبه في عاطفيته
الذي ألقاه والد الفتاة التي قتلها مصطفى سعيد في روايته للمحكمة.
بل
حتى مشهد المحاكمة نفسه نستطيع ان نجد له من مقابل، فقد حدثت في العام
1947 قضية مشهورة جدا حيث قام حارس مطعم سوداني يدعى محمد عباس ألقي عليه
القبض لإطلاقه النار على رجل جامايكي، وقد حكم عليه بالقتل الخطأ. وهذه
القضية أثارت حساسية لدى المجتمع السوداني بلندن حيث أن كل السودانيين
كانوا معتادين الذهاب الى ذلك المطعم في إيست إند ليتناولوا فيه الأطباق
السودانية المحببة. وهذه الحادثة كان قد سجلها عبدالله الطيب في صحيفة
«الأيام» التي تصدر في الخرطوم عام 1954.
وفي الحقيقة كانت براعة من
الطيب صالح أن يقوم بخلط كل تلك الشخصيات والأحداث وإخراج عمل فني رائع
منها. أما أكثر الجوانب المثيرة، والمحيطة بمصطفى سعيد فهي عودته لبلده
كمواطن غير سعيد، وظاهرة عدم الرضا، وعدم التوافق مع المجتمع الأصل، كان قد
تناولها عدد من الكتاب الأفارقة. وهي مشاعر يمكن الإحساس بها في الروايات
No Longer at Ease و The Beautiful one is not yet born و Morning yet in
Creation و Not yet Uhuru. والقرية في الرواية شبيهة بقرية الطيب صالح التي
قمت بزيارتها بمنطقة الشمالية، وهنا نجد السيرة الذاتية بالتأكيد قد دخلت
في نسيج الرواية وتلاقي الأجيال هو حقيقي في القرى، إلا أن التعليقات التي
قالتها المرأة العجوز في مجتمع محافظ كمجتمعات القرى يجعل المرء يتساءل من
أين أتى الطيب صالح بهذه المرأة؟ وقصة حسنة وزواجها الثاني مناف للواقع حيث
أن التقاليد القروية تمنح الأرامل الحرية في اختيار الزوج على عكس
العذراوات.
وفي القرى حيث أن أي شخص له الحرية في التدخل في حياة
الشخص الآخر وشؤونه وحيث الناس دائما في حالة إجتماع مع بعضهم البعض.
ويمكننا تخيل مدى الفضول في قرية نائية تجاه كل جديد وافد. فمن الطبيعي أن
شخصا مثقفا عائدا من أوروبا يريد أن تكون له مملكته الخاصة. وهذه الغرفة
الخاصة بمصطفى سعيد شبيهة بغرفة كانت في حي العرب بأم درمان، وصاحبها هو
المرحوم محمد صالح الشنقيطي. وهو شخصية سودانية لامعة ومن النخب المثقفة،
وهو أيضا أول قاض وبرلماني ضليع تلقى تعليمه ببيروت، وقد جاء ذكره وذكر
غرفته في رواية Black Vanguard للكاتب السوري إدوارد عطية التي صدرت في
الأربعينات، والذي كان يعمل في مخابرات الجيش البريطاني في السودان.
وبالطبع كانت هناك الزيارات العديدة الى منزل محمد صالح الشنقيطي بعد تناول
الشاي وبعدها بالتأكيد يذهبون الى الغرفة المهيأة بالأثاث في
«الديوان»-الاسم القديم للصالون، المحاط بالزهور. وهي غرفة تبدو عادية من
الخارج يهتم بها الشنقيطي يغلقها ويفتحها بنفسه، والكتب بها مرصوصة من
الأرض الى السقف ومفروشة بالسجاجيد الفارسية الثمينة والتحف الرومانية.
وهذه المكتبة الخاصة تشابه بصورة دقيقة غرفة مصطفى سعيد حيث يسمح للراوي
بإلقاء نظرة على الغرفة، وتم إهداء محتويات المكتبة الى جامعة الخرطوم في
الذكرى السنوية لرحيله.
وبذا نكون قد حققنا تركيبة الشخصية المعقدة
لمصطفى سعيد، في هذه الرواية الشهيرة «موسم الهجرة الى الشمال» ليس
استناداً فقط إلى وثائق قرأناها، وإنما إلى حقبة كاملة سنحت الفرصة ان أكون
شاهدة على أحداثها.
محمد كمبال- نشط ثلاثة نجوم
منقول بقلم : أحمد سعيد محمدية......
صدر حديثاً عن دار العودة كتاب "الطيب صالح عبقري الرواية العربية" لمجموعة مؤلفين، ترجمة وتحقيق وتقديم أحمد سعيد محمدية.
سجل الكتاب - وفق جريدة "الراية" القطرية - صفوة من الكتاب الأدباء، نقداً ومدحاً وتفسيراً واحتفاء بالروائي العالمي السوداني الطيب صالح ذاكرين بعضاً من أجمل ما كتب بحق هذا الروائي مثل أحمد سعيد محمدية، محيي الدين صبحي، رجاء النقاش، علي الراعي، عبدالجلاب، جلال الشعري، عثمان حسن أحمد، سيد الفرغلي، هدي الحسيني، ونقل حديث محيي الدين صبحي عن الطيب صالح: منذ عامين إلي اليوم، لم أجتمع بأديب عربي من مشرق وطننا أو مغربه، إلا وكان الأديب السوداني الطيب صالح مدار حديثنا ومثار اعجابنا ومحل تقديرنا، يستوي في ذلك الأدباء والشعراء والنقاد، بل ومثقفوا القراء، ممن أتيح لهم أن يطلعوا علي انتاجه القليل المنشور في المجلات الأدبية، حتي غدا الطيب صالح معلماً علي القصة العربية الجديدة والانتاج الأدبي المتميز، والأديب الذي كان أن ولد ناضجاً بالغ النضج في نظرته وأسلوبه ومعالجته.
وكنت من ناحيتي أري فيه نموذجاً بالغ الأهمية لفترة الاختمار التي أعقبت قرناً من التفاعل بين الموهبة العربية والثقافة الغربية، وبالأخص التراث الأنكلو- أمريكي في القصة والرواية.
إنه يرتد بموهبته - وفقا لنفس المصدر - إلي المجتمع السوداني، يستمد من بيئته النماذج الإنسانية والحوادث الاجتماعية، ليعرض لنا أزمات الأفراد والمجتمعات وتقلب ضمائرهم، وإيمانهم بعقائدهم الموروثة، وتفسيرهم للتطور الطاريء علي بيئتهم، وموقفهم من الأحداث التي تمسهم، ومساهمتهم بها، دون أن يغفل الاشارة إلي السؤال الغامض الذي يدور في نفوسهم- وهم أبسط الناس- عن معني الحياة وغايتها، مع الإحساس بأن جهد الفرد نقطة تائهة في خضم الحياة.
......... رحم الله الأديب الطيب صـــــــالح........
سجل الكتاب - وفق جريدة "الراية" القطرية - صفوة من الكتاب الأدباء، نقداً ومدحاً وتفسيراً واحتفاء بالروائي العالمي السوداني الطيب صالح ذاكرين بعضاً من أجمل ما كتب بحق هذا الروائي مثل أحمد سعيد محمدية، محيي الدين صبحي، رجاء النقاش، علي الراعي، عبدالجلاب، جلال الشعري، عثمان حسن أحمد، سيد الفرغلي، هدي الحسيني، ونقل حديث محيي الدين صبحي عن الطيب صالح: منذ عامين إلي اليوم، لم أجتمع بأديب عربي من مشرق وطننا أو مغربه، إلا وكان الأديب السوداني الطيب صالح مدار حديثنا ومثار اعجابنا ومحل تقديرنا، يستوي في ذلك الأدباء والشعراء والنقاد، بل ومثقفوا القراء، ممن أتيح لهم أن يطلعوا علي انتاجه القليل المنشور في المجلات الأدبية، حتي غدا الطيب صالح معلماً علي القصة العربية الجديدة والانتاج الأدبي المتميز، والأديب الذي كان أن ولد ناضجاً بالغ النضج في نظرته وأسلوبه ومعالجته.
وكنت من ناحيتي أري فيه نموذجاً بالغ الأهمية لفترة الاختمار التي أعقبت قرناً من التفاعل بين الموهبة العربية والثقافة الغربية، وبالأخص التراث الأنكلو- أمريكي في القصة والرواية.
إنه يرتد بموهبته - وفقا لنفس المصدر - إلي المجتمع السوداني، يستمد من بيئته النماذج الإنسانية والحوادث الاجتماعية، ليعرض لنا أزمات الأفراد والمجتمعات وتقلب ضمائرهم، وإيمانهم بعقائدهم الموروثة، وتفسيرهم للتطور الطاريء علي بيئتهم، وموقفهم من الأحداث التي تمسهم، ومساهمتهم بها، دون أن يغفل الاشارة إلي السؤال الغامض الذي يدور في نفوسهم- وهم أبسط الناس- عن معني الحياة وغايتها، مع الإحساس بأن جهد الفرد نقطة تائهة في خضم الحياة.
......... رحم الله الأديب الطيب صـــــــالح........
الفاتح محمد التوم- مشرف المنتدى السياسى
مواضيع مماثلة
» الطيبون: عبد الله الطيب والطيب صالح وطارق الطيب
» أسعد الطيب العبّـاسي في ذكرى رحيل والده الشاعر الراحل
» قصيده لشكسبير
» رسالة إلى إيلين ...و قصص قصيرة أخرى .. الطيب صالح
» كتاب ونقاد مصريون يحتفلون بأعمال الطيب صالح
» أسعد الطيب العبّـاسي في ذكرى رحيل والده الشاعر الراحل
» قصيده لشكسبير
» رسالة إلى إيلين ...و قصص قصيرة أخرى .. الطيب صالح
» كتاب ونقاد مصريون يحتفلون بأعمال الطيب صالح
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى